-
ع
+

الكأس المقدسة في اكتشاف معيار التصميم (2)

يحيى محمد

منذ عام 1998 استخدم فيلسوف العلم الرياضي وليام ديمبسكي معياراً دقيقاً لاقتناص ظواهر التصميم الذكي، يدعى بالتعقيد المخصص (specified complexity)، كما في كتابه (دليل التصميم)، وغيره من الكتب والمقالات التي تلته حتى يومنا هذا. فهو مصطلح يتضمن عنصرين من المفاهيم، هما التعقيد والتخصيص specification.

وسبق لعلماء الاحياء ان ادركوا مدى التعقيد الحاصل في الظواهر الحيوية وتمييزه عن تعقيد الظواهر الكونية، لا سيما بعد اكتشاف بنية الدنا. أما ارتباطه بالتخصيص فلم يظهر بشكل جلي الا مع الكيميائي الحيوي ليسلي اورجيل عام 1973، حيث صرح في (اصول الحياة) بان كائنات اليقطين تتميز بتعقيدها المخصص، فيما تفشل البلورات مثل الجرانيت في التأهل للحياة لافتقارها إلى التعقيد، كذلك تفشل مخاليط من البوليمرات العشوائية في التأهل للحياة لافتقارها الى التخصيص.

وفي عام 1984 قام الكيميائي تشارلس ثاكستون بتطوير هذا المفهوم في كتابه (لغز اصل الحياة) بعد ان نقله عن اورجيل، فميّز بين ثلاثة انماط من الظواهر، ومثّل عليها باستخدامات لغوية، حيث بعضها تكرارية دورية مخصصة غير معقدة، وبعضها معقدة غير مخصصة، فيما ان بعضها معقدة ومخصصة مثل حامض الدنا، وهي التي تحمل فائض المعلومات، خلافاً للاولى الحاملة لمعلومات قليلة، والثانية الخالية من المعلومات.

كذلك استخدم الفيزيائي بول ديفيز هذا المفهوم عندما صرح في (المعجزة الخامسة) عام 1999 بأن الكائنات الحية غامضة ليس بسبب تعقيدها في حد ذاتها، بل لتعقيدها المحدد بدقة. وسبق له في (المخطط الكوني) ان قسّم الحدود العلمية بتناولها ثلاث فئات عامة: كبيرة جداً كالنجوم والمجرات، وصغيرة جداً كالجسيمات تحت الذرية، ومعقدة جداً كالكائنات الحية.

أما ديمبسكي فقد تميّز بالتنظير الشمولي للمفهوم واضفاء الطابع الرسمي عليه كمعيار للكشف عن اثار الذكاء؛ فاشتهر باسمه. وقد اعترف بتصريح كل من اورجيل وديفيز الانفي الذكر من دون اشارة الى ما طرحه ثاكستون. كما وصف هذا الاستخدام بالفضفاض.

وحقيقة يعود الى ديمبسكي الفضل في جعل المفهوم معروفاً على نطاق واسع ومثيراً للجدل في الاوساط الفلسفية المتعلقة بالعلم، فهل من الضروري ان ما يبدو معقداً ومخصصاً دال على الذكاء؟

وتعتبر حركة التصميم الذكي التي ينتمي اليها ديمبسكي ممهدة لظهور هذا المفهوم. اذ الهدف من ظهور هذه الحركة هو جعل مسألة التصميم تدخل الاطار العلمي، وقد وجدت فيه ما يمثل الكأس المقدسة في اثبات المصمم. وسبق لمايكل بيهي ان استخدم قاعدة (التعقيد غير القابل للاختزال) للدلالة على التصميم عام 1996، لكن هذه القاعدة ارتبطت مباشرة بتخطئة التفسير التدريجي للتطور كما في النظرية الداروينية، وهي وان كانت تنتهي في النتيجة الى الحاجة لافتراض المصمم لكنها تعتبر حالة من حالات مبدأ التعقيد المخصص، كالذي اشار اليه ديمبسكي بنفسه. فهو مبدأ شامل سواء تم تطبيقه على نظرية التطور كما في قاعدة (التعقيد غير القابل للاختزال)، او على غيرها مثل البحث في اصل الحياة وما اليها. لذلك اخذ الجدل حول هذا المبدأ يتعلق بالكثير من الظواهر المعقدة ان كانت دالة على التصميم ام لا؟

على ان الهدف الذي دفع ديمبسكي لطرح فكرة التصميم الذكي هو ما لاحظه كغيره من العلماء من تفاصيل مدهشة للتعقيدات الوظيفية الخاصة بالدنا في الخلية الحية. فالدنا يحمل سلسلة حساسة من التركيب المعقد للعناصر الكيميائية، وهو بفضل هذا التعقيد الحساس يحمل رسائل من المعلومات المشفرة والمبرمجة بما يفوق قابلية اي حاسوب الكتروني قد انتجه البشر حتى يومنا الحالي. وهذا ما دفع الكثير من الفلاسفة والعلماء الى الاعتقاد بوجود صانع مصمم بعد ان كانوا ملاحدة او لا ادريين.

ويمكن تصوير تطورات موقف الملاحدة واللاادريين عبر الزمن كالتالي:

قبل داروين: لا يوجد تصميم في الطبيعة اطلاقاً..

بعد داروين: ثمة تصميم لكن من غير مصمم..

بعد اكتشاف الدنا: ان الكائنات الحية تبدو وكأنها مصممة، أي ان التصميم لاحق عرضي..

مآل تطور الفكرة: ان الكائنات الحية تبدو وكأنها مصممة لأنها بالفعل مصممة، أي ان التصميم سابق متأصل..

***

لقد شخّص ديمبسكي الخطأ الذي كان يمنع ادخال فكرة التصميم الى المجال العلمي، ويتعلق بغياب المعيار الدقيق الذي يجعلنا نصف ظاهرة بانها تكشف عن تصميم ثم يتبين غير ذلك. لكنه هوّن من هذه المشكلة واعتبرها بالية بعد اكتشاف معيار التعقيد المخصص. فهو معني بتفسير نمط واحد فقط وسط ثلاثة انماط من التفسير في المجال العلمي، هي: الصدفة والضرورة والتصميم القصدي. فكما ان بعض الظواهر لا تفسر بغير الصدفة، وبعض اخر لا تفسر بغير الضرورة او القانون، فكذلك هو الحال في ان بعض الظواهر تفرض علينا ان نعتبرها مصممة من قبل مصمم ذكي حينما لا يمكن للصدفة ولا الضرورة ان تفسرها، وليس من سبب لذلك سوى تضمنها للتعقيد والتخصيص في آن واحد.

ويمثل ديمبسكي على نمط التفسير وفق التصميم دون الصدفة والضرورة بالفلم الخيالي (اتصال)، فهو يتضمن اشارة فضائية تتضمن اعداداً اولية من سلسلة طويلة دالة على الذكاء الفضائي، حيث يتوفر فيها التعقيد باعتبار ان السلسلة طويلة ومختلفة، كما انها مخصصة باعتبارها دالة على مشترك محدد هو الارقام الاولية.. وان من الممكن ان تكون بغير ذلك فلا تدل على التصميم والذكاء.

فالتصميم يتطلب ملاحظة ثلاثة امور، هي الاحتمالية والتعقيد والتخصيص. بمعنى ان الحادثة ممكنة وليست ضرورية او داخلة ضمن قانون محتم، كما انها معقدة، وكذلك مخصصة. اذ لا بد من التمييز بين الحادث المحتمل والحدث الضروري الخاضع للقانون الفيزيائي والكيميائي. وعندما يكون الحادث ممكناً غير ضروري وانه يحمل صفتي التخصيص والتعقيد فسيدل على نمط الذكاء.

وللدقة اعتبر ديمبسكي ان التعقيد هو نوع من الاحتمالية، بل وثمة علاقة عكسية بينهما. لذا يَصْفى عنصران يشيران الى الذكاء لا ثلاثة، هما التعقيد والتخصيص. فالحادث الذي يمتلك أحد هذين العنصرين لا يدل على المطلوب، بل لا بد من اجتماعهما معاً.

فمثلاً الحصول على سلسلة من قطع الحروف المقطعة السكرابل Scrabble مرتبة عشوائياً يعتبر عملية معقدة لكنها ليست مخصصة او محددة، بينما الحصول على سلسلة من قطع اللعبة تتكرر بنفس الكلمة يعتبر عملية مخصصة لكنها ليست معقدة. وكل منهما لا يدل على الذكاء. في حين ان جمع العمليتين معاً نحصل على التعقيد المخصص الدال على التصميم الذكي.

وهذا ما سبق ان اشار اليه اورجيل وثاكستون من قبل، اذ توجد ثلاثة اصناف من الظواهر احدها مخصصة واخرى معقدة وثالثة جامعة بين التخصيص والتعقيد.

وربما يمكن التعبير عن التعقيد الذي تحدث عنه ديمبسكي بالعشوائية البنيوية الكبيرة من دون انتظام. فكما لاحظ ان التسلسلات المعقدة تفتقر الى النمطية وتتصف بقلة احتمال تحققها، وبالتالي تستعصي على التوصيف بقانون او علاقة بسيطة.

أما التخصيص فهو عبارة عن اثر مخصص مستقل او اداء وظيفة معينة. وهو بذلك ينطبق على اكثر من قضية مع اختلاف الشروط، مثل الوظيفة والاثر المحدد. ومن ثم فانه يكتسب بعض الغموض، لا سيما ما يتعلق بالاثر المحدد.

وكان ديمبسكي في بداية دراساته قد حاول ايضاح المفهوم من خلال الامثلة، فعبّر عنه بنوع من النمط. فمثلاً الحرف الواحد للغة يعتبر مخصصاً، كما ان تكرار الحرف وكذا الاحرف هي ايضاً مخصصة من حيث التكرار، وعلى هذه الشاكلة تكرر الارقام الاولية. كذلك ان الجملة المفيدة للمعنى مخصصة بمعناها، وان الوظيفة البايولوجية مخصصة بوظيفتها.

ويلاحظ في اللغة ان التخصيص تارة يلوح البنية، واخرى يلوح الوظيفة او المعنى. فعند مقارنة الحروف في جملة مفيدة للمعنى، واخرى مكررة من دون معنى، يعتبر ديمبسكي ان كليهما مخصصان، ففي حالة الجملة المفيدة يتحدد التخصيص بالمعنى، وفي حالة الحروف المكررة يتحدد التخصيص بالتكرار. لكن هذه المقارنة يشوبها الاختلاف النوعي، اذ التخصيص في الجملة المفيدة يتعلق بالوظيفة (المعنى) لا البنية، في حين انه في تكرار الاحرف يتعلق بالبنية دون الوظيفة او المعنى.

لذلك ثمة انماط مختلفة للتخصيص، وعندما تكون معقدة فانها تدل على التصميم، لكن ما الجامع الذي يوحدها؟ لا سيما عندما يضاف الى ما سبق بعض الشروط كما في المثال التالي:

عندما يصوب رامي سهام رميته الى دائرة ضيقة يصعب تصويبها يكون قد حدد الهدف، فهو نوع من التخصيص، ومن ثم اذا كان قد صوبها لمرات كثيرة؛ فسيُعرف بانه متقن وماهر في الرماية؛ لاجتماع التعقيد والتخصيص معاً. لكن مع وجود شرط في التخصيص، وهو ان تحديد الهدف يأتي قبل التصويب لا بعده. ولو كان بعده لما دل على الاتقان والمهارة. وفي احيان اخرى يكون العكس هو الصحيح، فقد نجد حروفاً عشوائية تبدو بلا معنى، لذا لا يمكن اتخاذها دليلاً على التصميم. في حين لو تم معرفة ان لها تشفيراً للمعنى فستدل على التصميم.

وحقيقة ان طبيعة لغتنا المفيدة للمعنى هي بهذا الحال من التشفير، ولولاه لما دلت على التصميم. والشيء ذاته يقال حول التشفير الحيوي.

مع هذا فالامثلة السابقة يستفاد منها التخصيص الدال على التصميم والاتقان وان لم يوحدها جامع، خاصة مع اختلاف الشروط المتعلقة بها. فلا نستطيع ان نقول بان المقصود من التخصيص هو نمط التكرار، او الحدث الفعلي، لان المعنى في اللغة والوظيفة في الحياة لا تعبر عن التكرار ولا الحدث الفعلي، كما لا يسعنا اعتبار المقصود منه هو الوظيفة، ولا المعنى. ومع اختلاف الشروط يصبح المفهوم مشتتاً.

لكن في عام 2011 قدّم ديمبسكي في (تصميم الحياة) تعريفاً شاملاً للتخصيص، وهو ببساطة: ‹‹ما يسهل وصفه››. ومن ثم يصبح التعقيد المخصص عبارة عن كل ما يسهل وصفه ويصعب حدوثه بالصدفة. وكشف عن هذا المعنى عبر افتراض تجربتين متعلقتين برمي قطعة نقد عشوائياً عشر مرات، ولنفترض انهما اظهرتا الشكلين التاليين:

الاولى: AAAAAAAAAA

الثانية:  ABBABBAAAB

ويلاحظ ان التجربة الاولى تمتلك وصفاً سهلاً مقارنة بالثانية. لذا فالحكم بالتعقيد المخصص يتطلب ان يكون التعقيد الوصفي فيه ضعيفاً، اي يمكن وصفه بسهولة مع تعقيد احتمالي كبير. فالدمج بين ضآلة التعقيد الوصفي – اي بنية سهلة الوصف بعبارة قصيرة - مع ضخامة التعقيد الاحتمالي هو ما يجعل التعقيد المخصص مفهوماً فعالاً في التعبير عن الذكاء.

واعتبر ديمبسكي ان كل الامثلة المعروفة حول التعقيد المخصص توظف الوصف الموجز لنموذج التجربة. فهناك اهمية لاختيار اللغة المستخدمة في الوصف، مثل وصف سوط الجراثيم بانه دافع يقوده محرك ثنائي الاتجاه.

 

التعقيد المخصص والمعلومات

لقد عزف ديمبسكي في بداية دراساته عن استخدام مفهوم المعلومات كأثر للتعقيد المخصص كما طرحه ثاكستون من قبل. وبحسب ستيفن ماير يعود سبب هذا الابتعاد الى ان الناس يخلطون بين معلومات شانون وبين المعنى او الوظيفة. اذ تتمثل معلومات شانون بالضآلة الاحتمالية، لكنها لا تشير لوحدها الى التصميم بالضرورة. لذا ظل ديمبسكي يقترح ان وجود التخصيصات ضئيلة الاحتمال، وليس المعلومات، هو المعيار الحاسم الذي يشير الى السبب الذكي.

لكنه مع هذا تقبّل - فيما بعد - استخدام المعلومات في معناها الموسع لما جاء في مفهوم شانون، فهي تمثل معلومات شانون زائد الوظيفة او المعنى او الخصوصية. ومن ثم بدأ يتحدث عن التحديدات ذات الاحتمالية الضئيلة و(المعلومات المخصصة المعقدة) على انها الشيء ذاته.

ولم يكتفِ بذلك، بل حدد مفهوم التعقيد بكمية معينة من المعلومات، هي قرابة 500 بت. وهو ما يعني ان الصدفة والاسباب الطبيعية عاجزة عن انتاج ما يفوق هذا الحد من المعلومات لشدة تعقيدها.

والسبب في اختيار ديمبسكي لهذه الكمية من المعلومات كدلالة على التعقيد المخصص هو لأنها مستنتجة من مجموع الموارد الكونية، فهي بحسب تقديره تساوي 10150. فهذا هو الحد الذي يعطي مثل تلك الكمية من المعلومات المعقدة. وهو ما يعني ان اي احتمال اقل من مقلوب هذا الحد يعتبر معقداً لا يمكن للاسباب الطبيعية او الصدفة ان تنتجه من دون ذكاء. او ان ما يمكن انتاجه من معلومات وفقاً للاسباب الطبيعية لا يتعدى 500 بت كحد اقصى. فالتعقيد المخصص هو ما يمثل هذا الحد من المعلومات.

وعليه اعتبر ان الاستحالة المحضة تتفق مع التعقيد المحض. وبالتالي فالتصميم وليس الصدفة هو التفسير الوحيد لهذه الاستحالة.

لقد توسع ديمبسكي في بحث المعلومات وعلاقتها بالتعقيد المخصص، فأخذ يطرح فكرة الكون المعلوماتي كما في كتابه (كومينيون Being as Communion) عام 2014.

فمن وجهة نظره ان المعلومات او الرسالة هي دائماً ما يلازمها شيء اخر هو الوسيط، وان انتقالها يتطلب انتقال للطاقة سواء كانت مادية او غير مادية. وان الطاقة هي دائماً ما يستدل عليها من المعلومات لا العكس. لكن في جميع الاحوال ان هذا الوسيط الناقل هو نفسه معلوماتي، وعبّر عنه بمصطلح التجسد بدل المادة. اي ان المعلومات هي متجسدة على الدوام وان تجسدها يمثل وسيط الرسالة.

وبذلك تصبح المادة شكلاً من اشكال المعلومات، وبالتالي اعتبرها ديمبسكي اسطورة حرفياً لا مجازاً، حيث تذوب بالتحليل الى معلومات وتصبح محض تجريد غامض. اذ يمكن ان تتواجد المعلومات في البنية التحتية التي هي نفسها معلوماتية بالكامل، على شاكلة المحاكاة الحاسوبية. وهو لا يستبعد ان تكون المادة نتاجاً عرضياً للمعلومات، على عكس الاتجاه المادي.

لقد اتخذ ديمبسكي نهجاً مثالياً فسار على خطى الفيزيائي ماكس تجمارك في اعتبار الواقعة الفيزيائية لا تتجاوز البنية الرياضية، لا انها مجرد توصيف من خلال الرياضيات. بل واعتبر الوجود كله سلاسل غير متناهية من المعلوماتية المتمثلة بالعلاقة الرابطة بين الرسالة والوسيط، ويكون مبدأ تراجعها اللانهائي عائداً الى الإله كمكون رئيسي. فهي رابطة على شاكلة تسلسل الادراكات العقلية او الصورية في الوجود وفق الرؤية الفلسفية التقليدية.

مع ان هذه الفكرة تتضارب مع تسليم ديمبسكي السابق بالعمر الفيزيائي المحدود للكون، ومن ثم تحديد مجموع الموارد الكونية وما يتأسس عليها من كمية مقدرة للمعلومات.

كما اضاف ديمبسكي الى هذه الرؤية بعض الابعاد الدينية المسيحية، فهو يرى ان من الممكن اعادة تجسيد المعلومات باشكال مختلفة، مثل تجسيد الموسيقى بمسودة مكتوبة، وكنسخة ممسوحة الكترونياً، وكأداء حي، وكملف صوتي على الحاسوب.. الخ. وهي من ثم لا تتلاشى او تدمر. وطبّق ذلك على حالة المسيح بن مريم.

***

هذه باختصار نظرية ديمبسكي حول التعقيد المخصص او المحدد، ولنا عليها جملة ملاحظات نقدية كالتالي:

سبق ان عرفنا بان ديمبسكي حدد انماط التفسير العلمي بثلاثة، هي الصدفة والضرورة والتصميم الذكي، لكنه لم يشر الى نمطين اخرين، هما القانون الاحصائي واللاتحدد. كما ان استخدامه للضرورة هو استخدام فلسفي، وكان الاولى ان يعبر عن ذلك بالقانون الصارم، فبين الضرورة والصرامة فارق من الناحية المنطقية.

يمكن ايجاد تعقيد مخصص – نسبياً - غير مرتبط بالاسباب الذكية، كما في حالة التقلبات المتنافية والنظم الفيزيائية الديناميكية.

ففي حالة الرميات الكبيرة للعملة تزداد فيها العشوائية وتصبح اكثر تعقيداً، اي ان الاحتمالية لاي ترتيب منتظم تكون اشد ضآلة كلما ازداد عدد الرميات. لكن مع ذلك فان هذه الزيادة في العشوائية تعطينا تخصيصاً ادق بالاقتراب من نسبة ثابتة هي الاحتمال القبلي لوجهي العملة. وهنا نلاحظ ان شدة العشوائية تفضي الى التخصيص الادق.

وقريب من هذا المعنى حاصل في حالة النظم الديناميكية الفيزيائية، فهي تعبر عن تعقيد في العشوائية لكنها تنتج نوعاً من التخصيصات المنتظمة البسيطة، مثل تلك المتمثلة بالجواذب الغريبة.

صحيح ان ديمبسكي اشترط في التعقيد ان تكون الاحتمالية ضعيفة جداً، او ان التعقيد بحسب المفهوم هو ما يكون احتماله ضئيلاً للغاية. لكن في هذه الحالة يصبح ليس كل تعقيد يفيد الغرض، بل التعقيد المتعلق بالاحتمالية الضعيفة. ويمكن الاكتفاء بالاحتمالية الضعيفة دون حاجة لقيد التعقيد.

ان تعريف ديمبسكي للتخصيص بانه ‹‹ما يسهل وصفه›› يتميز بالذاتية قبال الموضوعية. ومن وجهة نظرنا انه لا ينطبق على جميع الحالات التي يستكشف منها الذكاء عند اضافته الى التعقيد. ففي مثال الرميات العشر لقطعة النقد الانف الذكر عرفنا كيف ان ما يسهل وصفه بحسب التجربة الاولى ينافي ما لا يسهل وصفه بحسب التجربة الثانية، وان للتعقيد المخصص علاقة بالاولى لا الثانية. لكن عندما نعرف ان احتمال ظهور التجربة الاولى هو بالضبط يساوي احتمال التجربة الثانية، فان من الممكن ان نجعل من الثانية وكذا الاولى دالة على الذكاء، او ان التخصيص في الثانية هو ايضاً يعتبر من حالات التخصيص عند اضافة شرطه (اي التخصيص) قبل التجربة.

فقد يراهن الشخص على توقع ظهور التجربة الثانية قبلياً، اي انه خصص الهدف قبل التجربة المعقدة، وهو حال ينسجم مع التعقيد المخصص، على شاكلة تخصيص الهدف الضيق قبل الرمي بالسهم، وفق المثال الانف الذكر. لكن لو افترضنا ان التجربة عبارة عن ألف رمية بدل العشر مرات، وادعى الرامي امكانية اظهار اي صورة توافيقية ممكنة، كتلك التي على شاكلة التجربة الثانية في مثالنا السابق، ومن ثم ثبت صدق تنبؤ الرامي في تحقيق الصورة التوافيقية المنتخبة.. ففي هذه الحالة يصبح التخصيص المشروط قبل التجربة ليس من السهل وصفه، فهو ليس بتكرار احد وجهي الصورة او اي انتظام اخر. ومن ثم فهذه الحالة لا تتوافق مع تعريف ديمبسكي الاخير.

تتميز نماذج التخصيص كما ادلى بها ديمبسكي بخليط من الذاتية والموضوعية. ففي مثال رامي السهام يتصف التخصيص بالذاتية، فهو محدد من قبل ذات الرامي دون ان يكون له شأن موضوعي. في حين تتميز امثلته الاخرى كالتكرار والمعنى والوظيفة بالموضوعية لا الذاتية.

لا ينطبق مفهوم ديمبسكي للتعقيد المخصص على قوانين الضبط العددي الدقيق. فمن الناحية الفعلية ليس في هذه القوانين والثوابت ما يعود الى الامكانية الاحتمالية وقابليات الصدفة.

***

كانت تلك جملة من المشاكل والنقود التي تواجه نظرية ديمبسكي رغم جدتها واهميتها. أما من وجهة نظرنا فان حل هذه المشاكل يعود بنا الى الاقتراح الذي قدمناه سلفاً. فقد سبق ان اكتفينا بمبدأ واحد فقط هو ضعف الاحتمال النوعي، دون التعويل على الاحتمال الشخصي. فيكفي ان نفترض وجود منطقتين متنافيتين في الاحتمال نوعياً. وينطبق هذا المعيار ليس فقط على الظواهر الحيوية والصناعات البشرية، بل حتى على بعض الظواهر المتصفة بالثبات الصارم مثل الضبط العددي الدقيق، كما ينطبق على بعض الظواهر المصطنعة مثل اللغة وكذلك العالم الرياضي الصرف.

والمهم في هذا المعيار انه يفترض وجود بنية تمتلك تعقيداً عشوائي الارتباط، اي انه غير منتظم او ضعيف الانتظام. ويمكن ان تكون هذه البنية المعقدة حقيقية في الواقع الفعلي، او متخيلة، او مصطنعة، او رياضية اعتبارية. وهي قابلة للتطبيق على النظم الثلاثة الاخيرة ضمن النظم الاربعة التي مرت معنا في دراسة سابقة (انظر: https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=165)، حيث في جميع الاحوال نواجه احتمالاً نوعياً هو ما يمثل الاساس في تفسير الظواهر العائدة الى التصميم. وسبق ان لاحظنا في عدد من الامثلة ضمن النظام الوظيفي والضبط العددي الدقيق ما يدل على هذا الاحتمال. كما ينطبق هذا الحال على الاعداد المنتظمة الكبيرة في عالم الرياضيات، فهي تدل على الذكاء، لكن مع اخذ اعتبار التعامل وفق الاحتمال النوعي لا الشخصي، حيث نفترض مجموعتين من الاعداد؛ احداهما منتظمة واخرى غير منتظمة، وحيث ان المجموعة الاولى ضيقة جداً في قبال المجموعة الثانية الواسعة، لذا فان ظهور اي فرد من المجموعة النوعية المنتظمة سيعتبر دالاً على الذكاء. وتمتاز المنطقة الضيقة للاعداد المنتظمة في قابليتها على الانضغاط الخوارمي بخلاف المنطقة الواسعة غير المنتظمة.

وبذلك نعتبر استنتاج الذكاء من ضعف الاحتمال النوعي ما يمثل قانوناً لا يختلف عن بقية القوانين الطبيعية. ومن ظواهر هذا القانون ان النصوص والمنازل والساعات وجميع الاثار البشرية المعقدة التنظيم نجدها تتضمن الاحتمالات النوعية الدالة على الذكاء. فكلما وجدنا تحقق احتمال نوعي ضعيف جداً فانه يدل على الذكاء. وهو قانون لا نجد له استثناء. فالاثر دال على المؤثر، وهو يشابه تعليل سبب سقوط الحجر على الارض حيث يخضع للجاذبية، كذلك الحال مع الاحتمال النوعي الضعيف، فانه دال على الذكاء، فقانون الذكاء يماثل في هذه الحالة قانون الجاذبية، او اي قانون سببي اخر، بغض النظر عن الحساب الرياضي.

comments powered by Disqus