يحيى محمد
للذكاء أنماط مختلفة؛ سواء كانت طبيعية كما في البشر، أو صناعية كالتي ينتجها الإنسان، أو افتراضية كالذكاء الفضائي.. وهي قابلة للمعالجة العلمية. ونعتقد بوجود مبرر كاف لاقتراح أطروحة الذكاء بهيئة نوع من الأثير، والذي لولاه ما كان للذكاء الطبيعي ان يتحقق. فهو يتصف بالذكاء الخارق ويشكّل علة أساسية لمختلف النُظم المعقدة الكونية والحيوية.
علماً بان ما نقترحه في هذا المجال، لا علاقة له بالافتراضات الدينية والفلسفية المجردة، فالأثير الذي نتحدث عنه غير مفارق ميتافيزيقي، وهو مستنتج مما تدل عليه الظواهر الفيزيائية والبايولوجية.
فلهذا الأثير علاقةٌ مقترنة بقوانين الطبيعة وأسبابها ونتائجها، لكن السؤال الذي يُطرح في هذا السياق: هل العلاقة بينهما مجرّد اقترانٍ محايث، كاقتران الضوء بالأثير الفيزيائي المفترض مثلاً؟ أم أن بينهما علاقة سببية حقيقية؟
فبحسب الاحتمال الثاني، لا يمكن اعتبار القوانين والأسباب الطبيعية أساساً لوجود هذا الأثير؛ إذ لا معنى لافتراضه أصلاً في هذه الحال، إلا إذا اعتُبر الذكاء نتاج عمليةٍ تطورية عشوائية معقدة.
لكن هذا الافتراض، حتى لو صحّ، لا ينطبق إلا على الإنسان العاقل، الذي ظهر في الوجود منذ زمن جيولوجي قصير لا يتجاوز نصف مليون سنة، ويمثل آخر مراحل سلّم تطور الحياة. وعليه، فالافتراض السابق لا يصحّ على ما قبل الإنسان من كائنات حيّة، ولا على ما قبل الحياة أصلاً.
في حين انه بحسب معيار اللاطبيعانية، يُفترض ان تكون نشأة النُظم الفيزيائية المعقدة، ومن ثم الحياة وتطوراتها، مرهونة بأثير الذكاء. فتخلّق هذه النُظم لم يأتِ عبر قوانين حتمية صارمة، كما ان العشوائية والمصادفات لا يسعفها المنطق الاحتمالي. لذلك نرجح وجود أثير منبسط يتصف بالقابلية على البرمجة الذكية التي تهيء ذلك التخلّق.
فباعتقادنا ان هذا هو البديل المناسب لما يطرحه الفيزيائيون وعلماء الأحياء من فرضيات لا تقدم تفسيراً معقولاً حول كيف نشأ النظام الكوني الدقيق، ومن ثم الحياة، وبعدها التطور الذي أدى إلى وجود كائنات ذكية غير معهودة.
أما السؤال عن مصدر أثير الذكاء، فهذا يدخلنا ضمن البحث الفلسفي الذي يخرج عن المعالجة العلمية.
أثير الذكاء ومعاني التصميم
بعد التمهيد السابق، علينا ان نعرف بأن أثير الذكاء لما كان عنصراً غير طبيعاني؛ فإن ما يقوم به من أفعال تكوينية وتطورية يعبّر عن تصميم بالمعنى القوي، وذلك في قبال المعنى الضعيف الذي يتوقف عند حد الاعتراف باندماج التصميم في قوانين الفيزياء والكيمياء أو غيرها من القوانين الطبيعية؛ من دون حاجة إلى افتراض عنصر غير طبيعاني يوجه العمليات الكونية والحياتية.
وللمعنى الضعيف للتصميم حالتان، وبذلك تصبح لدينا ثلاثة معان للتصميم، اثنان منهما يعودان إلى المعنى الضعيف، وثالث يعود إلى المعنى القوي. إذ ينقسم المعنى الضعيف إلى ما هو مختزل وغير مختزل. وفي حالة التصميم الاختزالي فإنه لا يتعدى قوانين الفيزياء والكيمياء وما شاكلهما من العلوم الأساسية. أما التصميم غير الاختزالي فيُعنى بقوانين أخرى لا تفسرها هذه العلوم الأساسية. وسواء كان التصميم الضعيف اختزالياً أو غير اختزالي؛ فإن مردّه إلى العلوم والعناصر الطبيعانية. ويخالفهما في ذلك المعنى القوي، حيث يتمسك بالتفسير اللاطبيعاني للظواهر المتعلقة بالمعلومات والنُظم المعقدة.
وبذلك يمكن تسليط بعض الضوء على هذه الأصناف المختلفة الثلاثة للتصميم من خلال الفقرات الثلاث التالية..
المعنى الاختزالي الضعيف للتصميم
وفقاً للمعنى الاختزالي للتصميم تمّ اقتراح ان يكون الكون ناشئاً كالآلة أو الساعة الموجهة كالذي جاء عن عدد من العلماء والفلاسفة، أمثال نيوتن ووليام بيلي، أو ناشئاً كالبناء المعماري كما اعتقده عالم التشريح المقارن والحفريات ريتشارد اوين خلال القرن التاسع عشر، ومثل ذلك ما تمسك به عالم الكيمياء الحيوية المعاصر مايكل دنتون، حيث رأى ان الكون يضمر غاية متأصلة تمّ التخطيط لها ضمن قوانين الطبيعة، أو في بنية الكون سلفاً؛ كما في كتابيه (قدر الطبيعة) و(التطور: ما يزال نظرية في أزمة).
ومعلوم ان أغلب العلماء يسعون إلى ردّ الظواهر الكونية والحيوية إلى القوانين الفيزيائية والكيميائية أساساً. وقلة منهم يعتقدون ان هذه القوانين مشفّرة وغائية. ويحضرنا بهذا الصدد عالم الفيزياء والكيمياء الحيوية مانفريد إيجن الذي أجرى في عام 1992 بحثاً حول أصل الحياة انطلاقاً من انها قابلة للتفسير وفق القوانين الفيزيائية والكيميائية، كما في كتابه (خطوات نحو الحياة)[1]. إذ رأى ‹‹أن مهمتنا هي العثور على خوارزمية لقانون طبيعي يؤدي إلى أصل المعلومات››[2]. كما رأى في الوقت ذاته ان التطور قائم على سلسلة من التحولات الطورية، وهي ليست بلا هدف ولا توجيه، خلافاً للمذهب الدارويني. مع هذا اعترف ان حجته تظل مادية[3]؛ باعتبارها قائمة على الاعتبارات الفيزيائية والكيميائية.
واستناداً إلى هذا المعنى ثمة من تبنى فكرة ارسال شفرة كونية في لحظة الانفجار العظيم تربطنا عائلياً بكل شخص وكل شيء في الكون، مع التأكيد على مركزيتنا وصغرنا في مخطط الأشياء. وهي الأطروحة التي التزم بها الفيزيائي جيمس جاردنر في (الكون الذكي) عام 2007؛ معتمداً على مذهب توالد الأكوان كما جاء عن الفيزيائي النظري لي سمولين Lee Smolin، مع فكرة انتشار الحياة والذكاء في كل مكان[4].
وقبل ذلك طبّق الفلكي جون بارو فكرة شانون على قوانين الطبيعة عام 1988، فاعتبر الطبيعة تتضمن تشفيراً دقيقاً، وان البحث العلمي جار في الكشف عن هذا التشفير وسط الضوضاء والتشويش الذي نحصل عليه بفعل التجارب التي نقوم بها[5].
ويبدو ان أغلب الذين يعولون على مذهب الاختزال في رد المعلومات والبرمجة الحيوية إلى القوانين المادية وفق معيار الطبيعانية لا يؤمنون بفكرة التصميم الهادف. لكن ثمة من يعتقد بهذه الفكرة وفقاً للمعنى الضعيف.
وفي قبال النظرة السائدة ذهب القليل من العلماء إلى رفض مبدأ الاختزال في رد المعلومات المعقدة إلى العوامل الفيزيائية والكيميائية. وبعضهم رأى انه لا بد من البحث عن قوانين طبيعية أخرى يمكنها تفسير هذه المعلومات.
المعنى غير الاختزالي الضعيف للتصميم
منذ ستينات القرن العشرين تطورت فكرة الاعتماد على المعنى الضعيف للتصميم من خلال الاستناد إلى ظاهرة المعلومات والبرمجة. وعلى أثرها أصبح يُنظر إلى الكون بأنه حاسوب مشفر بالمعلومات اللازمة لخلق النُظم الكونية والحيوية.
وفي البداية كان الحديث عن هذه البرمجة مقيداً ببعض الظواهر الحيوية، لا سيما المعلومات التي تمّ اكتشافها في الجزيئات العملاقة للحامض النووي الدنا DNA، والتي أظهرت فجوة عميقة أو حاجزاً أصم بين المادة العضوية واللاعضوية. وقد جاءت هذه الفكرة كرد على المذهب السائد الذي يرى ان المعلومات لا تختلف عن بقية الظواهر الحيوية والكونية في قابليتها على الاختزال إلى القوانين الفيزيائية والكيميائية وما شاكلها طبقاً لمعيار الطبيعانية.
وسبق ان عرفنا ان البعض قام بقلب هذه المعادلة الاختزالية إلى العكس، كما هو الحال مع الفيزيائي النظري المعروف جون ويلر، وكما كتب عام 1989 قائلاً: ‹‹إن ما نسميه بالواقع ينشأ في التحليل الأخير من طرح أسئلة (نعم – لا).. وباختصار كل الأشياء المادية هي معلومات نظرية في الأصل، وهذا كون تشاركي››[6].
كما ظهرت خلال الثمانينات فكرة احتمال ان يكون الكون عبارة عن حاسوب عملاق، وان ما نراه يمثل أجهزة هذا الحاسوب، حيث لا توجد برامج بدون أجهزة. أو ان الكون عبارة عن رسالة مشفرة، ووظيفة العالم هي فك تشفير هذه الرسالة[7]. ثم بعد ذلك ظهرت فكرة الأكوان الدمى الملفقة الحاسوبية، وفقاً لنظرية الأكوان المتعددة.
لكن تبقى هذه التصورات شاذة في الوسط العلمي القائم أساساً على مبادئ الفيزياء والكيمياء وتعميمها على ظواهر الحياة. وما زال هناك سعي حثيث في البحث عن طرق التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى نشوء هذه الظواهر المعقدة، رغم انه لم يظهر في الأفق ما يؤكد هذه الرؤية إلى يومنا هذا.
ومن الناحية التاريخية ربما كان مايكل بولاني Michael Polanyi هو أول من أشار صراحة إلى رفض فكرة اختزال المعلومات الحيوية المعقدة إلى قوانين الفيزياء والكيمياء. ففي عام 1967 أصدر مقالة بعنوان معبّر (الحياة تتجاوز الفيزياء والكيمياء Life Transcending Physics and Chemistry)، ثم قام بتوسعتها بعد عام تحت عنوان مشابه (بنية الحياة غير القابلة للاختزال). وقد تضمنت المقالة بأن الحياة تمتلك سلسلة من المستويات الهرمية، حيث يتقوم وجود المستوى الأعلى بالأدنى الذي يمثل شرط وجوده، لكن يبقى الأول هو من يتحكم في الثاني من حيث تسخيره للقيام بوظيفته الخاصة، ولهذا السبب فهو غير قابل للاختزال إلى الأدنى.
وقد طبّق بولاني هذا المعنى على علاقة الحياة بالقوانين والأسباب الفيزيائية والكيميائية. فهذه القوانين والاسباب هي شرط ضروري لوجود الحياة، لكنها لا تفسرها؛ باعتبارها تمتلك مبادئ عليا لا يمكن اختزالها إلى هذه القوانين، كما انها لا تعارضها في الوقت ذاته.
وهذا ما ينطبق على البرمجة الحيوية كما في جزيئة الحامض النووي العملاقة الدنا DNA؛ لامتلاكها سلسلة من ارتباطات النيوكليوتيدات nucleotides التي تعمل على نقل المعلومات المفيدة والقابلة للتحديد الرياضي؛ من دون ان يكون لها قابلية على الاختزال إلى قوانين الفيزياء والكيمياء، وهو الحال الذي نشاهد نظائره في مبادئ الهندسة الميكانيكية والاتصالات، باعتبارها غير قابلة هي الأخرى للاختزال الفيزيائي والكيميائي[8].
وقد سار الفيزيائي المعروف بول ديفيز على نهج بولاني في كتابه (المخطط الكوني The Cosmic Blueprint) عام 1988، حيث اعتبر ان لكل مستوى من مستويات الكون والحياة والعقل والمجتمع قوانينه الخاصة، وليس بالإمكان اختزالها إلى ما دونها؛ بسبب التعقيد الذي تتمتع به.
فمثلاً ان قوانين البرمجة الذهنية العالية المستوى لا يمكن اختزالها إلى ما دونها من الفسلجة العصبية، إذ لكل مستوى سببيتُه الخاصة، ومن ذلك السببية المعلوماتية باعتبارها شيئاً متميزاً نوعياً عن السببية الفيزيائية. وهذا ما جعل ديفيز يرى وجود عقل أو حياة ذكية مكتوبة في قوانين الطبيعة، معتقداً ان العلم قادر على تفسير التعقيد والتنظيم في جميع المستويات بما فيها الوعي البشري، لكن فقط من خلال تبني فكرة قوانين المستوى الأعلى من دون اختزال[9]. وقد اعترف ديفيز بأنه قد استلهم الكثير من أفكاره بهذا الشأن من أعمال عالم الأعصاب الحائز على جائزة نوبل روجر فولكوت سبيري Roger Wolcott Sperry في تجاربه على الأدمغة المنقسمة[10].
وبعد عقد من الزمان طرح ديفيز فكرة أعمق حول عدم اختزال الحياة ضمن قوانين الفيزياء والكيمياء؛ معتمداً في ذلك على البرمجة الحياتية التي اعتبرها قوانين طبيعية جديدة تتفق مع القوانين الأساسية للفيزياء من دون اختزال. وأشار إلى انه عندما شرع في كتابة (المعجزة الخامسة) عام 1999 لم يكن يعتقد أن مثل هذه القوانين ضرورية لشرح نشأة الحياة، بل افترض انها تعالج ضمن المفاهيم الداروينية دون ان تتجاوزها، لكن ما توصل إليه خلال البحث بدا له شيئاً مخالفاً تماماً، ولم يعد يعتقد ان التفاعلات الكيميائية قابلة لفك لغز الحياة العظيم، إذ يعتمد ذلك على شيء جديد من الناحية المفاهيمية، وقصد بذلك قوانين البرمجة الخاصة بالتعقيدات المنتجة للمعلومات.
وبلا شك ان القوانين الجديدة تختلف جذراً عن قوانين الفيزياء المألوفة، فعلى الأقل انها تتجاوز الفكرة الاختزالية للعلم إزاء العالَم، إذ إن هذه الفكرة تعتبر المعلومات مفهوماً ثانوياً مشتقاً عن تفاعل الجسيمات المادية، في حين أن المعلومات من وجهة نظر ديفيز عبارة عن كمية فيزيائية حقيقية قابلة للتداول من قبل ‹‹قوى المعلومات›› بنفس الطريقة التي يتم فيها تحريك المادة بواسطة القوى الفيزيائية. وهو ما يعني قبول التعقيد كمتغير كمي فيزيائي ذي فعالية سببية حقيقية، بدلاً من اعتباره مجرد وصف كيفي لمدى تعقيد النظام. لذلك فبموجب قانون المعلومات يمكن التحكم في برامج الشفرة الجينية باعتبارها من النُظم المعقدة[11].
ومعلوم ان بول ديفيز يميل في هذا الكتاب وفي مجمل كتبه الأخرى إلى فكرة التصميم غير الاختزالي بالمعنى الضعيف.
ونشير إلى مذهب توماس ناجل في هذا المجال، حيث انه يقترب من المعنى غير الاختزالي للتصميم، إذ يعترف بوجود غائية تقف خلف الظواهر الطبيعية من دون اختزال، حيث لها قوانين ذات علاقة بالحرية وعدم الحتمية. لكنه مع هذا ينفي التصميم والألوهة رغم اعترافه بالغائية، وهو ما يجعله خارج اطار المعنى الضعيف الآنف الذكر. وقد استعان ناجل بمقالة للباحث روجر وايت الذي استعرض أربعة أنماط من التفسير الخاص بالحياة (عام 2007)[12]؛ فهي إما ان تكون وليدة الصدفة، أو الخلق، أو القانون الفيزيائي، أو الغائية الطبيعية. وقد انحاز ناجل إلى الافتراض الأخير[13].
المعنى القوي للتصميم
تُظهر بعض النظريات التي استعرضناها سابقاً أن الكون جاء وفق تصميم محدد. وقد تمسّك عدد منها بوجود قوانين طبيعية تتجاوز نطاق الفيزياء والكيمياء، وهي القوانين المرتبطة بالمعلومات الحيوية المعقدة. وهي خطوة متقدمة في الطرح، لكنها تبقى ناقصة، إذ لم تحدد طبيعة الكيانات الموضوعية التي تنشأ عنها هذه القوانين.
فكل قانون يعمل بحسب كيان محدد لولاه ما كان للقانون وجود، فالجاذبية مثلاً لا وجود لها لولا حضور الكتل المادية أو الطاقوية، كذلك لولا الالكترونات والفوتونات ما كان لقوانين الكهرومغناطيسية وجود، وكذا هو الحال مع جميع قوانين الطبيعة.
في حين ان النظريات التي تبنت فكرة وجود قوانين طبيعية للبرمجة الحياتية – والكونية - من غير اختزال لم تحدد بالضبط ما هو الكيان الموضوعي الذي يقوم بهذه البرمجة وتوليد المعلومات. وبعبارة ثانية، انها لم تشخّص العلاقة السببية الخاصة بالمعلومات أو برمجة النُظم المعقدة.
وهنا يأتي دور التصميم بالمعنى القوي، كما في حالة أثير الذكاء الذي اقترحناه. إذ التفسير الطبيعاني لا يلائم هذا التصميم، وحتى البرمجة والتشفير رغم انها واضحة عند النظر إلى مجمل العمليات الكونية والحياتية إلا انها غير قابلة للتفسير وفق اعتبارات القوانين والثوابت والأسباب الطبيعية. فكما عرفنا ان التفسيرات الطبيعية المتعلقة بالبرمجة والتشفير؛ لم تتمكن من تحديد الكيان الموضوعي الذي يقوم بهذه العمليات الدقيقة. ومن ثم فهناك ما يدل بشكل واضح على وجود شيء آخر غير طبيعاني، أو ليس داخلاً ضمن الأسباب الطبيعية المألوفة، رغم ان وظيفتَه هي دفع العمليات الكونية والحياتية لغايات محددة، كالذي نفترضه في أثير الذكاء، وان الأخطاء والعشوائية المترتبة عن هذه العمليات لا تؤثر على المنحى العام للتصميم الذي يتولاه.
فالفارق بين المعنى الضعيف والقوي للتصميم، هو انه يمكن للمعنى الضعيف ان يفسر قوانين الكون وثوابته وأسبابه الطبيعية من التفاعلات الفيزيائية والكيميائية، لكنه عاجز عن تفسير ما يخرج عن هذا الاطار الطبيعي. كما ان اضافة قوانين طبيعية أخرى مناسبة للبرمجة؛ لا تعتبر وافية طالما انها لم تحدد الكيان الموضوعي المفضي إلى هذه البرمجة. وهي نقطة ضعف تتلافاها أطروحة المعنى القوي من حيث انها قادرة على تشخيص الكيان الموضوعي المسبب للبرمجة الحياتية والكونية. وفي الوقت ذاته ان هذه الأطروحة لا ترفض القوانين والثوابت والأسباب المادية في تفسير الظواهر الطبيعية، لكنها تضيف إلى ذلك صوراً وعلاقات لا تخضع إلى تفسير هذه القوانين والثوابت المادية، بل وتجعل من هذه الأخيرة محكومة وفق خطة غائية أدت إلى خلق الكائنات الذكية العاقلة. وما زال الطريق مفتوحاً كما يبدو نحو التسامي.
وهي أطروحة تتناغم مع ما ذهب إليه بعض العلماء من وجود كائنات ذكية عاقلة شائعة في الكون وفق التفسير الغائي الموجّه.
ومن المهم ان نعرف بأن الكثير من علماء الطبيعة يتقبلون المعنى الضعيف للتصميم، طالما انه لا يمتلك في جعبته عناصر غير طبيعانية يُعزى إليها التطور الكوني والحياتي. في حين تمسك القليل من العلماء بالمعنى القوي للتصميم، كما هو حال أغلب أنصار حركة التصميم الذكي. وأرى أنهم محقون في تبني هذا المعنى، رغم ان الفكرة التي طرحوها ما زالت غامضة، فهم لم يحددوا من الناحية العلمية أي شيء يتعلق بهوية المصمم الذكي، ومن الناحية الشخصية لا ينكرون ان المصمم هو الله.
فمثلاً صرّح مايكل بيهي بأنه يقصد بـ "المعنى القوي للتصميم الذكي" ما يتجاوز قوانين الطبيعة المعهودة. لكنه لم يحدد من الناحية العلمية إن كان تجاوز هذه القوانين داخلاً ضمن بنية الكون أم خارجاً عنها. وفي الوقت ذاته اعتبر المصمم الذكي هو الله كقرار شخصي لا يمت إلى الاعتبارات العلمية بصلة، لظنه ان ذلك يخرج عن حدود العلم[14]، وهو الرأي الذي سبق إليه الكيميائي تشارلس ثاكستون عام 1986[15].
في حين بحسب اطروحتنا ثمة ما يدل على ان التصميم يعود إلى عنصر مستبطن ضمن الاطار الكوني والحياتي وإن كان نفسه لا يعبر عن شيء طبيعاني، فهو على شاكلة الذكاء البشري، حيث لا يعتبر من العناصر الطبيعانية رغم انه غير مفارق للطبيعة، وكذا على شاكلة المادة والطاقة المظلمتين اللتين تتحكمان بالكون بحسب الافتراض الفيزيائي المعاصر، رغم انهما ليسا طبيعيين بالمعنى المألوف.
***
عموماً ننتهي إلى وجود ثلاثة أصناف للتصميم، اثنان منها يعودان إلى المبادئ الطبيعانية ويحملان المعنى الضعيف، أحدهما اختزالي، والآخر غير اختزالي. أما الصنف الثالث فهو غير طبيعاني، وهو التصميم العائد إلى المعنى القوي والذي نتبناه في تفسير ما نشاهده في عالم الطبيعة والحياة من نظم معقدة ومعلومات. ومن حيث التحديد نفترض وجود كيان غير طبيعاني ومحايث ليس بمفارق؛ هو ما يقف خلف صناعة النُظم المعقدة الدقيقة، والذي سميناه بـ "أثير الذكاء".
أثير الذكاء والفيزياء
تدور في الأوساط الفيزيائية نقاشات حول أصل الجسيمات وطبيعة تداخلها وتحول بعضها إلى بعض، وهي نقاشات قد توحي - في بعض وجوهها - بدلالة خاصة على ما عبّرنا عنه بـ "أثير الذكاء"، بوصفه عنصراً غير مادي يتخلل البنية الكونية ويوجهها بما يتجاوز القوانين الفيزيائية المألوفة.
فلقد أدرك الفيزيائيون وجود تداخل بين الجسيمات الأولية، وهو ما يوحي بوجود شيء مشترك فيما بينها يمكن ان يشكل أساس وجودها وتجلياتها جميعاً. وهناك عدد من الافتراضات النظرية الخاصة بهذا المحور كالتي عرضنا تفصيلها في (انكماش الكون). لكن ما يعنينا – هنا – هو الاكتفاء باستعراض بعض من هذه الافتراضات. فقد يعبّر الشيء المشترك عن شيء منبسط على الجسيمات دون ان يمثل واحداً منها. ويأتي ذلك على معنيين:
أحدهما سريان الشيء في صميم الجسيمات، بحيث يكون الجسيم مركباً من الشيء الخاص والشيء المشترك، وهو ما يبدو من عبارة الفيزيائيين، خاصة مدرسة كوبنهاگن، إذ من وجهة نظرها انه لا يوجد جسيم محدد يمكن ان يكون أساس البقية، بل كل جسيم يمتلك شيئاً منها ضمنياً. وبالتالي فهناك شيء مشترك بين الجسيمات، وان التحولات من بعضها إلى البعض الآخر يجري وفق المشترك الذي يجمعها، وإن لم يُحدّد هذا الشيء على نحو التعيين، كالطاقة أو المادة.
وأهم ما في هذه النظرية هو أنها تتأيد بظاهرة تشابك الجسيمات وتعالقها. فهي تتضمن شيئاً مشتركاً داخلياً قد يفسر ما عليه تلك الظاهرة. فوفقاً لمدرسة كوبنهاگن ان للجسيم شيئاً من الوجود أو النزوع نحو الوجود هنا وهناك، الأمر الذي يفسّره المشترك الضمني للجسيمات، بحيث يسمح للشيء ان يكون هنا وهناك، كما يسمح بظاهرة التأثير اللحظي عن بعد من دون أسباب وسيطة خفية، خلافاً لما ذهب إليه ديفيد بوم David Bohm من وجود متغيرات مخبأة ضمن واقع ضمني دفين للجسيم.
أما المعنى الآخر عن انبساط الشيء على الجسيمات فهو ان يسري عليها من الخارج. وهو معنى يقارب النظرية السابقة من حيث الاعتراف بوجود مشترك بين الجسيمات، لكن هذا المشترك ليس من ضمن ذواتها الداخلية، بل عارض عليها من الخارج.
وكتقريب لهذه الفكرة يمكن التمثيل عليها بالتصورات الفلسفية القديمة، فالشيء المشترك أشبه بالهيولى الأصلية التي تتوارد عليها الصور المختلفة، ومن دونها لا يظهر شيء. أو انه أشبه بالعقل الإلهي الذي ينبسط على الأشياء فتظهر بحسب طبائعها الإمكانية، وبدونه تبقى الأشياء معدومة كأعيان ثابتة لا تشم رائحة الوجود، ومع ذلك لا تُعرف حقيقة هذا العقل، فهو كالنور الذي تتمظهر به الأشياء وبدونه لا يظهر منها شيء قابل للرؤية، ولا يمكن معرفته والاحاطة به استناداً إلى هذا التجلي بالصور المتنوعة.
ويمكن لهذه الأطروحة ان تفسر لنا ما يجري من تطورات دقيقة لدى الظواهر الفيزيائية، إذ يصبح العنصر المشترك عبارة عن أثير منبسط على الأشياء ضمن اعتبارات ميتافيزيائية ووجودية عامة وظيفته إمداد المعلومات والقوة للتأثير والتنوع والتطور الغائي، وأهم ما يتصف به هو "الذكاء". وهو من بعض الوجوه يتفق مع رؤية ديفيد بوم في وجود عناصر دفينة مؤثرة على تفاعل الجسيمات الفيزيائية.
وتتقبل هذه الأطروحة التلبس بأي من النظريات العلمية المتعارف عليها، كاطار مرافق لها دون ان تكون عرضية معها أو منافسة لها، مع أخذ اعتبار انها تفسر من القضايا ما لا يمكن للنظريات الفيزيائية تفسيرها.
وقد يوحي هذا الحال بوجود شَبهٍ بين أثير الذكاء الروحي الذي نفترضه والعقول الفلكية التي اعتقد بها الفلاسفة القدماء، فأثير الذكاء هو وسيط عقلي كوساطة العقل الفعال الأخير لدى المشائين، أو العقول العرضية لدى الاشراقيين، وانه يتحكم بمجمل العمليات الكونية والحياتية. لكن الحقيقة ان بينهما فوراق كبيرة، فأثير الذكاء ليس بمفارق مثلما هو حال تلك العقول، كما ان من صفاته القدرة والإرادة، وأن تحكّمه في الظواهر لا يتسم بالحتمية الصارمة، بل يقترن بفسح المجال لهامش من العشوائية، على خلاف ما تفترضه التصورات التقليدية لأفعال العقول، التي تخضع لقوانين العلة والمعلول على نحو صارم. وإضافة إلى ذلك، فإن الاستدلال على أثير الذكاء لا يستند إلى "مبدأ السنخية" كما هو شأن بعض الفلاسفة، بل يقوم على منطق الاحتمالات والاعتبارات العلمية.
وتجدر الاشارة إلى ان انبساط أثير الذكاء على الأشياء ربما يجعلها منطبعة به، فتحظى بأطياف متفاوتة من صفاته، أو انها تكون ببعض الجوانب على شاكلته وان لم تدرك هذه الصفات لضعفها الشديد، كما في الحياة والادراك والإرادة، حيث تبدو لنا معدومة لدى المواد غير الحية والتي تشكل أغلب ما في الكون.
وتبدو هذه الفرضية شبيهة بعلاقة مجال هيجز Higgs field بالكتل الجسيمية، إذ لا أثر لهذه الكتل المتباينة لولا احتكاكها المتفاوت بهذا المجال "الأثيري" بداية نشأة الكون. وكذا هو الحال في علاقة ما نجده من صفات للحياة والادراك والإرادة لدى عدد قليل من الكيانات الوجودية، حيث قد تكون ناشئة بفعل احتكاكها القوي بهذا الأثير، مع ضعف الاحتكاك بغالبية الأشياء التي تبدو لنا غير حية ولا تمتلك الادراك والإرادة. وبذلك يقتضي الحال بحسب هذه الأطروحة ان يكون أثير الذكاء أشدّ احتكاكاً بالإنسان، وأكثر فاعلية، مقارنة بالكائنات الأرضية الحية.
ولهذه الفكرة الاحيائية جذورها الفلسفية والدينية القديمة، بل وانها حاضرة في الفكر الحديث والمعاصر، حيث يتبناها العديد من الفلاسفة والعلماء بصيغ مختلفة، مع دلالات متقاربة، ويُعبّر عنها أحياناً بشمولية العقل أو الروح أو النفس أو الحياة أو الاحساس أو الإرادة، وما إلى ذلك. وهي ما تُعرف بمذهب "النفسانية الشاملة Panpsychism". وهو مذهب شائع لدى فلاسفة وعلماء القرن التاسع عشر من أمثال: شوبهاور وبيرس ويوشيا رويس ووليام جيمس وهارتمان وشيلر وارنست هيجل وكليفورد وجوستاف فخنر وفيلهلم فونت وهيرمان لوتز، وغيرهم من الأسماء الذين يُنسب إليهم القول بهذه الأطروحة[16].
كما ذهب إليها خلال القرن العشرين عدد من الفلاسفة والباحثين والعلماء، مثل الفيلسوف المعروف وايتهيد وعالم الحفريات الثيولوجي بير تيلارد دي شاردن Pierre Teilhard de Chardin، كذلك الفيزيائي فريمان دايسون Freeman Dyson الذي كتب يقول: إن العقل متأصل بالفعل في كل إلكترون[17].
أيضاً حاجج الباحثان تونوني Tononi وكوخ Koch بأن المادة والعقل شيء واحد. ومثل ذلك عبّر هوفمان Hoffman بأن حقيقة الواقع تتصف بالوعي.
والبعض ينسب العقل بشكل بدائي للكيانات على المستوى الأساسي للفيزياء دون المواد المتجمعة أو الكبيرة مثل الصخور والمباني.
وثمة أسماء كثيرة من الفلاسفة المعاصرين، خاصة من امريكا وبريطانيا، نُسب إليهم القول بهذه النظرية، مثل توماس ناجل وديفيد راي جريفين وديفيد سكربينا وجريج روزنبرج وتيموثي سبريج وفيليب جوف ووليام سيجر. ومثل ذلك ما ينسب إلى الفيزيائي المعروف ديفيد بوم[18].
وفي النصوص الاسلامية نجد دلالة واضحة عليها، مثلما ورد في الآيات القرآنية التالية:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ الاسراء\ 44.. ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان﴾ الاحزاب\ 72.. ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فصلت\ 21.. ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ الزلزلة\ 1-5.
***
وقد يُقال إن مثل هذه الأفكار تُعدّ أسطورية لا يصح التمسك بها. وبالفعل أنها تبدو أسطورية، غير أن علينا، في المقابل، أن ندرك أن علم الفيزياء ذاته زاخر بأفكار أسطورية لا تستند إلى أدنى دليل، كما أوردنا تفاصيلها في كتاب (منهج العلم والفهم الديني).
وبعيداً عن هذه التصورات الخيالية، تظل أطروحة "أثير الذكاء الروحي" مندرجة - في أصلها - ضمن التصورات الفلسفية النسبية؛ إذ إنها لا تتسم بطابع تجريدي صرف كما هو حال تصورات فلاسفة الوجود، بل تستند إلى روابط ومبرّرات علمية تنتمي إلى أفق الترابط العميق بين العلم والفلسفة، أو بين الفيزيقا والميتافيزيقا، وهو ما نُعبّر عنه بـ "التفسير اللاطبيعاني" في مقابل "التفسير الطبيعاني".
لذلك سبق أن اعتبرنا هذه الأطروحة مندرجة ضمن القضايا العلمية من الدرجة الثانية، إذ تتأسس على مقدمات طبيعانية، وتُفضي إلى استنتاجات غير طبيعانية تتعلّق بالأسباب المحايثة. فطالما كانت المقدمات علمية كاشفة، فإنها تندرج من هذه الجهة ضمن نطاق القضايا العلمية، حتى وإن أفضت إلى استنتاجات يمكن عدّها فلسفية ما دامت غير مفارقة، أي ذات طابع نسبي.
ومن المهم أن ندرك أن ثمة ظواهر كثيرة توحي بوجود قوانين مشفّرة تقف خلف النُظم الفيزيائية، كما تقف خلف النُظم الحية. وهو أمر يمكن تفسيره في ضوء ما طرحناه عن "أثير الذكاء" كحقلٍ حيويّ مرافق لكل التأثيرات الفيزيائية، بما تنطوي عليه من اعتبارات غائية لم يُعترف بها حتى الآن، رغم وجود إشارات عابرة ما زالت تخاطر أذهان الفيزيائيين، مثل أطروحة "المبدأ الإنساني".
أثير الذكاء وقياس التمثيل
ان افتراض مبدأ الذكاء في الأثير الكوني لا يبرره التشابه والتمثيل بذكاء البشر، مثلما ترد الاتهامات عليه من قبل أنصار الطبيعانية ضد خصومهم، مستخدمين الفوارق بين المصنوعات البشرية المصممة من جهة، والمنتجات الحيوية غير المصممة - من وجهة نظرهم - في عالم الأحياء من جهة ثانية. إذ يُعرف في الأولى مَن هو المصمم وقدراته، كما انها لا تتصف بسمة الحياة والاستنساخ والتكاثر الذاتي وما إلى ذلك، خلافاً لما هو مفترض في حالة المنتجات الحيوية. وهي التهمة التي وردت لدى محكمة دوفر الشهيرة ضد أنصار حركة التصميم الذكي عام 2004[19].
ورغم ذلك، نلاحظ أن "قياس التمثيل" الذي رفضه علماء الأحياء، يُعدّ مصدر قوة وإلهام لدى علماء الفيزياء المعاصرة. فقد استُخدم على نطاق واسع في تفسير العديد من الظواهر الفيزيائية والتنبؤ بها، لا سيما تلك التي تجري ضمن النطاق المألوف للطبيعة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يلي:
1ـ تفسير الضغط الجوي عبر تجربة توريتشلي، بالتمثيل على ضغط عمود الماء.
2ـ تفسير ظاهرة الضوء باعتبارها موجة، تماثل موجات الماء والصوت.
3ـ توحيد القوتين الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة بفضل الاستدلال التمثيلي، مما أدى إلى التنبؤ بوجود جسيمين مراسلين.
4ـ اكتشاف مجال القوة النووية الشديدة من خلال تشبيهه بمجال القوة الكهرومغناطيسية.
5ـ افتراض وجود جسيم هيجز ضمن ما يُعرف بـ "مجال هيجز"، تماثلاً مع المجال الكهرومغناطيسي المرتبط بالفوتون.
6ـ افتراض جسيم "الكرافيتون" للثقالة، استناداً إلى تمثيل القوى الطبيعية الأخرى التي تحملها جسيماتها الخاصة.
7ـ افتراض أبعاد فضائية خفية، جاء تشبّهاً بالعلاقة القائمة بين الجاذبية والأبعاد الزمكانية.
8ـ نشوء فكرة الأكوان المتعددة المتوازية، على خلفية مشكلة قطة شرودنجر، وفقاً للقياس التمثيلي.
9ـ تبنّي فكرة المدارات البيضوية للكواكب، نتيجة لتعميم كبلر لما لاحظه من حركة المريخ، اعتماداً على هذا النوع من الاستدلال[20].
هذه جملة من النماذج التي تُبرز الدور المحوري لقياس التمثيل في التنبؤات الفيزيائية والافتراضات العلمية، علماً بأن سِجل العلم يزخر بأمثلة أخرى لم نرَ حاجة إلى إيرادها[21].
مع هذا فإن استنتاج طيف الذكاء الوجودي يتأسس على أداة قياس التمثيل الذي تستدل به الفيزياء في تفسيرها وتنبؤاتها للظواهر والكيانات الطبيعية، ومن ذلك أننا لم نعتمد على دليل التماثل استناداً إلى المنتجات البشرية المصممة، بل ان استدلالنا قائم على مبدأ الاحتمالات المنطقية، وهو قانون عام يسري حكمه على المنتجات البشرية وغير البشرية دون اختلاف، سواء تعلّق الأمر بموضوع الذكاء أم بغيره من الموضوعات الخارجية. ولا يقدح في صلاحيته الجهلُ بسمات هوية الذكاء الذي يُفترض أنه السبب الكامن وراء النُظم الكونية والحيوية.
فمثلاً في علم الآثار والانثروبولوجيا، يمكن لبعض القطع الأثرية ان تُلهمنا بدلالات معينة للإشارة إلى أسباب ذات طبيعة عامة وإنْ لم تتبين بالضبط كل السمات التي نودّ معرفتها. وفي علم الجريمة، قد يتم العلم بأن حادثة الموت لم تكن طبيعية، بل نتيجة قتل وإنْ لم تُعرف هوية القاتل. كذلك ما زال العلماء يطمحون في البحث عن ذكاء خارج الأرض (SETI) ضمن معايير منطقية تخولهم تمييز ما يصلهم من اشارات موجية إنْ كانت بفعل الأسباب الفيزيائية، أو بفعل التشفير والذكاء، حتى وإنْ لم تتبين سمات مصدر هذا الذكاء. بل في الفيزياء المعاصرة افترض العلماء كيانات لا تُدرك بغية تفسير نشوء ظواهر كونية عامة رغم الجهل بطبيعة هذه الكيانات تماماً، كما في المادة والطاقة المظلمتين.
لذا نقول شيئاً مماثلاً فيما يتعلق بهوية "أثير الذكاء": فهو أثير روحي مجهول الهوية، لا نعرف عن هويته شيئاً سوى أنه يعمل كمُبرمج يُشغّل "الحاسوب الكوني والحيوي" المعني بالصنع والتكوين.
فالتصاميم التي نشاهدها على صفحة الانترنيت - مثلاً - تُخفي وراءها البرنامج الذي يقوم بتشغيلها. ولا يعرف دقته ومحتواه إلا الخبراء في هذا المجال. ومع ذلك نحن نعلم بأن البرنامج هو صنيعة بعض المبدعين الأذكياء. ورغم ان الخبراء يعرفون بالضبط تركيبة ومحتوى البرنامج، لكنهم عاجزون عن معرفة الشخص - أو الاشخاص - الذي قام بالتخطيط له وصنعه، وذلك فيما لو لم يتم الإعلان عنه اعلامياً. فكل ما يمكن معرفته هو ان له ذكاءاً غير عادي، اعتماداً على الدقة الوظيفية المشهودة في التركيبة الخفية للبرنامج.
وينطبق هذا المثال على علاقة أثير الذكاء بمصنوعاته. فنحن نشهد النظام المعقد الذي تتسم به هذه المصنوعات، بما يدلّ على برمجتها المُحكمة، كما نُدرك بعض جوانب هذه البرمجة من خلال القوانين التي تتحكّم بها، دون التوصل إلى أسرارها الدفينة، كتلك التي تسعى لاكتشافها باسم "نظرية كل شيء Theory of Everything". فما زلنا في بداية الطريق. غير أن ما يمكن استنتاجه بقدر كافٍ هو أن هذه البرمجة تقتضي وجود مبرمج مستقل، وهو ما نعنيه بـ "أثير الذكاء". ولما كانت الظواهر الكونية والحياتية مترابطة على نحو وثيق؛ فإن ذلك يقتضي أن يكون هذا الأثير واحداً غير متعدد، أو أن مردّه إلى الواحد، وقد افترضنا أنه منبسط على جميع أرجاء الكون، نظراً إلى احتياج كلّ شيء إليه في عمليتي الصنع والتكوين.
هل أثير الذكاء بحاجة إلى مفارق؟
قد نتساءل فلسفياً فيما إذا كان أثير الذكاء مديناً في وجوده لكائن آخر مفارق، أم هو ذاته عبارة عن مبدأ الوجود الأول؟ ولو اعتقدنا بأن وجوده مستمد من مفارق غيره؛ لكان يعني ان بالإمكان الجمع بين الذكائين المفارق والمحايث، أو بين ما تتبناه الأديان التوحيدية من إله وما تتبناه سائر الأديان. بل ان في الأديان التوحيدية ذاتها نجد حضور هذين النوعين من الإله وفقاً للأفهام المختلفة، فبعض المذاهب الدينية تعول على الإله المفارق المتعال، فيما تعول مذاهب أخرى على الإله المحايث، كما عرفنا.
وقد يقال: ما الحاجة إلى هذا التعدد في الذكاء أو الإله؟ فإما أن يكون مفارقاً، أو محايثاً. فإن قلنا إنه محايث، فما الداعي إلى افتراض المفارق؟ إذ سيكون ذلك من قبيل "لزوم ما لا يلزم"، وفقاً لمبدأ البساطة الاقتصادية. وهو اعتراض يشبه ما كان يطرحه سبينوزا في تصوره لوحدة الوجود، إذ يرى أن الله هو علة الأشياء الكائنة فيه، ولا وجود لشيء خارج عنه، فهو علة محايثة لا متعدّية لكل شيء[22].
أما لو قلنا بأن الإله مفارق، فسيفضي الحال إلى اقحامه المباشر في تفسير النُظم المعقدة التي تعجز القوانين والعلوم الطبيعية عن تفسيرها. وهو الرأي الذي يميل إليه بعض القائلين بنظرية التصميم الذكي، ولو على النحو الشخصي لا الطرح العلمي، فيما طرح بعض آخر فكرة الوكيل الذكي كما في كتاب (البندا والناس) بما يبدو انه يجمع بين الإلهين المفارق والمحايث.
وحقيقة يأتي تحفظنا من المعنى الأول الخاص بتفسير النُظم المعقدة وفق الإله المفارق، إذ لا يخلو هذا المعنى من النزعة الخلقوية في اقحام هذا الإله في عالمنا الكوني بشكل متكرر ومباشر وفق المعنى القوي للتصميم. وهو أمر لسنا مضطرين إليه عند افتراض أثير الذكاء، حيث يصبح التصميم والتخليق من نصيب هذا الأخير غير المفارق.
كما قد يُقال: ما دامت الظواهر الحيوية تخضع للأخطاء، عبر الطفرات العشوائية وغيرها، فإن ذلك يدل على أن عملية الصنع والتخليق لا تختلف جوهرياً عن نظيرها في الصناعة البشرية، التي تخضع بدورها للأخطاء، رغم قدرتها على إبداع تصاميم مدهشة. وعليه، لا يصحّ أن نُعزو هذا الصنع والتخليق إلى كيان مفارق متعالٍ.
وبعبارة أخرى، إذا أردنا اختبار ما إذا كانت ظواهر الصنع والتخليق تعود إلى برمجة إلهية مفارقة أم إلى غيرها، فعلينا أن نفحص طبيعتها: أهي معرضة للأخطاء، أم أنها مثالية الصنع والتكوين؟ فالحالة الأخيرة ترجح أن يتصف المصمم المباشر بالألوهة المفارقة وإن لم يلزم ذلك بالضرورة، بينما تشير الحالة الأولى إلى أن الخلق لا يصدر عن إله مفارق، بل يمكن عزوه إلى كيان بديل، كأثير الذكاء الروحي المحايث، وهو ما يناسب تفسير ظواهر النقص والخلل.
وبناءً على ذلك، قد يُحسم الجدل لصالح القول بوجود تصاميم ضمنية في الطبيعة لا تقتضي مفارقة ميتافيزيقية، طالما أن هذه التصاميم تتسم بالنقص وعدم المثالية. وهذا الطرح يرتكز على افتراض فلسفي مؤداه أن العمل المباشر للإله المفارق لا يصدر إلا مثالياً، أما العمل غير المباشر - أي عبر وسائط أو قوى محايثة - فقد يكون مثالياً أو ناقصاً، دون ضرورة قبلية تُرجّح أحد الاحتمالين.
لكن هذا الافتراض، الذي يرى في النقص دليلاً على أن الصانع غير مفارق، يواجه إشكالين رئيسيين:
الأول: ما المانع من ان يقع الذكاء المفارق في ممارسة الخطأ والتصاميم الناقصة؟ أي لماذا يتعين علينا الاعتقاد بكمال الذكاء المفارق كالذي يبشّر به اللاهوتيون؟
ولا شك ان هذا الإشكال هو إشكال فلسفي يتجاوز نطاق المعالجة العلمية.
الثاني: لماذا نصنّف التشوّهات التي تأتي أحياناً بفعل الطفرات الجينية وغيرها ضمن قائمة الأخطاء والنقص والاختلالات العشوائية؛ دون أن نردّها إلى نتائج خاضعة لبعض القوانين والأسباب الطبيعية المؤثرة، وإنْ لم نتمكن من تحديدها بشكل دقيق؟
وهذا الإشكال أقرب إلى الطرح العلمي. فما يُسمّى بالتشوّهات لا يخرج غالباً عن كونه نتاجاً لشروط وأسباب طبيعية تؤثر في النتائج دون أن تُنسب بالضرورة إلى فعل المصمم، سواء كان مفارقاً أو محايثاً.
مع هذا نرى عدم ضرورة اقحام الذكاء المفارق في عملية الصنع والتخليق مادام من الممكن جعل التصميم من خصوصية الإله المحايث. وفي هذه الحالة؛ إما أن نكتفي بالإله المحايث فقط كإعتقاد، أو نضيف إلى ذلك الإله المفارق، أي أن نعتقد بوجود "إلهين" محايث ومفارق، وأن الأول ناشئ من وجود الأخير؛ شبيهاً - من بعض الوجوه - بما كان يعتقده الفلاسفة القدماء حول العقل الأول أو الفعال وعلاقته بالمبدأ الأول من جهة، وبالصنع والتكوين من جهة ثانية. كما انه شبيه بما تقوله الأديان واللاهوتيون من وجود الملائكة وعلاقتها المزدوجة أو الوسيطة بالإله من جهة، وبتنظيم العالم الكوني والبشري من جهة ثانية.
ووفقاً لمبدأ البساطة، قد يُكتفى علمياً بالإله المحايث دون اعتبار للإله المفارق؛ سواء كان موجوداً أو معدوماً. أما من الناحية الفلسفية، فقد يجد الكثير حاجة إلى الاعتراف بوجود "الإلهين،، أحدهما يمثل الكمال المطلق، كما في الإله المفارق المتعال عن الصنع والتخليق، فيما يمثل الآخر ما ينوب عنه في ممارسة هذه العملية من الصنع والتخليق.
وبذلك نخلص إلى ان ما يعنينا هو الإله المحايث من حيث علاقته بالصنع والتخليق. وهو من هذه الناحية يمتلك صفة "الألوهة"، سواء كان الإله المفارق موجوداً بالفعل، أم انه افتراض فلسفي لا دليل عليه، وزائد عن الحاجة وفقاً لمبدأ البساطة.
ويؤيد المعنى السابق ما روي في الأثر عن الإمام علي بن أبي طالب قوله في وصف الإله: ‹‹هو في الأشياء على غير ممازجة خارج منها على غير مباينة.. داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج››[23].
وهو وصف يتناسب مع الكثير من الآيات القرآنية، من قبيل: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ﴾ الزخرف\ 84.. ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ الحديد\ 4.. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ق/ 16... الخ.
ونلفت النظر إلى ان التعبير عن الإله المحايث بأثير الذكاء هو تعبير خاطئ، لكنه جاء كمجاراة للاستخدام العلمي. فالإله لا يُنعت بالذكاء مثلما يُنعت البشر به، وذلك لامتزاج العلم بالجهل، بل يوصف بالمدبّر الحكيم، كما يليق به وفق المعنى الفلسفي والديني.
ويأتي أثير الذكاء الروحي بهذا المعنى بديلاً عن وحدة الوجود الصوفية. فالقول باحتكاكه المتفاوت بالموجودات - شبيهاً بمجال هيجز - يجعله حالة وسطى بين أطروحة وحدة الوجود من جهة، والاستقلالية الخلقية من جهة ثانية. فالتماس الدائم بينه وبين مصنوعاته من الموجودات يجعل منه صورة تكاد تعبّر عن الأوصاف الصوفية في علاقة الحق بالخلق، بحيث تصبح الموجودات تجليات للحق كما يصورها العرفاء، مع فوارق تمنع الأثير الروحي من أن يجسّد وحدة الوجود كما يرمي إليه العرفاء. فمن جانب ان لهذا الأثير استقلالية ذاتية عن الخلق، كما من جانب آخر ان له قدرة وإرادة حقيقيين. وقد نعبّر عن ذلك بـ "وحدة وجود تماسية"، بمعنى ان الوجود مردّه الى شيء يملأ الكل ويبعث فيه الوجود والنور، وبانفصاله يزول كل شيء وينعدم. فحتى الأمثلة التي يوردها الصوفية للتعبير عن وحدة الوجود قابلة للتوظيف في علاقة الأثير الروحي بمصنوعاته، كما أوضحنا ذلك في بعض الدراسات.
[1] Manfred Eigen with Ruthild Winkler- Oswatitsch, 1992, p. 38.
[2] Ibid., p.13.
[3] Ibid., p.29.
[4] James Gardner, 2007, p. 133.
[5] John Barrow, The world within the world, 1990, p. 308. Look:https://archive.org/details/worldwithinworld00barr/page/n15/mode/2up?q=Shannon
[6] John Archibald Wheeler, Information, Physics, Quantum: the Search for Links, 1989. Look:https://static1.squarespace.com/static/532a9587e4b085a89f267c62/t/5520b98be4b07497b200b8a7/1428208011120/2014-7.pdf
[7] انظر مثلاً القسم الثالث من:Heinz Rudolf Pagels, The Cosmic Code: Quantum Physics as the Language of Nature, 1984. Look: http://library.lol/main/0D8CDCE70E28E5ED58EDE1181FE5B6C7
[8] Michael Polanyi, Life's irreducible structure, 1968, in: Knowing and Being, Edited by Marjorie Grene, 1969, p. 225-239. Look:http://library.lol/main/71CE6D606634A53544ECD5EEFA970342
[9] Paul Davies, 1988, p.202-203.
[10] Ibid., p.191.
[11] Paul Davies, 1999, p. 195.
[12] Roger White, Does Origins of Life Research Rest on a Mistake?, 2007. Look:https://web.mit.edu/rog/www/papers/does_origins.pdf
[13] Thomas Nagel, 2012, p. 91.
[14] انظر حول رأي بيهي: مايكل بيهي: هل التصميم الذكي علم أم لا؟، ضمن: اعادة المحاكمة، ص93. كذلك:Michael J. Behe, 2000.
[15] Charles B. Thaxton, 1986.
[16]https://en.wikipedia.org/wiki/Panpsychism
[17] Paul Davies, 1988, p. 190.
[18]https://en.wikipedia.org/wiki/Panpsychism
[19] In the United States District Court for the Middle District of Pennsylvania, p. 81.
[20] للتفصيل انظر: يحيى محمد: منهج العلم والفهم الديني، دار النهى، الجزائر، طبعة ثانية، 2024م.
[21] انظر بهذا الصدد: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[22] باروخ سبينوزا: علم الاخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، مراجعة جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2009م، ص55.
[23] ابو جعفر الصدوق: التوحيد، مكتبة الصدوق، طهران، ص306.