-
ع
+

نظم الفكر العلمي (1)

يحيى محمد

من وجهة نظرنا ان للفكر العلمي الحديث ثلاثة نظم، بالاضافة الى النظام القديم، ونطلق عليها: النظام الاجرائي، والنظام الافتراضي، والنظام التخميني الميتافيزيائي. وسنفصل الحديث حول هذه النظم على التوالي، ونبدأ بالنظام الاول الاجرائي كما يلي..

النظام الاجرائي

لقد بدأت الحركة العلمية الحديثة منذ ان تم التخلص من النظام القديم شيئاً فشيئاً. فقد اتصف هذا النظام بتعاليه عن الواقع وامتناعه عن المراجعة والتحقيق، لذلك تمّ التخلي عنه كلياً. ويؤرخ له منذ ارسطو حتى العصر الحديث، رغم ان الاخير أخذ يعول على ما قبل ارسطو، لا سيما فيما يخص الاعتماد على الرؤية الرياضية للطبيعة كما يتميز بها فيثاغورس ومن ثم افلاطون، والتي وجدت لها صدى لدى عدد من علماء العصر الحديث، مثل غاليلو ونيوتن، بل وان بعض الرياضيين المعاصرين ذهبوا الى ابعد من ذلك في وجود عالم رياضي افلاطوني حقيقي خارجي، كالذي يراه جودل وروجر بنروز.

واهم ما يمتاز به هذا النظام مضافاً الى التعالي المشار اليه هو أنه يصادر مسلمة التطابق بين العقل والطبيعة كما أدلى بذلك ارسطو. وتقوم هذه المسلمة على مبدأ السنخية التي يعول عليها الفلاسفة القدماء وحتى المحدثين عادة. وهو يعمل وفق ما يسمى مبدأ انقاذ الظواهر عند لحاظ اي تعارض مرصود بين الوقائع الخارجية للطبيعة والمسلمات العقلية حولها، ومن ذلك الحركات الفلكية، حيث تبدي البيانات الملحوظة بانها تتحرك حركات غير دائرية بالتمام، في حين ان المسلمة العقلية لدى هذا النظام توجب ان تكون هذه الحركات دائرية الشكل تماماً باعتبارها أكمل الاشكال.

لذلك لم يلتفت اتباع النظام القديم الى ما قدمه غاليلو ابان النهضة العلمية الحديثة من رؤى حسية تثبت خطأ علم الفلك البطليمي او التقليدي الذي عولوا عليه. فقد استعان غاليلو بمقرابه لتقريب فكرة خطأ التصور الفلكي القديم المبني على المسلمات العقلية وفكرة الكمال والجمال، اذ تبين ان للمشتري اقماراً تدور حوله دون ان يكون لها علاقة بالارض، وانها لم تكن محسوبة ضمن حسابات الفلك القديم. وقد رفض خصومه النظر في مقرابه لرؤية هذه الاقمار.

ومما قاله غاليلو بهذا الصدد: ‹‹حين رغبت ان أُري النجوم التابعة للمشتري لاساتذة فلورنسا رفضوا ان يراقبوها او ان ينظروا بالتلسكوب. ويعتقد هؤلاء الناس ان ليس من حقيقة في الطبيعة للبحث عنها، وان لا حقيقة سوى ما يمكن مقارنته في الاصول››. وكتب أحد الخصوم حول ذلك بما يقارب الاستدلالات القديمة لدى الباطنية والاسماعيلية، قائلاً: ‹‹هناك سبع نوافذ اعطيت للحيوان مركزها في رأسه ومن خلالها ينفذ الهواء للجسد: أنفان وعينان واذنان وفم. وفي السماء – وهي تشبه جسداً صغيراً – نجمان مفضلان، ونجمان غير منسقين، ونجمان مضيئان، والمشتري وهو غير مستقر وحيادي. ونستنتج من هذا ومن امور كثيرة مماثلة في الطبيعة كالمعادن السبع.. الخ ان الكواكب يجب ان تكون سبعة بالضرورة. وعلاوة على ذلك فان هذه النجوم التابعة للمشتري لا تبصرها العين المجردة، فهي عديمة التأثير على الارض، واذاً فهي عديمة الفائدة. والنتيجة انها غير موجودة. والان اذا زدنا من عدد الكواكب فان هذا النظام الجميل يقع بكامله مهشماً على الارض››.

على ان اهم ما في هذا النظام هو مبدأ انقاذ الظواهر الذي كان معروفاً منذ القدم، وكان الفلك مقسماً بين ‹‹علم صوري رياضي يراد منه انقاذ الظواهر فقط، وعلم فيزياء يراد منه تفسيرها باسنادها الى اسبابها الفيزيائية››. وقد حضر هذا المبدأ خلال النهضة الحديثة كعذر لتمرير نظرية كوبرنيك بدل نظرية بطليموس. ورغم ان النظام الاجرائي حاول استبعاد هذا المبدأ من خلال الكشف الاستقرائي، الا انه عاد لدى النظام الافتراضي الذي تلاه بقوة. ومن ذلك ما ظهر في نظرية الكوانتم من ان هناك ظواهر صادمة للحس الوجداني، لذا جرى تأويلها من قبل البعض مثل اينشتاين واتباعه، وهو تأويل قائم بلا شك على مبدأ انقاذ الظواهر لتتسق مع ذلك الحس والمسلمات العقلية.

لقد تميز النظام الاجرائي بانه قائم على التحقيق والمراجعة ضمن الممارسات التجريبية والقرائن الاستقرائية، فهو يعمل على استخلاص النتائج التي تدل عليها المشاهدات والتجارب ومن ثم انتزاعها وتجريدها وبالتالي تعميمها ضمن قوانين عامة، وبعد ذلك يتم اختبارها ليعرف مدى صدقها وكفائتها. وقد تتخذ هذه القوانين صبغة رياضية.

ويؤرخ لهذا النظام منذ القرن السابع عشر وحتى بداية القرن العشرين، رغم ان له بوادر متناثرة قبل ذلك بقرون لدى الحضارة الاسلامية، كالذي يبرز جلياً لدى طريقة ابن الهيثم العلمية، بل وقبل ذلك بكثير لدى القليل من رجال العلم القدماء من امثال ارخميدس. وهو النظام الذي عاش بداية امره محنة الصراع مع الكنيسة، سواء الكاثوليكية او البروتستانتية. وتبدأ المخاضات الاولى لوجوده مع كوبرنيك خلال النصف الاول من القرن السادس عشر. فقد عُرف بأنه صاحب ثورة علمية عظيمة قلبت علم الفلك رأساً على عقب، اذ قلب التصور العلمي من كون الشمس تدور حول الارض الى العكس. أما بقية الكواكب فلم يختلف كوبرنيك مع الفلكي الاسكندراني بطليموس وسائر اليونانيين في كونها تدور حول الشمس ضمن مدارات دائرية منتظمة الشكل، باستثناء عطارد والزهرة، فالموقف حولهما مختلف، فبطليموس جعل لهما استثناء عن بقية الكواكب في بقائهما قرب الشمس، وهو خلاف ما رآه كوبرنيك الذي ساوى بينهما وغيرهما في الحركة الدائرية. وكان الاخير متأثراً بارسطوخوس خلال القرن الثالث قبل الميلاد حول مركزية الشمس، ومن ثم اعتبار الاصغر هو ما يدور حول الاكبر وليس العكس.

وقد اظهرت النظرية الجديدة – في البداية - كفرضية منافسة للنظرية البطليمية، فكما ذكر اوسياندر ناشر كتاب كوبرنيك (دوران الأجرام السماوية) في تصديره له بان نظرية دوران الارض هي مجرد افتراض غير مؤكد، او هي لا تتضمن الحقيقة الايجابية. واليوم فسّر المعاصرون هذا التصدير بانه جاء نتيجة الخوف من سلطة الكنيسة في ذلك الوقت، لا سيما ان كوبرنيك وهو من طبقة الاكليروس كان يخشى غضب هذه الطبقة؛ مما جعله يتحفظ من عرض بحثه على الاخرين باستثناء الاصدقاء والزملاء، وظل محتفظاً بكتابه مدة طويلة من الزمن، فقد طال تأليف الكتاب ثلاث وعشرين سنة منذ (عام 1507)، ولم يأذن بنشره الا بعد ثلاث عشرة سنة اخرى، وصادف ان تمّ نشره في اليوم الذي توفي فيه، فرآى كتابه وهو على فراش الاحتضار (عام 1543).

والبعض يرى ان علة تحفظه من نشر كتابه مدة طويلة تعود الى خشيته من ان يصاب بالفشل ويكون موضع استهزاء واضحوكة على مسرح التاريخ. فمن العلماء من يتحسس بنظرة المجتمع إزائه او فيما يؤول اليه الامر. ومن ذلك ان العالم الفيزيائي ماير كاد ينتحر خلال القرن التاسع عشر نتيجة ازدراء معاصريه له لقوله بان الحرارة نوع من الطاقة، واكتشف بذلك القانون الاول للثرموديناميك.

ورغم بساطة النموذج الذي قدّمه كوبرنيك مقارنة بالنموذج البطليمي، وكان يدرك هذه البساطة، فان ذلك لم يمنع من مرور قرن من الزمان لتمرر نظريته وسط علماء الفلك، فلم يظهر من يهتم بنظريته سوى قلة من المفكرين بفضل ثلاثة من العلماء، هم براهة وكبلر وغاليلو. أما قبل ذلك فانها كانت موضع اعتراض شديد الى درجة ان اتهمه زعيم الاصلاح الديني مارتن لوثر بانه فلكي نصاب، ومما قال في تحقيره: ‹‹يريد هذا الاحمق ان يضع صناعة الفلك كلها بالمقلوب››. كما قال بأن ‹‹هذا المأفون يريد ان يغير وجه علم الفلك تماماً ولكن الكتاب المقدس يخبرنا ان (هوشع) امر الشمس وليس الارض ان تقف في مكانها››. كما نقده كلفن قائلاً: من ذا الذي يجرأ ‹‹على وضع مرجعية كوبرنيك فوق مرجعية الروح القدس››. ومثل ذلك ويسلي الذي مال الى تكفيره بقوله: ‹‹ان المذاهب الجديدة في علم الفلك تميل الى الكفر››. أما الكنيسة الكاثوليكية فقد استمرت في معارضتها لنظرية كوبرنيك على مدار قرنين من الزمان وانها قامت بحظر تدريس دوران الارض حتى (عام 1835).

فقد كانت هناك جملة من الحجج ضد نظرية كوبرنيك والتي لم يتمكن من الجواب عنها، ومن ذلك انه عند اسقاط حجر من صومعة ثابتة فانها ستسقط اسفل هذا المرتفع، فلو ان الارض كانت تتحرك لما كان بوسع الحجر السقوط اسفل المرتفع، فعند حركة الارض ان المرتفع يتحرك معها مخلفاً وراءه الحجر. فهذه الحجة لم يستطع كوبرنيك الجواب عنها، وكان من المقدر الانتظار حتى مجيء غاليلو ليجيب عنها عبر تقريره بانه عند اسقاط حجر من اعلى صاري سفينة تتحرك بانتظام فانها ستسقط اسفل الصاري، وهو امر شبيه بما يحصل لحركة الارض، ومثل ذلك عندما تكون هناك حشرات طائرة واشياء تتساقط فانها لا تتأثر بحركة السفينة المنتظمة، وتبدو كأنها ساكنة.

وفي المقابل هناك عيوب في نظرية بطليموس، اذ لها اجراءات متكلفة كتلك المتعلقة بكون عطارد والزهرة يبقيان على حالهما قرب الشمس خلاف بقية الأجرام الاخرى. كذلك فيما يخص الحركات النكوصية للكواكب، حيث يتراجع الكوكب بفواصل زمنية منتظمة، اذ يوقف حركته نحو الغرب في وسط النجوم كما يظهر من الارض، وخلال مدة وجيزة ينكص راجعاً الى الشرق قبل استئناف سيره نحو الغرب. ولهذا الغرض اضاف دوائر محيطية. في حين خلت منظومة كوبرنيك من هذه الحركات. وبالتحديد فان كوبرنيك اختزل الدوائر الفلكية الصغيرة لهذا النظام من (80) دائرة كما افترضها بطليموس إلى (34) دائرة فقط، أيّ أنه تخلص من (46) دائرة محيطية صغيرة. هذا بالاضافة الى ان حركتي عطارد والزهرة تخضعان الى نفس المدار الذي عليه سائر الكواكب خلافاً للتكلف البطليمي.

مع هذا تظل المشكلة لدى كوبرنيك هي ان المدارات الدائرية التي مركزها الشمس ليس بوسعها ان تتوافق مع الملاحظة، وقد شعر كوبرنيك مثل بطليموس قبله بضرورة اضافة دوائر محيطية او ما يسمى افلاك التدوير، وكان عدد هذه الدوائر المحيطية اللازمة لاحداث مدارات متوافقة مع الملاحظات المعروفة واحداً تقريباً في كلا المنظومتين. لكن يبقى ان للبساطة الرياضية دوراً في تسهيل قبول نظرية كوبرنيك ولو بعد حين.

فلو كانت الشمس هي التي تدور حول الارض لاصبحت حركة الكواكب الاخرى معقدة غاية التعقيد، وهو الامر الذي عوّل عليه كوبرنيك مخالفاً التعقيد الذي جاء به بطليموس. وبحسب المثال الذي قدمه برتراند رسل حول حركة القطار الى المدينة التي يسافر اليها، ان من البساطة ان نعتبر بان القطار هو من يسافر الى مدينة معينة وليس العكس ‹‹فنحن نقول ان القطار سافر الى ادنبرة، وليس ادنبرة هي التي تسافر الى القطار..››. ورغم ان العكس ليس فيه خطأ منطقي لكنه معقد ومتعسف، حيث ينبغي ان نفترض بان ‹‹كل المدن والحقول التي يمر عليها القطار اخذت فجأة تندفع الى الجنوب. وينطبق هذا على كل شيء على سطح الارض فيما عدا القطار. ونحن نجد نفس هذا التعسف وانتفاء الغاية في الاعتقاد بدوران النجوم اليومي طبقاً لما افترضه وذهب اليه بطليموس››.

ويُذكر بان البعض اعترض على الإله لتصوره بأن نظام الطبيعة متعسف وغير بسيط، مثلما هو الحال مع الفونس الذي ظلّ مسلّماً بنظرية بطليموس رغم لحاظ ما تحمله من وصف معقد، فعزا ذلك الى خلل في النظام الكوني دون النظرية، وتفوّه بقوله الشهير: ‹‹لو استشارني الرب قبل ان يخلق العالم لأسديت له نصيحة مجزية››.

أما بعد كوبرنيك فقد أظهر كل من كبلر وغاليلو خلال القرن السابع عشر تأييده للنموذج الجديد، ووافقا على بساطته مقارنة بالنموذج القديم، كما لم يتقبلا تأويل هذا النموذج بانه فرض في قبال فرضية بطليموس، ورأيا ان الارض تدور حقيقة حول نفسها وحول الشمس بمعية بقية الكواكب دون استثناء. وساعد على ذلك – كما يُذكر - الدور المتعلق بعبادة الشمس والذي جعل من كبلر يؤمن بنظرية كوبرنيك، وهو مما يقع خارج نطاق العلم.

لكن كبلر نحا الى خطوة تبسيطية لنظرية كوبرنيك، اذ رفض الشكل الدائري للافلاك واستبدله بالشكل الاهليليجي، وكان الشكل الاول محل تسليم الفلاسفة القدماء، وهو ما عول عليه بطليموس، كما ابقاه كوبرنيك دون تغيير، الامر الذي جعله يحتفظ ببعض الدوائر المحيطية او ما يسمى بافلاك التدوير الصغرى. لكن بحسب طريقة كبلر الاهليليجية فانه لم يعد يحتاج للاحتفاظ بافلاك التدوير الصغرى التي اعتقد كوبرنيك وبطليموس بانه لا يمكن التغلب عليها. ومع هذا فمازالت القضية غير منقطعة الصلة عن الاعتقادات والمسلمات القديمة، اذ اعتبر كبلر أن مداراته البيضوية هي فرضية بديلة مؤقتة، فهو لم يخالف في ذلك كوبرنيك ولا بطليموس ولا ارسطو والفلاسفة القدماء من ان الاشكال البيضاوية هي اقل كمالاً من الاشكال الدائرية. وقد صُدم عندما رأى حساباته تنسجم مع فكرة دوران الكواكب في مسارات غير مثالية. ومن ثم كانت نظريته (المؤقتة) ابسط من نظرية كوبرنيك، لذا استمر الحفاظ على هذا النموذج للقرون التالية رغم احساس العلماء بانه لا يفي بالغرض عندما تبين فيما بعد ان حركة بعض الكواكب القريبة من الشمس مثل عطارد لا يفسرها هذا النظام ما لم توضع افتراضات اضافية جديدة على النظرية، كتأثير الغبار الكوني او كوكب اخر غير مكتشف او غير ذلك. وظلت المشكلة قائمة حتى ظهرت النسبية العامة ففسرتها، وكانت بذلك اكثر بساطة من جميع النظريات التي سبقتها، اذ بمبادئ قليلة استطاعت تفسير الكثير من الظواهر المختلفة.

تبقى نقطة لا بد من الاشارة اليها، وهي ان كبلر لم يكتف بالنهج الوصفي لحركة الكواكب كما سلكه العلماء قبله منذ كوبرنيك ومن جاء بعده، بل حوّل هذا النهج الوصفي لأول مرة الى نهج تفسيري. فمن الصحيح ان الكواكب تدور حول الشمس كما كان يقول كوبرنيك ومن جاء بعده. لكن هذا الدوران اصبح مفسراً لأول مرة على يد كبلر، فقد حاول تفسير هذه الحركة بقوى فيزيائية، هي القوة المغناطيسية، فرغم انه أخطأ التفسير لكنه لم يتوقف عند النهج الوصفي، وبذلك كانت له الاسبقية على نيوتن، رغم ان قواعده ظلت وصفية خلافاً لقوانين الاخير التفسيرية.

أما غاليلو فقد وافق كبلر في نموذجه الجديد، وكان من اهم ما كتبه واكثره تأثيراً هو كتابه (حوار حول النظامين الرئيسيين في العالم) عام 1632، والذي يتضمن حواراً ناعماً وشفافاً، أورد فيه - وبمهارة فائقة - جميع الادلة لتأييد وجهة نظر كوبرنيك، معولاً على بساطته وانسجامه اذا ما قورن بمذهب بطليموس المتصف بالتعقيد والغموض. وقام بتبرير نظرية كوبرنيك حول عدم الاحساس بحركة الارض طالما ان الحركة منتظمة. وهو ما يعرف بمبدأ النسبية لغاليلو والقائم على مفهوم العطالة او القصور الذاتي.

ومعلوم ان هذه الحجة لا تستدعي في حد ذاتها التأكيد على دوران الارض حول الشمس، ولم يكن لغاليلو ولا لكبلر الدليل القاطع على زعمهما، فطبقاً للحركة النسبية فانه لا يعرف على وجه الحقيقة ان كانت الارض تدور حول الشمس او العكس ما لم يتم النظر اليهما من الخارج. وما زالت المسألة تفسر طبقاً للبساطة فحسب، اي ان حركة الشمس حول الارض تبدي تعقيدات كثيرة كتلك التي اشار اليها كبلر وغاليلو ومن قبلهما كوبرنيك، او بحسب تعبير اينشتاين وإنفلد ان تفضيل نظرية الاخير جاء تبعاً لكونها اكثر ملائمة واحسن انطباقاً.

هكذا بدأ الفيزيائيون يتابعون بناء العلم بخطوات واضحة التقدم، فقد جاء نيوتن (المتوفى عام 1727) ليتم ما بناه قبله العلماء؛ بدءاً من كوبرنيك وانتهاءاً بغاليلو. والحق ان نيوتن يمثل اخر حلقة كبرى شهدها هذا النظام التقليدي، كما يطلق عليه مقارنة بمستجدات القرن العشرين، فلم يأتِ بعد نيوتن خلال اكثر من قرنين من الزمن من يستطيع اضافة شيء عظيم كالذي فعله هذا العالم الانجليزي.

لقد جاء اكتشاف نيوتن العظيم حول الجاذبية وهو لم يتجاوز سن الثالثة والعشرين من عمره كما ذكر ذلك بنفسه، وضمّنه في كتابه الشهير (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية). وهو التصنيف الذي ذاع صيته وظهر حوله الكثير من الكتب والدراسات. ففي (عام 1789)، اي بعد مرور اثنين وستين سنة من وفاة نيوتن، ظهر اربعون كتاباً باللغة الانجليزية حول المصنف الانف الذكر، يضاف الى الكتب المنشورة باللغات العالمية الاخرى حوله. وقد تغنى الكسندر بوب بمديح نيوتن منشداً:

الطبيعة وقوانين الطبيعة كانت مختبئة في الظلام.. قال الله ليكن نيوتن: فأصبح كل شيء نوراً.

وبالفعل تمثل اكتشافات نيوتن مرحلة فاصلة في تاريخ العلم، ويمكن ان نعتبر الاهمية التي حظي بها لجانبين كالتالي:

أولاً: بالرغم من ان كبلر هو اول من حاول تفسير حركة الكواكب وتحويل النهج الوصفي الى نهج تفسيري، عبر التعويل على بعض القوى الفيزيائية، كما عرفنا، لكن يظل هذا التفسير ليس خاطئاً فقط بل ومحدوداً ايضاً، فضلاً عن انه لم يتبلور ضمن قانون رياضي محدد. فلقد اعطى نيوتن نظرة شمولية فيما اتخذه من نهج تفسيري ضمن قانون رياضي دقيق، وهو ما لم يسبق له نظير من قبل. فهو لم يكتف بتفسير حركة الكواكب حول الشمس، وانما اضاف لذلك تفسيره الرياضي لجميع العلاقات المادية وفقاً لكتلها. فجميع المواد والكتل بما فيها الكواكب، والاشياء التي على ارضنا وحالات السقوط التي نشهدها وعلاقة القمر بالمد والجزر، والعلاقات الاخرى المتعلقة بالنجوم وكل ما هو موجود في الكون من اجسام مادية، محكومة جميعاً بنفس التفسير العام المطلق عليه قانون الجاذبية وفقاً لقانون رياضي دقيق. وقد افضى تفسير نيوتن الآلي لعلاقات الاجسام طبقاً للجاذبية ان يبني تصوراً لحركة الكواكب يختلف بعض الشيء عما قدمه كبلر رغم انه اعتمد عليه في حساباته.

ولشدة التأثير الذي اتى به نيوتن في تفسيره الشمولي لعلاقات الطبيعة المادية، فان سائر العلوم أخذت تسترشد بهذا التفسير الآلي، ومن بينها العلوم الاجتماعية. فقد استعانت هذه العلوم بالفيزياء الرياضية وقانون التجاذب لتفسير العلاقات البشرية لا سيما خلال عصر التنوير. فكما يقول جون هرمان راندال: ‹‹كان نيوتن هو العلم، وكان العلم هو المثل الاعلى للقرن الثامن عشر››. فقد ظهر ما يسمى بعلم الفيزياء الاجتماعية التي نادى به الكثير من المفكرين الوضعيين والتجريبيين. ومن ذلك ان ستيوارت مل اشار في كتابه (اساس الفيزياء الاجتماعية) الى ان دراسة المجتمع تتأسس على ستة ابعاد قياسية، هي: المسافة والكتلة والزمن ودرجة الحرارة وعدد الجزيئات والشحنة الكهربائية. فمثلاً انه عبّر عن الرغبة الاجتماعية بمفهوم الشحنة الكهربائية الاجتماعية، وعبّر عن درجة التفاعل بين الافراد ودرجة النشاط الاجتماعي بينهم بمفهوم درجة الحرارة الاجتماعية، بينما اراد من مفهوم الكتلة الاجتماعية بانها تمثل كتلة الاجسام البشرية وباقي الحيوانات الاليفة ومساكنهم وادواتهم واطعمتهم وما الى ذلك.

ثانياً: يعد نيوتن اول عالم طبيعي اشار الى اعتماده على نهج الاستقراء في اكتشافه للجاذبية، وهو ما يهمنا في البحث العلمي كنظام. ففي كتابه (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) رفض الفروض التي لا تعتمد على التجربة والاستقراء، معتبراً ذلك مما يخرج عن الفلسفة الطبيعية، فاي قضية لا بد من ارجاعها الى الوقائع الخاصة ومن ثم تعميم ذلك عن طريق الاستقراء. وقد يكون نيوتن متأثراً بمنهج فرانسيس بيكون الذي اوصى بان على رجل العلم ان يضع في رجليه نعلين من الرصاص. فقد عرض نيوتن تفسيره للمنهج العلمي ضمن كتابه المذكور، وجاء في احدى قواعده الشهيرة (وهي القاعدة الثالثة) قوله: ‹‹لن نقبل بعد الان عللاً للاشياء الطبيعية الا ما كان منها صحيحاً وكافياً لتفسير ظواهرها. لذلك يجب ان نربط لأبعد حد ممكن ذات النتائج الطبيعية بذات العلل. ان صفات الاجسام التي لا يمكن ان تنقص او ان تزيد، والتي تخص جميع الاجسام التي هي ضمن نطاق تجاربنا، يجب ان تعتبر صفات كلية لجميع الاجسام مهما كانت. لانه لما كانت صفات الاجسام معروفة لدينا بواسطة التجارب فقط، وجب علينا ان نعتبر كلياً كل ما يتفق مع التجارب بصورة كلية››.

وبناء على هذه القاعدة قرر نيوتن النتيجة التالية: ‹‹اذ ظهر كلية من خلال التجارب والملاحظات الفلكية ان كل الاجسام حول الارض تنجذب نحوها، وذلك في تناسب مع كمية المادة الجامدة التي تحتويها هذه الاجسام كل على حدة، فان القمر بالمثل وفقاً لكمية المادة التي يحتويها ينجذب نحو الارض، وانه من ناحية اخرى تنجذب بحارنا نحو القمر، وينجذب كل كوكب تجاه الاخر، وتنجذب المذنبات على نحو مماثل تجاه الشمس، وبناء على هذه القاعدة يجب ان نعتقد تماماً ان كل الاجسام اياً كانت تتمتع بخاصية الجاذبية المتبادلة››.

وفي القاعدة الرابعة صرح نيوتن بالدليل الاستقرائي بجلاء كالتالي: ‹‹ينبغي في الفلسفة التجريبية ان ننظر الى القضايا التي نستدل عليها بواسطة الاستقراء العام من خلال الظواهر بوصفها صحيحة بدقة او تقريباً صحيحة، برغم وجود افتراضات معاكسة يمكن تخيلها، حتى وقت حدوث اي ظواهر اخرى تصبح من خلالها هذه القضايا اكثر دقة او تصبح عرضة للاستثناء››.

لقد اضاف نيوتن بعض الحواشي في الطبعة الثانية لكتابه المبادئ (عام 1713)، وصرح فيها بأن المنهج العلمي الصحيح هو الاستناد الى الاستقراء وعدم اللجوء الى الفروض، سواء كانت ميتافيزيقية او حتى فيزيائية، خلافاً للنهج الذي رسمه معاصره ديكارت، وكما قال: ‹‹لم استطع حتى الان ان اكتشف سبب خواص هذه الجاذبية من خلال الظواهر، وانا لا اضع فروضاً، لان ما يستدل عليه من الظواهر يطلق عليه فرضاً، والفروض سواء كانت ميتافيزيقية او فيزيائية، سواء لها خواص غامضة او ميكانيكية، ليس لها موضع في الفلسفة التجريبية. ففي هذه الفلسفة يستدل على قضايا معينة من الظواهر، وبعد ذلك تعمم هذه القضايا بواسطة الاستقراء. تلك كانت الطريقة التي تم بها... كشف قوانين الحركة والجاذبية››.

لكن رغم ما اتصف به عموم هذا النظام ومنه طريقة نيوتن بانها اجرائية استقرائية، فقد كان يحتضن بعض الفروض الاساسية التي لم تكتسب بالاستقراء، كفرض العطالة او القصور الذاتي، فلدى نيوتن يشكل هذا الفرض القانون الاول من قوانينه الثلاثة، وهو يفترض ان الجسم يبقى على حاله ما لم تكن هناك قوة تؤثر عليه، فاذا كان ساكناً فسيبقى ساكناً، ولو كان متحركاً فسيبقى يسير بحركة مستقيمة منتظمة دون توقف الى الابد. مع انه من حيث الواقع لا تجد شيئاً يتصف بهذا القانون المفترض، فكل الاشياء محكومة بالقوى المؤثرة، وبالتالي فهو فرض ميتافيزيقي طالما انه لا يمكن التحقق منه على الصعيد التجريبي. كذلك فيما يتعلق بفرض نيوتن حول الزمان والمكان، فهو قد صادر التصور القديم في كونهما مستقلين ومطلقين، اذ قال في الجزء الاول من كتابه المبادئ: ‹‹إن طبيعة الزمن الرياضي والحقيقي والمطلق أنه يمضي بثبات دون أن يرتبط بأي عامل خارجي، وطبيعة المكان المطلق أنه يظل دائماً  مستقراً ومتجانساً دون أن يرتبط بأي عامل خارجي››. واعترف بان الزمن المطلق شيء لا يمكن إدراكه، لذا لجأ الى الاعتماد على وجود الله، فقال: ‹‹الله موجود الى الابد في كل مكان، وبوجوده في كل زمان ومكان، فهو يصنع الزمان والمكان››. وهو ما جعل ارنست ماخ يعرّض نيوتن الى النقد في اخذه بمثل هذه المطلقات الميتافيزيقية التي لا يمكن اثباتها بالتجربة، معتبراً اياه قد خالف طريقته المعلنة في بحث الظواهر الفيزيائية القابلة للرصد والتحقيق.

ورغم أن نيوتن كان يتجنب الميتافيزيقا من أن تكون ملاذاً للفيزياء؛ الا انه كان يلجأ اليها عند العجز عن التفسير، وهو ما يعرف بالاستعانة بإله الفجوات، ومن ذلك انه حين لاحظ - مثلاً - بأن حركات الكواكب والمذنبات في النظام الشمسي منتظمة من دون إنحراف؛ خلافاً لسائر المذنبات التي تدور - خارج هذا النظام - في مدارات منحرفة كثيراً عن المركز، فإنه قد عزى ذلك إلى الفكرة الميتافيزيقية القائلة بـ «التدبير الإلهي» وراء الجمال الذي يتصف به نظامنا الشمسي بكواكبه ومذنباته. كذلك لاحظ بأن لحركات الكواكب حول الشمس شذوذاً طفيفاً لا يمكن تفسيره عبر قانون الجاذبية، ولو أن هذه الحركات الشاذة تراكمت مع مرور الزمن لأدت إلى إنحرافات عظيمة تقلب ميزان النظام الشمسي كله رأساً على عقب، بحيث إما أن الكواكب تنفلت من السيطرة خارجاً، أو تبتلعها الشمس لجاذبيتها، لكنه حيث لم يجد لذلك تفسيراً علمياً فإنه لجأ إلى التفسير الديني الميتافيزيقي، وهو أن الله يتدخل بين الحين والآخر ليعيد الكواكب الضالة إلى مسارها الطبيعي.

وعلى العموم انه ما زال العلماء يجدون من الصعوبة بمكان ارجاع الاكتشاف العلمي الخالص، ومنه قانون الجاذبية، الى محض الطريقة الاستقرائية. فالجاذبية على حد تعبير البعض «فرضية ميتافيزيقية وليست كيفية فيزيائية». اذ ما زال العلماء لا يعرفون ما العلاقة التي تربط الاشياء ببعضها دون وسيط مكتشف. وبالتالي فالافتراضات العقلية تتداخل مع النهج الاستقرائي. لكن عموم النظام قد تحاشى بالفعل ان يورد افكاراً ليس عليها دليل من الظواهر الطبيعية او التجريبية. وبالتالي فهو اقرب لاستخدام الطريقة المنطقية في انتزاع النتائج عبر الاستقراء، طالما انه لا يفترض شيئاً غير مبرر في المشاهدات والبيانات – الا ما ندر - خلافاً لما سنراه لدى النظام الثاني الافتراضي الذي يغامر في وضع الفروض التي لا تدل عليها المشاهدات الظاهرة المألوفة.

لقد اقترن هذا النظام مع مشكلة النزاع مع الكنيسة. فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية تصدر الأوامر إلى الاساتذة الجامعيين الكاثوليكيين تمنعهم فيها من ذكر وجود البقع الشمسية التي اكتشفها غاليلو في مقرابه – التلسكوب -، لكونها تتنافى وتصوراتها لكمال الخلق في عالم السماء. كما انها استمرت في حظرها لتدريس دوران الارض الى ما يقارب منتصف القرن التاسع عشر. ومثل ذلك استمر حظر تدريس مذهب التطور لدى ولاية تينيسي الامريكية حتى القرن العشرين. ومما يُذكر بهذا الصدد أنه في (عام 1983) دُعي الفيزيائي المعروف ستيفن واينبرغ أمام لجنة من مجلس شيوخ تكساس ليبدي رأيه حول اصدار قانون يحظر فيه تعليم نظرية التطور لدى ثانويات الولاية ما لم تُعرض بالتساوي مع نظرية الخلق، فسأله أحد أعضاء اللجنة كيف يمكن للولاية ان تؤيد تعليم نظرية علمية كنظرية التطور تطعن في العقيدة الدينية؟!. كما كانت الكنيسة تعتبر ان من الكفر البواح الأخذ ببعض القوانين الطبيعية كتلك المتعلقة بالبرق والرعد، بحجة أنها أفعال اختصت بها الذات الالهية. لذلك كانت هناك معارضة مستمرة على استخدام مانعات الصواعق البرقية.

وكثير ما كان يخلط ما بين الديني وغير الديني، كالذي تشير إليه الرسالة التي وجّهها الفيلسوف الفرنسي ديكارت إلى مرسين (عام 1629م) والتي اشتكى فيها من صعوبة طرح أي فلسفة جديدة دون أن تُفسّر بأنها معارضة للدين؛ بسبب الخلط بين الأخير والفلسفة التقليدية، فقال بصدد ذلك: ‹‹لقد أُخضع اللاهوت لفلسفة أرسطو إخضاعاً يكاد يتعذّر معه شرح أي فلسفة أخرى دون أن تبدو أول الأمر مخالفة للدين››.

لكن في القبال فإن هذا النظام لم يتقاطع كلياً مع افكار وبعض طرق النظام القديم، ليس فقط فيما يتعلق احياناً بتصور حركات الافلاك الدائرية الكاملة الاشكال، بل حتى مع تفسيره لوجود هذه الافلاك وفقاً للتأثر بجماليات الاستنتاجات الرياضية القديمة، كالذي يبديه كبلر في تفسيره لوجود خمسة كواكب فقط غير الارض (عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل)، وهي المعروفة في عصره، استناداً الى وجود خمسة مجسمات افلاطونية، فقد وضع في مقابل كل كوكب واحداً من هذه المجسمات، معتبراً ان نصف قطر كل مدار يتناسب مع نصف قطر المجسم الذي يقابله.

كذلك يلاحظ ان للتنجيم الذي يمارس لدى النظام القديم تأثيره الاخر على جملة من شخصيات هذا النظام البارزة، مثلما هو الحال مع كبلر الذي ابدى اهتماماً بارزاً في هذا المجال، فقد كان منجماً، وأنه كتب مقالاً يدافع فيه عن التنجيم، كالذي صدر ضمن مجموعة أعماله. ومن افكاره المتأثرة بهذا الشأن اعتقاده بان القمر يجذب مياه البحر عبر التفاعل المغناطيسي.

كما أثّر التنجيم على فكرة نيوتن في كون المد والجزر ناشئاً عبر تأثير القمر، وهو ما كان يقوله المنجمون، بل وقالوا بان متغيرات المد ترجع الى تأثير الشمس، لذلك قال دوهيم بان تأكيد دور الشمس في متغيرات المد يعود فضله الى المنجمين في إعداد المادة التي اعتمدت عليها نظرية نيوتن في المد. في حين ان المدافعين عن المناهج العلمية العقلانية واتباع المنهج الارسطي واتباع كوبرنيك والذريين والديكارتيين كلهم قد حاربوا التنجيم.

ويلاحظ ايضاً انه عندما حلّ هذا النظام مكان النظام القديم فان هناك نزاعاً جرى في التنافس بين مبدئين، احدهما انقاذ الظواهر، وهو مبدأ قديم، والاخر هو البساطة. فوفقاً للأول انه عندما طرح كوبرنيك نظريته المشفوعة بمقدمة الناشر الذي اكد على فرضية هذه النظرية دون ان يراد منها الاعتقاد على نحو الحقيقة، فان ذلك لم يصدم الكنيسة الكاثوليكية، اذ ‹‹لم تفزع الكثلكة من رسالة كوبرنيك ولم ينبس مجمع الثلاثين بكلمة ضد مركزية الشمس. ولقد انخرط العديد من اصدقاء كوبرنيك المنسيين وكثير من علماء الفلك في نظام مركزية الشمس من حيث انها فرضية رياضية تتأسس على النسبية البصرية للحركة››. انما بدأ الصدام عندما تحسست الكنيسة من ان هناك من العلماء من لا يكتفي بهذا القدر من الفرضية، بل اراد ان يؤكد بان الارض تدور حول الشمس حقيقة، مثلما هو الحال مع كبلر وغاليلو الذين لم يتقبلا التأويل الذي افاده ناشر كتاب كوبرنيك (اوسياندر)، لذا هناك من اعتبر انه فرض رأيه دون اعتقاد صاحب الكتاب لينقذه من ملاحقة الكنيسة.

ولقد عبّر الكاردينال بلارمين عن ضرورة اتخاذ مبدأ انقاذ الظواهر للحفاظ على ما يعتقد حقيقة بان الارض ساكنة تماماً. فهو نوع من التأويل للواقع الفلكي، وليس كما صرح به غاليلو وامثاله بان الظواهر حقيقية ولا تحتاج الى تأويل او انقاذ للظواهر، لذلك نقده الكاردينال بلارمين خلال فترة الادانة الاولى (عام 1616) في رسالته الى فوسكاريني قائلاً: انه يحسن به وبغاليلو ان ‹‹يتصرفا بحذر مكتفين بالقول في الاشياء على جهة الفرضية لا على جهة الاطلاق... فعندما نقول اننا بافتراض الارض متحركة والشمس ساكنة ننقذ جميع الظواهر انقاذاً افضل مما تتيحه الدوائر الخارجة عن المركز وافلاك التدوير انما نقول قولاً غاية في الحكمة، اذ لا خطر فيه وهو يكفي حاجة الرياضي. اما تأكيد ان الشمس تبقى ساكنة بالفعل في مركز العالم، وانها تدور حول نفسها فحسب من دون ان تجري من الشرق الى الغرب، وان الارض في المنزلة الثالثة من السماء، وانها تدور بسرعة فائقة حول الشمس فذلك قول غاية في الخطورة حيث انه لن يغضب جميع الفلاسفة وجميع اللاهوتيين المدرسانيين فحسب ولكنه ينذر كذلك بافساد الايمان وتسفيه الكتاب المقدس››.

فمن الواضح انه مع بداية النهضة الحديثة نشأ الصراع بين الرؤية الواقعية والرؤية الافتراضية، وقد استنجدت كل منهما بالمبدأ الذي ناسبها، فاتخذت الاولى من مبدأ البساطة قاعدة لها لاثبات واقعية ما تدل عليه النظرية الكوبرنيكية في حركة الارض دون حاجة لتأويلها، كالذي كان يؤكده غاليلو في كتابه (حوار حول النظامين الرئيسيين للكون) والذي اعتبر فيه ان البساطة دليل على صحة النظرية وواقعيتها. في حين تمسكت الثانية بمبدأ انقاذ الظواهر لتبرر الدفاع عن الرؤية الافتراضية للنظرية الكوبرنيكية دون منحها الحقيقة الفعلية. مع ان القرن العشرين قد شهد اختلافاً حول مبدأ البساطة ان كان يدل على الحقيقة الواقعية ام لا، لكن غالب العلماء اعتبروا المبدأ لا يدل على الواقع بشيء، بل يُعول عليه في الترجيح لنظرية على اخرى. أما مبدأ انقاذ الظواهر فربما يُظن بانه انتهى من العلم، كما انتهى النظام القديم منه، لكن ذلك غير صحيح وفقاً للعديد من الدلالات التي شهدها العلم المعاصر.

للبحث صلة..

comments powered by Disqus