-
ع
+

الايفو ديفو والتطور الدارويني

يحيى محمد

يعتبر علم الاحياء النمائي التطوري (الايفو ديفو Evo Devo) ثورة حديثة في علم الأحياء. وفيه خاصية اساسية هي ربط التطور بظاهرة النماء الحاصلة للكائن الحي والاليات التي تتحكم بها، لا سيما في المراحل الاولى من النمو الجنيني، لأنه من خلال التغيرات في الأجنة تنشأ التغيرات في التشكل.

ويُعزى الفضل في وضع الاسس الفكرية لهذا العلم الى رودولف راف Rudolf Raff، كما في كتابه (الاجنة والجينات والتطور Embryos, Genes, and Evolution) عام 1983 بالمشاركة مع زميله توماس كوفمان Thomas Kaufman، والذي توقع فيه صعود الدراسات المتعلقة بالجينات والتطور خلال عقد من الزمان. لكن الكتاب خلى من المصطلح الخاص بهذا العلم.

فقد ظهر هذا المصطلح لاول مرة في ذات السنة المشار اليها سلفاً (1983) على يد عالم الحيوان والبيئة بيتر كالو Peter Calow، رغم وجود من سبقه في طرح وجهات النظر التي تربط التطور بالنماء خلال سبعينات القرن الماضي. وسرعان ما تم الاهتمام بالعلم الجديد الى درجة ان الاف الاوراق البحثية المتعلقة به قد تم رصدها بين عامي (1975-2004) كالذي حللته ماكين McCain عام 2009.

لقد تفجّرت البداية الهامة في اكتشافات هذا العلم عند العثور على جينات تتحكم في النماء الخاص بذبابة الفاكهة. فقد ادى اكتشاف هذه الجينات ودراستها خلال ثمانينات القرن الماضي إلى ظهور مشهد جديد ومثير للتطور. فما ان تم تمييز المجموعات الأولى من جينات هذه الذبابة حتى انبثقت مفاجأة مذهلة تسببت في إطلاق ثورة جديدة في علم الأحياء النمائي. فلأكثر من قرن من الزمان افترض علماء الأحياء أن الانواع المتباعدة من الحيوانات تمتلك انماطاً مختلفة من المادة الوراثية او الجينات، الى درجة ان ارنست ماير مهندس الداروينية التركيبية الجديدة new darwinian synthesis اكد هذا الحال خلال الستينات من القرن الماضي، وكما صرح عام 1963: «ان البحث عن الجينات المتماثلة لا جدوى منه إلا في الانواع المتقاربة جداً».

اذ تنص اطروحة الداروينية على ان الكائنات الحية المتباعدة تختلف في جيناتها من كائن لاخر دون وجود ما هو متماثل فيها، وهي ما تنسجم مع التطور التدريجي المتنامي دون ان يبقى شيء على حاله. لكن المفاجئة الصادمة اثبتت وجود جينات منظمة متماثلة في تسلسلها لدى الكائنات الحية المتباعدة، ووصفت بانها تمثل مفاتيح لتشغيل غيرها من الجينات.

وكما صرح عالم الاحياء سين كارول Sean B. Carroll عام 2005 بان التطورات الاخيرة في علم الاحياء النمائي التطوري قد كشفت الشيء الكثير عن الجينات غير المرئية وبعض القواعد البسيطة التي تشكل شكل الحيوان وتطوره. وقال بهذا الصدد: ان الكثير مما تعلمناه كان مذهلاً وغير متوقع؛ لدرجة أنه أعاد تشكيل مفاهيمنا بشكل عميق عن كيفية عمل التطور. اذ لم يتوقع اي عالم للاحياء أن الجينات نفسها التي تتحكم في تكوين جسم الحشرة وأعضائها تتحكم أيضاً في تكوين أجسامنا.

فعلى عكس توقعات أي عالم أحياء، تم تحديد معظم الجينات الاولى التي تحكم الجوانب الرئيسية لتنظيم جسم ذبابة الفاكهة، وان لديها نظراء يفعلون الشيء نفسه في معظم الحيوانات، بما في ذلك نحن البشر. والمثال الشائع حول هذه الجينات تلك التي تعمل على تركيب الاعين، كما في عين الفأر وذبابة الفاكهة.

فتطور أجزاء مختلفة من الجسم مثل العيون والأطراف والقلوب، تختلف اختلافاً كبيراً في التركيب بين الحيوانات، وكان الاعتقاد السائد انها قد تطورت منذ فترة طويلة بطرق مختلفة تماماً، لكن تبين بفضل الايفو ديفو انها محكومة بنفس الجينات لدى الحيوانات المختلفة. فعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في المظهر وعلم وظائف الأعضاء؛ إلا ان جميع الحيوانات المعقدة، كالذباب وصائد الذباب والديناصورات وثلاثيات الفصوص والفراشات والحمير الوحشية والبشر، تشترك في مجموعة أدوات متماثلة من الجينات الرئيسية التي تتحكم في تخطيط أجسامها وأجزائها.

وبالتالي فقد اعتقد زعماء الايفو ديفو انه يمكن من خلال ملاحظة النماء في علم الاجنة معرفة كيف تؤدي تعديلات التطور إلى زيادة التعقيد وتوسيع التنوع. فاكتشاف مجموعة الأدوات الجينية القديمة قد مثّل لديهم دليلاً قاطعاً على اطروحة السلف المشترك بين الحيوانات، بما في ذلك البشر. فمن خلال تتبع تعديلات الهياكل خلال فترات طويلة من الزمن التطوري يمكن معرفة كيف تم تعديل زعانف الأسماك إلى أطراف في الفقريات الأرضية، وغيرها من الصفات المستجدة كالمخالب السامة والخياشيم والاجنحة والعيون وغيرها.

وبذلك اعتبر زعماء الايفو ديفو انهم قدموا دليلاً قوياً على التطور من خلال معالجة ظاهرة النماء لصالح النظرية الداروينية بعد القيام باصلاح وجهة النظر القديمة.

لكن الحقيقة التي كشف عنها علم الايفو ديفو لا تنسجم مع فكرة الانتخاب الطبيعي ودوره في التطور، وهي التي تمثل حجر الاساس بالنسبة للنظرية الداروينية. فالعملية التخليقية كما تم اكتشافها من قبل هذا العلم تأتي بفعل العوامل الداخلية لا الخارجية. وهي تنسجم مع نظرية الانماط. فهذه الجينات التنظيمية التي تعمل على صنع الهياكل والبنى التشريحية المختلفة لدى الكائنات الحية المتباعدة لم تتطور، اذ انها بقيت على حالها من الفاعلية التنظيمية دون ان تصاب بادنى تطور، وهو ما يتفق مع النظرية البنيوية حول الانماط المشتركة.

لذلك رأى مايكل دنتون ان الخطأ الذي مني به الاعتقاد الدارويني يكاد يكون الاكثر بؤساً في تاريخ التنبؤ العلمي.

هذا هو حال الجينات المنظمة وعلاقتها بالنماء والتشريح المورفولوجي. لكن الامر يختلف عند النظر الى علاقة البروتينات بالتشكل. فالبروتينات العائدة الى الانواع القريبة تكون متقاربة التسلسل نسبياً، وهي متباعدة تماماً عن الانواع البعيدة.

مع هذا تمت مقارنة الاف التسلسلات المختلفة، بروتينية واحماض نووية، لدى مئات الانواع، دون ان يُعثر على اي تسلسل يمكن اعتباره خلفاً او سلفاً خطياً لاي تسلسل اخر كالذي تفترضه الداروينية. وكما قال مايكل دنتون في (التطور: نظرية في ازمة): يمكن التأكد من هذه النتيجة بالرجوع الى مصفوفات الاختلاف التسلسلي الموجودة في الكتاب المرجعي لديهوف (اطلس البنية والوظيفة البروتينية) عام 1972. ففيه توجد مصفوفة تُظهر الاختلاف التسلسلي المئوي بين 33 بروتين من نوع سيتوكروم (C) مأخوذة من انواع مختلفة جداً، تدل على ما يتفق والفروقات المورفولوجية، كما ان التباعد التسلسلي يزداد بازدياد البعد التصنيفي بين الكائنات. وبالتالي اصبح من الراسخ ان نمط التنوع على المستوى الجزيئي يطابق النظام الهرمي المرتب بدقة. فكل صف في المستوى الجزيئي فريد ومعزول وغير مرتبط بأشكال وسيطة. ومن ثم فشلت بيانات هذه الجزيئات في تقديم الحالات الانتقالية، مثلما سبقها في الفشل الاحاثات التي طال البحث عنها في السجل الاحفوري لدعم النظرية الداروينية. فهذه النتائج تثبت ان الكائنات لا تختلف فقط على مستوى التشريح المورفولوجي، بل وتختلف ايضاً على المستوى الجزيئي، وان الفروقات على المستويين تشهد توافقاً كبيراً. فعندما بدأت التسلسلات البروتينية بالتراكم خلال الستينات اتضح بازدياد أن الجزيئات لن تقدم أي دليل على الترتيبات التسلسلية في الطبيعة، بل ستعيد تأكيد النظرة التقليدية بأن نظام الطبيعة يطابق بشكلٍ جوهري مخططاً هرمياً دقيق الترتيب، حيث تغيب فيه كل الدلائل المباشرة على التطور.

لذلك اعتبر دنتون ان كل ذلك يؤكد طابع العلاقات الاخوية بين الكائنات الحية. فعلى المستوى الجزيئي لا يوجد كائن يمكن اعتباره سلفاً عند مقارنته بأقربائه. وان تصنيف مملكة الاحياء الى اقسام مختلفة من التباعد التسلسلي لسيتوكروماتها يبين ان الترتيب الاساسي للطبيعة هو محيطي لا تسلسلي، كما يبين انه ليس هناك ادنى اثر للانتقال التطوري من الاسماك الى الزواحف ثم الى الثديات.

***

على ان لثورة الايفو ديفو اكتشافاً اخر اكثر اذهالاً، وهو ان تحديد الهيكل البنيوي للكائن الحي انما يتم باشتراك طرفين احدهما يتعلق بالمعلومات الجينية، والاخر يرتبط بمعلومات مختزنة في مكان اخر خارج الدنا والجينوم، وتعرف بالوراثة فوق الجينية. ورغم انه تم التعرف على بعض مناطق هذه المعلومات، لكن ما زالت ثمة معلومات مختزنة لا يعرف اين تكمن في الخلية وخارجها.

وقد اطاحت هذه الاكتشافات التي جاء بها علم الايفو ديفو بالمسلمة التي ظل العلماء الداروينيون وغيرهم يرددونها من ان الدنا هو الصانع الاوحد لكل ما يحدث في الخلية، واصبح من المعلوم وجود معلومات اخرى مسؤولة عما يحدث في نماء المخططات الهيكلية للكائن الحي. ولها وظائف كثيرة ليست الجينات مسؤولة عنها، ومن ثم فعملية بناء الكائنات الحية تبدأ من الاعلى فالاسفل.

ومن الناحية التاريخية اظهرت التجارب منذ منتصف الثلاثينات ان اجنة بعض الحيوانات تنمو الى حد معين بمعزل عن الدنا والجينات. فالتجارب التي أجرتها عالمة الاحياء الامريكية إثيل براون هارفي Ethel Browne Harvey عام 1936 أظهرت أن انقسامات بيض قنفذ البحر يمكن أن تحدث حتى في حالة عدم وجود الحامض النووي للابوين. فعندما ازالت هارفي نوى البيض تفاجأت بأن الانقسام الخلوي شرَعَ بالعمل واستمر حتى احتوت الأجنة الفاقدة للأنوية على حوالي (500) خلية ثم توقف النماء بموتها دون اكتمال. ومنذ ذلك الوقت ادرك العلماء وجود مصادر للتوجيه لا علاقة لها بالانوية واحماضها النووية.

وقد اثبتت الكثير من التجارب والتحليلات ان الدنا لا يسعه تفسير عملية التشكل الخلوي ومنها البنية الثلاثية الابعاد والاغشية الخلوية والعلاقات التي تحدث بين الخلايا، كما في الانسجة، ومثلها العلاقات بين الانسجة ضمن العضو، والاعضاء ضمن الاجهزة، والاخيرة ضمن الكائن الحي.

ووفق ما قاله الكيميائي الحيوي فرانكلين  هارولد Franklin M. Harold عام 1995: ان نظام التشكل يتحدى الاختزال، اذ يتمثل جوهره بتماسك العديد من الجزيئات واندماجها في نمط هادف واسع النطاق. لذلك لا يمكن للجينوم أن ينسق التشكل، فثمة مستوى اعلى للترتيب يتوافق مع المقياس الخلوي للحجم والتنظيم. وهو ما يعني ان الجينات «ترتبط بالاشكال الحية من خلال التسلسل الهرمي المتداخل للإجراءات اللاجينية التي تنفذ التعليمات وتدمجها في وحدة وظيفية مترابطة». واشار الى ان الاكتشافات الحديثة وثّقت بان انتقال البنية والشكل مستقل جزئياً عن نقل المعلومات الجينية. فهي قنوات منفصلة ومختلفة نوعياً. واستشهد بالهدبيات، وهي كائنات وحيدة الخلية، فاعتبرها تحمل دليلاً تاماً على الوراثة البنيوية غير الجينية. واستنتج بان الوراثة الهيكلية خارج الجينات تتصف بالشمولية، ومن ثم فان اثباتها سيضيف الشيء الكثير بما لا يقاس إلى فهمنا الحالي للتشكل.

واكد بهذا الصدد على حاجتنا الماسة الى تصور خاص للكائن الحي يُكمل شغفنا بالجينات، مع ضرورة أن يأخذ استمرار النظام البنيوي مكانه في أي فلسفة من هذا القبيل. واشار الى ما سبق اليه الفيلسوف وعالم الاحياء النظري وودجر Woodger الذي قال عام 1929 بان التنظيم يعتبر اساسياً لطبيعة الكائنات الحية، وله العديد من المستويات، وان ترتيب النيوكليوتيدات ما هو الا مستوى واحد منها.

والذي نستنتجه مما سبق هو ان الطفرات الجينية التي تعول عليها الداروينية سوف لا يكون لها الدور الحاسم في التخليق التطوري. فعمليات التشكل للمخطط الجسمي والاجهزة الخلوية لا تعتمد كلياً على ما يحصل من تغيرات جينية. فثمة مصادر معلوماتية تقبع خارج الجينوم، وان عملية التشكل تتحكم فيها المستويات العليا على الدنيا، وهو ما يعني ان الجينوم في الخلية يظل محكوماً بما هو خارج عنه ضمن الاجهزة الخلوية والمخطط الجسمي للكائن الحي.

بالاضافة الى ان شبكات الجينات المنظمة للنماء يصعب تعرضها للطفرات والتغيرات ما لم تكن مهلكة، وهي التي تتحكم في غيرها من الجينات. فرغم ان علماء الايفو ديفو يعتقدون بانه يمكن للجينات المتماثلة ان تتقبل الطفرات التي تفضي الى تغيرات كبيرة قد تساعد على التطور المتنامي، لكن ما اثبتته التجارب ان مثل هذه الطفرات تؤدي الى التشويه او الموت.

ومن اهم هذه الجينات ما يعرف بجينات هوكس Hox ولها وظائف مختلفة في نماء البنى العضوية، كما في نماء الجهاز العصبي المركزي للفقريات والهيكل العظمي المحوري والأطراف والأمعاء والجهاز البولي والأعضاء التناسلية الخارجية، والاعين والرئتين. وعادة ما تكون الطفرات فيها مشوهة او مميتة، كما في التجارب المتعلقة بذبابة الفاكهة. وبعض من هذه الطفرات تسبب تشوهات خلقية لدى البشر.

بل مهما حدث من طفرات سوف لا يمكنها ان تخلق نوعاً جديداً، فالتطورات التخلقية الاولى تكون بمعزل عن الجينوم، وان الطفرات المتأخرة لا تؤثر بشيء مهم بعد ان يتم التحكم بمسار التطور الجنيني وفق المعلومات فوق الجينية. وحتى عندما تحدث طفرات بشكل مبكر في مرحلة النماء الحيواني فانها تكون ضارة او مميتة.

وبحسب ستيفن ماير ان ذلك يولد معضلة، اذ ان التغيرات الجوهرية مميتة، فيما ان التغيرات التي تسمح بالبقاء ليست جوهرية.

وكل ذلك لا يتناسب مع الداروينية التي راهنت على ان منبع التطور ينشأ من خلال الطفرات والتغيرات الجينية، اي من خلال تحكم الجزء بالكل. حتى اخذ انصارها يظنون بان الجينات هي من صنعتنا كالذي ادعاه دوكينز عام 1976. او الادعاء بان الدنا هو سر الحياة. وقد احتلت هذه المزاعم اغلب فترات النصف الثاني من القرن العشرين.

أما حالياً فلم يعد لمثل هذه المزاعم سلطة مثلما كانت في السابق. فقد تبيّن ان التغيرات الجينية محكومة بقيود داخلية يجعلها تنتمي الى سياق شبكة ضخمة من الاجهزة الخلوية والمخطط الجسمي العام. ومن ثم فالجينات لا تصنع الخلية وما فوقها، وان اغلب ما يحصل في التخلق الجسمي يندرج ضمن اطار ما هو خارج الدنا والجينوم. وسبق للفيزيائية الامريكية افيلين فوكس كيلر ان صرحت في كتابها (قرن الجين 2002) بانه خلال 50 عاماً قد ركنّا الى الاعتقاد بأننا اكتشفنا سر الحياة باكتشاف الاساس الجزيئي للمعلومات الجينية. ثم تبين لاحقاً مدى اتساع الفجوة بين المعلومات الجينية والمعنى البايولوجي للكائن الحي.

وهو ما يعني وجود تراتب في المستويات، بحيث ان المستويات العليا هي من تضع القيود الداخلية ضمن عملية التخليق النمائي، وهي ما تمنع حصول تطور كبروي ما لم يكن تقطعياً محكوماً بتوجهات غائية ما زالت مجهولة حتى اليوم.

comments powered by Disqus