-
ع
+

الوضعية المنطقية وقضايا المعرفة

يحيى محمد

لقد ظهرت الوضعية المنطقية لدى حلقة فيينا أوائل العشرينات من القرن الماضي، وكان من بين رجالاتها كل من النمساوي موريس شليك والالمانيين كارناب وريشنباخ والفيزيائي فيليب فرانك والرياضي النمساوي جودل وهانزهان ووايسمان وغيرهم. وكان الفيلسوف النمساوي فتجنشتاين صاحب الأثر الشهير (رسالة منطقية فلسفية) على اتصال بهذه الحلقة وإن لم يكن واحداً من رجالها. 

والخاصية الأساسية لهذه المدرسة هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للإستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد ان بالامكان التخفيف من عبئها دون القضاء عليها. وتعتمد الطريقة التي اتبعتها في ذلك على النظرية العامة في التمييز بين المعارف التركيبية والتحليلية، فلا يوجد قسم آخر للمعرفة سوى ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها، شبيه بما سبق إليه ديفيد هيوم.

والقضايا التركيبية ما هي إلا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، فهي بالتالي تخبر بشيء جديد دون ان تكون نتائجها منزوعة عن مقدماتها، الأمر الذي يقتضي الإستدلال عليها بطريق الإستقراء.

أما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد، فنتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، أو ان المحمول فيها منتزع من نفس الموضوع.

ويُعد جون لوك أول من فرّق بين هذين النوعين من القضايا، فلقّب الأولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك لايبتنز، ومن ثم هيوم ومن بعده عمانوئيل كانت - مع شيء من الاختلاف - وأخيراً الوضعية المنطقية1.

وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الإستقرائي من القضايا التحليلية؛ بإعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة إلى الموضوع، إذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين. وعلى ما يقول ريشنباخ: ‹‹القول ان كل شيء في هوية مع ذاته، وأن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة - أي (أن تكون أو لا تكون) بالمعنى المنطقي - هي مقدمات لا يتطرق إليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة، فهي لا تذكر شيئاً عن العالم الفيزيائي، وإنما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف. فهي تتحكم في صورته وحدها، أي في لغة وصفنا، واذاً فمبادئ المنطق تحليلية››2.

بهذا المنطق إعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الإستقرائي المتصف بأن نتائجه أعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض3. لهذا فإن الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق أفراد القضية الإستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والإحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

تبرير الدليل الإستقرائي

لقد رفضت الوضعية المنطقية كل ما له صلة بالتعميم واليقين ضمن العملية الإستقرائية. ومن مفكري هذه المدرسة من رفض الحديث حتى عن الصيغ الإحتمالية للتعميم الإستقرائي، معتبراً ذلك بلا معنى. فالتعميم إما ان يعبّر عن حقيقة أو كذب، لكنه لا يخضع لإعتبارات الدرجة الإحتمالية4. فمثلاً ان كارناب يحسب إحتمال التعميم الإستقرائي صفراً، فلا امل يرجى من تأييد التعميمات والفروض الكلية، وبالتالي فهو يتعامل مع النماذج الخاصة، شبيهاً بقاعدة ستيوارت مل التي تقر الإستنتاج من الخاصيات إلى الخاصيات. وبنظر الاستاذ باركر انه قد تكون الفروض الكلية في العلم النظري أكثر ضرورة للتوظيف والاستخدام من تلك الخاصيات، رغم أنه لا يوجد شيء يمكن أن يعمل على تأييد الفرض الكلي5. لكن تظل هذه الصورة هي المعول عليها في العلم خلافاً للتوجه الوضعي.

واهم تبرير تستند إليه الوضعية المنطقية في رفضها التسليم بالتعميم واليقين، هو إعتقادها ان ذلك لا يتم إلا عند إفتراض وجود مبدأ قبلي يسيّر العملية بهذا الاتجاه، كمبدأ الإستقراء الذي إعتبره البعض ضرورة أساسية لا مناص منه، كما جاء عن برتراند رسل (سنة 1944)، حيث رأى انه لا يمكن أن يجاب عما إذا كان المستقبل سيحدث كالماضي، ما لم نسلم سلفاً بمبدأ الإستقراء، فنحن إما ان نتقبل هذا المبدأ بصورة اولية قبلية، أو نعمل على طرح كل التبريرات والقناعات الخاصة بالتوقعات المستقبلية، ومن ثم ليس هناك ما يبرر لنا ان نتوقع ان الشمس ستشرق غداً، أو نتوقع اننا لو رمينا انفسنا من الطابق العلوي فسنسقط إلى الاسفل6. فحتى عندما نعلم ان المستقبل قد أصبح ماضياً وهو على نفس وتيرة الاطراد والتماثل مع الماضي، فنكون ذوي خبرة حول ما يطلق عليه المستقبليات الماضية، إلا ان ذلك لا يحل لنا المشكل المتعلق بالمستقبل الذي لم يتحقق بعد، أو ما يطلق عليه مستقبليات المستقبل، إذ كيف يمكن أن نتحقق من أنه على تماثل واطراد مع مستقبليات الماضي ما لم نفترض مبدأ الإستقراء سلفاً؟! فنحن لا نعرف ان المستقبل سيكون تابعاً لذات القوانين التي يخضع إليها الماضي من غير أن نكون حاملين ذلك المبدأ بشكل قبلي7. هكذا إذا كانت الأدلة على التنبؤ بالمستقبل صحيحة؛ فالذي يجعلها كذلك هو مبدأ الإستقراء. واذا لم يكن هذا المبدأ صحيحاً فكل محاولة للوصول إلى القوانين العلمية العامة، عبر المشاهدات الخاصة، تكون وهماً وخداعاً، وبالتالي ليس بالإمكان الإستدلال على هذا المبدأ عبر الاطرادات المشاهدة إذا ما اردنا لانفسنا ان لا نقع في الدور. يضاف إلى ان التجربة عاجزة عن أن تثبت أو تنفي هذا المبدأ، وهي عاجزة أيضاً عن أن تقول لنا شيئاً حول الأشياء المستقبلية وغير المشاهدة، وبالتالي فليس هناك ما يبرر التنبؤ بهذه الأشياء سوى المبدأ الآنف الذكر8.

والملفت للنظر ان رسل يعمم تطبيق مبدأ الإستقراء حتى على قانون السببية العامة، إذ يرى ان الإعتقاد بهذا القانون ناتج عن مبدأ الإستقراء ذاته، حيث يلاحظ ان الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الأمر إلا بإفتراض مبدأ الإستقراء سلفاً9. مع انه في كتاب (المعرفة الإنسانية) إعتبر ان معرفتنا للعالم الطبيعي الخارجي تعتمد كلية على إفتراض وجود قوانين السببية، فنحن لا نتحسس بالاشياء الخارجية مباشرة، بل إن خبرتنا مقيدة باحساساتنا، وبالتالي فإن الإعتقاد بأن وراء هذه الاحساسات حقائق خارجية يتطلب الإيمان بالسببية سلفاً10. وهو يعتبر ان هذا المبدأ يشكل الإفتراض القبلي للبحث العلمي، ويقصد به في هذه الحالة هو ان نفس السبب يفضي إلى نفس النتيجة، كما ان اختلاف النتيجة أو الاثر يعني اختلاف السبب. فعلى رأيه أن هذا ما تسلّم به النظريات العلمية. فمثلاً ان تيارين من الطاقة المشعة عندما يسقطان على نفس النقطة من الجسم ويسببان احساسين مختلفين من التصور؛ فذلك يفسر اختلاف هذين التيارين من الطاقة. وبالتالي فهو يصرح بأن فرضية وجود قوانين ثابتة للسببية تبدو غير قابلة للنقض وتعطي أساساً للدليل على وجود الأشياء الخارجية بإفتراض انها هي التي تسبب احساساتنا الصورية لهذه الأشياء11.

ولا شك ان هذا الاعتراف يجعل من الإعتقاد بقانون السببية لا يتوقف على مبدأ الإستقراء، بإعتباره قبلياً هو الآخر، بل ومتقدماً عليه.

على ان الوضعية لم تقتنع بالنتيجة السابقة التي انتهى إليها رسل، إذ ترى أنه لو كان هناك مبدأ قبلي سابق على التجربة؛ لكان لا بد أن يتصف بالضرورة الصادقة ضمن القضايا التحليلية التي لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، مع أن في مبدأ الإستقراء دلالة واقعية واضحة، وكما يقول فتجنشتاين، وهو من المقربين من الوضعية والمحسوب عليهم: ‹‹وما يسمى بقانون الإستقراء لا يمكن بأية حال أن يكون قانوناً منطقياً، إذ من الواضح أنه قضية ذات دلالة خارجية، ولذا فهو لا يمكن أن يكون قانوناً أولياً كذلك››12.

لكن فتجنشتاين الذي رفض الأساس المنطقي للإستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. فهو يقول: ‹‹وعلى أي حال فإن هذه العملية - أي عملية الإستقراء - ليس لها أساس منطقي، بل أساس نفسي فقط، فمن الواضح انه لا وجود لاسس نعتقد بناء عليها في أن أبسط مجرى للاحداث هو الذي سيحدث حقيقة››. وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان إفتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد13. ومع ذلك فإن هذا الفيلسوف يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الإستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الإستقراء عادة، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل أقر استقلال المشكلة المنطقية التي من خلالها يُخاط ثوب المعرفة الدقيقة للقضايا الإستقرائية14.

التنبؤ والإحتمال

تعتبر خاصية التنبؤ والإخبار عن الواقع من الخصائص الرئيسة التي تمتاز بها القضية الإحتمالية. وقد ظن الكثيرون ومنهم الوضعية المنطقية ان هذه الخاصية تبرر نفي الحكم العقلي للإحتمال وإعتباره حالة مستنتجة من الدليل الإستقرائي. يقول ريشنباج: ‹‹إن صاحب المذهب العقلي يرى ان درجة الإحتمال نتاج للعقل في حالة إنعدام الأسباب المعقولة. فإذا ألقيت قطعة نقود فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدي من الاسباب ما يجعلني أومن بأحدى النتيجتين دون الأخرى، لذلك أنظر إلى الإمكانين على أنهما متساويان في درجة إحتمالهما، وأعزوا إلى كل منهما إحتمالاً مقداره (نصف). وهكذا ينظر إلى انعدام الاسباب المقبولة للعقل على انه سبب لإفتراض تساوي الإحتمالات. هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للإحتمال. ويرى صاحب المذهب العقلي ان هذا المبدأ الذي يُعرف باسم مبدأ السوية أو مبدأ انعدام السبب الذي يبرر الموقف المضاد، هو مصادرة منطقية، وهو يبدو له واضحاً بذاته، شأنه شأن المبادئ المنطقية. غير أن الصعوبة في تفسير الإحتمال على هذا النحو هي انه يؤدي إلى التخلي عن الطابع التحليلي للمنطق ويدخل عنصراً تركيبياً قبلياً. والواقع ان القضية الإحتمالية ليست فارغة، فعندما نلقي بقطعة نقود ونقول ان إحتمال ظهور الصورة في الجانب العلوي نصف، فاننا نقول شيئاً عن حوادث مستقبلية. وربما لم يكن من السهل صياغة ما نقول، ولكن ينبغي ان تنطوي هذه القضية على اشارة معينة إلى المستقبل، مادمنا نستخدمها مرشداً للسلوك. مثال ذلك اننا نعتقد ان من المستحسن المراهنة بنسبة خمسين في المائة على ظهور الصورة، ولكنا لا ننصح احداً بأن يراهن عليها بنسبة اعلى من هذه. والواقع اننا نستخدم القضايا الإحتمالية لأنها تتعلق بحوادث مقبلة. فكل عملية تخطيطية تقتضي معرفة معينة بالمستقبل، واذا لم تكن لدينا معرفة ذات يقين مطلق، فانا نقبل استخدام المعرفة الإحتمالية بدلاً منها. ويؤدي مبدأ السوية إلى ايقاع المذهب العقلي في الصعوبات المألوفة التي عرفناها من خلال تاريخ الفلسفة، فلِمَ كان ينبغي على الطبيعة ان تسير وفقاً للعقل؟ ولِمَ كان يتعين على الحوادث ان تكون متساوية في إحتمالها، إن كانت معرفتنا بها تتساوى في كثرتها أو قلتها؟ وهل الطبيعة متطابقة مع الجهل البشري؟ ان امثال هذه الاسئلة لا يمكن الاتيان برد إيجابي عليها، وإلا لكان على الفيلسوف أن يؤمن بوجود إنسجام بين العقل والطبيعة، أي بالمعرفة التركيبية القبلية. ولقد حاول بعض الفلاسفة ان يأتوا بتفسير تحليلي لمبدأ السوية. وتبعاً لهذا التفسير لا يعني القول بأن درجة الإحتمال نصف أي شيء عن المستقبل، وإنما يعبر فقط عن أن معرفتنا عن وقوع هذا الحادث لا تزيد عن معرفتنا عن وقوع الحادث المضاد. وفي هذا التفسير يسهل بطبيعة الحال تبرير الحكم الإحتمالي، ولكنه يفقد طابعه بوصفه مرشداً للسوك. وبعبارة أخرى، صحيح أن الإنتقال من الجهل المتساوي إلى الإحتمال المتساوي يكون عندئذ تحليلياً، لكن يظل علينا أن نفسر الإنتقال التركيبي. فإذا كانت الإحتمالات المتساوية تعني جهلاً متساوياً، فلماذا ننظر إلى الإحتمالات المتساوية على أنها تبرر المراهنة بنسبة خمسين في المائة؟ في هذا السؤال تعود نفس المشكلة التي قصد من التفسير التحليلي لمبدأ السوية ان يتجنبها››15.

ويلاحظ ان هذا النص يثير مشكلتين، إحداهما تخص مبرر قيام المطابقة بين العقل والطبيعة. أما الأخرى فتتعلق بنفي الصبغة العقلية للإحتمال، وذلك من خلال إثبات خاصيته التنبؤية. وهي مشكلة سنتعرض إلى مناقشتها، حيث سنعرف ان صفة الإخبار ليست منافية لخاصة الضرورة التي تمتاز بها الأحكام العقلية. ونحن نعتقد ان الإحتمال هو من القضايا التي تمتاز بهذه الخاصة، فعلى الاقل هناك صنف منه يتصف بوجود علاقة منطقية ثابتة، كما هو الحال مع الإحتمالات الثابتة لالعاب الحظ والمصادفة ذات الاشكال المنتظمة، حيث العلاقة الضرورية فيها لا تمس الجانب المنطقي فحسب؛ إنما هي أيضاً تعكس حكم الضرورة الاخباري عبر التقدير الثابت ضمن شروط محددة. أما مبدأ السوية أو ما يطلق عليه عدم التمييز فيعني انه لا يجوز ترجيح حالة على غيرها من الحالات ما لم يكن هناك سبب ما للترجيح. فالترجيح الحاصل في الحالات المتماثلة يفضي إلى عدم الاتساق، وهو بهذا المعنى يكون مستلهماً من مبدأ السببية العامة، بغض النظر عما إذا كان ذلك يدعو إلى ضرورة الحكم بتساوي الحالات، كما لو ثبت ان هناك تماثلاً بينها، أو ان الأمر يدعو إلى إمكانية التقدير، وذلك فيما لو كنا نجهل طبيعة التماثل بينها.

***

مهما يكن فغالباً ما يتخذ الحل الوضعي للمشكلة المنطقية مسلكاً يعتمد فيه على حسابات الإحتمال المستخلصة بدورها من عملية إستقرائية سابقة تبرر تقدير القيمة الإحتمالية لقضية الإستقراء التي تواجهنا. فمثلاً يقول ريشنباخ: ‹‹الواقع أن تفسير الأحكام التنبؤية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة، وأعني بها مشكلة الإستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للإستقراء، لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الإستقرائي، إذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي إلى نتائج صحيحة. ولكن الأمر يختلف عندما تعد النتيجة التنبؤية ترجيحاً. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة إلى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا البرهان يمكن الاتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الإستقرائية. ويقضي هذا البرهان مزيداً من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول ان النتيجة الإستقرائية لها درجة عالية من الإحتمال، بل إنه يستلزم تحليلاً للمناهج الإحتمالية، وينبغي ان يكون مبنياً على أسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي ان تبرير الإستقراء ينبغي ان يقدم خارج مجال نظرية الإحتمالات، لأن هذه النظرية الأخيرة تفترض استخدام الإستقراء››16.

وتوضيحاً لهذه الفكرة ضرب ريشنباخ المثل التالي: ‹‹عندما نحصي التردد النسبي لحادث ما؛ نجد ان النسبة المئوية التي نتوصل إليها تختلف تبعاً لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن احصاءات المواليد تدل على أن 49 في المائة من كل ألف من المواليد ذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 52 في المائة بين 5000 مولود، ويمثلون 51 في المائة بين 10000 مولود. فلنفرض مؤقتاً أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الأمر إلى نسبة مئوية ثابتة - وهو ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد - فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالنسبة إلى هذه النسبة المئوية الثابتة؟ ان أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر إلى القيمة الأخيرة التي وصلنا إليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فإذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل فسوف نصححه، ولكن إذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية فلا بد أن نصل بمضي الوقت إلى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الإستدلال الإستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء إلى النسبة المئوية النهائية، أو درجة إحتمال الحادث إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الاطلاق، أي إذا كانت السلسلة تتجه صوب حد››17.

وقد سبق إلى هذه الطريقة البراجماتية الفيلسوف بيرس (سنة 1878)، وتعتمد نظريته على ما تقدمه الإختبارات من نسبة احصائية لتكرر الحادثة، ومن ثم تقاس عليها النسبة التنبؤية للحوادث دون حاجة للإفتراض القبلي الخاص بمبدأ الانتظام أو التماثل والاطراد في الطبيعة كالذي عوّل عليه ستيوارت مل من قبل. فالفيلسوف بيرس يرى ان النسبة الاحصائية في السلسلة الطويلة من تكرار الإختبارات تقترب من القيمة الحدية التي تقاس عليها سائر التنبؤات المستقبلية. فعنده ان الإستقراء يعد طريقاً للوصول إلى النتائج المرجاة إذا ما كانت سلسلة الإختبارات طويلة طولاً كافياً، وهي بإمكانها ان تصحح أي خطأ يتعلق بالخبرة المستقبلية التي يمكن أن ننقاد اليها18. ورغم أن طريقة بيرس تفترض سلفاً ان هناك قيمة حدية للتردد خلافاً لمسلك الوضعية المنطقية كما يتمثل لدى ريشنباخ، الا ان النتيجة هي ذاتها من حيث الاعتماد على النسبة الترددية. وبنظر الاستاذ بريثوايت ان بيرس قد وجد بذرة تأسيسه لنظرية الإحتمال عند جون لوك؛ عندما تحدث الأخير بشكل عارض عن قيمة إحتمال التوصل إلى الحقيقة من خلال حجج الأدلة المقدمة لهذا الغرض19.

اذاً ان ريشنباخ وغيره من اصحاب التبرير البراجماتي للإستقراء يتفقون على عدم إمكانية تبرير الإستقراء منطقياً، بإعتبار ان ذلك يحتاج إلى إفتراض مبدأ قبلي يقر انتظام الطبيعة واطرادها على الدوام، وحيث ان هذا المبدأ ليس عقلياً لذا فلا مجال للتحقق منه، إذ كل تحقيق يعتمد على الإستقراء، والإستقراء لا يمكن تبريره - منطقياً - إلا عبر هذا المبدأ، وبالتالي نكون في حلقة دور فارغة، مما يعني انه لا يوجد ما يبرر معرفة المستقبل طبقاً للملاحظات الماضية. لكن مع هذا فإن اصحاب الإتجاه البراجماتي يعتبرون انه إذا كان من الممكن معرفة المستقبل فإنه لا وسيلة لذلك بغير اداة الإستقراء، وبالتالي فهو الاداة العملية الوحيدة رغم انهم يقرون ان ذلك غير مضمون الوثوق. فحتى أن علوماً مثل التنجيم والعرافة والالهامات وغيرها من العلوم غير العادية التي تتحدث عن المستقبل، لا يمكن قبولها ما لم تكن تنبؤاتها صحيحة عن حوادث المستقبل على الدوام، مع ان الطريقة الوحيدة التي نستكشف فيها قيمة ما تقدمه هذه الطرق من تنبؤات مستقبلية؛ هي الإستقراء لا غير. وبالتالي فليس هناك من طريقة للتأكد من الوثوق المعرفي غير اداة الإستقراء ذاتها. لكن رغم أن نجاح العلم هو دليل إستقرائي موثوق لمعرفة المستقبل، وهذا ما قد يجعل منه مبرراً منطقياً للإستقراء، إلا ان اصحاب التبرير البراجماتي يرفضون مثل هذا المبرر كلياً20.

ومن حيث المقارنة بين اداة الإستقراء وبين أي طريقة أخرى غيره، قام ريشنباخ برسم جدول بياني لتصوير الأمر ضمن حالتي إفتراض الانتظام وعدم الانتظام للطبيعة، وأوضح ان الدليل الإستقرائي يمكن أن ينجح في تأسيس المعرفة للحوادث المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة منتظمة أو مطردة، لكنه يفشل إذا ما كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. في حين أنه في الطرق الأخرى غير طريقة الإستقراء لا يوجد ضمان لنجاحها في إنتاج المعرفة فيما لو كانت الطبيعة منتظمة، وانه ستفشل حتماً فيما لو كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. وهنا يكون من الواضح ما يمتاز به الإستقراء عن غيره من الطرق الأخرى، حيث انه ينجح في حالة انتظام الطبيعة وتماثلها، بينما ليس من المضمون ان ينجح غيره عند هذا الشرط. فهذا هو المكسب بلا خسارة الذي يعول عليه ريشنباخ في استخدام الإستقراء دون غيره من الطرق الأخرى21.

وقد قدّم ريشنباخ تشبيهاً دقيقاً لهذا الغرض، فهو يعتبر ان من يقوم بالإستدلال الإستقرائي أشبه ما يكون بالصياد الذي يضطر لإختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه إلا أن يلقي ما عنده في البحر22. وكما قال نوفاليس: ‹‹الفرضيات شباك من يرمي بها يجني ثمارها››23. فكذا الحال مع التنبؤ الإستقرائي، فما هو إلا رمي الشباك في بحر الحوادث الطبيعية دون أن نعلم يقيناً إن كنا سنكسب صيداً من الحدود الترددية ام لا؟ مما يعني أنه لا دليل على حد التردد والتكرار، فكل ما يبنى من إستدلال يفترض أنه لو كان هناك حد لأمكن التوصل إليه بالإستقراء، وهي عملية تقوم على أساس العادة بشهود الخبرات الماضية التي تجعل الدليل الإستقرائي يفترض وجود حد التردد والتكرار مؤقتاً دون أن يبرهن عليه أو يصادره سلفاً24.

نقد الإستقراء الوضعي

يمكن تلخيص النتائج التي انتهت إليها الوضعية في تفسيرها للدليل الإستقرائي كما يلي:

1ـ ان من المحال على الدليل الإستقرائي ان يبلغ رتبة اليقين والتعميم مادام لا يرتكز على أي مصادرة قبلية كمبدأ الإستقراء.

2ـ ان حسابات الإحتمال هي التي تعطي للقضية الإستقرائية درجتها الترجيحية، رغم أنها بدورها مستمدة من عملية إستقرائية سابقة، وهكذا يتوالى التراجع في الاسناد والمرجعية إلى ما لا بداية له.

3ـ تتصف النتيجة في الدليل الإستقرائي بأنها تحمل قدراً نسبياً من حد التردد والتكرار الذي يمكن التوصل إليه خلال العملية الإستقرائية.

ولمناقشة هذه الحصيلة من النتاج الوضعي نتبع النقاط التالية:

الإستقراء والقيمة التصديقية

لا شك أن جوهر المشكلة الإستقرائية هو تبرير اليقين والتنبؤ بالحالات المستقبلية أو الجديدة. فقد أصبح من المسلّم به في الفكر الغربي ان أي محاولة ترمي إلى إثبات الحالات المستقبلية هي إما ان تقع في الدور، أو انها تصادر بعض المبادئ القبلية دون حق؛ كمبدأ الإستقراء.

وعلى الضد من هذا التوجه سعى المفكر الصدر إلى تحقيق الغرض السابق دون استناد إلى المصادرات العقلية المعروفة، فكل ما عول عليه هو مصادرة مبادئ الإحتمال من دون ان يفضي الدليل الإستقرائي ـ عنده ـ إلى التلبس بالشكل القياسي؛ كالذي آلت إليه سائر المحاولات لاستنادها إلى المصادرات القبلية.

ومن الناحية المبدئية نرى سلامة ما عليه هذا الموقف في تبريره لدرجة اليقين في القضية الإستقرائية ضمن شروط، وبالتحديد لا بد من التمييز بين القضايا الإستقرائية، حيث يمكن تبرير اليقين في بعضها دون البعض الآخر، أي اننا نواجه أكثر من صنف لهذه القضايا، مما يدعونا إلى التعامل معها بشكل مختلف.

حد التردد ومبادئ الإحتمال

في الإستقراء الوضعي عرفنا أن النتائج تتخذ على الدوام قيماً إحتمالية، وذلك بإعتبارها تعتمد على حد التردد الذي يستخلص من العملية الإستقرائية القائمة بدورها على حد تردد سابق، وهكذا إلى ما لا بداية له.

فعلى ضوء المثال الذي ذكره ريشنباخ - كما عرضناه سابقاً -، نفترض أننا قد حددنا نسبة الذكور بـ (60%) خلال إستقراء شمل مائة ألف مولود. فهذا الحد الذي يبرر لنا قيمة التنبؤ في الدليل الإستقرائي هو في حد ذاته محتمل، باعتباره يقوم على إحتمال يرجح صحة العملية الإستقرائية طالما لا يوجد لدينا دليل يؤكد عدم خطئنا في اجراء العد وحساب الترددات الخاصة بالذكور، واذا أردنا أن نحدد قيمة إحتمال صوابنا فسنعتمد على القيام باحصاء آخر يواجه مثل المشاكل السابقة، وهكذا نتراجع إلى ما لا بداية له.

ومن الواضح أن هذه العملية لو حللناها بدقة فسوف نرى أنها تفضي إلى ان تقترب قيمة صدق النسبة المشار إليها (60%) من الصفر، فصدق هذه النسبة يتوقف على صدق العمليات الاحصائية السابقة لها. ومهما افترضنا أن نمنح تلك العمليات من قيم عالية فإنه يستحيل أن نتخلص من التنازل الصفري، إذ ما دام بعضها يعتمد على البعض الآخر فلا بد من اجراء الضرب، وحيث أن عوامل الضرب لا نهائية فيتحتم أن تقترب النتيجة من الصفر، وعندها نقطع ان النسبة المذكورة (60%) خاطئة تماماً، الأمر الذي يفضي إلى بطلان المعرفة الإستقرائية قاطبة. وهي نتيجة قد توصل إليها برتراند رسل في نقده لريشنباخ، لكنها لم تقنع المفكر الصدر فاعترض عليها وقال في تعليقه على بعض الأمثلة: ‹‹نفترض أن قيمة إحتمال وفاة الانجليزي في سن الستين: 1\2 على أساس نسبة تكرر الوفاة في أبناء الستين في الاحصاءات الرسمية، فإذا رجعنا بعد ذلك إلى الاحصاءات الرسمية ووجدنا في احصاء آخر: أن نسبة الخطأ في الاحصاءات الرسمية هي: 1\10، فهذا يعني أن النسبة السابقة وهي 1\2 من المحتمل بدرجة 1\10 أن تكون خطأ، وذلك إما بأن تكون النسبة السابقة أكبر من النصف، وإما بأن تكون أصغر منه. فإحتمال الخطأ يعبر - إذا - عن إمكانيتين متعادلتين: إحداهما تخفض والأخرى ترفع، وبذلك تبقى قيمة إحتمال وفاة الانجليزي البالغ ستين سنة: 1\2 ، لا 1\2 × 1\10››25.

ما من شك ان الصيغة الرياضية الأخيرة في النص ليست دقيقة للتعبير عن الفكرة المطلوبة. كما ان النتيجة ليست صحيحة. فدرجة إحتمال الخطأ في النسبة المقدرة بـ (1\2) تظل (1\10) سواء كانت رافعة أو خافضة، أي ان قيمة صدق تلك النسبة هي (9\10)، وحيث اننا قد نخطئ في هذه المراجعة أيضاً، ولنفرض ان نسبة الخطأ هي نفس النسبة لكل مراجعة، وكذا نسبة الصواب، فإن ذلك يعني ان صدق نسبة التقدير الأولية (1\2) تعتمد على صدق النسب في المراجعات؛ لتوقفها عليها جميعاً. وبالتالي لا بد من اجراء عملية الضرب بين المراجعات ليتحدد من خلالها القيمة النهائية لصدق النسبة الأولية (1\2). وبالضرب تتنازل القيمة إلى ما يقارب الصفر، أو ان تصديقنا بتلك النسبة (1\2) يصبح صفراً عند اللانهاية من المراجعات. الأمر الذي نقطع فيه بخطأ هذه النسبة تماماً، وليس بوسعنا ان نضع أي نسبة أخرى بديلة، بإعتبارها ستلقى المصير ذاته، مما يعني ان العملية الإستقرائية تفشل في أن تؤدي دورها لتحديد أي قيمة إحتمالية.

وللايضاح أكثر، لو فرضنا ان قيمة إحتمال وفاة الانجليزي في سن الستين هي (80%)، وان بالمراجعة تبين لنا ان نسبة الخطأ في تحديد ذلك التقدير كانت كبيرة جداً، ولنفترض أن هذه النسبة في المراجعة الأولى كانت (99%)، أي ان إحتمالنا لوفاة الانجليزي بـ (80%) هو إحتمال في غاية الضآلة، وقيمته (1%). فهل يعقل ان نعتبر قيمة إحتمال الوفاة تظل ثابتة لا تزول بحجة اننا نجهل إن كانت المراجعة لصالح الرفع أو الخفض؟ إذ لو فعلنا ذلك لكنا على شبه يقين بأننا على خطأ. بل لو تبين لنا بالمراجعة أننا متيقنون بالخطأ (100%)؛ فهل يعقل ان نظل متمسكين بتلك القيمة من الإحتمال للوفاة، وبنفس الحجة من اننا لم نعرف إن كان الخطأ لصالح عملية الرفع أو الخفض؟!

الإستقراء وحد التردد

كما علمنا أن حد التردد والتكرار لدى الوضعية يتوقف على قدر ما نقوم به من احصاء، وبالتالي فهو مؤقت وقابل للتغيير. لكن ما الذي يؤكد لنا هذه الفكرة وما هو مصدر الإعتقاد بها؟ صحيح ان ريشنباخ لا يصادر هذه الفكرة، وبالتالي فهو يعتبر انه لو كانت صادقة لأمكن الإستقراء ان يدلنا عليها26. لكن ما يلاحظ انه ليس لدى ريشنباخ دليل على ما استنتجه سوى العادة المستمدة من الإستقراءات السابقة، وبهذا نعود مرة أخرى إلى التفسير النفسي دون ان نملك مبرراً منطقياً ينقذنا من المصادرة على المطلوب، فاننا لم نفعل شيئاً سوى ان جعلنا أساس الدليل على القضية الإستقرائية مستلهماً من الإستقراءات السابقة.

وهناك نقد آخر، وهو ما الذي يجعلنا نثق في اكتشاف الحد حتى مع فرض وجوده، إذ ليس كل ما هو موجود قابل للاكتشاف بالضرورة. وهنا لا تصح القاعدة الاصولية التي يقرها مناطقة الفقه: (لو كان لبان). بل على العكس يصح القول: (الوجود لا يدل على الوجدان)، وذلك على شاكلة القاعدة الصحيحة: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود). هكذا تصبح نظرية ريشنباخ مركبة على فرضين محتملين ومصادرين سلفاً، هما فرض الوجود والاكتشاف. يضاف إلى ان نظرية ريشنباخ لا تتقوم إلا بإفتراض نوع من الإحتمال القبلي ليتحدد به الإحتمال الخاص بالحد.

كذلك فهناك من الغربيين من نقد ريشنباخ وسالمون حول قاعدة حد التردد والتكرار، وهو انه إذا كان يمكن للقاعدة ان تطبق على التنبؤات في السلسلة الطويلة فإنه لا يمكن فعل الشيء نفسه في السلسلة القصيرة المعول عليها في المجالات العلمية والحياتية. فمثلاً ان سالمون إعتبر انه إذا كان هناك قانون طبيعي مثل القول بأن (50%) من ذرات (الكاربون 14) تتحلل خلال مدة (5600 سنة)، فإن ذلك القانون سوف لا يكون بصدد أي عدد محدد من ذرات الكاربون التي يمكن أن تتحلل، وإنما هو بصدد التكرار الحدي في السلسلة الطويلة. والحال ان هذا الذي ذكره سالمون لا يتناسب مع التعامل العلمي والحياتي في الكثير من القضايا التي تخص المسائل المحدودة أو ذات السلسلة القصيرة27. وقد نُقد ريشنباخ على ذلك، بل واتهم بأنه يقيد الكشوفات التنبؤية ضمن السلاسل الطويلة أو الكبيرة، كالذي ذهب إليه الاستاذان لينز وكاتز28. وكان البعض قد استخدم عبارة كينز في نقد ريشنباخ، والتي تقول: ‹‹نحن خلال السلسلة من الجري الطويل نكون قد متنا جميعاً››29. مع ان ريشنباخ لا يمانع من تطبيق قاعدته الإحتمالية على القضايا الفردية والمحدودة، مثل تقدير إحتمال كيفية ما سيكون عليه الطقس ليوم غد، معتبراً ذلك من الإحتمالات التقريبية، لكنه رغم ذلك واجه نقداً حتى من رفاقه المنظرين لنظرية الحد التكراري الذين رفضوا الحديث عن الحالات الفردية والتقريبية، معتبرين اياها بأنها صياغات بلا معنى30. يضاف إلى ان قاعدته الإستقرائية ينافسها عدد غير محدد من القواعد الإستقرائية التي تتجه باتجاه حد التردد والتكرار، وقد لاقى مشكلة في تبرير ترجيحها على غيرها، واعتمد على مبدأ البساطة في الترجيح، معتبراً قاعدته مستقيمة بخلاف غيرها التي أطلق عليها القواعد الملتوية31.

مع القضايا التحليلية

تنقسم القضايا التحليلية لدى الوضعية إلى قضايا منطقية واخرى رياضية، بإعتبارها تمتاز بطبيعة تكرارية خالية من المضمون الواقعي للمعرفة، مما يجعلها يقينة وضرورية32.

ولو رمزنا إلى القضية التحليلية بـ (ح)، والتكرارية بـ (ت)، والضرورية بـ (ض)، واللااخبارية بـ (لا)؛ فإن تعبير المذهب الوضعي عن تلك العلاقات يصبح كما يلي:

ح = ت = ض = لا

لكن يلاحظ ان المساواة التامة بين هذه القضايا ليس سليماً. صحيح ان القضية التحليلية إذا سلمنا كونها تكرارية - إذ المحمول فيها منتزع عن الموضوع - لا بد أن تكون ضرورية، لكن هذا لا يعني ان القضية الضرورية لا تخبر عن الواقع بشيء، كما لا يعني انه يتحتم عليها ان تكون تكرارية على الدوام، فضلاً عن أن القضية اللااخبارية هي ليست دائماً تكرارية. ولأجل تبيان هذه الأمور علينا ان نتبع ما يلي:

1ـ هناك من المبادئ ما لها طبيعة اخبارية وتتصف بالضرورة كما هو الحال مع مبدأ السببية القائل بأن لكل حادثة لا بد من سبب، وان الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن أن يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت، فإن الضرورة التي تتضمنها مثل هذه القضايا ليست منطقية كما عليه القضايا التحليلية.

ومن الواضح ان اعتراض الوضعية على القضايا الضرورية وإعتبارها ليست إخبارية، هو لكونها غير قابلة للتكذيب بأي شكل من الاشكال، أو انها تكون صادقة مهما كان عليه الواقع الموضوعي، وبالتالي فإنها بهذا لا تقدم معرفة جديدة ولا أنها تقبل التكذيب. لكن يلاحظ ان هناك فرقاً بين القضايا التي تتصف بعدم التكذيب منطقياً، وبين القضايا التي تتحدانا في أن نجد شاهداً يكذبها، ونحن نعتبر ان مثل هذه القضايا تتصف بالجدة والاخبارية وانها ليست عديمة الفائدة كتلك التي لا تقبل التكذيب بالمعنى المنطقي. فكل ما في الأمر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يكون هناك ما يعد شاهداً على تكذيبها، والأمر يقبل التحقيق لمن يجد شكاً يراوده، خلافاً للقضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا التحقيق والشك، وبالتالي فإن الضرورة فيها تتصف باللااخبارية من دون شك. فالفارق بين الصنفين من القضايا هو ان الصنف الأول يتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيه هي لابدية تحدّية، في حين أن الضرورة في الصنف الآخر هي ضرورة منطقية، وأن اللابدية فيه لا تقبل التحدي مطلقاً.

لهذا فإن من صفة القضايا الاخبارية الضرورية هي ان مخالفتها لا تفضي إلى التناقض. ويصدق هذا الأمر حتى مع مبدأ عدم التناقض الوجودي، فمن يعتقد بأن حوادث الوجود ينتابها التناقض لا يمكن أن يدان بأن قراره هذا يفضي في حد ذاته إلى التناقض، بخلاف ما لو إعتبر التناقض شاملاً للفكر والمعرفة، أو انه يصيب القضايا ذاتها وليس الحوادث فحسب، إذ ان ذلك يفضي في حد ذاته إلى التناقض، وبه تستحيل المعرفة. أو يقال ان هذا الحكم لا يصح ما لم يشترط التسليم - على الأقل - بمبدأ عدم التناقض، كي لا يتناقض الحكم مع ذاته، وعندها يثبت هذا المبدأ، وإلا تستحيل المعرفة بتسلسل التناقضات.

مع هذا قد يعترض البعض على كلامنا السابق حول صفة القضايا الاخبارية الضرورية، إذ كيف يمكن أن نختبر مثل هذه القضايا، فمثلاً بخصوص السببية العامة، انه حتى لو لم تظهر لنا الاسباب فإن عقولنا تفترضها موجودة، وهذا الأمر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. واكبر شاهد على ذلك حركة الإلكترون العشوائية في العالم الجسيمي. إذ قد يقال ان لهذه الظاهرة اسبابها المجهولة، مع انه يقال أيضاً ان هذه الحركة تجري من غير اسباب. وهكذا يمكن أن يُكرر هذا القول مع أي ظاهرة لم تتكشف لنا اسبابها.

لكن يجاب على ذلك ان من خلال عملية الفحص الإستقرائي والاحصائي يتوضح أكثر فاكثر ان للظواهر اسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وان ذلك يضعف من إحتمال عدم خضوع سائر الظواهر (المعاندة) - وهي قليلة بطبيعة الحال - لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وإمكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، إلا انه يبرر إعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.

2ـ من المعلوم انه في الضرورة الوجدانية لو كان هناك شاهد واحد يعارضها، لانتفت هذه الضرورة، لكن المشكلة هي كيف نثبت وجود الشاهد المعارض؟ فمثلاً كيف نأتي بشاهد يعارض مبدأ السببية العامة؟ فحتى لو اعتمدنا على وجهة النظر التجريبي، فاننا لا نجد ما يقطع بوجود شاهد معارض، فعدم وجدان السبب الذي قد يؤثر في الظاهرة لا يدل على نفيه تماماً، فكيف والعقل يشهد بالميل الغريزي والوجداني على تلك الضرورة التي يتضمنها المبدأ؟!

فمثلاً على الرغم من عدم تمكن مبدأ هايزنبرغ الفيزيائي في اللايقين من تحديد الاسباب التي تؤثر في ظواهر الجسيمات الذرية، كحركة الإلكترون العشوائية، فإنه مع ذلك غير قادر على نفي مطلق الاسباب، خلافاً لما ظنه ريشنباخ من أن العالم الجسيمي لا يخضع لحكم تلك السببية.

نعم ان نظرية الكوانتم قد سمحت بظهور الطاقة من لا شيء طالما انها تختفي في لمح البصر33، كما وزعمت بأن الفراغ ممتلئ بخلق الجسيمات التقديرية، حيث تقدر هذه الجسيمات بانها تموج هائجة وتنبثق لحظياً إلى الوجود ثم يلاشي بعضها بعضاً، فعلى المستويات المجهرية ان الكون ساحة مزدحمة مضطربة ومشوشة، حتى قال الفيزيائي المعروف فينمان ساخراً: ‹‹نشوء وتلاش ثم نشوء وتلاش، أي مضيعة للوقت››34. وبالتالي افترض الفيزيائيون ان للفراغ قابلية ذاتية على التخليق والفناء من لا شيء، على شاكلة ما يحصل للعناصر المشعة من تحلل دون سبب خارجي أو قبلي. لكن مع هذا يُعتقد اليوم ان الفضاء الخالي ممتلئ بطاقة عظيمة تدعى الطاقة الداكنة وهي تشكل ما يقارب ثلاثة ارباع ما موجود في الكون، وهي المسؤولة عن خلق الجسيمات التقديرية، رغم أن التصور السابق كان يفترض بأن الفراغ يعمل على خلقها وافنائها تلقائياً من دون سبب خارجي. فالفراغ متفجر بالطاقة وممتلئ بمثل هذه الجسيمات التي لا تدوم إلا للحظات ضئيلة للغاية، فهي تمر مروراً عابراً من دون ان تشاهد، فكل ما يمكن مشاهدته ورصده هو آثارها، لذلك فهي لا تعلم إن كانت موجودة حقاً أم لا؟ وبالتالي يُطلق عليها التقديرية، وأحياناً الوهمية35.

عموماً انه حتى لو احتملنا خطأ مبدأ السببية، فإن غريزة العقل لا يسعها ان تتخلى عنه خلافاً لتعاملها مع غيره من المعارف، كقبولها جواز قابلية النار لعدم الاحراق، أو بقاء الحياة عند جز الرقبة، إلى غير ذلك مما لم يحظ بالفتنا. فحتى لو لم تدرك أسباب الظاهرة كلياً، كان من السهل على تلك الغريزة أن تنسب الأمر إلى وجود أسباب خفية، كقضية ممكنة لا دليل على نفيها. وبالتالي فإن هذا المبدأ يختلف عن غيره من المعارف المتعلقة بارتباطات الطبيعة.

وقد يقال استناداً إلى هيوم ان الميل الغريزي ازاء مبدأ السببية ناتج عن الاحساسات الإنطباعية المكثفة تبعاً لسعة وشمولية اضطراد هذا المبدأ مقارنة بأي ظاهرة أخرى، الأمر الذي يجعل تأثيره النفسي أقوى من غيره، وهو ما يفسر ذلك الميل. وبالفعل لولا وجود بعض الظواهر التي لها عمومية مثلما هي للسببية، لكان من الصعب أن نجد ما يمكن أن ندفع به التبرير السابق. فظاهرة الحركة هي من الظواهر العامة التي لا تخلو منها أي علاقة طبيعية في الواقع، ومع هذا فإنها ليست مما تتضمن حكم الضرورة الوجداني. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على نفي ان يكون الحكم الوجداني للمبدأ المذكور مكتسباً، وبالتالي فله أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.

3ـ كما ان من القضايا الضرورية ما تتصف بكونها غير تكرارية ولا إخبارية، مثلما هو الحال مع قسم الرياضيات التطبيقية أو الهندسية التي طوتها الوضعية ضمن القضايا التحليلية رغم ما تتصف به من حالة تركيبية بالنسبة لعلاقة المحمول بالموضوع.

فمثلاً يقول الدكتور زكي نجيب محمود: ‹‹ضمن تعريف المثلث في هندسة اقليدس بأنه سطح مستو محاط بثلاثة خطوط مستقيمة، تترتب نتيجة خاصة بمقدار زواياه، وهي أن تلك الزوايا تساوي مائة وثمانون درجة، وقد تظن أن هذه النتيجة علم جديد لم يكن في التعريف، وهو علم يزودنا بخبر عن المثلث المرسوم في الطبيعة الخارجية، ولو كان الأمر كذلك لصح قول القائلين: القضية الرياضية قبلية واخبارية في أن معاً، لكن حقيقة الموقف غير ذلك››36.

ويقول ريشنباخ: ان ‹‹القضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة (اذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة). غير أن علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الإستنباطي. وعلى ذلك فإن هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة إلى قضايا تركيبية إلا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حده. وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيراً بواسطة تعريفات احداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقاً يصف العالم الفيزيائي. غير أنها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة، إذ ان الهندسة إما ان تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما ان تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية››37.

والملاحظ من النصين السابقين ان سبب جعل الرياضيات التطبيقية ضمن القضايا التحليلية؛ إما لكونها لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي كما في النص الأول، أو لكون اتصافها بالضرورة واللزوم كما في النص الثاني، ومع هذا لم توضح الكيفية التي تكون فيها هذه القضايا تكرارية. وهي مصادرة لسنا مضطرين اليها، إذ من الواضح ان هناك أضاف ة جديدة للنتيجة، رغم أنها لا تتحدث ولا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي. فمثلاً ان المحمول الذي يحدد لنا درجة زوايا المثلث لا يمكن إعتباره منتزعاً من نفس حقيقة السطح المستوي المحاط بالخطوط الثلاثة المستقيمة، فهو على خلاف ما يحصل مع حالة انتزاع معنى غير المتزوج من الأعزب، ومثل ذلك انتزاع النتيجة في الرياضيات الحسابية من مقدماتها - كانتزاع معنى العدد (2) من العدد المكرر لـ (1) -، بدلالة ان الدرجة المحددة بمائة وثمانين ليس لها خصوصية بزوايا المثلث. فدرجة السطح المستوي من غير مثلث ولا اضلاع هي ذات هذه القيمة، كما قد يكون السطح المنحني بنفس تلك الدرجة رغم أنه لا يعد مثلثاً. وبالتالي فالقيمة السابقة ليست منتزعة من المعنى الحاصل للمثلث أو مفهوم الاضلاع الثلاثة. مما يعني انها قضايا ضرورية تركيبية، وإن كانت غير اخبارية.

وعلى العموم لا يمكن أن تكون علاقات القضايا القبلية متساوية فيما بينها، بل فيها من الاختلاف ما يمكن توضيحه بالشكل الرمزي التالي:

ض > لا > ت = ح

أي أن القضية الضرورية هي أعم وأكبر من القضية اللااخبارية، وهذه أعم وأكبر من التكرارية التي تعبّر عن نفس القضية التحليلية.

صفة المعنى في القضايا

تنقسم القضايا عند الوضعية إلى ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون تحليلية أو تركيبية أو قضايا ليس لها معنى. وتمتاز هذه الأخيرة بأنها تتحدث عن مواضيع خارجية يعجز الإستقراء والتجربة عن إثباتها أو نفيها. ولهذا تم وضع مبدأ ‹‹التحقق›› كي يميزها عن القضايا ذات المعنى المختصة بالواقع الفيزيقي، بإعتبارها تنفرد بصفتي الصدق والكذب.

وهناك من الوضعيين من أضاف إلى الوصفين السابقين - في القضايا ذات المعنى - صفة اللاتحدد. فمثلاً أن ريشنباخ لا يشترط أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، فهناك صفة اللاتحدد التي تبرر حالة ما إذا كنا نقوم بدراسة عالم آخر من موقع عالمنا الخاص، كما هو الحال مع دراسة عالم الجسيمات الدقيقة التي تمتاز بكونها مواضيع واقعية يمكن اخضاعها للبحث التجريبي38.

وقد واجهت الوضعية عدة اعتراضات حول تمييزها السابق، منها ما يخص مبدأ ‹‹التحقق››، حيث انه لا ينتمي إلى كل من القضايا التحليلية والتركيبية؛ مع انه معيار التمييز بين القضايا التي لها معنى وتلك التي ليس لها معنى، مما أثار الاتهام القائل: (ان الوضعية ترفض قضايا الميتافيزيق بمبدأ ميتافيزيقي)!

لهذا كانت هناك بعض المحاولات الرامية للخلاص من هذا المأزق. فمثلاً ان الاستاذ آير يعتبر ذلك المبدأ وضع كتعريف لا كتقرير تجريبي للواقع39. وشبيه به ما ذكره الاستاذ زكي نجيب محمود من أن هذه القضية ترجع إلى أحكام منطقية ذات مستوى اعلى من تلك التي يمكن أن تتصف بالصدق والكذب40.

وعلى هذه الشاكلة ان التقسيم الوارد للقضايا الثلاث يعتبر في حد ذاته من القضايا، لكنه لا يمكن أن يكون ضمن ذات القضايا المذكورة، وبالتالي فهو قضية رابعة، مما يجعل التقسيم واقعاً في تناقض. ومع ان مؤسس هذا التقسيم (فتجنشتاين) قد اعترف بأن ما أشاده من أفكار في كتابه (رسالة منطقية فلسفية) تخلو من المعنى طبقاً للمبدأ الذي بناه، لكنه استدرك وطلب من القارئ الذي يفهم كتابه: بأن عليه العمل بإلقاء السلّم جانباً بعد الصعود عليه، فعندها سيرى العالم على نحو صحيح. لكن الجواب الأكثر منطقية هو إعتبار قضية التقسيم تختلف عن طبيعة قضايا الأقسام الثلاثة، إذ تعود إلى منطق آخر استعلائي، لا يوصف بمثل تلك المواصفات، أو انه ليس بعرض أي منها ولا بطولها.

أما حول مبدأ التحقق فلا يُشك بأنه مستمد من الواقع عبر الخبرات والملاحظات الإستقرائية الماضية، فلولا هذه الخبرات ما كان بالإمكان ان تُعرف لهذا المبدأ فائدة تذكر، وحين يوضع للتحقيق في القضايا الواقعية فإنه لا يتناقض مع كونه تقريراً، ذلك ان له وظيفة علمية لتسهيل البحث في القضايا اللاحقة. ويصدق ذات الأمر على مبدأ اللاتحدد، فهو أيضاً جاء نتيجة المعرفة المستمدة من الواقع الموضوعي، وصيغ بالشكل الذي يناظر ما عليه مبدأ التحقيق.

وللوضعية ان تختار لنفسها ما تشاء في ترتيب أنماط القضايا؛ طالما لا يؤثر ذلك على مصادرة الموقف اتجاه غيرها من المذاهب. وقد حاول بعض الاساتذة الوضعيين ان يصل إلى هذا المدلول في توجيه تلك المدرسة، إذ إعتبرها منهجاً للنظر العلمي وليست مذهباً كسائر المذاهب الأخرى41. مع انه لو صدق هذا التوجيه لكان من الحق ان لا تتهم المذاهب الميتافيزيقية بأنها تبحث عن قضايا لا معنى لها، مما يدل على انها اتخذت اتجاهاً ينافس غيرها من الإتجاهات، أو انها نزعت نزعة مذهبية لا منهجية.

وعلى العموم فإن الاعتراضات التي تواجهها الوضعية بهذا الصدد يمكن أن تكون كالتالي:

1ـ هناك بعض الإدراكات المعرفية المباشرة التي لا تنتمي إلى قائمة القضايا التحليلية ولا الإستقرائية ولا الميتافيزيقية، كإدراكنا المباشر لوجودنا، ولو على نحو الإجمال. وهو إدراك يحكم عليه بنوع من الضرورة نطلق عليها الضرورة الحضورية التي تجعل التصديق به تصديقاً أولياً ولازماً دون ان يخضع إلى أي دليل مهما كان نوعه وشكله.

2ـ لو كان مبدأ التحقيق لا يتصف بالصدق والكذب كما يعلن بذلك بعض الوضعيين؛ لاقتضى ان يكون هناك قسم آخر يضاف إلى أقسام القضايا، مما يحتاج إلى عملية تفسير توضح منشأ معرفته وعلة عدم اتصافه بتلك الصفة.

3ـ لا يملك مبدأ التحقيق القابلية على التطبيق لكافة قضايا الواقع ذات المعنى، وهذا ما شعر به ريشنباخ فأضاف إليه مبدأ اللا تحدد ليتناول المسائل الخاصة بالعلم الجزيئي. لكن المسألة لم تنته بعد، إذ هناك قضايا أخرى يُعترف بأن لها معنى، وهي مع ذلك لا تخضع إلى إعتبارات كل من التحقيق واللا تحدد؛ كما هو الحال مع قضية وجود الواقع الموضوعي الذي يعجز الدليل الإستقرائي عن ترجيحه أو إثباته.

4ـ من المعلوم أنه عند الوضعية لا يشترط في القضية التي لها معنى أن ينالها مبدأ التحقيق مباشرة؛ كمعرفة أن النار حارة والشمس طالعة، إذ يمكنه التطبيق ولو لم يستمد من الخبرة مباشرة، وذلك بالاستناد إلى منطق الإحتمالات أو ما على شاكلته، من قبيل إعتبار المادة مؤلفة من ذرات أو جسيمات، والإعتقاد بوجود كائنات قد سبقت الإنسان، والتسليم بقانون الجاذبية في جميع العلاقات المادية... الخ42.

لكن الملاحظ أن هذه الصورة من التطبيقات غير المباشرة هي في حد ذاتها تتسق مع إثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كالمسألة الإلهية التي تفسر وجود النظام في الكون، فهي تخضع لنفس دواعي المنطق العلمي المستند إلى إعتبارات نظرية الإحتمال أو ما على شاكلتها، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة بأنه ناتج عن المصادفات العشوائية، أو نفسره بأنه نتاج عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الإحتمالي لا يُبقي للفرض الأول أي قيمة يعد لها الإعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الإحتمالية لصالح محور إثبات تلك القضية، حتى مع عدم إفتراض أي مصادرة قبلية ترفضها الوضعية في مجال بناء الدليل الإستقرائي.

***

يبقى أن نشير إلى أن الوضعية المنطقية قد استهدفت العزل الكلي للفلسفة عن العلم لدى تقسيمها لانواع القضايا. وهي مرحلة تاريخية صادفتها الفلسفة ومن ثم تجاوزتها كلياً..

فلعلاقة الفلسفة بالعلم مراحل تاريخية أربع كالتالي:

1ـ مرحلة الأمومة والحضانة: وهي أولى المراحل، إذ كانت الفلسفة ام العلوم، وهي التي تمثل مرحلة الفلسفة التقليدية ابتداءاً بالفلسفة اليونانية ومروراً بالفلسفة الرومانية والإسلامية حتى انتهت خلال القرن السابع عشر.

2ـ مرحلة الإنفصال النسبي: وهي المرحلة الثانية التي عبرت عن الإنفصال النسبي والتدريجي للعلوم الطبيعية عن الفلسفة الأم ابتداءاً من القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر. ويحضرنا أبرز تصريح حول هذه المرحلة ما ذكره نيوتن في كتابه (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) وهو قوله: ‹‹لم استطع حتى الآن ان اكتشف سبب خواص هذه الجاذبية من خلال الظواهر، وانا لا أضع فروضاً، لأن ما يستدل عليه من الظواهر يطلق عليه فرضاً، والفروض سواء كانت ميتافيزيقية أو فيزيائية، سواء لها خواص غامضة أو ميكانيكية، ليس لها موضع في الفلسفة التجريبية. ففي هذه الفلسفة يستدل على قضايا معينة من الظواهر، وبعد ذلك تعمم هذه القضايا بواسطة الإستقراء. تلك كانت الطريقة التي تم بها... كشف قوانين الحركة والجاذبية››43.

3ـ مرحلة الاقصاء الكلي: وهي المرحلة الثالثة التي عبرت عن الاقصاء الكلي للفلسفة عن العلوم جميعاً بما فيها العلوم الانسانية، كالتي دعا إليها عالمالاجتماعالفرنسياوجستكونت خلال القرن التاسع عشر، ومن ثم توجت لدىالوضعيةالمنطقية بداية القرن العشرين.

4ـ مرحلة الاختلاط: وهي المرحلة الرابعة والأخيرة التي تفشت لدى الفيزياء بقوة خلال القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وهي تعبر عن اختلاط العلم بالفلسفة كإتجاهمضادللمرحلةالسابقة، ففي ظل المرحلة الجديدة إعتبرتالفلسفةضروريةللعلمولايمكنالتخليعنها. فالعلمقائمعلى الأسس الفلسفيةالميتافيزيقيةوعلىرأسهامبدأالسببية، وبدون الأخيرةفانالعلميتلاشى دون ان تقوم لهقائمة، كالذي يراه الكثير من العلماء وفلاسفة العلم. واليومنشهداختلاطاً عظيماً بين الفيزياء والفلسفة44، خلافاً للتوجه الوضعي الذي ساد خلال المرحلة الثالثة من المراحل التاريخية لعلاقة الفلسفة بالعلم.

 

1 يختلف مذهب كانت عن غيره من المذاهب هو انه يعد الأحكام الرياضية بجميع اشكالها من القضايا التركيبية لا التحليلية (كانت: نقد العقل المجرد، ترجمة احمد الشيباني، دار اليقظة العربية، بيروت، ص214 و957).

2 نشأة الفلسفة العلمية، ص45ـ46.

3 المصدر السابق، ص53.

4انظر:

Henry E. Jr. Kyburg, Probability and Inductive, Printed in the U.S.A, 1970, p.84ـ85.

5انظر:

S. F. Barker, Induction and Hypothesis, Cornell University Press, First Published 1975, Third Printing 1967, New York, p.87ـ89. .

6انظر:

Bertrand Russell, ‘On Induction’, in: The Justification of Induction, ed. by Swinburne, Oxford University Press, 1974, p.24.

7 Ibid; p.21ـ22.

8انظر:

Bertrand Russell, ‘NonـDemonstrative Inference and Induction’, in: Madden; p.322ـ323. See also: Paul Edwards, ‘Russells Doubts About Induction’ in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, p. 41.

9 Russell; 1974; p. 24.

10انظر:

Russell, B. Human Knowledge, London, 1948, p.328-329.

11 Russell, B, 1948, p. 34.

12 عزمي إسلام: لوفيج فتجنشتين، سلسلة نوابغ الفكر الغربي (19)، ص305.

13المصدر السابق، ص305.

14نشأة الفلسفة العلمية، ص88 و212.

15نشأة الفلسفة العلمية، ص206ـ207.

16 نشأة الفلسفة العلمية، ص212.

17 المصدر السابق، ص215. وانظر كذلك:

Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.299.

18انظر:

S. Charles Peirce, ‘Induction as Experimental and SelfـCorrective’, in: Madden; p.297.

19انظر:

R. B. Braithwaite, ‘The Predictionist Justification of Induction’, in: Swinburne, Introduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.102.

20انظر:

Madden, Introduction; The Riddle of Induction, p.289ـ290.

21انظر:

C. Wesley, Salmon, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.86.

22 نشأة الفلسفة العلمية، ص215. انظر كذلك:

Katz; p.59. .

23كارل بوبر: منطق البحث العلمي، ترجمة وتقديم محمد البغدادي، المنظمة العربية للترجمة، بدعم من مؤسسة الفكر العربي، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العاشرة.

24انظر:

Madden, ‘Introduction; The Riddle of Induction’, p.320. See also: Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.301.

25 الأسس المنطقية للإستقراء، ص502.

26 نشأة الفلسفة العلمية، ص215.

27انظر:

Salmon, ‘The Concept of Inductive Evidence’, in: Swinburne; p.14ـ15.

28انظر:

Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.300. And: Katz; p.61ـ62.

29 Katz; p.53.

30 Kyburg; 1970; p.48ـ49.

31انظر:

Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.98ـ99.

32نشأة الفلسفة العلمية، ص196.

33بول ديفيز وجون جربين: اسطورة المادة، ترجمة علي يوسف علي، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص125، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

34برايان غرين: الكون الأنيق: الأوتار الفائقة والأبعاد الدفينة والبحث عن النظرية النهائية، ترجمة فتح الله الشيخ، مراجعة أحمد عبد الله السماحي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص142، عن الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

35 اسطورة المادة، ص142 و24.

36 زكي نجيب محمود: نحو فلسفة علمية، ص176.

37 نشأة الفلسفة العلمية، ص128ـ129.

38نشأة الفلسفة العلمية، ص227.

39 لوفيج فتجنشتين، ص358.

40 من زاوية فلسفية، ص54ـ65.

41 زكي نجيب محمود: قصة عقل، ص94.

42 نشأة الفلسفة العلمية، ص226.

43 دونالد جيليز: فلسفة العلم في القرن العشرين، ترجمة ودراسة حسين علي، مراجعة أمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2009م، ص211، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

44 انظر بهذا الصدد الفصل الثالث من: منهج العلم والفهم الديني: العبور من العلم إلى الفهم ومن الفهم إلى العلم.

comments powered by Disqus