-
ع
+

المنتظر القادم!

يحيى محمد                        

ثمة مبررات عديدة تدعم فكرة ان يأتي كائن أعظم من البشر بامتلاكه بعض الخصائص المميزة. وهي فكرة ليست غريبة عن الأوساط العلمية. فمثلاً كان بعض العلماء لا يستبعد بأن يأتي اليوم الذي نتطور فيه إلى ما يجعل الشبه بنا قليلاً من حيث اللحم والعظام[1].

كما اعتقد بعض الباحثين الاسرائليين بأن مشاريع القرن الحادي والعشرين تهدف إلى التفوق، وقد تؤدي إلى خلق انسان خارق جديد. واحتمل انه في العقود القادمة قد تغزو العالم ديانات تقنية جديدة من خلال الخوارزميات والجينات، فإذا كانت ثمة نزعات سابقة تدعو إلى خلق بشر خارقين من خلال التطهير العرقي؛ فإن القدرات التقنية للبشر في قرننا الحالي تدعو للوصول إلى الهدف ذاته؛ لكن بأكثر سلمية، وذلك عبر الاستعانة بالهندسة الجينية وتكنلوجيا النانو وغيرهما[2].

كذلك احتمل عالم الخلية كريستيان دي دوف في (الغبار الحيوي) ان يكون العقل البشري مجرد رابط، وربما فرع جانبي في ملحمة تطورية لم تكتمل بعد، حيث سيأتي يوم تتولد فيه عقول أقوى بكثير من عقولنا[3].

من جهتنا، نعتقد أن أبرز الخصائص التي نستشرفها ونتنبأ بها، هي بالاضافة إلى التطور العقلي الخاص بالوعي والذكاء، ثمة التطور القيمي والروحي.

وتقوم هذه الرؤية على فرضيتين مترابطتين، إحداهما تتأسّس على الأخرى، وذلك على النحو التالي:

تقرر الفرضية الأولى أن مسار التطور سيؤول إلى ولادة كائن جديد، وقد يكون الإنسان هو أول من يشهد هذا التحول ويؤرخ له في تاريخ الحياة، فالإنسان هو الكائن الوحيد من بين المخلوقات - إلى حد علمنا - يمكنه شهادة أي تطور جديد ما لم ينقرض قبل ذلك.

أما الفرضية الثانية فتختص بمواصفات هذا الكائن الجديد على نحو الاجمال، وتمتلك بعض المبررات التي تجعل التطور الجديد حاملاً لصفات تفوقية في عدد من المزايا.

ولتفصيل هاتين الفرضيتين، نعمد إلى عرضهما في الفقرتين التاليتين:

الفرضية الأولى:

يمكن الاستدلال على هذه الفرضية بسهولة ضمن إطار المنطق العلمي، دون الحاجة إلى استحضار مراجع خارجية. فليس من العسير تبرير أنّ الإنسان ليس نهاية سلسلة تطور الكائنات العضوية، إذ إنّ العملية ذاتها التي أفضت إلى وجوده تبقى قادرة - من حيث المبدأ - على إنتاج كائنات جديدة، سواء انحدرت من سلالته أو نشأت من أصول مختلفة.

فالدافع إلى ترجيح ولادة كائن جديد ينبع من الفهم العلمي للتطور، والذي يكشف عن مسارين أساسيين: أحدهما طولي يمتد عبر الزمن في خط تصاعدي، والآخر عرضي يتشعب إلى أنواع وأصناف متعددة، كتعدد أغصان الشجرة. وما يعنينا هنا هو المسار الطولي، الذي يُعبّر عن سيرورة مستمرة نحو التعقيد والتكامل.

فمن غير المعقول أن تتوقف هذه العملية - التي أثمرت على مدى مليارات السنين عن ظهور ملايين الأنواع - فجأة عند الإنسان، وكأنها بلغت غايتها وانتهت مهمتها. فما الذي يبرر توقّفها تحديداً عند هذه المرحلة، وقد وُلد الإنسان قبل أكثر من مليوني عام، ولا نزال نشهد تحولات باطنية ومكتسبة في قدراته وأدواته وسلوكه؟

ويعتمد هذا الدليل على المنطق الاستقرائي التقليدي، فمثلاً كيف نعرف ان يوم غد سوف يأتي بنهار جديد مع فرض عدم الاعتماد على علم الفلك؟ إذ في هذه الحالة ليس لدينا من دليل لهذا التوقع غير لحاظ ما سبق من أيام، لذا يترجح ان يكون اليوم القادم على شاكلة ما سبق. كذلك عندما نرى كل غراب أسود سنتوقع ان مشاهدتنا للغراب القادم سوف لا تختلف عما سبقت رؤيته. وحتى في حالة وجود شذوذ فإن ذلك لا يمنع من التنبؤ بالمستقبل وفق وتيرة الماضي.

وهذا هو منطق الاستقراء التقليدي الذي يفيد الترجيح لا القطع واليقين. فمن دون معرفة الأسباب الحقيقية المباشرة لتوليد الظاهرة ليس لدينا ما هو أفضل من هذا المنطق الترجيحي. وهو ما ينطبق على ما نحن فيه من قضية. فما زلنا لا نعرف الأسباب التفصيلية الدقيقة التي تجعل الكائنات الحية تتطور بالشكل الذي اتخذته. لذلك ليس أمامنا سوى الاستعانة بالمنطق المشار إليه.

وهذا يعني أن التوقّف عند حدود ما عليه الكائن الحي اليوم، من دون توقع تجاوزه، يخالف مقتضى المنطق السابق. فهذا التوقف يفتقر إلى أي تبرير علمي مقنع، ما لم يكن مستنداً إلى النظرية الخلقوية، إذ تنسجم هذه الأخيرة مع فكرة الحفاظ على الحدود النوعية للكائنات العضوية، ومنها الإنسان، دون السماح بتجاوزها. أما في المقابل، فإن النظرية التطورية لا تملك مبرراً موضوعياً لإيقاف سلسلة التطور عند الإنسان، بل تستلزم - منطقياً - استمرار هذه السلسلة من حيث المبدأ.

وبناءً عليه، إننا إما على أعتاب ظهور كائن جديد على المسار التطوري الطولي، أو أنّ القادم من التحولات سيكون متجسداً في تحوّل الإنسان ذاته، بغض النظر عن خصائصه الجديدة؛ سواء كانت تتفوق على ما لدى الإنسان أم لا، وسواء تمّ هذا التحوّل بتخطيط بشري واعٍ، أو بفعل الضغوط البيئية، أو حتى عبر كوارث كبرى كالحروب النووية المدمّرة التي قد تودي بالبشرية إلى حافة الفناء.

وعلى العموم، نذهب إلى أن فكرة التحوّل البشري ينبغي أن تُعدّ من المسلّمات العلمية التي لا تقبل جدلاً لدى من يؤمن بمنطق التطور بمختلف مدارسه. فمن يتبنى آلية التطور لا يستطيع - علمياً - أن يتوقف عند حدٍّ نهائي للطفرات والتحولات، لا من حيث الامتداد الزمني (الطولي)، ولا من حيث التنوع الحيّ (العرضي).

صحيح أنّ هناك من يرى خلاف ذلك، مستنداً إلى قاعدة "التخصص Specialization"، والتي مفادها أن الكائنات الحيّة كلّما اشتد تخصصها الوظيفي، قلت قابليتها على التطور، وهو ما حمل بعضهم على اعتبار الإنسان يمثل ذروة التخصص، لا سيما فيما يتعلق بجهازه العصبي المعقّد، ومن ثم نهاية المسار التطوري.

غير أنّ هذا الرأي يصطدم بحقيقة جوهرية، وهي أن كل نوع من الكائنات الحية يمتلك بعض الأعضاء ذات التخصص الشديد، ومع ذلك لم تمنعه من الخضوع لعمليات التطور والتحول عبر التاريخ. ولو كانت قاعدة التخصص مانعة بذاتها، لكان التطور - من حيث الأساس - أمراً ممتنعاً أو بالغ الندرة، وهذا ما تكذّبه الشواهد البايولوجية الغزيرة.

الفرضية الثانية:

أما الفرضية الثانية فهي وإن كانت قائمة على صدق الأولى، لكن الصلة بينهما ليست لزومية، لذلك فهي بحاجة إلى أدلة أخرى غير معروضة لدى السابقة. فإذا اعتبرنا ان عملية ولادة كائن جديد هي من المسلمات التي ينبغي الاعتقاد بها وفق الاستقراء التطوري ذاته، كما تؤكده الفرضية الأولى، يبقى ان نتساءل كيف يمكننا تحديد شخصية الكائن الجديد وانه يتفوق على البشر؟

وهنا نعود إلى الجانب العلمي، ولكن من زاوية مختلفة عمّا سبق. فبدلاً من الاستناد إلى الدليل الاستقرائي (البسيط) الذي اعتمدناه في الفرضية الأولى، نعوّل هذه المرّة على جملة من الحقائق العلمية الراهنة، التي يمكن أن تُفهم بوصفها إشارات موحية إلى قدوم كائنٍ جديد متفوّق. وأبرز هذه الحقائق ما يلي:

إن الاتجاه العام لسلسلة التطور من أبسط خلية إلى اعقدها يرينا وجود تقدم متصاعد للتطور الطولي. ويعبّر هذا التقدم عن ظهور سمات عامة جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل تطور الخلايا البدائية النوى إلى الحقيقية وفق الاعتقاد السائد، وبعدها إلى كائنات متعددة الخلايا. ثم انبجست سمات عامة متدرجة وسط هذه الكائنات، فظهرت المفاصل الهيكلية، وانقسام الخلايا إلى جسمية وجنسية، وتحول الأعضاء والأجهزة العضوية البسيطة إلى معقدة.. وهكذا حتى نشوء العقل وسائر السمات الجديدة التي ظهرت مع البشر. وهو ما يعني ان من الممكن ان يستمر التطور ضمن هذا الأفق الطولي المتقدم.

لقد توقفت سلسلة التطور، من الناحية الظاهرية، عند حدود نشوء الإنسان، قبل بضعة ملايين من السنين. وقد وُجدت أصناف عديدة من البشر، تمّ التعرف على تسعة منها، كان أرقاها هو "الإنسان العاقل" الذي ما زال النوع الوحيد الباقي على قيد الحياة، بينما انقرضت بقيتها بالكامل[4].

وتتفاوت التقديرات حول عمر نشأة البشر، فبعضها يُؤرّخ لبدايات ظهورهم بما يقل عن ثلاثة ملايين سنة، وأحياناً بما يزيد. أما الإنسان العاقل، فيُقدّر ظهوره بأكثر من (300 ألف) عام، وقد عاصر آنذاك صنفين آخرين هما نياندرتال ودينيسوفان، قبل أن ينقرضا نهائيّاً[5].

هذه هي الرواية الرسمية السائدة، والمستندة إلى النظرية الداروينية. لكن ثمة اكتشافات حفريّة أثارت الكثير من الجدل، أبرزها جمجمة (توماي) التي يُقدّر عمرها بـ (6 إلى 7) ملايين سنة. وقد انقسمت الآراء حول نسبتها: هل تعود للبشر، أم للشمبانزي، أم لكائن آخر؟ ووصفها البعض بأنها جمجمة يمكن ان تغرق أفكارنا الحالية حول التطور البشري. كما قال بعض آخر: ‹‹إنني على استعداد للمراهنة ببعض المال على ان هذه الجمجمة عائدة إلى البشر››[6]. وبالنسبة لكثير من الباحثين تُعد هذه الحفرية أقدم سلف للإنسان، ويجمع معظم العلماء على أهميتها الكبيرة [7]. ولو ثبت بالفعل أنها بشرية لتمرغت نظرية داروين بالتراب.

وبغض النظر عن تحديد العمر الدقيق للبشر أو للإنسان العاقل، فإنّ تدرّج الأصناف البشرية في رُقيها العقلي ـ والمتوقّع أيضاً أنه رُقيّ قيمي وروحي ـ يُوحي بمستقبل مفتوح على إمكانية ولادة إنسان جديد أكثر كمالاً وتطوراً. وهذا هو الاحتمال الأرجح ـ على الأقل ـ عند النظر في بعض هذه الأصناف.

أما إذا لم تكن تلك الأصناف مرتبطة بعلاقات تطورية فيما بينها، فإنّ المستقبل قد يشهد نشوء كائن مختلف تماماً، غير أنّ النتيجة المتوقعة في كلا الحالين هي ظهور كائن جديد يتصف بقدرٍ من الرقيّ والتفوّق.

لقد أفضت صيرورة التطور إلى نشوء خصائص نوعيّة غير مسبوقة، تبعث على التأمل العميق. إذ بات من الواضح أن هذه العملية لا تجري على نحوٍ اعتباطي، بل يبدو وكأنّها تتجه وجهةً معيّنة، أو أنها قد نجحت في إنتاج كائن مختلف اختلافاً جوهريّاً عن سائر الكائنات السابقة. فـ "الإنسان" لا يقف في امتداد بايولوجي بحت مع غيره من الكائنات، بل يمكن القول إنه في وادٍ، وسائر الكائنات في وادٍ آخر.

لقد شهدت الحياة مع الإنسان ـ ولأول مرة ـ ولادة عناصر غير مادية، لم تكن مألوفة في مملكة الأحياء. من أبرزها: إرادته الحرة، وقواه العقلية التجريدية، وقدراته اللغوية المتنوعة، وقابليته على التفكير الذاتي، ووعيه لإدراكاته، واستبطانه النفسي، وفضوله في فهم الظواهر الطبيعية واستكشاف قوانينها مع البحث في معرفة أصول الأشياء، وتخطيطه للمستقبل البعيد، والتطفل على عالم الميتافيزيقا، وقلقه الوجودي لا سيما لما بعد الموت. يضاف إلى قدراته على التصنيع المتنوع الذي يتجاوز حاجياته البايولوجية خلافاً لسائر المخلوقات، كذلك احساسه بالجمال وتذوقه للفنون، وصِلاته بالقيم والروابط الروحية.

وكلّ ذلك لم يكن له أي وجود عند الكائنات السابقة.

الكائن الجديد والتطور الموجّه

لقد سبق لدوكينز أن أشار في كتابه الشهير (الجين الأناني The Selfish Gene) الصادر عام 1976، إلى انبجاس شيء جديد حدث مع ظهور البشر، فجعل مسار التطور يبدأ بمرحلة مستحدثة تختلف عمّا سبقها من أطوار.

ويتمثل هذا الشيء الجديد في نشوء وحدات ثقافية تتطور على غرار تطور الجينات البايولوجية. وأطلق عليها دوكينز اسم "الميمات memes" التي تفسر تشكّل ثقافتنا ومعتقداتنا وفنوننا وعاداتنا وتقاليدنا وتصاميم صناعاتنا.

فالصيرورة الثقافية، بحسبه، تجري على منوال الصيرورة الجينية. وإن هذه الميمات ما زالت بدائية، إلا أنها آخذة في تطور متسارع بحيث تكون متقدمة على تطور الجين بمسافة[8].

وهذا يعني أننا بإزاء ظواهر جديدة لم تشهدها العملية التطورية من قبل. فإذا كانت هذه العملية تسير في اتجاه تقدّمي عام ـ رغم ما يعتريها من انكسارات وتفرعات عارضة ـ فإن ظهور الإنسان يمثّل نقطة تحوّل كبرى، قد تُشكّل أولى خطوات التطور المستقبلي القادم.

ويمكن ضرب المثال على تطور الإنسان برقيّه في مهارات التصنيع والتقدّم العلمي. فلو نظرنا إلى هذه المهارات عند بدايات نشأته، ثم قارناها بما أصبحت عليه اليوم؛ لوجدنا قفزة هائلة. بل حتى لو قارنّا حاله قبل أربعة قرون، أو مائة عام، أو حتى بضعة عقود، لوقفنا على سرعة مذهلة في وتيرة التطور. وعليه، فماذا سيكون عليه الحال بعد مائة، أو ألف، أو مئة ألف عام؟!

غير أن الفرضية التي نقدّمها هنا لا تتوافق مع التفسيرات المادية الصرفة التي تتبنّاها النظريات العلمية السائدة، كالنظرية الداروينية ونظرية التوازن المتقطع Punctuated Equilibrium. فلو ابتعدنا عن هذه الأطروحات المادية، سنجد أنّ التطور، في جوهره، محكوم بفكرة الغائية والتوجيه، وذلك لأسباب متعددة لسنا بصدد تفصيلها في هذا الموضع[9].

وبالتالي فإن هذا التوجيه الغائي لا يتنافى مع الأضرار والخسائر الجانبية التي تتخلل العملية التطورية، كما تتمثل في حالات الشر والنقص الوجودي وانقراض الكائنات الحية ووجود الأعضاء الضامرة قليلة الفائدة وما إلى ذلك.

فعلى الأقل أن أغلب الكائنات الحيّة قد انقرضت، ولم يبقَ منها سوى القليل النادر. إذ تشير التقديرات إلى أن نسبة الانقراض تفوق (99%)، ولم يبقَ سوى أقل من (1%) من الأنواع التي استطاعت أن تصمد في وجه الظروف القاسية، حتى انتهى بها المطاف إلى نشوء الإنسان.

ومن حيث التفسير يمكن الاستعانة بنظرية الكون الجرثومي وأثر الفايروسات والبكتيريا على انقراض وتطور الكائنات الحية، إذ يمكن افتراض ان سبب حدوث الانفجار الكامبري، قبل أقل من (600 مليون) عام، يعود إلى الغزو المتواصل العنيف للفايروسات والبكتيريا عبر النيازك الساقطة على الأرض، مما أدى إلى سرعة تطور الكثير من الكائنات الحية، لكن القليل منها صمد، فيما انقرضت البقية. وقد يكون من بين الأسباب الهامة التي أدت إلى انقراض الكائنات الحية هو ما سببته النيازك من دمار، إضافة إلى ما نشرته من فايروسات وبكتيريا أدت إلى الأمراض المميتة وربما الانقراض. وثمة من يقدر بأن حوالي (75%) من الحياة قد انقرضت في نهاية العصر الطباشيري بسبب النيازك، أي قبل ما لا يقل عن (66 مليون) عام. وتعتبر هذه العلة طبيعية لكنها مدفوعة بتوجيه غير مباشر.

ويمكن التمثيل على هذه الظاهرة برميات زهرة النرد، أي ان العملية جرت كما لو كان المصمم جعل تصميمه قائماً على هذه اللعبة. ومعلوم انه في الحالة العادية لا يمكننا المراهنة على ظهور أي آس من الآسات الستة المتماثلة الوجوه للرميات القليلة، في حين يمكن ذلك في حالة الرميات الكبيرة، إذ يمكن التنبؤ بما سيحصل من نسب هذه الآسات.

وللدقة نفترض ان لدينا عدداً كبيراً من قطع الزهر؛ كل واحدة منها تمتلك مائة وجه تتفاوت في نسب ظهورها دون ان تكون متماثلة، وان القليل منها، ولنفترض ثلاثة فقط، لها قابلية على الظهور بنسبة كبيرة تزيد على (95%)، في حين ان البقية، وهي سبعة وتسعون وجهاً، لها قابلية ضعيفة جداً على الظهور، بحيث ان نسبة ظهورها أقل من (5%). لذلك فرغم الكثرة العددية للفئة الأخيرة لكنها لا تقوى على الظهور مقارنة بالأولى. ومن ثم فإن من سيحتل منطقة الظهور بكثافة عند الاستمرار المتواصل في رمي هذه القطع هو الفئة الأولى لا الثانية.

إن هذا التصوير يُوحي وكأن لدى المصمّم قطعاً من الزهر، تتباين في وجوهها واحتمالات ظهورها، وكان الحظ حليف تلك التي امتلكت أعلى درجات القابلية للظهور والبقاء، وهي قلّة نادرة مقارنة بالغالبية التي لم تصمد. وهكذا قد يُوصَف المصمّم، ضمن هذا النموذج، كما لو أنه «يلعب النرد»، على غرار ما توصف به فيزياء الجسيمات.

ومع أن في هذا المثال بعض الشبه بما جرى فعليّاً في عملية التطور - حيث انقرضت أغلب الكائنات الحيّة ولم يبقَ منها إلا القليل - إلا أنّه لا يفي تماماً بالمطلوب. فالتطور لم يكن مجرّد تصفية للبقاء، بل تضمّن أيضاً مساراً طولياً متقدّماً انتهى بنشوء الإنسان، وهو أمر لا يمكن تفسيره بمحض العشوائية أو الحظ.

وكأنّ خلف هذا المسار الطويل والمتعرّج خطة خفية، تشبه من حيث البنية ما جرى في رُقيّ الإنسان، لكنها لا تقف عنده كنهاية، بل كبداية لمرحلة جديدة تنتظر تجلّيات تطوّرية قادمة، لا نعلم عنها الكثير، سوى ما يومض في وجداننا كبصيص حدسيّ خافت.

وعليه، فإننا إذا أخذنا سلسلة التطور مفككة ومجزّأة، فلن تعني شيئاً يُذكر. أما إذا نظرنا إليها كوحدة متكاملة، تمتدّ من الخلية الأولى إلى الإنسان مروراً بجميع التفرعات الأفقية والعمودية، فإنها تومئ إلى معنى عميق يُحاكي مفهوم "التطور الموجَّه".

وبوصف المسار التطوري موجّهاً، فإن ثمّة ما يُبرّر القول بأن نشوء الإنسان - وتطوره - إنما هو خطوة مقصودة نحو هدف أسمى، تجلّى في ظهور ملكات نوعية غير مسبوقة: عقلية وروحية وقيمية. لكن رغم فرادة هذه الملكات وروعتها، فإنها لا تزال في أطوارها البدائية، مما يدل على أنّها ليست نهاية المطاف، بل إشراقة أولى على طريق طويل.

وهنا بيت القصيد!

فوفقاً للرؤية الغائية، من المستبعَد تماماً أن تكون غاية التطور هي إنتاج خصائص بدائية ناقصة - مهما بدت عظيمة - كالعقل، والروح، والقيم؛ لا سيما الأخلاقية منها. فمن حيث المبدأ، ما دامت هذه الخصائص قد نشأت كبداية جديدة، فإن من الطبيعي أن تكون غير مكتملة، لكنها تشير إلى ضرورة تكميلها في أطوار لاحقة.

لذا سنضع مؤشراً أو معياراً يتحدد من خلاله الحد الأدنى المتطلب من مسار التطوّر، لينسجم مع حكمة بالغة تتكشّف عبر الزمن. وبالاستناد إلى هذا المعيار، يتجلّى الفارق بين ما عليه الإنسان الراهن، وما يُنتظر أن يكون عليه الكائن القادم، بوصفه تجلّياً أسمى كمالاً لهذا المسار الهادف.

الإنسان ذلك الوسيط البائس

لو صحّت فرضيتنا المعروضة أعلاه، لكان الإنسان الحالي مجرد وسيط بائس في سلسلة التطور، فهو لا يمثّل غايتها ولا ذروتها، بل يشكّل بدايتها النوعيّة فحسب.

فوفقاً لهذه الرؤية، يتميّز الإنسان بوعيه العميق لما يتطلّع إليه من كمالٍ عقلي وروحي وقيمي، غير أنه في المقابل عاجز عن بلوغ هذا الكمال، أو التقدم نحوه إلا بمشقّة شديدة، لا تتاح إلا لقلّةٍ نادرة، كما في سيرة الأولياء وأرباب السلوك الروحي.

لكن هذه الحالات الاستثنائية لا تمثّل التيار الغالب في الوجود البشري، بل تكشف عن إمكانية أن يتخطّى الإنسان ذاته، ويمهّد الطريق نحو كائن قادم يحمل ما يتفرّد به هؤلاء القلّة من صفات وقيم عليا، دون أن يكون معرّضاً لما يعانيه الإنسان من صراعٍ داخلي دائم بين الخير والشر.

فأدنى مرتبة لهذا الكائن المرتقب، أن يتّسم بخصال تماثل ما نطلق عليه العصمة غير المطلقة، أي أن يتمتع بقدرٍ عالٍ من التوازن الأخلاقي والسموّ الروحي، وإن لم يكن معصوماً على نحوٍ مطلق. فقد يتعرّض لنوعٍ من النكوص، لكنه سرعان ما يستعيد توازنه، ويعود إلى مقامه القيمي والروحي دون تفريط.

لقد سبق للكثير من الديانات والمذاهب ان اعتنقت فكرة قدوم مخلّص أو منقذ؛ تارة في هيئة نبي، وأخرى في صورة إمام أو وليّ أو ملك أو إله أو نحو ذلك. وكلها تصبّ في فكرة خلاص البشر من واقع الظلم والضياع وفقدان الأمل وانهيار المعنى.

أما الأطروحة التي نعرضها هنا، ففيها شيء من التفاؤل والتشاؤم. فهي تتفاءل بإمكانية تحقّق درجة راقية من التطور الموجَّه، وتستبطن في الوقت نفسه دفاعاً عن الحكمة الإلهية التي قد تبدو غائبة خلف هذه السلسلة الطويلة من التطور وما صاحبها من ألم وشر ومعاناة. فهذه الآلام والمآسي ليست عبثية، بل من لوازم الصيرورة التطوّرية التي لا انفكاك عنها، والتي تسير - كما نستشرف - نحو اكتمالٍ متدرّج.

وأما التشاؤم، فمردّه إلى حال الإنسان الراهن، هذا الكائن الضعيف الذي يحمل في أعماقه وعياً روحياً وقيمياً يتطلّع به إلى بلوغ الشأن الملائكي، غير أن واقعه يخذله، قاصراً عن معانقة ما يطمح إليه من مقام. فرغم أنه يتوق إلى الكمال، لكنه لا يزال أميل إلى الشرّ منه إلى الخير، متعثراً في محاولاته، عاجزاً عن أن يحقّق ما تُمليه عليه فطرته من سمو، وما تنشده روحه من اكتمال.

وإذا كنا لا نجد لسلطة الشر هيمنة غالبة على أكثر الناس، فليس ذلك لأن طبيعتهم خيّرة بطبعها، بل لأنهم خاضعون لضوابط القوانين المدنية، والتقاليد الاجتماعية، والأعراف الدينية. ولو رُفعت عنهم هذه الكوابح، لانكشف الوحش الكامن في أعماق هذا الكائن المتذبذب، باستثناءات نادرة لا يُعوّل عليها، وبالتالي يصعب الوثوق به.

لقد غيّر العلم من نظرتنا إلى الكون، ووسّع آفاقنا المعرفية؛ لكن سلوكنا الأخلاقي لم يشهد تحولاً يُذكر. وهذا ما يثبت، يوماً بعد آخر، أننا كائنات مراهقة تتأرجح بين الطفولة والرشد؛ فما إن تسمو أرواحنا قليلاً، حتى تنكص وتتهاوى من جديد. هكذا هو حال الإنسان: لا يرسو على حال، ولا يبلغ الرشد الكامل الذي يليق بعقله ووعيه.

وكما أن في العين "نقطة عمياء" لا يتجاوز حجمها عشر قطر العين، فكذلك في القلب دائرة سوداء من الجهل والضلالة لا تُحدّ بحد، وهي ما تُشكّل نواة "الأنا" المتضخّمة، ويجعلها تختلف عن سائر المخلوقات. فهل يمكن لهذا الكائن "الغريب - المألوف"، أن يُقلع عن مراهقته، ويبلغ سنّ الرشد الموعود[10]؟

صحيح أن إدراك القيم الأخلاقية ظهر لأول مرة مع الإنسان، بوصفه تحوّلاً جوهرياً ضمن السلسلة التطورية، إذ بات قادراً على تمييز الخير من الشر، وترجيح أحدهما عن وعيٍ وبصيرة. لكن رغم هذا الإدراك، أنه يميل - من حيث الأصل - إلى اختيار الضد، ويتحيّز للشر مقابل الخير.

ولإثبات هذه الحقيقة، يكفي أن نتخيل تجربة خيالية: ماذا لو مُنح الإنسان حرية مطلقة، من دون قيود سلطوية أو اجتماعية أو دينية؟ إذ ستكشف هذه التجربة عن وحشٍ كامنٍ في أغوار اللاشعور الفردي، يترصّد لحظة التفلّت من الضوابط، مهما تزيّن بالأقنعة وتلطّف بالمظاهر.

فمثلاً، عند غياب الأمن الاجتماعي وتعطّل آليات تطبيق القوانين المدنية، يندفع كثير من الناس إلى تحقيق أطماعهم دون وازعٍ داخلي. فالوعي العقلي يتضاءل أمام سطوة الدوافع اللاشعورية، ويتقهقر العقل المنطقي تحت هجمة الأهواء المكبوتة، فتسود الفوضى ويعمّ الخراب، وتتفشّى الجريمة، إذ ما أيسر انتشار الشر، وما أشقّ بناء الخير في مواجهته. فالعقل لا يصمد طويلاً حين يُرفع النظام، ويغدو ضحيةً لهمجية الباطن المنفلت. أما الذين يلوذون بضميرهم الأخلاقي فهم القلّة، يمثلون ـ مقارنة بمجتمعاتهم ـ أنبياءَ الله المرسلين، أو ملائكة الرحمن المنزلين.

وهذا هو القانون النيتشوي الذي يحذرنا من تبعاته بعض دعاة ما بعد الحداثة. فمن وجهة نظرهم ان حقيقة الإنسان هي هذه الهمجية المدفوعة بنوازع  اللاوعي الباطني الذي تتفجر فيه طاقات الليبيدو والرغبات النرجسية والمطامع المادية، وهي ما ينبغي التركيز عليه بوصفها الحقيقة العدوانية الباطنة لهذا الكائن[11].

وللصحفي الفرنسي وعضو الحزب الشيوعي هنري باربوس Henri Barbusse عبارة مؤثرة ذكرها في روايته (تحت النار Under Fire) الصادرة سنة 1916، يقول فيها: «أنا الذي توغلتُ في قلب الإنسانية وعدْتُ مرة أخرى فلم أجد شيئاً بشرياً في هذا الكاريكاتير المتذبذب»[12].

وبإمكانك – أيها القارئ الكريم - ان تختبر البشر في ثلاثة مواقف فاصلة، وستجد أنهم يبيعونك من دون حق، كما أنك تبيعهم، إلا ما رحم ربي، وهي: منصب أو جاه رفيع، وتجارة مدرّة للأرباح، وفتنة مغرية؛ رجلاً كانت أو امرأة.

ولسوء الحظ، لم تُتح لكثيرين فرصة رؤية هذه الظلمة النيتشوية التي تحكم هذا الكائن العدواني. لكن التجارب الحياتية المريرة كفيلة بفضحها، إذ تعكس كل نكبة تمرّ بها البشرية في أي مكان من العالم صورةً صادقة لأعماق (الأنا) البشرية. فكل إبادة جماعية، أو جريمة قتل، أو اعتداء وحشي، أو خيانة وغدر، إنما هي مرآة صافية لطبيعة الإنسان الداخلية. وما كل ذلك سوى نتائج مترتبة على ذاتٍ واحدة تتكرر بصور مختلفة، ونحن نحمل منها أثراً وصدى ومسؤولية، وإنْ لم نشارك في الفعل مباشرة.

وليس ثمة مخرج من هذه الظلمة الحالكة إلا بانبلاج نورٍ جديد من نوع آخر، لعلّه كائنٌ يخرج منا ويسمو علينا، وحينها قد نصبح مجرد عبيد سعداء بين يدي الكائن الجديد؛ إن لم ننقرض تماماً بعد أداء دورنا بوصفنا حلقة في سلسلة التحول الكبير.

فالإنسان هو الوحيد من بين الكائنات الحية من اتصف بالمراهقة الذاتية والمرونة الفائقة. إذ لا توازن بين طفولته ورجولته، وشبيه بذلك عندما نقارن بين الإنسان القديم والحديث. وهذه المرونة الفريدة توحي بأنه مهيأ لتحوّل أسمى قادم.

فإذا كانت جميع الكائنات الأخرى لا تزال في طور الطفولة، لم تتجاوزه، وقد تمّ اصطفاؤها وفق عوامل بيئية وميتافيزيقية خفية أو مجهولة، وهو الحال الذي قد يصدق على الإنسان من وجهة نظر العلم الحالية، حيث تمّ تصويره بأنه نتاج الانتخاب الطبيعي والقوانين الكونية.. غير أن ما بعد الإنسان شيء مغاير تماماً، إذ من المحتمل - وفقاً للتخمين السابق - أن يتمّ اصطفاؤه لا بقوانين الطبيعة الصمّاء، بل عبر تصميم واعٍ يصدر عن هذا الكائن المراهق ذاته.

إن أروع ما في الإنسان هي قيمه الأخلاقية، لا علمه ولا حريته ولا قدراته. فهذه القيم رغم بداهتها وسلاستها ووضوحها، تظل أمانة ثقيلة، لا يظهر عبء حملها إلا عند المواقف الحرجة: كالنزاع، والخصومة، والعداوة.

فمثلاً رغم سلاسة إدراك نور العدالة، لكن يصعب تطبيقها على الخصوم والأعداء، فكيف إذا ما أُضيف إليها مقامٌ أسمى كـ "الإحسان" ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾؟

وهنا يكمن منبع بؤس البشرية وشقائها..

وعليه، فمن المتوقع أن يستهدف التحوّل التطوري القادم - لما بعد الإنسان - نقلة نوعية في البُعدين: الأخلاقي والروحي، إلى جانب النمو العقلي والإرادي، وذلك شبيهاً بالحال الذي جرى في التطور البايولوجي من الخلية إلى الكائنات الأكثر تعقيداً.

ففي سلّم التطور، تكون مرتبتنا الحالية بالنسبة للتحول القادم شبيهةً بمكانة القرود بالنسبة لنا، أو النسانيس بالنسبة للكائن المقبل. إذ سيحمل هذا الكائن الجديد صفات السمو والتكامل، فيما نظل نحن نلهث خلفها من دون بلوغ، كمن يُطارد سراباً في صحراء قاحلة: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾. والمقارنة بيننا وبين الكائن القادم، هي كالمقارنة بين الإنسان العادي والنبي المقدّس.

وإذا ما طُلب اسمٌ للكائن القادم، فالأجدر أن يُمنح اسماً يليق بسماته الكمالية الجديدة.

***

عموماً، على الرغم من أننا نجهل هوية الكائن الجديد، ولا نعرف صفاته على نحو التحديد، لكن من الممكن ان نتوقع الميزة الأساسية التي يحملها.  فهو كائن لو تُرك وشأنه لفعل الخير وتمسّك بالقيم الحسنى؛ على عكس ما يتصف به البشر. وقد تكون الفارقة بينهما احصائية لا لزومية. بمعنى لو خُلّي بين البشر وأنفسهم من دون أي سلطة فانهم سيتبعون الهوى مع ضرب القيم عرض الحائط إلا ما رحم ربي، أو كما جاء في النص القرآني: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. أما المنتظر القادم، فيُفترض فيه أن يسلك خلاف هذا السبيل.

وقد يقال لِمَ لا يتحقق هذا التحول في الإنسان الراهن عبر التربية الصالحة، على غرار ما تصوره النظرية الماركسية في المجتمع الشيوعي المثالي؟ فإذا كانت القيم المثلى لا تتحقق إلا في أفراد نادرين، كالذي يصوره ابن باجة لغربة الفيلسوف المتوحد أو النابت في المدينة الفاسدة، فلِمَ لا يُعمم هذا الحال ليغدو مجتمعاً صالحاً كما حلم به الفارابي في ما أسماه بـ "المدينة الفاضلة"؟

وجوابنا أن الضاغط الأكبر في تشكيل الميول الإنسانية لا يأتي من البيئة ولا من التربية، بل من الداخل: من الوراثة والعوامل البنيوية. وما لم يتغير هذا الجذر الوراثي، فلا أمل في حدوث انقلاب جذري في الطبيعة البشرية.

ولعل عملية التحول إلى كائن جديد قد تقع بيد الإنسان نفسه، بفضل قدرته على التلاعب الجيني وغيره من أدوات البايولوجيا الحديثة، ولا سيما بعد اكتشاف الخريطة الجينية وإمكان تعديل تركيباتها المعقدة. فقد يساهم الإنسان ذاته في ولادة هذا الكائن الجديد، كما يتخيله بعض الفيزيائيين الذين يرون أن المستقبل البعيد قد يشهد نشوء كائن بشري لا لحم له ولا عظم ولا دم، بل مكوَّن عبر إعادة صياغة الجينوم البشري.

وقد يأتي هذا التحول أيضاً من خارج الإنسان، كأن تتسبب به الفايروسات والبكتيريا، كما تصوره نظرية "الكون الجرثومي". وكلا الاحتمالين غير مستبعد.

والمرجّح أن يكون هذا النوع من التطور وفيراً في أرجاء الكون الشاسع، ضمن سلاسل مستقلة من الكائنات لا نعلم عنها شيئاً، ونحن البشر لا نمثّل سوى سلسلة واحدة منها، في حين أن سلاسل أخرى قد أفرزت كائنات أرقى بكثير.

وقد تكون الحكمة من كل هذه المسارات التطورية هي التدرّج نحو خلق كائنات صوفية، ذات معارف حضورية ذوقية، تفيض روحاً وقِيَماً، فتغدو أقرب فأقرب إلى صفات المصمّم الأعلى.

إن الأمر شبيه بما نفعله نحن البشر اليوم من صناعة كائنات آلية Robots تتقاسم معنا بعض الصفات، كالذكاء والقدرة على إنجاز المهام المعقدة.

معيار تحديد هوية الكائن الجديد

يمكن ان نضع معياراً يحدد التمايز بين طبيعة وجودنا وطبيعة الكائن القادم؛ وذلك بالاستناد إلى تحليل القيم الأخلاقية والانقلاب المنتظر الذي ستشهده هذه القيم وفقاً للأطروحة التي نقترحها.

فبحسب هذه الأطروحة، تنقسم القيم الأخلاقية إلى علاقتين متمايزتين ومترابطتين: إحداهما تندرج ضمن إطار العقل النظري، فيما تندرج الأخرى ضمن إطار العقل العملي. ونُطلق على الأولى المعنى الوجودي (الواقعي الاجتماعي)، وعلى الثانية المعنى المعياري. وتتميز الصلة بينهما بتحكم إحداهما في الأخرى. فقد يكون المعنى الوجودي حاكماً على المعنى المعياري، كما قد يحدث العكس.

وللتفريق بين هذين المعنيين، نضرب المثال التالي:

نفترض ان زيداً وخالداً من الناس لا يسرقان، لكن الأول لا يسرق لدافع أخلاقي، إذ حتى لو كانت السرقة مؤمّنة فإنه لا يفعلها. أما خالد، فامتناعه عن السرقة لا يعود إلى دافع أخلاقي، بل للخشية من ان يُكشف أمره فيُفضح، أو يُزجّ به في السجن، أو للخوف من ان ينال عقاب الله في الآخرة استناداً إلى تربيته الدينية. وكل ذلك لا علاقة له بالدافع الأخلاقي الصرف.

وبلا شك، فإن سلوك زيد يرتبط بالمعنى المعياري للقيم، حيث يجد في القيمة الأخلاقية أمراً ذاتياً يدعوه إلى عدم السرقة. بينما ينتمي سلوك خالد إلى المعنى الوجودي، لأنه محكوم بالسلطة الخارجية التي تحدّد ما يجوز وما لا يجوز. ولو زالت هذه السلطة، فلا شيء يمنعه من ارتكاب الفعل. هذا على الرغم من أن سلطة الواقع الخارجي قائمة في حد ذاتها على الأمر المعياري، لكن الأصل في عدم السرقة – كما في سلوك خالد - لم ينبع من الحكم الذاتي للقضية الأخلاقية مباشرة، بل بتبعياتها ولوازمها من حكم الواقع الاجتماعي.

هكذا تلعب القيم الأخلاقية دورين متمايزين: دور الفاعل (كما في حالة زيد)، ودور المنفعل (كما في حالة خالد). فهي مرة تصدر من الذات، وأخرى تُفرض من الخارج. وتُجسّد بذلك طابعيها النظري والعملي.

وبالعودة إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية بين البشر، نجد أن الغالب عليها هو تحكم المعنى الوجودي في المعنى المعياري. فالسلوك الإنساني في أكثره خاضع للعرف والقانون، لا لوازع داخلي ذاتي. ولو رُفع هذا الضابط الاجتماعي الذي يستند إلى المعنى الوجودي، لفسدت العلاقات وتحولت إلى فوضى ووحشية لا تطاق.

إن المعنى الوجودي للقيم يُشكّل الظاهرة الغالبة في السلوك البشري، كما أوضحنا ذلك في كتاب (النظام المعياري). وهو معنى محكوم بقوانين تهدف إلى تماسك المجتمع وصون بنيته. فعالمنا مصمم على ترجيح القيم الحسنة بغض النظر عن النوايا والدوافع الذاتية.

وقد أوردنا في ذلك الكتاب مثالاً يوضح أهمية الثقة في التعاملات الاقتصادية وسائر العلاقات الاجتماعية، حتى في ظل غياب الوازع الأخلاقي الذاتي[13].

لكن لكي يتحقق قدر من الرقي الإنساني، لا بد من قلب ميزان التحكم القيمي، بحيث ينتقل من هيمنة الوجودي إلى سيادة المعياري.

وهذا هو معيار ما سيحدث من تطور. إذ نتفاءل ان يأتي اليوم الذي يتحول فيه المعنى الوجودي للقيم إلى المعنى المعياري عبر تحكم الأخير في الأول. ولا يحصل ذلك إلا عندما يصبح الواقع الاجتماعي ناشئاً بفعل الإرادة المعيارية العامة ودوافعها الأخلاقية. فيصبح البُعد المعياري هو ما يحدد البُعد الوجودي لا العكس.

وهنا يتحدد معيار التطور القادم: أن يأتي يوم يصبح فيه المعنى المعياري هو المتحكم في المعنى الوجودي، لا العكس؛ فينبثق الواقع الاجتماعي لا بوصفه نتاجاً للعرف والقانون المجتمعي فحسب، بل كامتداد للإرادة الأخلاقية الحرة والبواعث الأخلاقية الذاتية. وعندئذٍ فقط، يغدو البعد المعياري هو من يُوجّه البعد الوجودي، على عكس ما نشهده في حياتنا المعهودة.

وبذلك يتحقق مغزى وجودنا، ويتجلى الجواب عن سؤال: لماذا نحن هنا؟ ليس لأجل ذواتنا، بل لأجل كائن قادم، أكثر رقياً منّا.

خلاصة

أخيراً، يمكن أن نُجمِل المبررات التي تنهض عليها الأطروحة التي استعرضناها كالتالي:

تُوحي سلسلة التطوّر الطولي وما تنطوي عليه من تعقيدات حيوية دقيقة بوجود غائية وتوجيهٍ مقصود في مسارها العام.

يرشدنا الدليل الاستقرائي التقليدي إلى أن التطور الطولي، فضلاً عن العرضي، لا يزال مستمراً، ولا يوجد ما يبرر توقّفه عند حد معين. فسلسلة التطور ذاتها تُظهر بوضوح أن التحوّل قد اتّخذ منحًى متصاعداً في التعقيد الطولي، رغم كثرة التفريعات العرضية الجانبية.

لقد ظهرت لدى الإنسان أشياء جديدة لم تكن معهودة من قبل، فهي غير مادية أو بايولوجية، لكنها ما تزال في طورٍ بدائي ناقص، لم تكتمل معالمه بعد.

يبدو أن نشوء الإنسان قد تدرج عبر سلسلة من المراحل التكاملية المتعاقبة، لكنها ما زالت ناقصة وتحتاج إلى ما يتممها. وتفتح هذه الفكرة أفقاً لاحتمال نشوء نوع جديد من البشرية، يختلف من حيث الجوهر عمّا نحن عليه اليوم. وفي هذه الحالة، سنغدو نحن الصنف البدائي والمتوحّش مقارنة بالصنف القادم.

تلك إذاً جملة من المبررات التي تدعم فكرة ظهور كائن جديد، بل لعلّه بشريٌّ أكثر تطوّراً، يُكمل مسيرة الارتقاء التي لم نكن سوى بدايتها، لا نهايتها.


[1]    فرانك كلوز: النهاية: الكوارث الكونية وأثرها في مسار الكون، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، عالم المعرفة (191)، 1415هـ ـ 1994م، ص14، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية: .www.al-mostafa.com.
[2]    Yuval Noah Harari, Homo Deus: A Brief History of Tomorrow, 2016, p. 142-4. Look:https://b-ok.cc/book/2877646/bcdecc
[3]    Christian de Duve, 1995, p. 301.
[4] Nick Longrich, Nine Species of Human Once Walked Earth. Now There's Just One. Did We Kill The Rest?, 2019. Look:https://www.sciencealert.com/did-homo-sapiens-kill-off-all-the-other-humans
[5]    في عام 2010 أُجريت تقنية جديدة تمّ من خلالها التعرف لأول مرة على تسلسل الجينوم لعظام حفرية بشرية من سلالة نياندرتال تعود إلى 40 ألف عام، وذلك من قبل عالم الوراثة السويدي سيفانتي بابو Svante Pääbo، وهو إنجاز كان يعتبر في وقت من الأوقات مستحيلاً من وجهة نظر البعض، وعلى أثر ذلك حاز بابو على جائزة نوبل لسنة 2022. للتفصيل انظر:Sarah Kuta, Svante Pääbo Wins Nobel Prize for Unraveling the Mysteries of Neanderthal DNA, October 3, 2022. Look:https://www.smithsonianmag.com/smart-news/svante-paabo-wins-nobel-prize-for-unraveling-the-mysteries-of-neanderthal-dna-180980883/
[6]    Oldest member of human family found, 2002.. Look:https://www.nature.com/news/2002/020711/full/news020708-12.html#:~:text=After%20a%20decade%20of%20digging,member%20of%20the%20human%20family
[7]    erry Bergman, Early Man: Toumai Deposed, 2020. Look:https://crev.info/2020/12/early-man-monthly-oops/
 [8] ريتشارد دوكينز: الجين الأناني، ترجمة تانيا ناجيا، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2009م، الفصل الحادي عشر (الميمات: المتضاعفات الجديدة)، ص309 وما بعدها.
 [9] انظر بهذا الصدد كتابنا: جدليات نظرية التطور.
[10]   كانت الفقرات القليلة السابقة منقولة عما دونّاه في كلمة موقع فلسفة العلم والفهم. ومما جاء فيه أيضاً: ان الأفعال الوحشية التي يمارسها البشر بعضهم للبعض الآخر، والتفنن في القتل وصناعة الموت، كل ذلك يدعو للاعتقاد بأن المسؤول عنها هو هذا الكائن المراهق (الأنا)، فهو البعد الدفين الذي تعتدي فيه أنفسنا على أنفسنا وان لم يتحقق ذلك بأيدينا بالفعل، أو كنا الضحية أيضاً. فهو القاتل وهو المقتول، وقد يُعد القاتل مجاهداً والمقتول شهيداً، وكما يقول الحلاج: أنتم المجاهدون في سبيل الله وأنا الشهيد.ومن المفارقة – حقاً – ان يسقط رافعوا راية المقدس في أسفل درجات نكوص (الأنا)، فلا حجة لهم على غيرهم ولا هم من الشهداء على الناس، فعوض ان يكونوا أسمى خلق الله لحملهم راية هذا المقدس؛ صاروا أسوء الخلق لخيانتهم الأمانة العظمى التي رفعوها ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾. وهو ما يستدعي مراجعة الفهم الديني والبحث في بنيته التحتية عبر الحفر للوصول إلى أبلغ طبقة ينبع منها توليد الفكر، ليس وفقاً لأركيولوجية فوكو، بل استناداً إلى العلم الجديد: علم الطريقة. انظر:https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=3
[11]   انظر: يحيى محمد: تأملات في اللاشعور، مؤسسة العارف، 2015م.
[12] Henri Barbusse, Under Fire. Look:     https://www.gutenberg.org/files/12414/12414-8.txt
[13]   انظر: النظام المعياري، مصدر سابق، الفصل السابع، فقرة: الصلة بين القيم والواقع.
comments powered by Disqus