-
ع
+

المنتظر القادم!

يحيى محمد

ثمة مبررات عديدة تدعم فكرة ان يأتي كائن اعظم من البشر بامتلاكه بعض الخصائص المميزة. فبالاضافة الى التطور العقلي الخاص بالذكاء يرد التطور القيمي والروحي.. وتتقوم هذه الفكرة بفرضيتين احداهما قائمة على الاخرى. اذ تقرر الاولى ان التطور سيشهد ولادة كائن جديد، وقد يؤرخ له البشر لأول مرة في تاريخ الحياة، فالانسان هو الكائن الوحيد من بين المخلوقات يمكنه شهادة اي تطور جديد ما لم يتعرض للانقراض.

اما الفرضية الثانية فتختص بمواصفات هذا الكائن على نحو الاجمال، وتمتلك بعض المبررات التي تجعل التطور الجديد حاملاً لمواصفات تفوقية في عدد من المزايا.

وبالنسبة للفرضية الاولى ان من السهل الاستدلال عليها وفق المنطق العلمي دون الاعتماد على مراجع اخرى. فمن السهل تبرير اننا لسنا نهاية سلسلة تطور الكائنات العضوية، فهذه العملية التي اتت بالانسان هي ذاتها التي تبرر امكانية ولادة كائنات اخرى جديدة، سواء كانت ذات اصول بشرية او غيرها. فتبرير ولادة كائن جديد يستمد من فعل التطور الذي انتج خطين؛ طولي وعرضي، وما يعنينا هو الاول (الطولي). فمن غير المعقول ان تتوقف هذه العملية بعد ان جنت ثمارها بمليارات الانواع منذ نشأة الحياة على الارض وحتى يومنا هذا، ومن ثم ليس ثمة ما يبرر انها انتهت عند هذه اللحظة التي ولد فيها البشر منذ اكثر من مليوني عام؟

ويعتمد هذا الدليل على المنطق الاستقرائي التقليدي، فمثلاً كيف نعرف ان يوم غد سوف يأتي بنهار جديد مع فرض عدم الاعتماد على علم الفلك؟ اذ في هذه الحالة ليس لدينا من دليل لهذا التوقع غير لحاظ ما سبق من ايام، لذا يترجح ان يكون اليوم القادم على شاكلة ما سبق. كذلك عندما نرى كل غراب اسود سنتوقع ان مشاهدتنا للغراب القادم سوف لا تختلف عما سبق رؤيته. وحتى في حالة وجود شذوذ فان ذلك لا يمنع من التنبؤ بالمستقبل وفق وتيرة الماضي.

وهذا هو منطق الاستقراء التقليدي الذي يفيد الترجيح لا القطع واليقين. فمن دون معرفة الاسباب الحقيقية المباشرة لتوليد الظاهرة ليس لدينا ما هو افضل من هذا المنطق الترجيحي. وهو ما ينطبق على ما نحن فيه من قضية. فما زلنا لا نعرف الاسباب التفصيلية الدقيقة التي تجعل الكائنات الحية تتطور بالشكل الذي اتخذته. لذلك ليس امامنا سوى الاستعانة بالمنطق المشار اليه.

وهذا يعني ان التوقف عند حدود ما عليه الكائنات الحية اليوم دون تجاوزها هو خلاف المنطق، حيث يفتقر الى التبرير المقنع؛ ما لم يُعتمد على النظرية الخلقوية. اذ تنسجم الاخيرة مع فكرة الحفاظ على الحدود النوعية للكائنات العضوية ومنها البشر دون تجاوزها. وتعاكسها في ذلك النظرية التطورية، حيث لا يوجد مبرر معتبر يمكن ان ينهي هذه السلسلة من التطور بعد ظهور البشر. وهو ما يعني اننا بانتظار كائن حي جديد على الصعيد الطولي، او ان التطور القادم سيكون قائماً على التحول البشري، بغض النظر عن مواصفاته ان كانت تتفوق على البشر ام لا.

ونرى ان هذه الفكرة ينبغي ان تكون من المسلمات العلمية التي لا نزاع فيها. فالذي يؤمن بآلية التطور بكافة مدارسه لا يجد مناصاً من قبول هذه الحقيقة دون التوقف عند الحد النهائي للتطور طولاً وعرضاً. رغم ان في الوسط العلمي من يعتقد خلاف ذلك اعتماداً على قاعدة التخصص specialization، حيث تضعف قابلية الكائنات الحية على التطور حينما تكون شديدة التخصص الوظيفي، والبعض طبّق هذه القاعدة على البشر جاعلاً منه نهاية التقدم التطوري.

اما الفرضية الثانية فهي وان كانت قائمة على صدق الاولى، لكن الصلة بينهما ليست لزومية، لذلك فهي بحاجة الى ادلة اخرى غير معروضة لدى السابقة. فاذا اعتبرنا ان عملية ولادة كائن جديد هي من المسلمات التي ينبغي الاعتقاد بها وفق الاستقراء التطوري ذاته كما تؤكده الفرضية الاولى، يبقى ان نتساءل كيف يمكننا تحديد شخصية الكائن الجديد وانه يتفوق على البشر؟

وهنا نعود الى الناحية العلمية حيث نجد بعض الاشارات الموحية الى قدوم كائن متفوق، لكن دون الاستعانة بالدليل الاستقرائي الذي اعتمدناه في الفرضية الاولى، بل نعتمد على عدد من الحقائق العلمية، ابرزها ما يلي:

1ـ ان الاتجاه العام لسلسلة التطور من ابسط خلية الى اعقدها يرينا وجود تقدم متصاعد للتطور الطولي. ويعبر هذا التقدم عن ظهور سمات عامة جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل تطور الخلايا البدائية النوى الى الحقيقية، وبعدها الى كائنات متعددة الخلايا. ثم انبجست سمات عامة متدرجة وسط هذه الكائنات، فظهرت المفاصل الهيكلية، وانقسام الخلايا الى جسمية وجنسية، وتحول الاعضاء والاجهزة العضوية البسيطة الى معقدة.. وهكذا حتى نشوء العقل وسائر السمات الجديدة التي ظهرت مع البشر. وهو ما يعني ان من الممكن ان يستمر التطور ضمن هذا الافق الطولي المتقدم.

2ـ لقد انتهت سلسلة التطور عند نشوء البشر منذ ملايين قليلة، وهو ذو اصناف عديدة ارقاها الانسان العاقل (الحالي)، وقد انقرضت جميعها باستثناء الاخير. وعادة ما يؤرخ لها باقل من ثلاثة ملايين عام، واحياناً اكثر من ذلك، وكان آخرها هو الانسان العاقل، ويؤرخ له باكثر من 300 ألف عام، وقد عاصر صنفين من البشر هما نياندرتال ودينيسوفان قبل ان ينقرضا تماماً. هذه هي الرؤية الرسمية القائمة على النظرية الداروينية، مع وجود بعض الحفريات الجدلية الاقدم بكثير مما تم اعتباره، ابرزها حفرية (توماي) التي يبلغ عمرها (6-7 مليون عام)، وحولها شكوك ان كانت تعود الى البشر ام الشمبانزي ام غيرهما. وقد قيل عنها بانها جمجمة يمكن ان تغرق افكارنا الحالية حول التطور البشري. كما قال البعض: ‹‹انني على استعداد للمراهنة ببعض المال على ان هذه الجمجمة عائدة الى البشر››. وتمثل لدى كثيرين اقدم سلف للانسان. كما يتفق العلماء على انها اكتشاف ذو اهمية كبيرة. ولو انها كانت بشرية لتمرغت نظرية داروين بالتراب.

وبغض النظر عن عمر البشر والانسان العاقل، فلو ان الاصناف البشرية تدرجت في الرقي العقلي، والمتوقع انه كذلك من الناحية القيمية والروحية، فسوف يوحي هذا التطور بما سيفضي اليه المستقبل من ظهور انسان جديد اكثر تقدماً وكمالاً. وهذا هو المرجح على الاقل بالنسبة الى بعضها.

اما اذا كانت هذه الاصناف لا ترتبط فيما بينها باي علاقة تطورية، فقد يفضي التطور القادم الى ايجاد كائن جديد مختلف. لكن في كلا الحالين ان من المتوقع ان نصادف رقياً وتقدماً في الكائن المنتظر.

3ـ لقد انتهت صيرورة التطور الى ايجاد خصائص نوعية جديدة ملفتة للنظر، وتبدي هذه الخصائص وجود توجه عام للعملية التطورية. او ان الاخيرة تمكنت من ان تجد لها شيئاً جديداً مختلفاً تماماً عما عليه من قبل. فالانسان ليس كبقية الكائنات الحية رغم اختلافاته النوعية، فهو في واد، وبقية الكائنات في واد اخر. فلأول مرة تنشأ مع الانسان اشياء ليست مادية مثلما لدى الكائنات الحية. وابرز ما ظهر ارادته الحرة وقواه العقلية التجريدية واللغوية المعقدة وقابليته على التفكير الذاتي الاستبطاني وفضوله في فهم الظواهر الطبيعية واستكشاف قوانينها مع البحث في معرفة اصول الاشياء والتطفل على عالم الميتافيزيقا، يضاف الى قدراته على التصنيع المتنوع التي تتجاوز حاجياته البايولوجية خلافاً لسائر المخلوقات، كذلك احساسه بالجمال وتذوقه للفنون، وصلاته بالقيم والروابط الروحية.

وسبق لدوكينز ان اعتقد بان الشيء الجديد الذي حدث مع ظهور البشر وجعل التطور يبدأ مرحلة جديدة تختلف عما كانت عليه في السابق هو نشوء وحدات ثقافية تتطور مثلما تتطور الجينات البايولوجية، واطلق عليها الميمات التي تفسر مجمل ثقافتنا واعتقاداتنا وفنوننا وعاداتنا وتقاليدنا وتصاميم صناعاتنا. فالانتقال والصيرورة الثقافية هو كالانتقال والصيرورة الجينية. ومن وجهة نظره ان هذه الميمات ما زالت بدائية لكنها آخذة في التطور بحيث تكون متقدمة على تطور الجين بمسافة.

وهذا يعني ان اشياء جديدة ظهرت لم يسبق لها مثيل من قبل. فاذا ما كانت العملية التطورية مدفوعة الى التقدم رغم انكساراتها وتفرعاتها العرضية هنا وهناك؛ فانها ستتخذ من البشر اولى خطوات التطور القادم.

ويمكن التمثيل على عملية رقي الانسان من حيث مهارات التصنيع والتقدم العلمي؛ كيف كانت بداية نشأته وكيف اصبحت الان؟ بل كيف كانت قبل اربعة قرون وكيف هي الان؟ كما كيف كانت قبل مائة عام فقط وكيف هي الان؟.. وعليه ماذا سيكون حالها بعد مائة او ألف او مائة ألف عام؟!

على ان الفرضية التي نقدمها لا تنسجم مع الاطروحات المادية المتبناة علمياً كما في النظرية الداروينية ونظرية التوازن المتقطع. فلو ابتعدنا عن هذه الاطروحات نجد ان سلسلة التطور قائمة على فكرة الغائية والتوجيه لاسباب عديدة لسنا بصدد ذكرها هنا. وان هذا التوجيه لا يتنافى مع الاضرار والخسائر الجانبية التي تلوح هذه العملية هنا وهناك، كما تتمثل بالشر والانقراض والنقص وربما عدم الفائدة او ضعفها احياناً.

فعلى الاقل ان اغلب الكائنات الحية قد انقرضت ولم يبق منها الا الشيء النزير. فنسبة الانقراض تفوق (99%)، فيما بقي اقل من (1%)، وهي الانواع التي صمدت في وجه الظروف القاسية حتى انتهى الحال الى ايجاد البشر.

ومن حيث التفسير يمكن الاستعانة بنظرية الكون الجرثومي واثر الفايروسات والبكتيريا على انقراض وتطور الكائنات الحية، اذ يمكن افتراض ان سبب حدوث الانفجار الكمبري، قبل اقل من 600 مليون عام، يعود الى الغزو المتواصل العنيف للفايروسات والبكتيريا عبر النيازك الساقطة على الارض، مما ادى الى سرعة تطور الكثير من الكائنات الحية، لكن القليل منها صمد، فيما انقرضت البقية، وقد يكون من بين الاسباب الهامة هو ما سببته النيازك من دمار اضافة الى ما نشرته من فايروسات وبكتيريا ادت الى الامراض المميتة وربما الانقراض. وثمة من يقدر بان حوالي (75%) من الحياة قد انقرضت في نهاية العصر الطباشيري بسبب النيازك، أي قبل ما لا يقل عن 66 مليون عام. وتعتبر هذه العلة طبيعية لكنها مدفوعة بتوجيه غير مباشر.

ويمكن التمثيل على هذه الظاهرة برميات زهرة النرد، اي ان العملية جرت كما لو كان المصمم جعل تصميمه قائماً على هذه اللعبة. ومعلوم انه في الحالة العادية لا يمكن المراهنة على ظهور اي آس من الآسات الستة المتماثلة الوجوه للرميات القليلة، في حين يمكن ذلك في حالة الرميات الكبيرة، اذ يمكن التنبؤ بما سيحصل من نسب هذه الآسات.

وللدقة نفترض ان لدينا عدداً كبيراً من قطع الزهر؛ كل واحدة منها تمتلك مائة وجه تتفاوت في نسب ظهورها دون ان تكون متماثلة، وان القليل منها ولنفترض ثلاثة فقط لها قابلية على الظهور بنسبة كبيرة تزيد على 95%، في حين ان البقية وهي سبعة وتسعون وجهاً لها قابلية ضعيفة جداً على الظهور بحيث ان نسبة ظهورها اقل من 5%. لذلك فرغم الكثرة العددية للفئة الاخيرة لكنها لا تقوى على الظهور مقارنة بالاولى. ومن ثم فان من سيحتل منطقة الظهور بكثافة عند الاستمرار المتواصل في رمي هذه القطع هو الفئة الاولى لا الثانية.

فهذا التصوير يبدي وكأن لدى المصمم قطعاً من الزهر المتفاوت الظهور والاوجه، فكان الحظ من نصيب من هو اكثر قابلية على الظهور، وهي وجوه قليلة مقارنة بالبقية التي لم تصمد. وقد يوصف المصمم في هذه الحالة بانه يلعب النرد مثلما في حالة الفيزياء الجسيمية.

مع ذلك فرغم ان للمثال بعض الشبه بما جرى من عملية التطور التي انقرضت فيها اغلب الكائنات الحية، فيما صمدت البقية، لكنه لا يفي بتمام المطلوب. فعملية التطور لم تقتصر على بقاء الاقلية، بل تضمنت المسار الطولي المتقدم والتي انتهى فيها الحال الى نشوء البشر.

وكأن وراء هذه العملية الطويلة والمتعرجة خطة على شاكلة ما جرى في الرقي الخاص بالانسان، لكن ليس كنهاية، بل كبداية جديدة تنتظر مراحل تطورية قادمة لا نعلم عنها شيئاً، سوى ما يمدنا به الحدس من بصيص نور طفيف.

وعليه، لو اخذت  السلسلة الطويلة لعملية التطور مجزئة لما عنت شيئاً، لكن عند اخذها كسلسلة تامة فستعني الكثير. فمن الخلية الى البشر مروراً بسائر الانواع طولاً وعرضاً من التفريعات الناشئة هنا وهناك يتقرب المعنى المتعلق بالتطور الموجه، وباعتباره موجهاً فثمة ما يبرر ايجاد الهدف الاسمى عبر نشوء الانسان وتطوره. ويعود ذلك الى بعض الملكات الجديدة التي خلفها التطور من دون سابقة، لا سيما ما يخص المجالات العقلية والروحية والقيمية، لكنها ظهرت حديثاً ومن ثم انها بدائية غير تامة. وهنا بيت القصيد!

ووفقاً للرؤية الغائية ان من المستبعد تماماً ان ينتهي التطور الى ايجاد خصائص بدائية ناقصة رغم روعتها وعظمة ابداعها بما لم يسبق لها مثيل من قبل، كما تتمثل في الحاجات العقلية والروحية والقيمية؛ والاخلاقية منها على وجه الخصوص. ومن الطبيعي ان تكون بدائية ناقصة باعتبارها نشأت كبداية جديدة، وبالتالي فهي بحاجة الى حد معتد به من الكمال النسبي. ويمكن وضع مؤشر او معيار يتحدد فيه الحد الادنى المتطلب من عملية التطور كي تتخذ مسارها الدال على الحكمة البالغة. وبه يتميز الفارق بين ما عليه الانسان الحالي وما سيتصف به المخلوق القادم.

ولو صحت هذه الفرضية لأصبح الانسان الحالي مجرد وسيط بائس، يمثل البداية النوعية لا النهاية من سلسلة التطور. وبحسبها ان الامتياز الذي يحظى به الانسان هو انه يعي ما يتمناه من تحقيق الكمال على الاصعدة العقلية والروحية والقيمية، لكن ليس بوسعه فعل شيء ازاء هذه الغايات، واذا كانت ترد استثناءات نسبية لدى عدد ضئيل جداً من الناس في القدرة على التطور الروحي والقيمي، كما في سيرة الاولياء، فذلك لا يمثل التيار العام للبشر، وبالتالي انه ليس بوسعهم سوى التمهيد للتطور القادم.

وادنى حالة لهذا التطور هو ان يصبح الكائن الجديد حاملاً لصفات ما ينعم به الاولياء من التفوق على غيرهم في المجالين الروحي والقيمي. وهي درجة من الكمال لا تعتبر نهائية بطبيعة الحال. وتشابه ما نسميه بالعصمة دون المطلقة، ولها مواصفات ما قد يصاب فيها المخلوق القادم الى نوع من النكوص مع سرعة العودة الى ما كان عليه من اتزان، ومن ثم الحفاظ على القيم الروحية والاخلاقية.

لقد سبق للكثير من الديانات والمذاهب ان اعتنقت فكرة قدوم المخلّص او المنقذ، تارة في صورة نبي، واخرى في صورة امام او ولي او ملك او إله الخ.. وكل ذلك لأجل خلاص البشر من الظلم والضياع وفقدان الامل.

أما اطروحتنا ففيها شيء من التفاؤل والتشاؤم، فهي تتفاءل بتحقيق درجة راقية من التطور الموجه، وتدافع عن الحكمة الالهية خلف ما نراه من السلسلة الطويلة للتطور وما خلفته من شر ومعاناة وآلام، اذ كل ذلك من لوازم الصيرورة التطورية التي لا مفر منها. وهي اليوم في طريقها نحو التكامل كما نتفاءل به.

اما التشاؤم فحاصل عند النظر الى الانسان ككائن عاجز يتميز بالوعي الروحي والقيمي مع تمنيات ان يكون له شأن ملائكي، لكنه ابعد ما يكون عن تحقيق ذلك، فهو يميل الى الشر منه الى الخير. واذا كنا لا نجد هذه الصفة لدى الكثيرين منا؛ فبسبب الانقياد لضوابط القوانين المدنية والاعراف والتقاليد الاجتماعية والدينية، ولو ازيحت لظهر الوحش المخبّأ في اعماق هذا الكائن المتذبذب مع استثناءات نادرة جداً. لذا لا يمكن الوثوق به.

صحيح اننا لا نعرف عما يمكن ان يكون عليه الكائن الجديد، لكن نتوقع ان الميزة الاساسية التي يحملها هي انه لو تُرك وشأنه لكان قد فعل الخير وتمسّك بالقيم الحسنى؛ على عكس ما يتصف به البشر. وقد تكون الفارقة بينهما احصائية لا لزومية. بمعنى لو خُلّي بين البشر وانفسهم من دون اي سلطة فانهم سيتبعون الهوى وضرب القيم الا ما رحم ربي، وعلى خلافهم ما يفعله المنتظر القادم.

وللاسف لم يتح للكثير ان رأى الظلمة النيتشوية في هذا الكائن العدواني. وقد تكون لتجاربنا الحياتية المريرة دور في رؤيتها بوضوح، فكل تجربة مريرة تمر بها البشرية هنا او هناك انما تعبر عن اعماق الانا الانساني.. فكل ابادة جماعية او حادثة قتل او اعتداء وحشي او غدر او خيانة انما تعبر عن طبيعة هذه الانا، وهي ما تتحمل مسؤليته، فكل جريمة تصنع في مكان بعيد نجد لها اصل في الانا الخاصة بنا دون امكانية التخلص منه، ولا سبيل لرؤية النور وسط الظلمة الحالكة، لكن حكمة كل ذلك هو الفرج في ان يخرج منا ما هو اعظم وأجل، وقد نصبح حينها مجرد عبيد سعداء بين يدي هذا الكائن الجديد ان لم ننقرض تماماً لوفائنا غايتنا عند نشأته وظهوره.

ان عملية التطور الى كائن جديد قد تحصل بفعل الانسان ذاته من حيث قدرته على التلاعب الجيني وغيره، خاصة بعد اكتشاف الخريطة الجينية وامكانية التلاعب في سلسلة ارتباطاتها المعقدة. كما قد تحصل لاسباب اخرى، مثل ما يمكن ان تصنعه الفايروسات والبكتيريا من تطور كالذي تصوره نظرية الكون الجرثومي. وكلاهما غير مستبعد.

ومن المرجح ان هذا الحال من التطور متوفر بكثرة في الكون الشاسع، ضمن سلاسل مستقلة لا نعلم عنها شيئاً، ونحن نمثل واحدة من هذه السلاسل، والمتوقع ان الكثير منها قد ولّدت كائنات اكثر رقياً منا..

وقد تكون الحكمة من كل هذه العمليات والسلاسل التطورية ايجاد كائنات صوفية ذات معارف حضورية ذوقية مع روح وقيم عالية يجعلها قريبة من صفات المصمم اكثر فاكثر..

فالحال هنا اشبه بما نقوم به نحن البشر من صناعة كائنات آلية Robots لها بعض السمات الشبيهة بنا، حيث الذكاء والقدرة على انجاز المهام التصنيعية المعقدة.

***

اخيراً يمكن ان نجمل مبررات اطروحتنا كالتالي:

1ـ توحي سلسلة التطور الطولي وتعقيداتها الحيوية بالغائية والتوجيه.

2ـ يرشدنا الدليل الاستقرائي التقليدي الى ان التطور الطولي فضلاً عن العرضي مستمر دون وجود ما يبرر توقفه عند حد معين. فسلسلة التطور ذاتها ترينا ان التحول أخذ شكلاً متقدماً من التعقيد الطولي رغم كثرة التفريعات العرضية.

3ـ يبدو ان نشوء الانسان تدرج ضمن عدد من المراحل التكاملية، لكنها ما زالت ناقصة وتحتاج الى ما يتممها. وهي فكرة مناسبة لتوقع نشوء صنف اخر للبشرية يختلف عما نحن عليه، فبالنسبة اليه نكون من الاصناف البدائية المتوحشة.

4ـ لقد ظهرت اشياء جديدة لدى البشر لم تكن معهودة من قبل، فهي غير مادية او بايولوجية، لكنها ما زالت ناقصة بدائية.

هذه عدد من المبررات التي تدعم فكرة قدوم كائن جديد، بل بشري متطور كما يبدو.

comments powered by Disqus