-
ع
+

تطورات الحجة الغائية: من بالبوس الرواقي الى داروين (6)

 يحيى محمد

هيوم ونقد الحجة الغائية

معلوم ان ديفيد هيوم لم يسلّم بالافكار العقلية المخبرة عن الواقع الموضوعي. وهو من هذا المنطلق اعترض على فكرة الصنع والتدبير، ومن ثم عموم الحجة الغائية، كما في كتابه (حوارات في الدين الطبيعي)، وذلك من خلال نقده للمبدأ العقلي القائل بأن «المعلولات المتماثلة تنشأ عن علل متماثلة»، وهو المبدأ الارسطي المعروف بالتناسب او الانسجام؛ والمستخدم لاثبات التعميمات الاستقرائية وفقاً للمذهب العقلي التقليدي. ومن تطبيقاته انه تم الاستدلال به على وجود الله، حيث الاعتقاد بان العالم الكوني قد انشأه صانع عاقل مدبر مثل صناعتنا للمنزل او الساعة او اي شكل من اشكال الفنون والاثار البشرية. فهذا هو المعنى الذي اعترض عليه هيوم، معتبراً انه لا دليل على وجود الله من دون التجربة، او انه لا دليل على الفكرة القائلة بان العالم اشبه باعمال الابداع البشري، وكذا علته تكون شبيهة ايضاً بعلة هذه الاعمال. فبحسب هيوم ان هذه الفكرة تنطوي على قياس التشبيه، فهي تقيس العالم كله على صنع الانسان وابداعاته رغم ضيق حجمها ومحدوديتها، الامر الذي يجعل مادة القياس مختلة التناسب بشكل فضيع.

وبتعبير اخر، ان هناك تعميماً بغير حق، اذ كيف يجوز لنا ان نعمم عملاً محدوداً جداً للانسان على عالم غير محدود هو الطبيعة بضخامتها المشهودة، ومن ثم نعتبر الاخيرة مصنوعة من قبل كائن ذكي جداً مثلما نعتبر البيت والساعة وغيرهما من الفنون مصنوعة من قبل الانسان..؟!

مع هذا لم يعترض هيوم على المبدأ العقلي الانف الذكر بشكل حاسم ونهائي، بل جعل المسألة مفتوحة للجدل، وطرح فكرة تجريبية لا تقل بنظره اقناعاً عن ذلك المبدأ إن لم تفوقه، وحددها كالتالي: «حيثما لوحظ تشابه بين ملابسات عديدة معروفة؛ لزم ان نجده ايضاً بين الملابسات المجهولة. فمثلاً عندما نرى اطراف بدن بشري نستخلص انها مصحوبة كذلك برأس بشرية وان كانت محجوبة عنا. كذلك اذا رأينا من فرجة في حائط جزءاً صغيراً من الشمس خلصنا بانه اذا انزاحت الحائط استطعنا ان نرى الجسم كله».

على هذا استنتج ان هناك تشابهاً عظيماً بين العالم ككل وبين الحيوان او النبات، فالعالم مثار «بمبدأ مشابه للحياة والحركة، ودورة متصلة للمادة لا يتولد عنها خلل ما، وفساد متصل في كل جزء يعوض عنه دون انقطاع تعاون وثيق ندركه في جوانب النظام بتمامه. وكل جزء يعمل في انجاز وظائفه الخاصة لحفظ بقائه وحفظ بقاء الكل».

وهو يعتبر العالم بمثابة كائن حي ازلي مؤلف من جسد ونفس، وان الإله هو ذات هذه النفس للكائن الحي تثيره وتثار به.

وبلا شك ان هذه الفكرة لا تختلف عن مذهب المجسّمة لعدد من الفلاسفة القدماء الذين تصوروا ان العالم هو جسم الله الظاهر، كالذي اشار اليه هيوم ورجحه معتبراً انه ليس عليه اشكالات كبيرة، خاصة انه يستبعد وجود عقل بلا جسم.. وبالتالي فان العالم هو اشبه بجسم حيوان او بشر او نبات منه بالاعمال الفنية والابداعات الانسانية، كالساعة او المنزل او غيرهما من الفنون. واذا كانت علة الفنون والابداعات البشرية تتمثل بالعقل، فان علة وجود الكائن الحي تتمثل بالتوالد او الانبات. ويبدو ان هيوم قد استحضر – هنا -  الحوار الدائر بين الابيقورية والرواقية كما في كتاب شيشرون (طبيعة الآلهة)، مع الانتصار للابيقورية.

وبحسبه فان العقل والتوالد والانبات؛ كلها تدل على قوى وطاقات معينة في الطبيعة آثارها معلومة ولكن جوهرها غير مفهوم. وليس لواحد من هذه المبادئ ميزة على الاخر تجعل منه معياراً للطبيعة باسرها. فآثار هذه المبادئ معروفة لنا من التجربة، ولكن المبادئ عينها وطريقة عملها مجهولة تماماً. وليس القول بان العالم نشأ بالانبات من بذرة نثرها عالم اخر باقل مواءمة واتساقاً مع التجربة من القول بانه نشأ من عقل او ابداع او تدبير الهي.

مع هذا فانه رجح فكرة التوالد والانبات على الابداع والتصميم. ورأى ان توالد العالم منذ الازل قائم على شاكلة ما تنثره الشجرة من بذور في الحقول المجاورة فتولد اشجاراً اخرى، وكذا هو الحال مع العالم والنظام الكوكبي، حيث ينتج من نفسه بذوراً معينة بانتثارها في الهيولى المحيطة فتنبت عوالم جديدة. فمثلاً ان نجماً مذنباً هو بذرة عالم قابل ان ينضج تماماً بانتقاله من شمس الى شمس اخرى ومن نجم الى اخر فيندفع في النهاية حتى يصير عالماً جديداً.

كما يمكن افتراض ان العالم هو حيوان ضخم، وان النجم المذنب هو بيضة هذا الحيوان، حيث وضعها على نحو ما تضع النعامة بيضتها على الرمال. وتفقس البيضة دون عناية اخرى من الحيوان وتولد حيواناً جديداً وهكذا.. ويعترف هيوم ان تجربتنا محدودة، لكن هذه الفكرة لديه اعظم شبهاً بالعالم من اي آلة صناعية تنشأ من العقل والتدبير.

ثم ان هيوم طرح اعتراضاً جدلياً على فكرته، وهو وجود التدبير في النظام حتى مع فرض التوالد او الانبات. اذ من اين تنشأ ملكة التوالد او الانبات على روعتها العظيمة ان لم يكن من التدبير؟ او كيف يمكن لنظام ان ينشأ من شيء لا يعي هذا النظام الذي يضعه؟

هذا هو الاعتراض الذي طرحه هيوم واجاب عنه جواباً سطحياً وفق معايير عصره، فقال: وفق الشاهد المعلوم: ان الشجرة لتضع النظام في انباتها دون ان تعرف النظام، وكذا الحيوان مع وليده والطائر مع عشه. والامثلة كثيرة تزيد على الامثلة الخاصة بالنظام الذي ينشأ من العقل والابداع. وهو يعتبر ان الانبات والتوالد شأنهما شأن العقل يعتبران من مبادئ النظام في الطبيعة، وان تجربتنا ناقصة، ولو حكّمناها لكان للتوالد بعض الميزات على العقل، اذ اننا نشاهد العقل ينشأ من التوالد من دون عكس مطلقاً.

لكن لو كان هيوم معاصراً لنا فلربما انحاز - وفق المبدأ الذي اتخذه على عاتقه - الى التدبير منه الى التوالد والانبات. فقد اتضحت اليوم علة وجود التوالد والانبات واصبحت مفهومة وفق الآلات الحاسوبية العضوية المعقدة التي تعمل على صناعة هذا التوالد وكذا الانبات، كما في الاحماض النووية والجينات وغيرها من النظم الخلوية المعقدة.

ونشير بهذا الصدد الى ان هيوم طرح فكرة قد تكون هي البذرة التي استند اليها دعاة بعض نماذج نظرية الاكوان المتعددة من الفيزيائيين. فهو يقول: «اذا استعرضنا سفينة فاية فكرة رفيعة يلزم ان نكونها عن عبقرية النجار الذي بنى مثل هذه الالة المعقدة المفيدة الجميلة؟ واية دهشة يلزم ان نستشعرها عندما نجده صانعاً غبياً يقلد الاخرين وينقل عن فن قد تقدم بالتدريج بعد ان مر بعصور طويلة متعاقبة وبعد محاولات عديدة واخطاء وتصويبات ومشاورات ومجادلات؟. لا بد وان عوالم جديدة قد لفقت ورقعت منذ الازل قبل ظهور هذا النظام واستنفد الكثير من الكدح والمحاولات الفاشلة واطرد في بطء اصلاح متصل لفن صناعة العالم خلال عصور لا نهاية لها. ففي مثل هذه الموضوعات من ذا الذي يستطيع ان يتكهن بمكان الرجحان بين عدد حاشد من الفروض التي يمكن اقتراحها وبين عدد اعظم منها يمكن تخيله؟».

وقديماً ذهب لوكريتوس في قصيدته (طبيعة الاشياء) الى ان عامل الصدفة وطول الزمان هما من أديا الى تكوين الاشياء وتراكيبها المعقدة.

***

ننتهي الى ان هيوم اعتبر تفسير العالم إما ان يكون على شاكلة التدبير والعقل، او على شاكلة التوالد والانبات، وقد رجح الكفة الاخيرة على الاولى لكثرة الامثلة عليها، ولأن الجسم ينتج العقل من دون عكس. لكن فاته انه لا قيمة للكثرة التي لاحظها لولا النظام الذي تتأسس عليه، فالتوالد والانبات ما كان لهما ان يكونا من دون نظام دقيق كالذي انكشف في عصر الجينات والبروتينات.. وكذا يمكن القول فيما يخص العلاقة الدائرة بين الجسم والعقل. فاذا كان هيوم قد رأى الجسم ينتج العقل من دون عكس، فان الجسم في حد ذاته قائم على نظام معلوماتي ما زال لا يُعرف عنه الا القليل، وكذا العقل ايضاً.

ومن حيث الاساس استند هيوم في ادارته للجدل بين الفكرتين الانفتي الذكر الى مبدأ التشابه، فاحدى الفكرتين تتصف بالتشابه الضيق، كما في حالة الابداعات البشرية التي تم توظيفها وفق المبدأ العقلي الارسطي لتفضي الى نتيجة مفادها ان العالم يحتاج الى مبدع مدبر، فيما تتصف الفكرة الثانية بالتشابه الاوسع، كما في حالة رؤيتنا لظاهرتي توالد الحيوان وانبات النبات، ومنها يمكن استنتاج ان العالم كله قائم على التوالد او الانبات. فالمبدأ الاساس الذي استند اليه هيوم في المعالجة هو التشابه ومن ثم القياس والتعميم..

لكن يؤسف له ان هيوم لم يولِ اهمية للنظام الدقيق في العالم بحسب مقاييس عصره بعيداً عن ظاهرتي التوالد والانبات، فمثلاً ان من المتعارف عليه آنذاك ان للمجموعة الشمسية نظاماً دقيقاً للغاية وفق علاقتي الحركة والتجاذب، فاي خلل في هذا النظام الدقيق يجعل المجموعة الشمسية في مهب الريح، وهي ظاهرة لا يمكن تشبيهها بالتوالد والانبات، بل هي اقرب للساعة المصممة مثلما رآها نيوتن واتباعه..

 

بالي وصانع الساعات الذكي

ان اشهر حجة كلاسيكية على التصميم هي ما قدمه العالم اللاهوتي وليام بيلي في كتابه الشهير (اللاهوت الطبيعي) عام 1802. فهي الاولى من نوعها في المجال العلمي من حيث الدقة والتفصيل قياساً بما سبقها.. وما زالت حجته تناقش حتى يومنا هذا.. وكثيراً ما تُعارض بحجة هيوم السابقة وبنظرية داروين اللاحقة.

وأصل هذه الحجة يستند الى الفارق بين العثور على شيء معقد ومنظم ذي غاية كالساعة الدقيقة مثلاً، وآخر بسيط وغير منظم كالحجر في مكانه المعين.

ففي الفصل الاول من (اللاهوت الطبيعي) اشار بيلي الى هذا المعنى بمقالته الشهيرة: هب اني اثناء عبوري مرجٍ عثرتُ بحجر وتساءلت: ما الذي جاء بهذا الحجر في هذا المكان؟ وقد أُجيبُ على ذلك بانه يقبع هنا منذ الازل، اذ لا اعرف شيئاً خلاف هذه الاجابة، وليس من السهل تبيان سخفها. لكن لنفترض اني وجدت ساعة على الارض، وتساءلت: ما الذي اتى بها في هذا المكان؟ وحينها استبعد ان تكون الاجابة كالسابق مع الحجر، بل لا اجد جواباً شافياً غير ان شخصاً ما قام بصنعها. فهناك بعض المزايا التي تدل على ان الساعة جاءت بفعل الصنع والتصميم: فهي تتميز بالغائية لتأديتها وظيفة محددة، وهي لكي تفعل ذلك كان لا بد من ان تكون أجزاؤها وآلياتها دقيقة الحجم والترتيب، وان تكون مغطاة بمادة زجاجية تسمح بقراءة الوقت فيها. فقدرة الساعة على الحفاظ على الوقت تعتمد على الشكل الدقيق والحجم والترتيب لأجزائها، وهذا ما يوحي بأنها مصنوعة من قبل شخص صممها قصداً بهذا الشكل الدقيق الذي يفي بالغرض..

وعليه استنتج بيلي بان هذا التركيب الدقيق والغائي كما تفي به الساعة وغيرها من التصاميم البشرية هو ذاته نراه بشكل اعظم بما لا يقاس في الطبيعة، فهي غنية بالقوانين الكونية وعوالم الكائنات الحية من الحيوانات والنباتات. فمثلما ان الساعة تستوجب ان يكون لها مصمم صانع، فكذا العالم بظواهره المختلفة التي تتفوق على الساعة بكثير هي الاخرى تستوجب ان يكون لها مصمم صانع.. وهو التطبيق الذي اكد عليه خلال الفصل الثالث من كتابه. وقدّم بهذا الصدد مثالاً يتعلق بالتركيب الغائي المعقد لعضو العين في الحيوانات ومقارنتها بالتلسكوب، منتهياً الى ان العين تتفوق على التلسكوب بامرين: احدهما انها تتكيف بدرجات مختلفة من الضوء، والثاني هو انها تتكيف مع التنوع الكبير للمسافة ورؤية الأشياء بسلاسة، فمن بضع بوصات الى عدد من الأميال.. لذا كانت العين معقدة ودقيقة للغاية لتفي بمثل هذه الاغراض المختلفة.

لقد جاءت حجة بيلي حول الساعة مختلفة تماماً عما افاده ديفيد هيوم الذي انطلق من منطق المشابهة بين العالم الكوني والابداعات البشرية. فحجة بيلي لا تعير اهمية الى مثل هذه العلاقة القياسية، بل تركز على النظام الغائي المتضمن للتركيب المعقد، فكل ما هو معقد ودقيق التركيب ويؤدي غرضاً محدداً ذا قيمة فانه لا بد ان يكون نتاج صنع وتصميم. لهذا استخدم مثال الساعة ومقارنته بالحجر. وعُرفت حجته بحجة الساعة، وان مصمم الكون قد عُرف بدوره طبقاً لهذه الحجة بانه الساعاتي او صانع الساعات.

هذه هي حجة بيلي من حيث الاجمال، وقد لاقت استحساناً وتأثيراً قوياً في الاوساط الفلسفية والعلمية. ومن ذلك ان داروين كان من اشد المعجبين والمنبهرين بعمل بالي، حتى انه كان في شبابه مقتنعاً به تماماً، وكما ذكر في سيرته الذاتية بان حجة بيلي قد بدت له في الماضي انها جازمة الى اقصى حد، لكنه وجد ان جميع البراهين القديمة الخاصة بوجود تخطيط وتصميم في الطبيعة مثلما تم تقديمها من قبل بيلي هي ساقطة بعد ان تم اكتشاف قانون الانتخاب الطبيعي، وذكر مثالاً حول ذلك وهو انه من غير المتوقع ان تكون المفصلة الجميلة الخاصة باي قوقعة ثنائية المصراع قد تم صنعها من قبل كائن ذكي؛ مثلما تم صنع مفصلة الباب بواسطة الانسان. وانتهى الى استبعاد ان يكون هناك اي تخطيط في القابلية على التغاير الخاصة بالكائنات الحية بمثل ما نراه في هبوب الريح، ففي جميع الاحوال ان كل شيء موجود في الطبيعة هو نتاج قوانين ثابتة.

هكذا انقلب داروين على بيلي بالبديل الذي رجحه والمتمثل بالانتخاب الطبيعي الذي رآى انه يفسر الظواهر المعقدة للحياة بما يعجز عن تفسيرها المصمم الذكي. فهي تبدو مصممة لكنها من غير مصمم واع..

ونجد ذات هذا التقييم لدى عالم الحيوان الشهير ريتشارد دوكينز، فقد ابدى اعجابه الشديد بكتاب بيلي ووصفه بانه قدّم اجابة تقليدية متقنة وموسعة واشد اقناعاً مقارنة بمن سبقوه لحل الاحجية، لكنه مع ذلك اعتبر الظواهر المعقدة في عالم الحياة لا يفسرها مبدأ صانع الساعات الذكي، بل يفسرها صانع الساعات الاعمى كما يتمثل بالانتخاب الطبيعي على شاكلة ما طرحه داروين. واعتبر نفسه يعمل اليوم في الكفاح لاجل تفسير لائق يتعلق بهذا الصانع الاعمى بمثل ما نجح بيلي في ان يفعل في عصره ما يدعو الى الاقناع طبقاً للمصمم الذكي.. وذلك قبل مجيء داروين الذي قلب الطاولة على بيلي بفكرة الانتخاب الطبيعي.

على ان النقطة التي اثارها دوكينز ضد بيلي رغم اعجابه بدراسته الثرية في البايولوجيا هي تلك المتعلقة بالتمثيل بين التلسكوب والعين، وكذا بين الساعة والكائن الحي، معتبراً هذا التمثيل زائفاً، وكما قال: ان «صانع الساعات الحقيقي له تبصر للامام، فهو يصمم تروسه وزنبركاته ويخطط ما بينها من ترابطات، وقد وضع نصب عينيه هدفاً مستقبلياً، أما ما يصنع الساعات في الطبيعة، وهو الانتخاب الطبيعي، فهو تلك العملية الاوتوماتيكية العمياء غير الواعية التي اكتشفها داروين والتي نعرف الان انها تفسر بايولوجيا الحياة، فليس له عقل ولا هدف، فهو اعمى بالنسبة للمستقبل وليس له هدف على المدى الطويل، انه بلا عقل، وبلا عين لعقل، وهو لا يخطط للمستقبل، وليس له رؤية، ولا بصيرة للامام، ولا بصر على الاطلاق، واذا كان من الممكن ان يقال عنه انه يلعب دور صانع الساعات في الطبيعة، فهو صانع ساعات أعمى». او انه بحسب ما يصفه عالم الجينات فرانسوا جاكوب بان التطور الدارويني او الانتخاب الطبيعي ما هو الا مصلح جاهل وليس مهندساً.

لكن لو استعرنا الكلمات الاخيرة التي يصف بها دوكينز والكثير من رجال التطور الانتخاب الطبيعي في صنعه الاعمى للكائنات الحية، وهو انه (بلا عقل ولا يخطط للمستقبل، وليس له رؤية ولا بصيرة للامام..)، فالملاحظ ان هذا العامل المسمى بالانتخاب الطبيعي قد افضى الى صنع كائنات تعمل من غير استثناء لغايات معينة كثيرة ومختلفة، وهي وان كانت – باستثناء البشر – بلا عقل ولا تخطيط ولا بصيرة للامام مثل الساعة، لكن افعالها غائية موجهة على عكس صانعها الاعمى المزعوم الذي انتجها من دون غاية.. ويا لها من مفارقة؟!

اخيراً لا بد من ان نشير الى ان حجة بيلي تعتبر تتويجاً وتدقيقاً للحجة الغائية العلمية التي قدمها علماء القرنين السابع والثامن عشر، فهي حجة تستند الى تحليل العلم بالتفصيل والتدقيق، وهو ما يميزها عن الحجة الغائية المؤطرة باللباس العلمي لدى العلماء السابقين، كما انها تتميز عن الحجة الفلسفية بطابعها العلمي، يضاف الى انها تعتبر تدقيقاً لمطلق الحجة الغائية التي يدركها الانسان، سواء كان عادياً او عالماً او فيلسوفاً، فالانسان العادي ومنذ زمن بعيد جداً كان يدرك ان النظام الكوني والحياتي ينطوي على غايات وحكم مصممة من قبل إله عالم قدير، كما ان الاديان السماوية هي بدورها تشهد على هذه الحالة التي يدركها الانسان مهما كان ساذج التفكير..

تبقى فقط نقطة كانت موضع إشكال على هذه الحجة، وهي وجود ما يسمى الاعضاء الضامرة او تلك التي بدت لا فائدة فيها لدى بعض الحيوانات، فقد كانت الاراء السائدة في القرن الثامن عشر والنصف الاول من القرن التاسع عشر تكتفي باظهار ملائمة الوسائط للغايات لاثبات وجود الله، ومنها العلاقة بين اعضاء الكائن الحي ووظائفها الغائية. لكن هذه العلاقة قد تم نقدها عبر لحاظ الكثير من الاعضاء التي بدت لا فائدة فيها، مثل حلمات ذكور الثديات، واسنان فك الحوت التي لا تنغرز في اللثة، واجنحة بعض الطيور والحشرات التي لا تطير، وعيون بعض الحيوانات التي لا تبصر، وعدد من الاعضاء البشرية... الخ. في حين وجد اصحاب نظرية التطور ما يمكن تفسير مثل هذه الظواهر بعيداً عن الحجة الغائية وافتراض صانع الساعات الذكي.. وما زالت هذه القضية موضع جدل حتى يومنا هذا.

comments powered by Disqus