-
ع
+

داروين والتصميم

يحيى محمد 

لقد آمن داروين بان الكون محكوم بقوانين ثابتة، سواء على مستوى المادة الميتة ام الحية، وان الخالق هو مصدر هذه القوانين المتنوعة، كالقوانين الفيزيائية والكيميائية وقوانين التطور التي تشتمل على كل من النمو البايولوجي والتكاثر والوراثة والقابلية على التمايز والتغير وفق الظروف البيئية، وكذا الاستعمال وعدمه ومعدل الزيادة المؤدي الى التنازع على الحياة. وقد امتدت هذه القوانين لديه الى الجيولوجيا كما احدثها تشارلس لايل في تفسيره السنني للكوارث الطبيعية بعيداً عن التصورات الدينية الشائعة انذاك، ومن ثم استئناف تأثيرها على فكر داروين.. وبالتالي لم يعد هناك حاجة لافتراض سلسلة من التدخلات الاعجازية او الخارقة للعادة لتفسير الانقراض المفاجئ لحيوانات منطقة ما بالكامل.

وقد اقتنع داروين بهذا التفكير السنني الذي احدثه لايل، فكانت نظريته حول التطور نتاجاً طبيعياً للحتمية السننية. وهذا ما اكده صديقه هكسلي عندما عبّر عن التأثير العميق لتشارلس لايل عليه في قانون الاستمرارية، اي السنن الطبيعية المضطردة، حيث التطور الجاري في العالم العضوي هو كالتطور الجاري في العالم غير العضوي، وانه يجب تفسير ما يجري في الماضي وفق ما يجري في الحاضر من دون اختلاف.

وبذلك اعتبر داروين نهجه في جعل القوانين مفروضة من قبل الخالق افضل من تسليم العلماء بالخلق المستقل. فمن وجهة نظره ان الفكرة الاخيرة لا تخضع لقوانين معينة ولا تتقبل التفسير العلمي، ومن ثم فهي ميتافيزيقية، خلافاً لفكرة التطور.

وسبق الى هذه الفكرة عالم القرن الثامن عشر موبرتيوس الذي اعتقد بان الاله وضع القوانين العامة للعالم دون ان يتدخل في التفاصيل والتطور البايولوجي الجاري بشكل تدريجي.

وبلا شك قلما اشار داروين الى الخالق في (اصل الانواع)، لكن اعظم اشارة له جاءت في خاتمة هذا الكتاب، فأكد على وجود الاتقان والجمال الدائر في عالم الحياة من خلال الاعتماد المعقد بعضها على البعض الاخر وفق قوانين فاعلة أدت الى ظهور الحيوانات العليا، وان هناك شيئاً من الفخامة في هذا المنظور للحياة، اذ تم نفخ الروح فيها من قبل الخالق في شكل واحد او عدد قليل من الاشكال.

مع ذلك قيل ان هذا الكلام وكذلك لفظة (الخالق) انما وردت في جميع الطبعات باستثناء الاولى من (اصل الانواع)، ففي الطبعات اللاحقة صرح في خاتمة كتابه ان الحياة قد “نفخ الخالق فيها الروح في عدة اشكال او شكل واحد”. لكن بعد اربعة سنوات من الطبعة الاولى كتب لصديقه جوزيف هوكر قائلاً: “لقد ندمت فترة طويلة للخضوع للرأي العام باستخدام مصطلح الخلق الكتابي، والذي قصدت فيه ان الكائنات ظهرت بعملية غير معروفة تماماً.

أما خارج اطار (اصل الانواع) فقد وصف داروين نفسه بانه مشوش في مثل هذه القضايا، وفي سيرته الذاتية تحدث عن تطورات اعتقاداته الدينية، وذكر انه كان اثناء وجوده على متن سفينة بيجل مستقيم التدين تماماً، الى درجة كان يبدو للعديد من الضباط مضحكاً في تصرفاته لاستناده الى الكتاب المقدس كمرجع قاطع حول اي نقطة تخص المبادئ الاخلاقية. لكنه توصل بالتدريج الى عدم تصديق العديد من القضايا التي يحتويها العهد القديم او التوراة. وكان اول بذور الشك الذي انتابه قد تعلق بتحديد سفر التكوين لتاريخ الخلق (6000 سنة)، وذلك تبعاً لملاحظاته الجيولوجية حينما كان على ظهر السفينة. وكان لكتاب لايل الذي اصطحبه معه اثر عظيم على تفكيره طيلة الرحلة، فما جاء في هذا الكتاب لا ينسجم مع فكرة قصر تاريخ الخلق والارض.

كما كان من ضمن القضايا الدينية التي لم يعد يصدق بها، هي ما يسنده الكتاب المقدس الى الله من مشاعر الطغيان والانتقام. ثم تبين له بالتدريج انه كلما زادت معرفتنا بالقوانين الطبيعية الثابتة؛ كلما اتضح ان المعجزات التي تستند اليها المسيحية غير قابلة للتصديق. كذلك اشار الى انه لا يمكن اثبات تزامن كتابة رسائل الانجيل مع الاحداث، وانها تتضمن اشكالات كثيرة جعلته يجحد بالمسيحية كايحاء سماوي. وكل ذلك تم بشكل متدرج وبطيء جداً حتى اصبح بشكل كامل دون احساس باي ضيق.

وقيل ان داروين بدأ الابتعاد عن المسيحية منذ حوالي عام 1838. وكان يعتقد انها وعموم التعاليم الدينية تتعارض مع العلم. فالعلم قائم على فكرة الكون المحكوم بالقوانين الثابتة، فيما ان التعاليم الدينية قائمة على فكرة التدخل الالهي المعبر عنه بالمعجزات، وبالتالي ليس من الممكن التصالح بينهما، فاما ان يستند التفسير الى العلم او التسليم بالمعجزات السحرية، معتبراً ان القول بالخلق المستقل انما يعبر عن فكرة المعجزات او التدخل الالهي المباشر. لذلك استبعد مثل هذه الفكرة كلياً، باعتبارها لا تخضع للتفسير العلمي.

وكما عبّر هربرت سبنسر عام 1852 – اي قبل ظهور (اصل الانواع) بسبع سنوات - بقوله: «ليقولوا لنا اذن كيف يتم انتاج نوع جديد، وكيف يتم ظهوره.. هل يسقط من السماء؟ هل يتوجب علينا القبول بانه يكافح ليتخلص من الارض؟ هل تأتي الاطراف والفوهات من اربعة انحاء المعمورة لكي تجتمع؟ ام هل يتوجب علينا قبول الفكرة القديمة للعبرانيين والقائلة بان الله يأخذ الطين من اجل تشكيل مخلوق جديد؟».

أما داروين فقد اشترط لقبول فكرة التدخل الالهي والمعجزات ما يلي: «اذا رأيتُ ملاكاً يهبط من السماء ليعلمنا الخير، واذا اقنعتُ نفسي بانني لست مجنوناً من حيث ان الاخرين يرونه مثلي، فسأعتقد بتدبير مكين».

وأهم ما في الأمر انه لم يرَ اختلافاً بين فكرة الخلق والمعجزات من جهة، وفكرة القفزات المفاجئة للكائنات الحية من جهة ثانية. فهذه الاخيرة بنظره خارجة عن اطار التفسير العلمي، لذلك رفضها واستعان بحكمة قديمة تقول: إن «الطبيعة لا تنتج طفرة». وكرر هذا المعنى في عدد من الاماكن من (اصل الانواع)، حيث الطبيعة لا تسمح بالطفرة، معترفاً في الوقت ذاته انه قد يكون مبالغاً فيها، فهو يبدي ان من النادر ان تظهر الطفرة او لا تظهر على الاطلاق في اي كائن حي. واعتبر ان هذا الاعتراف نجده لدى الكتابات الخاصة بمعظم علماء التاريخ الطبيعي، او كما وضحه ميلن ادواردز في مقولته: «الطبيعة سخية في التنوع، ولكنها بخيلة في الابتكار». لذا حسِب الطبيعة لا يمكنها ان تصنع قفزة مفاجئة كبيرة، ولكن يتحتم عليها ان تتقدم بواسطة خطوات قصيرة وثابتة وبطيئة.

ومثلما لم يتقبل داروين التدخل الالهي والمعجزات؛ فانه لم يقتنع بفكرة عالم كوني صممه إله كلي القدرة والخير كما تبشر به المسيحية ومجمل التعاليم الدينية، رغم وجود الشر في هذا العالم. وكتب في رسالة الى آسا غراي Asa Gray ضمّنها احساسه بالألم والحيرة؛ مشيراً الى انه لم تكن لديه اي نية للكتابة بشكل الحادي، لكنه مع هذا لم يتمكن من ان يرى دليلاً على التصميم والخير من جميع الجوانب، رغم تمنيه رؤية ذلك. ثم قال: “ يبدو لي أن هناك الكثير من البؤس في العالم. لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن إلهاً طيباً وقديراً قد خلق النمسيات Ichneumonidæ قصداً وبنية صريحة لاطعامها اجسام اليرقات الحية، أو أن من اللازم ان تلاعب القطط الفئران – لعبة الموت -. لا أصدق هذا”. لكن من ناحية ثانية لم يتقبل ان يكون راضياً بأي حال من الأحوال في اعتبار هذا الكون الرائع -  خاصة طبيعة الإنسان – قد حدث نتيجة قوة مادية غاشمة. وعليه استنتج مما سبق انه يميل إلى اعتبار كل شيء قد نتج عن قوانين مصممة، مع ترك التفاصيل، سواء كانت جيدة أو سيئة، بحيث تعمل خارج نطاق ما يمكن تسميته الصدفة. وكما عبّر وقال: إن “هذا المفهوم لا يرضيني على الإطلاق. أشعر بعمق أكبر أن الموضوع كله عسير جداً على ادراك العقل البشري”. وأكد في هذا السياق ان وجهات نظره ليست ملحدة بالضرورة، مشيراً الى انه “قد يقتل البرق رجلاً، سواء كان شخصاً جيداً أو سيئاً بسبب الإجراءات المعقدة للقوانين الطبيعية. فهذه القوانين ربما تم تصميمها بشكل صريح بفعل خالق كلي العلم بحيث يتوقع كل الاحداث والنتائج المستقبلية. مع هذا فكلما فكّرت في هذا الحال كلما أصبحت أكثر حيرة؛ كما أظهرته هذه الرسالة”.

ان هذا الحال جعل داروين يؤمن بإله ربوبي خارج الاطار الديني طيلة مدة من الزمن. وكما ذكر انه كان يرى استحالة استيعاب ان يكون الكون الشاسع والمدهش، بما فيه الانسان بقدراته المذهلة، قد نشأ من خلال صدفة عمياء او ضرورة حتمية. فقد كان هذا الاعتقاد قوي الاقناع في ذهنه حتى وهو منشغل بكتابة (اصل الانواع)، لكن منذ ذلك الوقت بدأ ايمانه يضعف ببطئ تدريجي مع كثرة التقلبات. ثم بعدها انتابه الشك حول الوثوق بالذهن البشري الذي تطور عن ذهن يعود الى الحيوانات الدنيا؟

وبلا شك انه يترتب على هذه القضية الكثير من المسائل الحساسة، ومن ذلك ما احتمله داروين: هل يمكن تفسير مسألة الايمان بالله انها نتاج تطور بايولوجي دون ان يكون لها اي قيمة موضوعية؟ اذ في هذه الحالة يصبح الايمان مجرد سلوك بايولوجي غريزي يصعب التخلص منه مثلما يصعب على القرد التخلص من خوفه وكراهيته الغريزيتين من اي افعى..

بمعنى ان التطور والانتخاب الطبيعي الاعمى قد صممنا لنعتقد بفكرة المصمم الميتافيزيقي الذكي.

ولهذه الفكرة انعكاساتها الحاضرة اليوم، تارة بعنوان ان دماغنا مهيء من حيث التطور والانتخاب الطبيعي لصنع اعتقاداتنا الوهمية، واخرى بعنوان ان لجيناتنا دوراً كبيراً في صنع ايماننا وسلوكنا الروحاني، وثالثة بعنوان تفردنا بامتلاك (الميمات) المناظرة للجينات والتي تفسر مجمل اعتقاداتنا الدينية والثقافية.. الخ.

ومن حيث التفصيل طرح مؤسس جمعية المتشككين Skeptic الامريكي مايكل شيرمر فكرة متطورة لما احتمله داروين في تفسير مصدر اعتقاداتنا الغيبية وفق المنطق التطوري. فقد ادعى في كتابه (الدماغ المؤمن  The Believing Brain الصادر عام 2011، ان دماغنا الناتج عن التطور الطبيعي هو صانع جميع معتقداتنا، بما فيها القضايا الغيبية مثل وجود الله والاخرة، وفسّر ذلك وفق ما اصطلح عليه بالنمطية والوكالة (patternicity & agenticity ). فقد تطورت أدمغتنا لربط نقاط عالمنا إلى معنى الأنماط التي تفسر سبب حدوث الأشياء، ومن ثم تتحول الى معتقدات لفهم الواقع، وبعدها يبدأ الدماغ في البحث عن أدلة تأكيدية لدعمها، مما يضيف دفعة عاطفية لمزيد من الثقة بها ويسرع من عملية تعزيزها. فلدى أدمغتنا – وفقاً لشيرمر - ميل غريزي في تشكيل الانماط والايمان بها سواء كانت ذات مغزى ام لا، مع تعيين وكيل يقوم بغرس هذه الانماط، ومن ثم جعله مسبباً لجميع الاحداث ومسيطراً على كل المواقف، مثل الارواح والاشباح والشياطين والالهة والمصممين الاذكياء والكائنات الفضائية والمتآمرين العاملين في الخفاء وراء الكواليس، وحتى السلطة السياسية الحاكمة التي نعتقد انها يمكن ان تحل مشاكلنا الاقتصادية. وبالتالي فالنمطية والوكالة هما الأساس المعرفي لكل الاعتقادات البشرية القديمة والحديثة.

إذاً بحسب شيرمر فان أدمغتنا هي محركات الاعتقاد وآلات التعرف على الأنماط المتطورة التي تربط بين النقاط وخلق معاني الأنماط التي نعتقد أننا نراها في الطبيعة، سواء كانت صحيحة او خاطئة. ومن وجهة نظره ان الذي يجعلنا نعتقد بالانماط الزائفة هو ان الانتخاب الطبيعي يفضل هذه الانماط على عدم الاعتقاد بالنمط. وحيث اننا غير قادرين على تعيين الاحتمال الصحيح والتعرف على العلاقات الصحيحة من الوهمية؛ لذا فسيجعلنا هذا الامر نستسلم في كثير من الاحيان للانماط الزائفة باعتبارها ضرورية لبقائنا وللتكاثر.

وبعبارة ثانية، يرى شيرمر انه بفعل التطور والانتخاب الطبيعي تميل ادمغتنا إلى إيجاد أنماط ذات معنى سواء كانت موجودة أم غير موجودة، وهناك سبب وجيه تماماً للقيام بذلك، فالأنماط مثل الخرافات والتفكير السحري ليست أخطاءاً في الإدراك بقدر ما هي عمليات طبيعية لدماغ متعلم، لذا لا يمكننا القضاء على هذه الخرافات. ومن هذا المنظور التطوري يمكننا أن نفهم لماذا يؤمن الناس باشياء غريبة؟ والجواب على ذلك بحسب شيرمر هو لحاجتنا المتطورة لتصديق مثل هذه الأشياء.

هذه هي نظرية مايكل شيرمر التي تؤكد على ان التطور والانتخاب الطبيعي قد قاما بتصميم أدمغتنا لاختراع انماط زائفة مثل نمط المصمم الذكي. وهي فكرة متطورة لما سبق اليه داروين من تفسير لمنشأ الاعتقاد بالله.

وعلى ذات المسار سبق ان ذهب عالم الوراثة دين هامر الى وجود جين الهي في خلايا اجسامنا البشرية. ففي عام 2004 أصدر كتاباً بعنوان (الجين الالهي: كيف يتم ربط الإيمان بجيناتنا) أكد فيه على وجود علاقة وثيقة بين ايمان الانسان بالالوهة والروحانيات وبين عدد من الجينات الدافعة الى هذا الايمان، مؤكداً على ان المرء المستعد للروحانيات يكون متأثراً بالعوامل الوراثية، وركّز بهذا الصدد على مفعول الجين المسمى (vmat2) اذ منحه دوراً صغيراً في التأثير على الروحانيات، لكن مع مجموعة من الجينات يتعاظم هذا الدور، مع عدم اغفال دور البيئة. وعموم علماء الوراثة يعترفون بالدور المزدوج والمعقد للجينات والبيئة على السلوك البشري. مع هذا فقد أُدين هامر بسقوطه في بعض الزلات غير المقصودة في صفحات كتابه الاخيرة؛ كالتي تعرض لها الباحث مايكل جولدمان في مراجعته للكتاب، منها قوله ان الروحانية وراثية، وهو تعبير خاطئ ويختلف عن التعبير بان للجينات بعض المساهمة في تحديد الايمان والسلوك الروحاني للبشر.

كما قبل ذلك استخدم ريتشارد دوكينز في كتابه الشهير (الجين الاناني  The Selfish Gene)، والصادر عام 1976، فكرة الميمات كوحدات ثقافية بشرية تتطور مثلما تتطور الجينات البايولوجية. فالانتقال والصيرورة الثقافية هي كالانتقال والصيرورة الجينية. والجديد الذي اتى به دوكينز هو الدعوة الى التخلي عن الجينات كقاعدة اساس وحيدة لافكارنا عن التطور. فعلماء الاحياء قد تشربوا بفكرة التطور الجيني الى حد يجعلنا ننسى انها مجرد نوع واحد من انواع التطور العديدة المحتملة. فهناك نوع جديد اظهره التطور في التضاعف والاستنساخ اضافة الى ما يحصل في عالم الدنا. وهو الان في مرحلة الطفولة ويتحرك متعثراً في حسائه البدائي (الثقافي)، لكنه يحقق في الوقت نفسه تغيراً تطورياً بسرعة تجعل الجينة القديمة تلهث متأخرة عنه بمسافة طويلة، ويتمثل الحساء الجديد بحساء الثقافة البشرية، وهو ما يسميه دوكينز بالميم، حيث انه اسم يجسد فكرة الوحدة القائمة على الانتقال الثقافي، او الوحدة القائمة على التقليد، فالميمات هي كيانات في الجمعية الميمية تنتشر عبر القفز من دماغ الى اخر عبر التقليد بمعناه الواسع، حيث التقليد بهذا المعنى هو الطريقة المعتمدة التي تجعل الميمات تتضاعف. لكنها تتغير وتتطور باستمرار، فمركبات الميمات المتكيفة معاً تتطور تماماً كما تتطور مركبات الجينات المتكيفة معاً. وقد تبقى او تموت بحسب قوتها وضعفها.

ومن امثلة الميمات الالحان والافكار والشعارات والازياء والعادات وطرق الصناعات وغيرها. واهم ما يعنينا منها هي الميمة الالهية، فقد تساءل دوكينز عن الميزة التي تعطي فكرة الله الثبات والمقدرة على اختراق البيئة الثقافية؟ واجاب بان الميمة الالهية في الجمعية الميمية تنشأ عن الاغراء النفسي التي توهم البشر بوجود الرعاية والديمومة المحفوظة مع رد المظالم في الاخرة والخشية من العذاب الدائم. واستدرك بان بعض زملائه لم يتقبلوا التوقف عند اعتبار هذه الميمة تنطوي على اغراء نفسي مهم، بل احبوا ان يتعرفوا على سبب نشأة هذا الاغراء. فاشار دوكينز بان الاغراء النفسي يعني الاغراء للادمغة، وهذه الادمغة تتشكل بفعل الانتخاب الطبيعي للجينات في الجمعيات الجينية. وهو بذلك لم يجب بشكل صريح سوى ما قدمه من طبيعة الاغراء النفسي الثقافي الموهم للبشر. لكن يبقى تفسير ظهور الميمة الالهية وغيرها من الميمات يعود الى انها نتاج التطور والانتخاب الطبيعي. ومن ثم فهذا التفسير يشاكل التفاسير السابقة التي عرضناها، ومصدرها الاساس يعود الى داروين. لذا نعود اليه مجدداً..

***

لقد وصف داروين القضايا السابقة التي مرت معنا بانها معضلات عويصة، واعترف بان الغموض المتعلق ببداية جميع الاشياء هو امر لا علاج له، وهذا ما جعله يتبنى مذهب اللاأدرية. وكما قال: “لا بد لي شخصياً ان اكون قانعاً بان اظل مؤمناً بمذهب اللاأدرية”.

ويعود نحت اصطلاح (اللاأدرية) الى توماس هكسلي ليشير به الى الحياد وعدم معرفة ان كان هناك مصمم وخالق يقف خلف العمليات الكونية والنشوء والتطور الحياتي ام لا؟ معتبراً ان جوهر العلم هو اللاأدرية.

ان شك داروين في المعرفة العقلية للبشر قد انعكس على قيمة نظريته حول التطور البايولوجي، اذ تصبح هذه النظرية لا قيمة لها موضوعياً. فاذا كان العقل البشري نتاج التطور البايولوجي الطبيعي من دون توجيه معنوي خالص؛ فان كل منتجاته المعرفية تصبح افرازات عضوية بلا قيمة موضوعية، وهو ما يعني القضاء على المعرفة البشرية قاطبة. وينسحب هذا الحال على المبادئ الاخلاقية التي تبدو لنا ثابتة.

وكان داروين يعي هذه النتيجة البائسة، وله عبارة صادمة للكثير من احبائه واقربائه ومعاصريه، اذ رأى “ان جميع المبادئ الاخلاقية قد نمت عن طريق التطور”. وكان لهذه الجملة وقعاً مؤلماً على قلب زوجته المتدينة ايما، وبعد وفاته طلبت من ابنها ان يسقطها كي لا تصدم محبيه ومتابعيه.

ولإيما رسالة موجهة الى زوجها، وهي مزيج من التعاطف معه وتحفيزه على مراجعة ثانية لوجهات النظر الاخرى المخالفة له، منبهة اياه بانه قد يكون مخطئاً فيما توصل اليه من بحث، مع اعترافها بانها غير مختصة علمياً لكنها قلقة حول النتائج المترتبة عن نظريته حيال المسائل الدينية والاخلاقية. وكتب داروين في الرد على هذه الرسالة بقوله: “عندما اموت فلتعلمي انني كثيراً ما قبّلتُ هذه الرسالة وبكيتُ عليها”.

وبلا شك ان داروين كما يبدو في هذا الرد وغيره هو ذات شخصية طيبة يحاول ان يكون مخلصاً لنتائج ابحاثه حتى ولو كانت على خلاف رغبته. فداروين الانسان هو غير داروين النظرية.

وبعبارة ثانية، ان شخصية هذا العالم الفذ هادئة وديعة ومتواضعة ومتحلية بالاخلاق الحميدة الطيبة، لكن هذا شيء ونظريته في التطور شيء اخر. فالانسان بحسب هذه النظرية مجرد حيوان وحدث طارئ شاءت الظروف العشوائية ان تعمل على خلقه والحفاظ عليه من قبل الانتخاب الطبيعي؛ بعيداً عن التصورات الغائية وافتراضات التصميم؛ كالتي تشير اليها بعض المدارس العلمية المعاصرة لدى الدوائر الفيزيائية والحيوية. ومن هذه الناحية تتصف نظرية داروين بالخطورة على الانسان انطلاقاً من فكرة التطور القائم على الصراع والتنافس ومن ثم البقاء للاصلح تبعاً للانتخاب الطبيعي. فهي تبرر للعنف القاتل بدعوى تحقيق الاصلحية والافضلية. لذلك ظهرت دعوات عنصرية كثيرة، خصوصاً وسط علماء الوراثة الذين طالبوا بتحسين النسل للحفاظ على العرق الافضل مع تدمير سائر الاعراق البشرية ضمن هذا الافق القاتل بداية القرن العشرين.

وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، جذبت العنصرية عدداً كبيراً من الشخصيات العلمية بين صفوفها. وبدأ العلم العنصري في التأثير على السياسة العامة لدى الولايات المتحدة الامريكية، حيث سنّت حكوماتها قوانين تحسين النسل التي تحظر الزواج بين الأعراق وتفرض تطهير غير الكفؤ عقلياً أو عنصرياً، كالذي جاء في دراسة مارك دايرسون (الأفكار الأمريكية حول العرق والأجناس الأولمبية من تسعينات القرن التاسع عشر وحتى خمسينات القرن العشرين: تحطيم خرافات أو تعزيز العنصرية العلمية؟). وفي بعض الدراسات العلمية تم تقسيم الاعراق البشرية الى خمسة انواع مختلفة. وظهرت هذه الفكرة من التقسيم الخماسي لدى كتاب (أعراق الانسان  The Races Of Man) الصادر عام 1900 لمؤلفه العالم الفرنسي جوزيف دينيكر.

ومعلوم انه بفعل النعرات العرقية ترعرت العنصرية النازية التي أدت الى الدمار الشامل خلال الحرب العالمية الثانية.

أما آراء داروين نفسه حول الانسان فقد اتسمت بالنزاهة والاعتدال. ففي كتابه (نشأة الانسان والانتخاب الجنسي) اشار الى وجود مدرستين حول موقف علماء التطور من الاصل البشري، فبعضهم رأى ان له اصلاً واحداً، فيما رأى البعض الاخر ان له اصولاً متعددة. في حين اعتقد  داروين ان جميع الاعراق البشرية قد انحدرت عن اصل واحد، ورأى ان الاختلافات بين الاعراق واعدادها كانت في البداية صغيرة وبسيطة الى اقصى حد.

كما ناقش الخلاف المتعلق حول هذه الاعراق ان كانت عبارة عن انواع متباينة او انها تعبر عن نوع واحد، وطرح الادلة المتعارضة للرأيين بحصافة وموضوعية، مرجحاً الوحدة على التعدد. واستعرض في هذا السياق الاختلاف الواسع بين العلماء في تحديد عدد الاعراق، فبعضهم رآها نوعاً واحداً من دون ذكر من يمثل هذا الرأي، واخر رأى وجود عرقين فقط مثل فيري، واخر ثلاثة مثل جاكيونوت، او اربعة مثل كانت، او خمسة مثل بلومنباخ، او ستة مثل بوفون، او سبعة مثل هانتر، او ثمانية مثل اغاسيز، او احد عشر مثل بيكيرينج، او خمسة عشر مثل بوري فينسنت، او ستة عشر مثل ديسمولينس، او اثنين وعشرين مثل مورتون، او حتى ستين مثل كراوفورد، او ثلاثة وستين مثل بيرك. واستنتج داروين من هذا الاختلاف الواسع في القرار بانه كاشف عن اندراج هذه الاعراق الى بعضها البعض تحت نوع واحد فحسب.

كذلك تعرض الى الاختلافات والتشابهات بين الاعراق الموجودة حالياً، فهي تختلف في اللون والشعر وشكل الجمجمة والتناسق الجسماني وغيرها، لكن عند اخذ التركيبات الكلية فان هذه الاعراق تماثل بعضها البعض الاخر. والشيء ذاته فيما يتعلق بالتماثل الذهني الموجود بين معظم هذه الاعراق.

واشار بهذا الصدد الى ان سكان امريكا الاصليين والزنوج والاوروبيين رغم انهم مختلفون عن بعضهم البعض في العقلية، الا انه كان مصدوماً على الدوام عندما عاش مع سكان جزر فيجي على متن سفينة بيجل بالعديد من السمات الصغيرة الخاصة بالطابع الذي يوضح كمية التماثل الموجود بين عقليتهم وعقليتنا. والحال ذاته مع الزنوج الذين كان قريباً منهم في وقت من الاوقات. واستشهد على ذلك باعمال تيلور ولوبوك في الكشف عن وجود التماثل الحميم بين البشر التابعين لجميع الاعراق في الميول والتصرفات والسلوكيات، كما في الرقص والموسيقى البدائية والتمثيل والرسم والوشم وتزيين انفسهم وفي المقدرة المتبادلة على فهم لغة الايماءات، وحتى في طرق الصناعة البدائية وفن الصيد وما الى ذلك.. لذا استنتج ان الاعراق المختلفة للبشر تتمتع بقدرات ابداعية وذهنية متشابهة.

***

لقد جاءت صيرورة التطور وفق الانتخاب الطبيعي بديلاً عن المصمم الساعاتي وعن الحجج المقدمة حول الغائية الخلقية المتأثرة الى حد بعيد بالرؤية الدينية. اذ يقود هذا الانتخاب عملية بطيئة جداً من تغير الحياة وظهور التعقيدات فيها.

وفي دراسة مستقلة عرفنا ان التطور الدارويني مدين الى ثلاثة عوامل، هي العشوائية البيئية والانتخاب الطبيعي الذي يعمل على تثبيت ما هو اصلح للبقاء والتغيير بلا عقل ولا غرض، كذلك الوراثة (التوليفية او المختلطة). ويعتبر الانتخاب الطبيعي قوة ضرورية تعمل ضمن دائرة ما موجود من التنوعات العشوائية التي تتيحها البيئة، الامر الذي يدفع الى التحول والاختلاف المضطرد في التعقيد والتنوع بين الكائنات.. وبالتالي يكون هذا الانتخاب هو الاساس الذي تقوم عليه فكرة التطور لدى داروين، فهو يجعل التفسير الخاص بالتنوع الحياتي يقتصر على الطبيعة دون ان يتعداها، وهو ما يعني الاستغناء عن فكرة المصمم الذي يقف خلف هذا التنوع والذي كان رجال اللاهوت الطبيعي يدعون اليه.

وبحسب تعبير فرانسيسكو أيالا فان اعظم ما اكتشفه داروين عبر الانتخاب الطبيعي هو اثبات حصول التصميم من دون مصمم. وبذلك تمت ثورته كمكملة لثورة كوبرنيك، بل هما من وجهة نظره ثورة علمية واحدة ذات مرحلتين: كوبرنيكية وداروينية، احداهما ازاحت الارض من مركزية الكون، والاخرى ازاحت الانسان من المركزية الغائية للعالم.

وعليه وجد اتباع فكرة المصمم الساعاتي صفعة قوية من الاعتراض عندما حلت هذه النظرية فاستبدلت الغائية التي دعوا اليها بالفكرة المادية الصرفة، كما استبدلت اللاهوت الطبيعي بالعلم. وكان الاعتراض الاساس لداروين على فكرة التصميم والغائية هو انها لا تمثل تفسيراً علمياً. واصبح اتباع داروين وعموم نظرية التطور يرددون هذا المعنى حتى يومنا هذا. بمعنى انه لو كانت نظرية التطور علمية فانه لا مجال لوجود فكرة التصميم والغائية، ليس لأنهما غير صحيحين فقط، بل لأنهما غير علميين اساساً.

وحتى مسألة الشر فقد عالجها داروين وفق الانتخاب الطبيعي، فكما ذكر في سيرته الذاتية بانه يتوافق الكثير من المعاناة او الشر لدى الكائنات الحية بشكل جيد مع وجهة النظر الخاصة بان جميع هذه الكائنات قد تم ظهورها من خلال التمايز والانتخاب الطبيعي.

لقد استفز هذا الاضعاف للمصمم الساعاتي - كما جاء به بيلي - اللاهوتيين التقليديين المعاصرين لداروين، اذ اعتبروا فكرة التطور والانتخاب الطبيعي مخالفة للدين ومعارضة لفكرة الغرض الالهي، فقالوا: إما ان يكون الايمان بالكتاب المقدس ايماناً مطلقاً، او لا يكون على الاطلاق. ففي عام 1864 وقّع (11 ألف رجل دين) من التابعين للكنيسة الانجليزية على اعلان اكسفورد الذي يؤيد وجهة النظر القائلة بالايمان الكلي او لا ايمان على الاطلاق.. وقبل ذلك باربع سنوات عُقدت مناظرة في جامعة اكسفورد بين توماس هنري هكسلي والاسقف سوابي سام، وكان لهكسلي ملاحظته التي قال فيها عندما تم تعييره بان اجداده قرود فقال: «انني افضل ان يكون جدي قرداً على ان يكون اسقفاً».

لكن من كان يتصور ان ينقلب هذا الحال في جمع تواقيع رجال الدين مما هي ضد نظرية التطور الى ما يدعمها مع معارضة مخالفيها بقوة. ففي عام 2004 سعى البايولوجي الامريكي مايكل زيمرمان الى تأسيس مشروع رسالة رجال الدين (Clergy Letter Project) ضد السياسات التعليمية المناهضة لنظرية التطور في عدد من المدن الامريكية، فهي رسالة تعبر عن الدعم التام لهذه النظرية واعتبار العلم والدين يمكنهما التعايش معاً من دون تعارض. وفي البداية قام بجمع ما يقرب من مائتي توقيع لرجال الدين لدفع مجلس مدرسة  Grantsburg في ولاية ويسكونسن Wisconsin إلى إلغاء سياساته التعليمية حول النظرية. وقد نجح في ذلك، الامر الذي شجعه للقيام بتنظيم حملة وطنية فجمع المزيد من التواقيع. وخلال عام 2005 جمع المشروع أكثر من عشرة آلاف توقيع؛ معظمهم من البروتستانت. وفي عام 2006 اطلق زيمرمان (الاحد التطوري) لكي يتم الاحتفال به كل يوم احد الاقرب لتاريخ ميلاد داروين (12 فبراير)، وبالفعل بادرت مئات الكنائس في نشاطاتها الداعمة لنظرية التطور. وفي ذات هذا العام نُشر تقرير في صحيفة نييورك تايمز للتنبيه على هذه النشاطات. وفي عام 2008 عدل زيمرمان عن فكرة (الأحد التطوري) لتصبح (عطلة نهاية الاسبوع التطوري) لدمج المزيد من الطوائف الدينية كاليهود وغيرهم. وفي عام 2013 وصلت التواقيع الى (12878) من رجال دين مسيحيين، و(503) من حاخامات يهود، و(273) من رجال دين يونانيين موحدين و(23) من رجال دين بوذيين.

ولو عدنا الى عصر داروين نجد ان بعض المسيحيين كان يتناغم مع نظريته في ضعف فكرة التصميم، ويشعر بان الدفاع عن الاخيرة لا يلقى حجة لولا الايمان بالرب لا العكس، كالذي افاده نيومان بقلبه لحجة التصميم وتحويل اللاهوت الطبيعي الى لاهوت الطبيعة، وهو اللاهوت المفضل لدى المسيحيين اليوم، فقد كتب يقول عام 1870: «انني على مدى 40 عاماً لم استطع ان ارى القوة المنطقية لحجة التصميم بنفسي.. فانا اومن بالتصميم لانني اومن بالرب، وليس ايماني بالرب لانني ارى التصميم.. ».

في حين رأى البعض ان العكس هو الصحيح، حيث ليس ثمة تطور من غير توجيه الهي، كالذي نقله داروين عن كاتب لاهوتي كان يؤمن بتطور الكائنات ذاتياً الى اشكال اخرى مختلفة عبر التوجيه الالهي. كما ان عالم النبات وزميل داروين السيد اسا غراي كان يرى بان تحول الانواع لا يستبعد الايمان بتدبير الخالق، بل وان الانتخاب الطبيعي لا يتعارض مع اللاهوت الطبيعي.

كذلك في عام 1897 كتب عالم اكسفورد فريديناند شيلر Ferdinand Schiller  بحثاً بعنوان (الداروينية وحجة التصميم) جاء فيه، انه لا يمكن استبعاد فرضية عملية تطور يقودها مصمم ذكي.

لكن أول من طرح حجة وجود إله ضروري لشرح الجودة الهادفة للتطور هو اللاهوتي الانجليزي فريدريك روبرت تينانت ضمن الجزء الثاني لكتابه (اللاهوت الفلسفي) بداية القرن العشرين، ومما جاء فيه قوله: “إن العديد من عمليات التكيف المتشابكة التي يشكل العالم من خلالها مسرحاً للحياة والذكاء والأخلاق؛ لا يمكن اعتبارها - بشكل معقول - نتاج الآلية المادية، أو القوة التكوينية العمياء، أو اللاشيء، بل جاءت نتيجة الذكاء الهادف”.

وقد تطورت هذه الفكرة الى تكوين مدرسة قوية تُعرف اليوم بحركة التصميم الذكي، رغم اختلاف وجهات نظر اصحابها ازاء نظرية التطور، فبعضهم يعارضها تماماً، فيما يؤمن بها البعض الآخر وفق خطة التصميم الواعي. وهي نظرية سنتناولها في دراسة مستقلة.

comments powered by Disqus