-
ع
+

هل للقيم طبيعة عقلية؟

يحيى محمد 

ظهرت في الفكر الغربي مذاهب متعددة تناولت العلاقة بين القيم الأخلاقية والواقع. فقد اعتبرتها بعض المذاهب زائفة غير قابلة للتحليل، لأنها لا تُخبر بشيء جديد في الواقع، وبالتالي فهي تعود إلى القضايا التي لا معنى لها؛ كما صرح بذلك الاستاذ آير من الوضعية المنطقية، مبرراً ذلك بأنها لا تعدو أن توضح المشاعر البشرية دون أن يكون لها قابلية على التحقيق أو الإثبات والنفي، وعليه لا توصف بالصدق والكذب. فمثلاً إذا قلتُ: (لقد فعلتَ خطأً في سرقتك النقود) فإني لم أقرر شيئاً أكثر من القول بأنك سرقت النقود. وعندما أعمم القول بعبارة (إن سرقة النقود خطأ) فإني أنتج جملة لا تحمل معنى حقيقياً، لأنها لا تتضمن الصدق والكذب، بل هي مثل كتابتي لعبارة (سرقة النقود)[1].

وذهب المفكر الاسترالي جون ليزي ماكي إلى ذات النتيجة من إنكار وجود مبدأ للتحقيق وإثبات القضايا القيمية، باعتبار أن هذه القضايا تفتقر إلى المعنى الوصفي، لكنه لا يعتبرها بلا معنى، بل يراها كاذبة أو غير موضوعية[2].

وقد طرح ماكي بهذا الصدد عدداً من المشاكل التي تبين كذب القضايا القيمية أو عدم موضوعيتها، أهمها إعتباره أنه لو كان لهذه القضايا صفة موضوعية لكان من الممكن إيجاد ما يوصلها بالحقائق الطبيعية ذات الوجود الخارجي[3].

كذلك إعترض الاستاذ هير على موضوعية الأحكام القيمية، فاعتبر أنه لو افترضنا عالمين أحدهما يمتلك قيماً موضوعية دون الآخر، فإن الناس في الحالتين سيتعاملون مع الأشياء نفسها بلا فرق، سوى أن الفرق في ذلك يعود إلى الناحية الذاتية للناس فحسب[4].

كما اعتبر الفيلسوف الامريكي جلبرت هارمان بأن هناك حاجة لصنع الفرضيات حول الحقائق الفيزيائية لتفسيرها، لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالحقائق القيمية، فهي لا تحتاج إلى مثل هذه الفرضيات بإستثناء ما يخص الأمور النفسية للشخص الذي يتعاطى مع مثل هذه الحقائق، كما أن الأخيرة لا تعد جزءاً من مراتب الطبيعة لتقام عليها المعرفة العلمية[5].

وكذا ميّز هارمان بين المبادئ العلمية والمبادئ القيمية، فبرأيه أن الأولى ترتكز على معيار الرصد والمشاهدة observation كجزء مهم لقبول التفسير والنظريات، في حين ليس الأمر كذلك فيما يخص المبادئ الخلقية، إذ لا تشكل المشاهدة عنصراً من عناصر تفسير النظريات فيها أو قبولها[6].

وفي قبال ذلك اعتبر البعض أن معيار الحدس في المبادئ القيمية يلعب نفس الدور الذي تلعبه المشاهدة في العلم الطبيعي[7]. بل أكثر من هذا ذهب الباحث بويد إلى أن للقيم حقائق موضوعية، وأن المشاهدة فيها تلعب الدور نفسه الذي تلعبه في العلم، معتبراً أن القيم - كالحسن مثلاً - هي خاصية property تشابه تماماً سائر الخاصيات التي يبحثها علماء النفس والتاريخ والإجتماع[8].

وبحسب تقدير بعض الباحثين، فإن في الغرب تيارين قائلين بموضوعية القيم، أحدهما يماثل في الموضوعية بين خواص القيمة للحسن والقبح من جهة، وخواص الطبيعة للأشياء الفيزيائية من جهة ثانية، مع أنه لا توجد اشارة تدل على الوجود الخارجي للقيم خلافاً للحال مع الواقع الفيزيائي. أما التيار الآخر فيكتفي بموضوعية القيم من حيث أنها غير قابلة للتحليل، كالذي يقوله الاستاذان مور وروس[9].

وحقيقة الأمر إنه لا يوجد في الواقع الموضوعي الطبيعي ما يمكن أن نطلق عليه (قيم) لنبحث عنها من خلال الحواس والآثار الخارجية. فعالم القيم هو غير عالم الواقع والوجود، رغم الصلة الوثيقة والتلازم بين العالمين، إذ لا يمكن التحدث عن القيم بمعزل عن وجود الأشياء، والعكس ليس صحيحاً، إذ يمكن التحدث عن الأخيرة بمعزل عن الأولى.

وعندما نتحدث عن القيم الأخلاقية فإننا لا نتحدث عنها من حيث صلتها بالمادة الخارجية الجامدة، ولا بعلاقتها بالحياة النباتية والحيوانية، بل ولا بارتباطها بالحياة العاقلة؛ ما لم تمتلك القدرة والإرادة والإختيار والقصدية. وبالتالي فإن تحقق القيم لا يكون إلا بارتباطها بالشرط الأخير دون غيره، وهو شرط يتضمن وجود الحياة العاقلة. فمثلاً لا يمكن الحديث عن القيم عندما يتعلق الأمر بشيء خارجي كالنار. فلا يقال للنار أن فعلها حسن أو قبيح، أو أن فعلها يمتلك حقاً أو يفتقر إليه. وكذا لا يقال للحيوان مثل هذه النعوت، بل ولا يقال للعاقل المدرِك فاقد القدرة والإرادة إن فعله حسن أو قبيح. إنما يقال ذلك للعاقل الذي يمتلك القدرة والإرادة، حيث يُنعت فعله بالحسن والقبح، أو الحق والباطل.

فالقيم قائمة - إذاً - على شرط الإرادة المدرِكة، وبالتالي لو كانت أفعالنا جبرية لما صدق عليها هذه الأحكام. كذلك لو لم تكن لله القدرة على أن يفعل غير ما فعله في خلقه - رغم سعة علمه وعظمته- لما صدق عليه هو الآخر تلك الأحكام، بل لكان فعله كفعل النار التي ليس بوسعها فعل شيء غير الحرق، كما يراه النظام الوجودي.

القيم والضرورة العقلية

لكن مع هذا تظل مشكلتنا متعلقة بطبيعة الأحكام الصادرة عن هذه القيم. فهل هي أحكام عقلية كتلك التي لها علاقة بالموضوعات المنطقية والخارجية، أم أنها شيء آخر مختلف؟ إذ للمعرفة العقلية أقسام؛ منها ما هو ذهني صرف، كما منها ما هو واقعي، كالتالي[10]:

1ـ المعرفة الذهنية البحتة، مثل قضية مبدأ عدم التناقض والواحد المضاف إلى مثله يساوي إثنين. وهذه المعرفة لا علاقة لها بالواقع عندما تعبّر مقدماتها عن قضايا مفترضة.

2ـ المعرفة الإخبارية الضرورية، مثل مبدأ السببية العامة القائل إن لكل حادثة سبباً ما يوجدها، أي من المحال أن توجد حادثة من دون سبب. كذلك أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، ومثله لا يمكن أن يكون شيئان في ذات المكان الواحد في الوقت نفسه.

وتتصف هذه المبادئ بالضرورة العقلية، بمعنى أن العقل يدرك حتمية ما تتضمنه هذه القضايا، لكن الضرورة فيها ليست منطقية كما هو حال القسم الأول من المعارف العقلية العامة، بل هي من نوع آخر، إذ عدم التسليم بها لا يفضي إلى مشكلة منطقية، كالتناقض، وكل ما في الأمر أن عقلنا يستبعد تماماً أن يجد شاهداً يكذبها، وبالتالي يمكن وصفها بأنها غير قابلة للتكذيب، ومن يشك في ذلك فعليه التحقيق، خلافاً للقضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا الشك والتحقيق[11].

فالفارق بين المجموعتين من القضايا، هو أن المعرفة في القضايا الإخبارية تتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيها تتصف بالتحدّي، في حين تتصف الضرورة في المجموعة الأولى بالمنطقية، وأن اللابدية فيها لا تقبل التحدي.

المعرفة الإحتمالية، وتتصف بأن إخبارها عن الواقع الموضوعي لا يطابق غالباً ما عليه الواقع، خلافاً للمعرفة الإخبارية الضرورية التي تشترط مطابقة الواقع حتماً. فمثلاً إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لرمية واحدة لنقد متماثل الوجهين تساوي (1\2)، وهي قضية ضرورية لا شك فيها، لكن يتفرع عنها بعض القضايا والنتائج المفارقة حسب القياس المنطقي كالتالي:

إن قيمة إحتمال ظهور وجه الصورة لكل نقد منتظم تساوي (1\2) بالضرورة، وحيث أن هذه قطعة نقد منتظمة، لذا فقيمة إحتمال ظهور الصورة فيها تساوي (1\2) بالضرورة أيضاً، طالما كنا متأكدين من انتظام القطعة. وبالتالي فقد استنتجنا الجانب العقلي للقضية الجزئية. لكننا حين نرمي هذه القطعة النقدية عدداً من المرات، ولنفترض عشر مرات، فسوف نلاحظ أن نتائج ظهور وجه الصورة لا يؤدي بالضرورة إلى القيمة الإحتمالية النصفية، فقد تكون أكثر أو أقل من ذلك، بل الغالب أنها لا تكون نصفاً، لأسباب ذكرناها في بعض من دراساتنا المستقلة[12].

هذا هو حال القضية الواقعية في الحسابات الإحتمالية، إلا أنه لا يغير شيئاً من ضرورة الحكم العقلي السابق. فالقضية المنطقية في المبادئ الإحتمالية ضرورية، خلافاً للقضية الواقعية المستندة إليها. والسبب في هذا الإختلاف يرجع إلى طبيعة القضايا الإحتمالية ذاتها، حيث تقتضي أن تكون القضايا الواقعية فيها غير محتّمة، كما تقتضي أن تكون قضاياها المنطقية ذات صبغة ضرورية.

المعرفة الحضورية الوجودية، وتتمثل في معرفتنا بأنفسنا مباشرة دون حاجة للدليل، وبالتالي فهي لا تتقبل كوجيتو الاستدلال الديكارتي القائلة: (أنا افكر فإذاً أنا موجود). رغم أن كتابات ديكارت ممتلئة في التعبير عن تجربة ذاته المدرِكة واسترسالاته الطبيعية من دون حاجة للحجاج المنطقي، كما يلاحظ مثلاً في (تأملات)[13]، حيث أظهر بأن الكوجيتو هو مبدأ بديهي تام الوضوح وليس استدلالاً منطقياً، لذلك ردّ على ناقده جاسندي بهذا الخصوص[14].

المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الإعتقاد بالواقع الإجمالي للعالم. فهذه المعرفة ليست ضرورية، كما لا يمكن الإستدلال عليها، وبالتالي فهي من المعارف الوجدانية الصرفة[15].

6ـ أما بخصوص المعرفة القيمية، كالحسن والقبح، فهي لدى الفلاسفة القدماء من المشهورات، ولدى أصحاب منطق الحق الذاتي من العلوم الضرورية التي تتوقف عليها متفرعاتها من الأحكام[16]. لكن البعض خلط بين هذين الإتجاهين ونقل لنا المفهوم الذي تبنّاه أصحاب منطق الحق الذاتي (العدلية) ودافع عنه دفاعاً تاماً، في الوقت الذي رآه بعين الفلاسفة واستشهد عليه ببعض عباراتهم، كالذي نقله عن ابن سينا في (الإشارات والتنبيهات) وما وافقه عليه شارحه نصير الدين الطوسي. لذا اتصفت عباراته بالتهافت وعدم الإتساق أحياناً.

فالشيخ محمد رضا المظفر عرّفنا بالمشهورات بأنها قضايا لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الإعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، حيث لا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها، فلو خلي الإنسان وعقله المجرد فسوف لا يحصل له حكم بها، ولا يقضي عقله فيها بشيء كما يقول ابن سينا. وليس الأمر كذلك مع قضايا الضرورات الأولية كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء، إذ لو خلي الإنسان وعقله فإنه لا يتردد في صدقها، إذ يكفي تصور طرفي هذه القضية لقبولها من دون شك.

لذا فالمعتبر في مثل هذه القضايا الأولية للعقل النظري هو أنها مطابقة لما عليه الواقع. أما المعتبر في المشهورات فهو أنها مقبولة لتطابق الآراء عليها، حيث لا واقع لها غير ذلك، وأنّ هذا التطابق هو لأجل المصلحة العامة، إذ بها يكون حفظ النظام وبقاء النوع، كقضية حسن العدل وقبح الظلم. فمعنى حسن العدل هو أن فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم هو أن فاعله مذموم.

فهذا هو المفهوم الوجودي للفلاسفة عن العقل العملي للحسن والقبح، وهو ذاته الذي جعل المظفر يعتبر العدلية - أصحاب منطق الحق الذاتي - قائلين به، إذ يدل عندهم على كونه من المشهورات لا الضرورات، واستشهد عليه بقول ابن سينا وما وافقه عليه تابعه نصير الدين الطوسي[17]. هذا بالرغم من أنه تبنى في بعض كلماته مذهب القائلين بالحق الذاتي، ومن ذلك إعتباره قضايا الحسن والقبح من القضايا الذاتية، وأن ما كان ذاتياً لا يقع فيه إختلاف، فالعدل بما هو عدل لا يكون قبيحاً أبداً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسناً أبداً، أي ما دام عنوان العدل صادقاً فهو ممدوح، وما دام عنوان الظلم صادقاً فهو مذموم[18].

ويلاحظ أن المعنى الفلسفي الذي تبنّاه المظفر يثير مشكلة، وهي أنه إذا كانت قضية الحسن والقبح من المشهورات، فكيف جاز لهذه القضية أن تتحكم في ظواهر النص الديني، بل وتتأسس عليها حجية هذا النص، سواء من الخارج أو الداخل، تبعاً لمنطق الحق الذاتي الذي تبنّاه الشيخ المذكور؟

فالقول بأن قضية الحسن والقبح من المشهورات يعزّز فكرة منطق حق الملكية، إذ يترتب على ذلك غياب الأساس الذي تستند إليه هذه القضية، باستثناء ما ألفناه من الاعتبارات الإنسانية، وهو ما يعني إلغاءاً للبعد العقلي المجرد.

فلو أن الله أدخل المؤمن الصالح في النار، وجعل الكافر الشرير في الجنة، فإننا سنعتبر هذا الفعل قبيحاً، لا لأنه كذلك بحكم العقل المجرد، بل لأنه من الأمور المشهورة المتعارف عليها بين الناس، أو لأنه مما توافقت عليه آراء العقلاء. وهذا ما يُسقط القيمة العقلية لهذا الحكم عند مقارنته بالاعتبارات المتعلقة بالله تعالى، وعلى رأسها المشيئة وحق التصرف المطلق في مُلكه. إذ ما الذي يضمن أن ما يراه الله من اعتبارات، هو عينه ما نتوافق عليه نحن البشر من خلال الشهرة والمرتكز الجمعي؟

فلو قيل بأن الله من جملة العقلاء «بل رئيسهم، بل خالق العقل، فلا بد أن يحكم بحكمهم بما هم عقلاء»[19]؛ لأجبنا: كيف عرفنا أنه يحكم بحكمهم، لا سيما ونحن من عالم وهو من عالم آخر مختلف؟ وإن قيل إننا علمنا ذلك مما دلّ عليه الخطاب الديني، أي أن الخطاب أخبرنا بأن حكم الله مطابق لحكم العقلاء في هذه القضايا، لكان هذا الكلام دورياً، إذ إن إثبات حجية الخطاب نفسه متوقف على صحة تلك القضايا ابتداءً.

أما لو قيل إننا عرفنا ذلك بالعقل، فإن كان المقصود هو الإدراك بحسب الشهرة والتوافق على الآراء بين العقلاء، فذلك لا يقدّم شيئاً، إذ قد يكون المشهور باطلاً، كما قد تكون اعتبارات المشهور لدينا هي غير اعتبارات من هو أعلى منا عقلاً وعلماً. وهنا تنقلب المسألة إلى المفهوم المتعلق بمنطق حق الملكية، وبالتالي يصبح من المحال إثبات المسألة الدينية وفق منطق الحق الذاتي، كما لا يمكن الحكم على الأفعال الإلهية وفق الحقوق والواجبات، وكذا الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، مادامت لا تخرج عن حد الشهرة واتفاق العقلاء.

***

ومن حيث التحليل، عندما نقول إن المسألة عقلية، فهذا يعني أن الوجدان العقلي يشهد على صدقها؛ سواء شهد بذلك على نحو الضرورة، أو على نحو التأكيد فحسب.

وهنا نلحظ أن القضايا القيمية هي أيضاً مما يشهد لها الوجدان العقلي بالصحة والصدق، رغم أنها لا تُعنى بالإخبار عن الواقع الموضوعي أو التطابق معه، ولا تنتمي إلى صنف القضايا المنطقية المجردة، بل إنها تُعبّر عن حالة مغايرة لما سبق أن تناولناه، إذ تتضمن بعداً كيفياً قيمياً خاصاً.

وليس في ذلك ما يبعث على الغرابة، فقد رأينا أن بعض القضايا في مجالات معرفية معينة تمتاز بالضرورة العقلية، رغم أن معظمها لا يتطابق مع مصاديقها الواقعية، كما هو الحال في القضايا الإحتمالية، وكأنها بذلك تتضمن المفارقة وعدم الإتساق، لكن حالها ليس كما يبدو. فبحكم اعتباراتها المنطقية والرياضية يتحتم أن لا يتطابق معظمها مع الواقع الموضوعي، من دون خلل أو تناقض.

كذلك ثمة قضايا تصلح أن تكون محلاً للإعتقاد الراسخ بناءً على حكم العقل والوجدان، رغم أنها ليست من الضرورات المعرفية، ولا من المعارف التي يمكن الإستدلال عليها، مثل الإيمان بوجود واقع موضوعي عام.

وعليه، يتعذر اختزال الإدراك العقلي وأحكامه في وتيرة معرفية واحدة، إذ تتعدد صوره وكيفياته بحسب طبيعة الموضوعات وشروط إدراكها. ومن بين هذه الصور، تبرز القضايا التي تصدر عن العقل العملي، بما لها من خصوصية في التقييم والحكم.

فمثلاً لا يتردد العقل في أن يستقبح قتل الوالدين، أو ذوي الإحسان، أو النظراء، من غير سبب موجه. لكن من الواضح أن مثل هذه الأمثلة تتضمن إفتراض أن يكون بين الأفراد نوع من التماثل والاستقلالية. فالعلاقة بينهم ليست قائمة تبعاً للملكية الحقيقية، إذ إن بعضهم لا يمتلك البعض الآخر، وبالتالي فإن هذه الصورة يمكن أن يتفق عليها كلا المنطقين المتنازعين (الحق الذاتي وحق الملكية). وهي مؤشر على صلاحية العقل العملي في الحكم على الأشياء وفقاً للشروط المطلوبة. إلا أن المشكلة تكمن في الشرط الميتافيزيقي المتمثل في إفتراض وجود علاقة من الملكية المطلقة، خلافاً لحالة التماثل السابقة. وبحسب هذا الإفتراض فهناك كائن يتمتع بامتلاك غيره امتلاكاً مطلقاً، والسؤال هو: هل يحق له تعذيبه والعبث به من غير سبب موجه؟

لا شك أنه ليس أمامنا في هذه الحالة إلا أن نفترض وجود طرف ثالث مجرد و«محايد» يتصف بقدرته على الإدراك والحكم، وأعني بذلك العقل أو الوجدان. فلو رجعنا إلى الوجدان العقلي، وبغض النظر عن كل الاعتبارات الخارجية، كالدينية وما شاكلها، نجد أنه يقطع بإدراك حالة القبح أو النقص القيمي لمثل ذلك الفعل رغم إتصاف الفاعل بالملكية المطلقة. وهو ما يبرر الواجبات العقلية، سواء كانت متعلقة بالمكلِّف أو المكلَّف.

وتبعاً للأمر المنطقي لا بد لكل معرفة من قيود وشروط، ومن هذه القيود ما يتعلق بطبيعة القضايا ذاتها.

فمثلاً يتعلق القيد في القضية القائلة بأن الواحد المضاف إلى واحد مثله يساوي إثنين، بالواحد البسيط أو المجرد، وبالتالي لا يمكن نقضها بقضية أخرى لا تحمل هذه البساطة أو التجريد، كإن يقال أحياناً بأننا لو جمعنا حجم غاز بآخر مثله فإنه يمكن أن نحصل على حجم واحد منهما، أي أن الواحد المضاف إلى مثله يساوي واحداً لا إثنين.

كذلك فإنه في قضية السببية العامة يشترط أن تكون هناك حادثة ما، كإن تعبّر عن تغير غير ثابت أو وجود بعد عدم، وهذا يعني أن هذا الشرط لا ينطبق على مبدأ الوجود الأول، ليقال أنه لا بد له من سبب غيره، بإعتباره ليس حادثة، فهو موجود في الأصل دون أن يسبقه عدم، كما أنه لا يتغير كي يقال أن هذا التغير لا بد له من سبب. وأيضاً فإن من قيود هذه القضية أنها لا تتحدّث عن نوع السببية وتعيين السبب، وبالتالي فهي وإن كانت حالة عامة يمكن تطبيقها على مختلف ظواهر الكون وحوادثه، وأنها كذلك شرط للمعرفة البشرية من دونها يتعذّر الوثوق بأي علم طبيعي، إلا أنها غير كافية لتفسير هذه الظواهر والحوادث، باعتبارها لا تشخّص طبيعة الأسباب الكامنة وراء ما يحدث. فهذا هو قيدها كما يدركها العقل النظري القبلي.

كذلك الحال مع قضية الإيمان بواقعية العالم من غير دليل، إذ إن هذا الإيمان مشروط بكونه يصدق في حدود العالم المجمل للواقع الموضوعي، دون أن يمتد إلى تفاصيل هذا العالم. فأي عنصر جزئي فيه يمكن التحقق من كونه واقعًا أو مجرد إفراز ذهني من خلال الدليل الاستقرائي والقرائن الاحتمالية.

أما ما يتعلق بالعالم في عموميته وكليته، فهو مفترض سلفًا، ولا دليل يثبت واقعيته، رغم إيماننا الجازم به. ومهما بلغ بنا الشك، فإننا من الناحية الغريزية أو الفطرية نتعامل معه تعاملاً موضوعيًا، أي نفترض وجوده خارج حدود الذهن وإفرازاته الذاتية. وهذا هو القيد الذي يضبط المعرفة الوجدانية بوجود الواقع الموضوعي العام.

وأيضاً مع القضية العقلية الخاصة بالإحتمالات، فإنها مقيدة بتماثل الحالات الممكنة، ولولا هذا التماثل لانتفت الضرورة المعرفية، ولأصبحت المعرفة «تقديرية».

وبصفة عامة، تشهد أغلب حالات الواقع على عدم تحقق هذا الشرط، وبالتالي فهي لا تخضع للحكم العقلي، في حين توجد قضايا بسيطة يمكن أن ينطبق عليها الحكم العقلي، كالسحب العشوائي لبعض الكرات المختلفة الألوان مع علمنا بعددها وألوانها وتساوي أوزانها وأحجامها وأشكالها، إذ يكون الحكم فيها حكماً عقلياً غير قابل للنقض والتبديل[20].

ومعنى الضرورة للقضايا المختلفة السابقة هو أن تكون غير قابلة للخرق والتجاوز، فهي بالتالي صحيحة صحة مطلقة وإن بإعتبارات مختلفة. والحكم فيها لا يستند إلى ما يتفق عليه الناس، إذ لو اعتمدنا على ما يقوله الآخرون لما وجدنا قضية يمكن الإتفاق عليها، بما في ذلك مبدأ عدم التناقض، فضلاً عن مبدأ السببية العامة وغيرها. وعليه كان لا بد من النظر إلى القضية ذاتها بحسب التجريد العقلي، أي العمل على رؤيتها مباشرة من الداخل قبل محاكمتها بحسب الاعتبارات المختلفة تبعاً لطبيعة هذه القضايا وقيودها.

وعموماً يشهد العقل أشكالاً مختلفة للضرورة العقلية كما قدمنا، خلافاً لما يُعرف لدى المفكرين والفلاسفة بوجود نمط واحد منها هو الضرورة المنطقية، وأحياناً يشار بشكل مجمل إلى الضرورة العقلية ليضم فيها عدد من الضرورات، كتلك التي تخص مبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية العامة.

فتارة تكون الضرورة منطقية كما في عدم التناقض، وثانية غير قابلة للتكذيب كما في السببية العامة، وثالثة إحتمالية مثلما تنشأ في الحالات المتماثلة؛ كتماثل وجوه عملة النقد. ونضيف إلى ذلك ما نطلق عليه (الضرورة القيمية).

فهذه الضرورات الأربع بعضها يختلف عن البعض الآخر، والصفة المشتركة فيما بينها هي عدم إمكان تغييرها وإبدالها، لِما لها من طبيعة شمولية مطلقة، بما فيها النوع الأخير من الضرورات الخاصة بالعقل العملي تمييزاً له عن سائر الأنواع التي يتضمنها العقل النظري.

والإختلاف بين هذه الضرورات هو أن الأولى (المنطقية) لها علاقة بالقضايا النظرية التجريدية، وأن الثانية تحدّية أو غير قابلة للتكذيب؛ لِما لها من علاقة بالواقع الموضوعي مباشرة، باعتبارها إخبارية وكاشفة عن الواقع بالقيد الذي ذكرناه، أما الثالثة (الإحتمالية) فهي وإن تحدثت عن الواقع إلا أنها تتميز بعدم مطابقتها للواقع بالضرورة، بل وإختلافها عنه في أغلب الأحيان.

تبقى الضرورة القيمية، فهي أنها لا تتحدث عن أشياء الواقع الوجودي والتكويني، وبالتالي لا يمكن محاكمتها كما يحاول البعض محاكمة الضرورة غير القابلة للتكذيب، إنما المهم مشاهدتها بالرؤية المباشرة تبعاً لما يُفضي إليه الحدس العقلي المدرك لشموليتها المطلقة ضمن قيودها الخاصة، كغيرها من ضرورات العقل النظري.

فلو تحقق للعقل إثبات جزئية واحدة موجبة من قضايا الضرورة القيمية أو غيرها من القضايا العقلية؛ لكان ذلك دالاً على صدقها بنحو كلي. في حين ينبغي على المنكرين لصدقها أن ينفوا حقيقتها كلياً بما يُعرف منطقياً بالسالبة الكلية. ومن الأمثلة الواضحة عليها نذكر ما يلي:

ـ العقاب من غير بيان في التكليف قبيح.

ـ التكليف بما لا يطاق إن لم يكن عقوبة فهو قبيح.

ـ الإعتداء على الآخرين من غير ذنب ولا إضطرار قبيح.

ـ شكر المنعم الخيّر حسن.

ـ الإعتراف بجميل المحسن حسن.

ـ التعاون مع الأخيار في العمل الصالح حسن.

ـ مساعدة المحتاجين الأخيار حسن.

ـ ترجيح الأهم على المهم حسن.

ـ دفع الضرر عن غير المستحقين حسن ما لم يفضِ إلى ضرر أكبر.

ـ رد المظالم إلى أهلها المستحقين حسن ما لم يؤدِّ إلى ضرر أكبر.

ـ الإنتصاف من الظالم للمظلوم حسن ما لم يؤدِّ إلى ضرر أكبر.

ـ الصدق حسن ما لم يضطر إلى الكذب.


[1] Ayer, A. J. Critique of Ethics and Theology, (1988), in Essays on Moral Realism, ed. Sayre-McCord G. Cornell University Press, London. 30-32.

[2] Makie J. L. The subjectivity of Values, in Essays on Moral Realism. p. 112.

[3] Sayre-McCord, G. Introduction: The Many Moral Realism, in Essays on Moral Realism. p. 13.

[4] Makie J. L, p. 99-100.

[5] Sturgeon, N. L. Moral Explanations, in Essays on Moral Realism. p. 233.

[6] Harman, G. Ethics and Observation, in Essays on Moral Realism. p.123.

[7] Boyd, R. N. How to be a Moral Realist, in: Essays on Moral Realism. p.184-5.

[8] Boyd, R. N, p. 206.

[9] Sayre-McCord, G. Introduction: The Many Moral Realism, in Essays on Moral Realism. p. 21 .

[10]      للتوسّعة يمكن مراجعة: الإستقراء والمنطق الذاتي.

[11]      قد يعترض البعض على هذا الكلام لعدم اطلاعنا التام على الغيب، فحتى لو لم تظهر لنا مضامين هذه القضايا، مثل عدم ظهور الأسباب بالنسبة إلى قضية السببية العامة، فإن عقولنا تفترض وجودها، وهذا الأمر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. وأكبر شاهد على ذلك حركة الإلكترون العشوائية في العالم الجسيمي. إذ قد يقال أن لهذه الظاهرة أسبابها المجهولة، مع أنه يقال أيضاً أن هذه الحركة تجري من غير أسباب. وهكذا يمكن أن يُكرر هذا القول مع أي ظاهرة لم تتكشّف لنا أسبابها. لكن يجاب على ذلك أن بعملية الفحص الإستقرائي والإحصائي يتوضح أكثر فأكثر بأن للظواهر أسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وأن ذلك يُضعف من إحتمال عدم خضوع الظواهر (المعاندة) - وهي قليلة بطبيعة الحال - لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وامكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، إلا أنه يبرر اعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.

[12]      الإستقراء والمنطق الذاتي، ص310ـ313 و450.

[13] رينيه ديكارت: تأملات، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الرابعة، 1988م.

[14] تناولنا تفاصيل هذا الموضوع في الكتاب المخطوط: الطاهية: مفارقات وتقلبات. كذلك: التداولية الطاهية (قراءة في النسق التداولي لمشروع طه عبد الرحمن)، تم نشره في موقع فلسفة العلم والفهم بتاريخ: 23-11-2024. انظر: https://www.fahmaldin.net/index.php?id=2771

[15]      راجع حول ذلك: الإستقراء والمنطق الذاتي، القسم الأخير.

[16]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص234. ولاحظ أيضاً: عدة الأصول، ج2، ص759.

[17]      محمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف، بيروت، 1400هـ ـ1980م، ص293ـ295. وأصول الفقه، ج1، ص195ـ196.

[18]      أصول الفقه، ج1، ص201.

[19]      المصدر السابق، ج1، ص197.

[20]      قد يقال إننا حتى مع هذه القضايا البسيطة لا يمكننا الحكم عليها بالتماثل المطلق، إذ لسنا على علم دقيق وكامل بأوزانها وأحجامها، حيث مهما حسبنا الوزن والحجم فيظل هناك بعض الفوارق التي تخص الحسابات الجزيئية الدقيقة، مثل عدم العلم بعدد ذراتها وأوزانها وما إليها..   والجواب عن ذلك يأتي بوجهين: أحدهما أن الإختلاف بين الأشياء التي نعدها متماثلة هو إختلاف ضئيل للغاية فإما أن يهمل، أو أنه لا يؤثر شيئاً على كون القضية العقلية ثابتة ضمن الحدود النسبية للقيمة الإحتمالية المستنتجة عن التماثل النسبي. وبعبارة أخرى تصبح القضية العقلية ذات قيمة إحتمالية محددة تحديداً مرناً بعض الشيء لما تتضمنه من إختلاف ضئيل، وبالتالي يمكن إضافة إليها قيمة ضئيلة تُقدر من الجهتين ارتفاعاً وانخفاضاً. وتعبّر القيمة الأخيرة عن جهلنا بدقة الإختلاف الحاصل، وتصبح القضية الأخيرة غير عقلية باعتبار تلك الإضافة المقدرة. فمثلاً من الناحية التقريبية إن قيمة إحتمال ظهور وجه واحد من وجهي قطعة نقد متماثل بقدر عال جداً تساوي نصفاً مع أخذ اعتبار الهامش الضئيل في الإضافة، ولنفرض أنه لا يقل عن واحد من ألف، فتكون القيمة الإحتمالية التقريبية نصفاً مع زائد ناقص واحد من ألف، أي تكون حسب التعبير الرمزي: 1\2 ± 1\1000.   أما الجواب الآخر، فهو أننا إزاء مشكلة عملية أكثر منها نظرية، إذ يمكن تطبيق القضية العقلية بشروطها على نموذج لا يخضع لمثل تلك الاعتبارات من الوزن والحجم. فمثلاً لو كانت لدينا خمس أوراق متشابهة ومرقمة من واحد إلى خمسة، وقد اُلقيت مصفوفة أفقياً دون أن تُرى الأرقام فيها، فستكون قيمة إحتمال معرفة أي رقم منها قيمة ثابتة عقلياً، وهي واحد من خمسة.

comments powered by Disqus