-
ع
+

العشوائية والنُظم المتولدة عنها

يحيى محمد

ثمة أربعة نظم مختلفة لها علاقة بالعشوائية والذكاء، وهي كالتالي:

1ـ النظام التكراري:

يتصف النظام التكراري بأنه ذو بنية منتظمة بسيطة، ينشأ في الطبيعة تلقائياً بفعل التماثل أو التكرار العشوائي الكبير من دون وظيفة، كما يلاحظ لدى النظام الديناميكي في الفيزياء الاحصائية المعروف بالأرجودي ergodicity؛ سواء في حالة العشوائية الديناميكية المحافظة على النظام وفقاً لما يسمى بمقياس سيجما Sigma scale ، والتي من أمثلتها ما يعرف بـ "الجواذب الغريبة"، أو في حالة التقلبات المتنافية وفقاً لمقياس برنولي Bernoulli scale، كما في الرميات العشوائية الكبيرة للعملة النقدية وزهرة النرد، حيث تُنتج نِسباً تميل إلى الثبات. لكن نِسب الانتظامات النوعية فيها تكون ضئيلة الاحتمال أكثر فأكثر مع زيادة عدد الرميات لازدياد العشوائية.

ويمكن محاكاة النظام التكراري بشكل اعتباري من دون تأصل في الطبيعة، مثلما نقوم بتكرار الأحرف اللغوية بانتظام.

ومن حيث التحليل يمكن النظر إلى هذا النظام من جهتين، إحداهما انه يحمل تماثلاً أو تكراراً يجعله يُنشئ الانتظام البسيط. فمثلاً تتوزع جزيئات الغاز ضمن حاوية ذات هيئة محددة - كالكرة أو الاسطوانة أو غير ذلك - بشكل متعادل تقريباً لدى جميع نقاطها؛ فيظهر شكلها المنتظم على شاكلة هذه الحاوية وفقاً لغلبة الامكانات التوافيقية المناسبة للتوزيع العادل في جميع النقاط، فتصبح بقية الامكانات المتعلقة ببعض النقاط دون الأخرى ضئيلة الاحتمال للغاية، كأن تنحصر جزيئات الغاز في زاوية معينة دون أخرى.

كذلك الحال في الظواهر التي تتحكم بها الجواذب الغريبة، فإنها تتخذ صفة الانتظام البسيط بفعل التماثل والتكرار مع خاصية التجاذب الذاتي وفق القوانين الاحصائية.

ومثل ذلك ما يتعلق بالتقلبات المتنافية، كما في الرميات الكبيرة لقطعة النقد، حيث تميل النتائج إلى نسبة محددة تزداد توافقاً مع نسبة الاحتمال القبلية لوجهي القطعة كلما ازداد عدد الرميات العشوائية. وقد نتعرف على النسبة القبلية من خلال النسبة البعدية للرميات الكبيرة، حيث تصبح النتيجة الحاصلة معياراً قبلياً لسلاسل الرميات التالية. ولو كان الوجهان متماثلين لاقتربت النسبة إلى التناصف باضطراد مع زيادة الرميات. فالانتظام الحاصل في النتيجة، هو للتكرار المتماثل في عدد الرميات العشوائية، وهو بمثابة التكرار المتماثل لنسبة الاحتمال القبلية.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية ان العشوائية الكبيرة كما يفترضها هذا النظام، يجعلها تولّد منطقتين يكون الغالب فيها عدم الانتظام، حيث يظهر الانتظام بسبب التكرار والتماثل البسيط، أما عدم الانتظام فهو بسبب العشوائية. فمثلاً في الرميات الكبيرة لقطعة النقد يمكن حساب عدد الامكانات المنتظمة، وهي قليلة جداً وسط بحر الامكانات غير المنتظمة. لذلك من المتوقع ان تكون النتيجة التلقائية في سلسلة الرميات الكبيرة هي لصالح الأخيرة لا الأولى. وكلما زاد عدد الرميات، كلما زاد هذا التوقع للنتائج التلقائية، وذلك لارتفاع عدد أعضاء المنطقة النوعية الأخيرة (غير المنتظمة).

والشيء ذاته ينطبق على حالة ما يحصل في جزيئات الغاز ضمن حاوية معينة، إذ إن الأعداد الضخمة للصور التوافيقية هي لصالح عدم الانتظامات الجزئية داخل الهيئة العامة للحاوية. لذلك لا نتوقع حصول انتظامات جزئية ضمنية، كأن تكون على هيئة دوائر أو مثلثات أو غيرها من الأشكال المنتظمة.

ولو حصلت مثل هذه الانتظامات ذات الامكانات التوافيقية الضيقة مقارنة بالأعداد الضخمة للصور التوافيقية الخاصة بالمنطقة الاحتمالية الواسعة؛ فسيدل ذلك على الذكاء عرضاً. إذ تميل الحالة الوجودية في الطبيعة إلى سيادة الامكانات غير المنتظمة ذاتياً.

والشيء ذاته يقال ايضاً بالنسبة للظواهر ذات الجواذب الغريبة.

2ـ النظام الوظيفي:

ويتميز هذا النظام بالوظيفة المعقدة الناشئة بفعل التعقيد البنيوي العشوائي. فكل وظيفة معقدة لا يمكن ان تنشأ الا بفعل بنية تتصف بالعشوائية المعقدة (غير المنتظمة)، كما هو الحال مع النظام اللغوي والآلات الحيوية وتلك المصنوعة من قبل البشر. فلهذا التعقيد قابلية على توليد الوظائف المختلفة، وله وجود حقيقي، كما في النُظم والآلات الحيوية والصناعية.

ومن الناحية العلمية، تمّ الاعتراف بالتشابه بين العالمين الحيوي والصناعي، حيث كل منهما يتألف من أجزاء متفاعلة ومتناسقة فيما بينها بأشكال مميزة ودقيقة، مع مدخلات محددة ومخرجات، وان بعض الأجزاء تتقبل الاستخدام في آلات أخرى بتعديلات طفيفة. أيضاً ان كلاً منهما يعمل على تحويل الطاقة إلى شكل من أشكال الشغل[1].

وكان من بين هذه التشابهات، ما لوحظ بأن وظائف الحامض النووي الدنا في تخزين المعلومات وبرمجتها، ومن ثم الاعتماد عليها في تخليق البروتينات، يتشابه كثيراً مع التقنيات الحاسوبية المستخدمة اليوم في صناعة الكثير من الأجهزة الدقيقة، والتي تعتمد على معلومات شانون في البتات (1،0).

لكن مع الأخذ بعين الاعتبار، أن المعلومات في النظام الوظيفي تختلف عن لغة بتات شانون، والتي لا تميز بين التسلسل الاحتمالي المفيد للوظيفة والمعنى، وبين ما لا وظيفة له ولا معنى. ففي معلومات النظام الوظيفي توجد اضافة نوعية لا تمتلكها لغة شانون، وهي: الوظيفة أو المعنى، كما يشير إليه البعض أحياناً.

لذلك، وفقًا للغة شانون، لا فرق بين صيغتي الكلام؛ سواء أكان الكلام حاملًا للمعنى أم عديم المعنى، ما داما يتساويان في عدد الحروف والفواصل، إذ يحمل كلاهما المقدار ذاته من المعلومات.

أما في النظام الوظيفي، فثمة زيادة خاصة تتمتع بها صيغة الكلام ذات المعنى بخلاف الصيغة الأخرى. وينطبق الشيء ذاته على عالم الحياة، والمصنوعات البشرية، وسائر الإبداعات الذكية. فجميعها تتوّج هذه الزيادة بالوظيفة بمعناها العام، وهي أمر لا صلة له بمعلومات شانون.

هذا فيما يخص الوجود الحقيقي للنظام الوظيفي.

لكن للنظام الوظيفي وجود آخر اعتباري من دون تأصل طبيعي أو صناعي، كما في الأحرف اللغوية، حيث انها لا تنتج المعنى ذاتياً، انما جرى الاتفاق البشري على جعلها منتجة لأغراض تتعلق بالحاجات الإنسانية والاجتماعية.

***

نحتمل أن النظام الوظيفي تصدق عليه القاعدة التالية:

يتناسب التعقيد الوظيفي طردياً مع التعقيد البنيوي، فكلما ازداد الأول تعقيداً، دلّ على ازدياد الثاني، والعكس بالعكس. فعلى سبيل المثال، تُعد الخلية العصبية لدى الإنسان أكثر تعقيدًا وظيفيًا من الخلية البكتيرية، ومن ثم يُستنتج أنها أشد تعقيدًا من حيث البنية كذلك. والعكس صحيح أيضاً.

غير أن هذه القاعدة تتطلب فحصاً واستقصاءً للتأكد من مصداقيتها التعميمية.

ويُلاحظ في هذا النظام أن العشوائية المنتِجة للوظيفة تتولّد عن أسباب مخصوصة تختلف تمامًا عن تلك التي تُنتج الانتظام في النظام التكراري. ووفقًا للمعيار اللاطبيعاني، فإن النظام الوظيفي المعقّد لا يتولّد إلا عن أسباب ذكية، إذ إن علاقته بالذكاء علاقة ذاتية بحسب المنطق الاحتمالي؛ على خلاف النظام التكراري الذي قد ينشأ عن أسباب أخرى، وقد يتدخل الذكاء في إنتاجه عرضًا لا أصالة.

كما أن ما يمكن أن تُنتجه الصدفة من نظام وظيفي يُعد ضئيل الاحتمال للغاية مقارنة بما تُنتجه في النظام التكراري. ويُضاف إلى ذلك أن عدد التنظيمات الممكنة ضمن النظام التكراري، على امتداد عمر الكون، يمكن تحديده ويُعدّ محدودًا نسبيًا، في حين أن عدد النُظُم الممكنة في النظام الوظيفي لا يُحدّ، ويفوقه بما لا يُقاس.

3ـ نظام الضبط العددي الدقيق:

يتصف نظام الضبط العددي الدقيق بأنه نظام حقيقي متأصل في بنية الكون والطبيعة، وله وظيفة فعلية شبيهة بوظيفة النظام الوظيفي كما مرّ معنا. غير أنه يتميز عنه بتركيزه على القيم العددية للثوابت الرياضية تحديداً، مما يجعله أضيق نطاقاً من المعنى الأشمل الذي يقصده الفيزيائيون أحياناً بـ "نظام الضبط الدقيق"، والذي يشمل إضافة إلى الثوابت: بنية القوانين، وشروط نشأة الكون، وعدد الأبعاد، بل وحتى قابلية الكون للفهم الرياضي.

غير أن ما يعنينا هو فقط الضبط العددي، والذي تتوقف عليه صيغة القوانين الفيزيائية العامة التي تمارس دورها في استقرار النظام الكوني وحفظه، وملائمة نشأة الحياة وتطورها.

ويمكن عدّ "نظام الضبط الدقيق" أحد تجليات النظام الوظيفي، سواء أكان عدديًا أم غير عددي.

لكن نظام الضبط العددي الدقيق يتمتع بخصوصية مميّزة عن عموم النظام الوظيفي، إذ يمتلك طبيعة رياضية خالصة. لذا فإن تعويلنا على الجانب العددي من هذا الضبط مبرَّر، إذ تتصف الأعداد في هذا النظام بالثبات، ولا تقبل التغيير، وهو ما يميزها عن التطبيقات الأخرى للنظام الوظيفي.

فلو لم تكن هذه القيم العددية على ما هي عليه، ولو بقدر طفيف؛ لأدى ذلك إلى انهيار النظام الكوني برمّته، فلا كون، ولا حياة، ولا ذكاء.

وأبرز الأمثلة على هذا النظام، الثوابت الفيزيائية؛ مثل ثابت بلانك، وثابت البنية الدقيقة، وثوابت القوى الطبيعية الأربع، والنِسب فيما بينها... الخ. إذ من المعلوم ان هذه الثوابت والنسب لها علاقة وثيقة بنشأة الكون واستقراره والحفاظ عليه من الانهيار، كما لها علاقة بنشأة الحياة والذكاء.

وأول ما يلاحظ انه لا توجد خصوصية منتظمة تربط بين الأعداد الكونية الثابتة، سوى علاقتها باستقرار النظام الكوني وحفظه مع التهيئة لنشأة الحياة. مع هذا يمكن ان نفترض ان كلاً منها يقع في دائرة ضخمة من الأعداد المتخيلة، وحينها تكون الغالبية العظمى من هذه الأعداد عاجزة عن ان تساهم في صنع نظام الكون. وهو ما يعني ان الحيز المتعلق بالفئة القادرة على هذه المساهمة ضيق للغاية. لذلك فظهور عدد مناسب منها عشوائياً ضمن الأعداد الضخمة المتخيلة هو احتمال ضئيل جداً، فهو بمثابة (منطقة الرفض). ومن ثم يزداد الاحتمال ضآلة عند ضرب جميع احتمالات الأعداد الأساسية ببعضها، إذ لها علاقة بنشأة النظام الكوني واستقراره.

وسبب تسميتنا لهذا النمط بـ "الضبط العددي الدقيق" يعود إلى كونه قائماً على افتراضٍ تخييلي يُصوِّر وجود قائمة هائلة من القيم العددية الممكنة، بحيث يُعدّ اختيار أيّ قيمة منها على نحوٍ عشوائي احتمالاً بالغ الضآلة. فالقيم التي تُفضي إلى نظام كوني منتظم، وتُهيّئ شروط التشكّل، وتسمح بظهور الحياة والوعي والذكاء، تمثّل فئة نوعية ضيقة ضمن وسط فضاء شاسع من الإمكانات التي لا تؤدي إلى شيء. ومن ثمّ، فإنّ تحقق أحد أفراد هذه الفئة النوعية لا يمكن تفسيره بالعشوائية، ولا بالصدفة العمياء، بل هو أقرب إلى كونه مؤشراً على تدبيرٍ صادر عن ذكاء خارق، يُحسن التقدير ويُتقن الهندسة الوجودية.

لهذا فإنّ نظام الضبط العددي الدقيق يتميّز بطابع من الافتراض التخيلي للعشوائية، والتعقيد البنيوي، وضآلة الاحتمال النوعي، نظير ما صادفناه في بنية النظام الوظيفي. كما تتسم الوظيفة المتولّدة عنه بالطابع المعقد، نظراً لارتباطها بأبعاد التشكّل الكوني واستقراره، وتهيئة شروط الحياة وظهور الذكاء، مما يُضفي عليه سمة الغائية والاتساق المدهش بين الرياضيات والوجود، بحيث تظهر القيم العددية كأنّها تُنحت نحتاً على مقياس الوجود الممكن، لا على تخمينات الصدفة العمياء.

هكذا فإن هذا النظام وفق المعيار اللاطبيعاني لا يتولد إلا عن الذكاء مثل سابقه الوظيفي.

4ـ نظام الرياضيات المجردة:

يتميز هذا النظام بأنه موجود لدى الأعداد والحسابات الرياضية للعقل المجرد دون الطبيعة، وبعضها يمتاز بما يسمى بالاستقراء الرياضي. ومن الشواهد عليه انتظام سلسلة الأعداد التالية:

9 × 9 + 7 = 8 8

8 9 × 9 + 6 = 8 8 8

7 8 9 × 9 + 5 = 8 8 8 8

6 7 8 9 × 9 + 4 = 8 8 8 8 8

5 6 7 8 9 × 9 + 3 = 8 8 8 8 8 8

4 5 6 7 8 9 × 9 + 2 = 8 8 8 8 8 8 8

3 4 5 6 7 8 9 × 9 + 1 = 8 8 8 8 8 8 8 8

ورغم ان هذا النظام غير وظيفي من حيث طبيعته المجردة، كما انه غير ناشئ بفعل الذكاء، لكن يمكن للعقل ان يستخدمه لبعض الأغراض العرضية، مثل البحث عن الذكاء الخارجي. إذ من الممكن ارسال أعداد منتظمة كبيرة في الفضاء لغرض اكتشاف الذكاء. وفي المقابل لو أننا تلقينا مثل هذه الأعداد لأمكن تفسيرها وفقاً للذكاء دون ايعازها إلى العوامل الطبيعية من الأسباب الفيزيائية والكيميائية، اعتماداً على المنطق الاحتمالي.

وسبق للفلكي الأمريكي كارل ساجان ان جسّد هذه الفكرة في روايته (اتصال Contact ) الصادرة عام 1985، إذ تضمنت الرواية أن المراصد الراديوية على الأرض التقطت نبضات مشفّرة بلغة العدّ الثنائي (0،1)، وهي لغة يسهل تحويلها إلى النظام العشري. وعند إجراء التحويل، تبيّن أن هذه النبضات تُشكّل سلسلة طويلة من الأعداد الأولية، تبدأ بالعدد 2 وتتوالى صاعداً بانتظام، مكوِّنة ما لا يقلّ عن بضع مئات من القيم الأولية[2].

ولا شكّ أن دلالة هذه السلسلة واضحة في مقصدها، إذ لا يُعقل، من حيث العفوية والعشوائية المحضة، أن يظهر نمط منتظم ومعقد بهذا القدر وسط فضاء هائل من الأعداد الاعتباطية، ناهيك عما يُعرف بالـ "شواش الفيزيائي physical chaos". وعليه لا يمكن لهذا الانتظام أن يكون وليد المصادفة، بل يدلّ على إشارة عقلية مقصودة.

وفي عام 1997 تحول مضمون هذه الرواية إلى فلم تحت العنوان ذاته، حيث الاشارة إلى ان من الممكن الاستدلال على وجود الذكاء عندما نجد سلسلة كبيرة من ذبذبات الأعداد الأولية.

وقد جرى تحويل مضمون هذه الرواية إلى فيلم سينمائي عام 1997 بالعنوان ذاته، حيث أُشير فيه إلى أن سلسلة ذبذبات الأعداد الأولية تُعدّ من أوضح العلامات على وجود الذكاء الخارجي.

وأهم ما يتميّز به هذا النمط من النظام العددي هو قابليته لحمل التعقيدات المنتظمة، بخلاف غيره النُظم السابقة. وأبرز مثال على ذلك سلسلة الأعداد الأولية الكبيرة، تليها في المرتبة سلسلة الأعداد الفردية الكبيرة. فكلاهما شاهد على وجود انتظام من نوع خاص مقترن بالتعقيد. وهو معقد حيث لا يوجد مشترك ضمني يجعل السلسلة قابلة للاختزال، وبالتالي فالانتظام فيه نابع من اعتبارات عرضية غير ذاتية أو حقيقية. فالأعداد الأولية - مثلاً - تشترك بعنصر خارجي يتمثّل في عدم قابليتها للقسمة على غيرها (ما عدا نفسها والواحد)، دون ان تمتلك عناصر داخلية مشتركة. والأمر نفسه ينطبق على الأعداد الفردية، التي يشترك أفرادها في خاصية عرضية دون أن تكون ذاتية أو ضمنية.

أما سلسلة الأعداد الزوجية، فهي مثال على نمط مغاير، إذ تتّصف بـ انتظام ذاتي، حيث كل عدد فيها يتضمّن قسمة حقيقية على العدد (2)، بوصفه عنصراً ذاتياً مكرّراً في بنيتها. ومن هنا يظهر الفرق الجوهري: فبينما يَنتج انتظام الأعداد الزوجية عن علاقة جوهرية بين عناصرها، فإنّ انتظام الأعداد الأولية أو الفردية إنما ينتج عن علاقة أجنبية غير متضمنة في عناصرها الذاتية.

خلاصة

إن أهم القواعد والنتائج التي توصلنا إليها في هذا الفصل هي كالتالي:

ثمة أربعة نُظم مختلفة، اثنان منها يتعلقان مباشرة بالعشوائية كشرط توليدي، هما التكراري والوظيفي، يضاف إلى نظام الضبط العددي الدقيق المشابه للوظيفي من بعض الوجوه، وأخيراً نظام الرياضيات المجردة.

يعتبر النظام التكراري بسيطاً، وتميل بنيته إلى الانتظام عند زيادة التكرار العشوائي. وليس هو الحال مع النظامين الوظيفي والضبط العددي الدقيق، فهما معقدان وقائمان على بنية تمتاز بثلاثة شروط، هي كما عرفنا: العشوائية والتعقيد وضعف الاحتمال النوعي. مع أخذ اعتبار ان هذه الشروط بالنسبة لنظام الضبط العددي الدقيق قائمة على الافتراض المتخيل.

تتصف البُنى المنتظمة في عالم الطبيعة بالبساطة وعدم التعقيد، كونها نتاجًا للتكرار والتماثل، رغم أنها لا تخلو من مظاهر التعقيد الناجمة عن العشوائية الكبيرة الكامنة فيها. لذا فإن مفهومي البساطة والتعقيد في هذا السياق هما مفهومان نسبيان.

مع هذا فالبُنى المنتظمة في الظواهر الطبيعية ليست معقدة بالشكل الذي نراه لدى بُنى النظام الوظيفي، بل يغلب عليها الطابع البسيط. .

وكقاعدة عامة: يتناسب التعقيد مع التنظيم تناسبًا عكسيًا: فكلما ازداد أحدهما، انخفض الآخر.

وبناءً على ذلك، ليس من الصحيح ما ذهب إليه الفيزيائي النظري بول ديفيز من وجود حالات كثيرة من التعقيد المنتظم في الظواهر العائدة إلى علم الأحياء، بل وفي الظواهر الفيزيائية حتى على فرض ندرتها. ففي كتابه (أصل الحياة) استشهد بثلاث حالات كمثال على هذا التعقيد، وهي: المجرة الحلزونية، وقوس قزح، والنموذج الانحرافي لحزمة ضوء ليزرية. فقد اعتبر هذه الحالات تتصف بالتعقيد والنظام في الوقت ذاته[3].

لكن في تقديرنا، أن بعض هذه الحالات يخضع لقوانين طبيعية صارمة، كما في قوس قزح، ومثل ذلك حزمة الضوء الليزرية، حيث تنحرف لتشكّل على الشاشة أنماط ضوئية تُعرف بظاهرتي الحيود والتداخل، وتتميز بترتيب هندسي واضح، كالحلقات والأشرطة المتوازية، والتي تخضع لقوانين فيزيائية صارمة. أما البعض الآخر فيعبّر عن تجليات منتظمة قائمة على تعقيدات نسبية نتيجة العشوائية الضمنية، فشكلها العام يرتكز على التكرار والتماثل، كما في بنية المجرة الحلزونية.

وعليه، لا تحمل الظواهر البايولوجية ولا الفيزيائية تعقيدات منتظمة حقيقية، إلا بالمعنى النسبي الذي أشرنا إليه. بل إن هذا النوع من التعقيد البنيوي المنتظم لا يظهر إلا في عالم الرياضيات المجرّدة، كما أسلفنا.

لا يمكن للبنية المنتظمة ان تنتج سوى الوظائف البسيطة. ومن ثم فالعلاقة بين البنية المنتظمة والوظائف المعقدة عكسية.

ترتبط البنية العشوائية بالنظام الوظيفي المعقد بعلاقة طردية.

إن كلاً من النظامين المعقدين الوظيفي والضبط العددي الدقيق يقعان ضمن دائرة بنيوية ضيقة جداً؛ هي بمثابة (منطقة الرفض) مقارنة بسائر الحالات الممكنة ضمن البنية العشوائية لكل منهما. وهذا ما يجعلهما بحاجة إلى تفسير غير طبيعاني قائم على عنصر التوجيه الذكي، فهما دالان على الذكاء من حيث الذات لا العرض، خلافاً للنظامين الآخرين، حيث لا علاقة لهما بالذكاء إلا من حيث الاستخدام العرضي.

يرتبط الاستدلال على الذكاء بضعف الاحتمال، سواء كان نوعياً أو شخصياً، وسواء تحقق ذلك بفعل النظام الوظيفي المعقد وما على شاكلته ذاتياً، أو تحقق بشكل عرضي، ضمن بعض الشروط، كما في الحسابات الرياضية للنظامين التكراري والرياضيات المجردة.

ثمة فرق في الدلالة على الذكاء بين كلٍّ من النظام التكراري والرياضيات المجردة من جهة، والنظام الوظيفي وما يشاكله من جهة أخرى. فدلالة النوع الأول لا تتعدى الإشارة إلى الانتظام المجرد دون أن تنطوي على مضمون أو خصوصية معينة، بخلاف النظام الوظيفي الذي يتضمن دلالة خاصة نابعة من المضمون والوظيفة.

إن عدد الانتظامات الممكنة في العالم الكوني محدود للغاية، ويُقدّر بالنسبة إلى عمر الكون بـ (495 حالة) فقط. في حين يتميز النظام الوظيفي بتحديدات ماهوية خاصة، حيث تختلف كل وظيفة عن الأخرى، كما تختلف المعاني اللغوية فيما بينها. وهذا يجعل حالاته في عالم الطبيعة والحياة لا تُعدّ ولا تُحصى، وهي فوق ذلك دالة على الذكاء.


[1]    انظر مثلاً افتتاحية مجلة مقالات بايولوجية لعددها الخاص بالآلات الجزيئية عام 2013:A special issue on molecular, BioEssays, 2013. Look: https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1002/bies.10390

[2]    كارل ساجان: اتصال، ترجمة نادر اسامة، دار اكتب، القاهرة، 2016، ص95.

[3]    بول ديفيز: أصل الحياة، ص197.

comments powered by Disqus