-
ع
+

متى يكتمل حضور الجهاز المعرفي لدى الانسان؟

يحيى محمد

من حيث النمو والتكوين البنائي للعقل البشري تنشأ العناصر المعرفية على مراحل حتى تنتهي بظهور الجهاز المعرفي. فمع وجود المصدر المتمثل بالموضوع الخارجي - كما في الواقع - تبدأ المعرفة  لدى العقل بالتكامل المنطقي وفق التدرجات التالية:

الانطباعات الحسية والنفسية: وهي من حيث الواقع الفعلي للبشر تشكّل البداية الأولى للتكوين المعرفي بفعل الإلفة والنشأة الحسية، وميزتها أنها تخلو من التصور التجريدي للقضايا والعلاقات القائمة بينها، مع افتقارها للدقة الابستيمية والأساس المنطقي في التمييز بين قضايا المعرفة الضرورية وغيرها.

2ـ الضرورات الأولية:

تبدأ المعرفة المنطقية بالوجود الخفي للضرورات الأولية، فهي أساس المعرفة قاطبة، وبدونها تختل الأخيرة وتصبح فاقدة للقيمة والموضوعية. ورغم قلتها باعتبارها قضايا محدودة؛ إلا انها تمثل مفاتيح متنوعة لضبط وتشغيل كافة أنماط المعرفة البشرية، وبدونها تبقى الأخيرة مقفلة. وهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار دون ان تقتبس نور وضوحها من شيء آخر، الأمر الذي يكشف عن أنها مزروعة في العقل الباطني للانسان عن قصد وتخطيط.

ووفق دراسة عالم النفس التكويني بياجيه يبدأ العقل المنطقي بالظهور والتمييز بين القضايا وقت المراهقة في عمر يقارب الثالثة عشر سنة. ففي هذا الوقت تتميز المبادئ العقلية بالوضوح والضرورة. أما قبل ذلك فالمعرفة اعتباطية وفق الانطباعات الحسية والنفسية؛ فلا توصف بالمنطقية والدقة الابستيمية، كما أسلفنا[1].

3ـ أدوات التوليد:

بوجود الضرورات الأولية يتم توليد واستنطاق ما أمكن من قضايا المعرفة اعتماداً على المصدر كما في عالم الحس والموضوعات الخارجية، لكن هذه العملية لا تتم إلا بفعل وجود أدوات للانتاج، حيث تجعل من عملية التوليد قابلة لأن تكون محكمة. وقبل ذلك فالمعارف المستنتجة تتصف بالاعتباط. وقد تكون الأدوات الفاعلة في التوليد قياسية أو استقرائية أو تمثيلية.. الخ. وبالتالي فإن عملية التوليد واستنطاق الموضوعات الخارجية لا تتم من دون أدوات ناشطة.

ومن الناحية المنطقية ان الرؤية، كما في الضرورات الأولية، تسبق في وجودها الأداة – المنهج -، لكن الأداة تسبق بدورها الرؤية المستنتجة، ويتسلسل الحال ضمن جدلية السبق بين الأداة والرؤية، أو المنهج والنظرية، إلا ان الأساس هو سبق الأداة للرؤية، مع الاحتفاظ بقمة الهرم فيما يخص الضرورات الأولية. فتتصف المعرفة على هذا النحو بأنها نازلة من العقل إلى الواقع، على خلاف ما كانت عليه نشأتها عند الانطباعات الحسية والنفسية، حيث تتصف بأنها صاعدة من الواقع إلى العقل.

4ـ المولّدات والموجهات:

مع زيادة التوليد والإنتاج واستنطاق الموضوعات الخارجية تظهر الحاجة إلى افتراض مولّدات وموجهات موحّدة يستخلصها الذهن البشري من مصادره المعرفية ليشكّل منها أنساقاً بهيئة منظومات فكرية ناشئة بفعل التفاعل والجدل بين المعرفتين النازلة والصاعدة. والميزة الأساسية في هذه الأصول المولّدة هي أن لها القابلية على توليد المزيد من القضايا أو جعلها تتناسب معها باتساق من دون مفارقة. وبذلك يكتمل حضور الجهاز المعرفي لدى الانسان على مراحل من حياته، بدءاً بالضرورات الأولية، وقبلها الانطباعات الحسية والنفسية، ومروراً بأدوات التوليد، ومن ثم انتهاءاً بحضور المولّدات والموجهات كافتراضات ذهنية.


[1]  للتفصيل انظر كتابنا: تأملات في اللاشعور، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، 2015م.

comments powered by Disqus