-
ع
+

فلسفة الشر ونظرية عجز المادة الأصلية

يحيى محمد

هل الله قادر على ازالة الشر؟

نعم.. لا.. نعم ولا!!

ترد نظريتان متنافستان حول فلسفة الشر، إحداهما ترى ان ما يحصل من شرور يعود الى حتميات الوجود، فالشر وارد لا محالة تبعاً لمقتضيات الحركة الوجودية، وكان الفلاسفة القدماء هم أول من أشار الى هذه الناحية تبعاً لتنزلات مراتب العلة والمعلول ومن ثم تناقص مراتب الوجود مقارنة بالمراتب العليا التامة، فالكل يغترف بقدر وعائه من بحر الوجود الفيّاض. والشر لديهم هو عدم وجود نسبي، او هو نقص في الوجود كما يلاحظ لدى مراتبه الدنيا او العالم الطبيعي الجسمي. وهو ما يعني حتمية وجود الشر، ويصدق عليه قاعدة (ليس بالإمكان أبدع مما كان)[1]. ولا تختلف النظريات الحتمية الحديثة من حيث المبدأ عن هذه الصورة المجملة. فطالما كانت علاقات الوجود حتمية فالشر وارد لا مفرّ منه، سواء ارتكزنا على اصول ميتافيزيقية، او اصول مادية صرفة.

أما النظرية الثانية فتعود الى الرؤية الدينية التي تعتبر الشرور هي من فعل الله ومشيئته لغرض البلاء واختبار العباد في الدنيا، كالذي تشير اليه الكثير من النصوص القرآنية، وعليه نشأت فلسفة التكليف باعتباره مناطاً باختبار العباد، بما يتضمن من اركان؛ كركن النبوة والرسالة للتبليغ والقاء الحجة، وركن يوم الحساب المتمثل في الثواب والعقاب[2]

في قبال ما سبق نقدّم اطروحة جديدة نعبّر عنها بنظرية (عجز المادة الأصلية). وهي ترى بأن ظواهر العالم وحوادثه مدينة في وجودها إلى القدرة الإلهية الشاملة، مع افتراض عدم خلق المادة المشتركة أو الأصلية للكون. فرغم أن قدرة الله هي أساس وجود العالم بمظاهره المختلفة، لكنها – في الوقت ذاته – لا تمثل علة لوجود هذه المادة.

ولا نقصد بالمادة - هنا - المعنى الفلسفي المتمثل بالهيولى، فالأخيرة هي مجرد قوة من دون وجود فعلي، ولا بالمادة بحسب التعريف العلمي لها، وبالتالي فما نقصده هو ابسط مشترك وجودي في الكون وان لم يكتشف علمياً بعد، فقد يكون عبارة عن نفس الطاقة، كما قد يكون هو أساس المادة والطاقة معاً، فحيث ان إحداهما تتحول إلى الأخرى، فقد يكون المشترك بينهما شيء ثالث يجعلهما يتحولان إلى بعضهما البعض، مثل التحول المائي إلى حالاته الثلاث الصلبة والسائلة والغازية، فكل حالة لا تعتبر أساس غيرها، بل ان وجود هذه الحالات مدين إلى شيء اخر هو الاصل في وجودها، وهو الشيء المعبر عنه بجزيئة الماء (H2O). وهي الجزيئة المختلفة كلياً عن الحالات الثلاث الناتجة عنها.

فعلى ضوء هذه النظرية ان بالامكان تفسير علة وجود الشر، ومثل ذلك علة تطور العالم واستحالة ان يتحقق الخلق دفعة واحدة. فكل ذلك يعود إلى طبيعة المادة الأصلية التي يُجرى عليها التخليق والتطوير ضمن حدود ما تسمح به. فرغم ان قدرة الخالق وإرادته حقيقية غير مجازية – أي خلاف ما يعوّل عليه نظام الفلسفة والعرفان-، لكنها لا تتعدى طبيعة المادة التي تتشكل منها مظاهر الكون والحياة والتطور.

ومن حيث المبدأ لا بد من تكامل العلاقة بين قدرة الفاعل وقابلية المفعول. فأي نقص أو خلل في أحدهما سوف يفضي إلى عدم اعطاء النتائج المطلوبة.

وتعتمد قابلية المفعول على كل من وجود المادة وكفايتها ومناسبتها، إضافة إلى اتخاذها شكلاً محدداً من الترتيب والنظام. وباختصار انها تعتمد على أمرين: أحدهما توفر المادة المناسبة من دون نقص. والثاني أن تتخذ هذه المادة نوعاً منضبطاً من الترتيب المحدد.

وبالتالي فثمة ثلاثة عناصر تتكامل في الصنع والخلق، وهي كالتالي:

1ـ قدرة الفاعل.

2ـ المادة المناسبة بتمامها.

3ـ ترتيب المادة وتنظيمها وفق أشكال محددة دون غيرها.

ويعتبر تكامل هذه العناصر ضرورياً في الصنع والخلق، وبدون اجتماعها لا تسفر النتائج عن شيء. فلو لم تتوفر قدرة الفاعل لما كان لقابلية المادة ان تنتج شيئاً مطلوباً. كما لو توفرت هذه القدرة، لكن من دون مادة تامة ومناسبة، لما تمكّن القادر على فعل شيء. كذلك فيما لو توفرت قدرة الفاعل مع وجود المادة المناسبة بتمامها، فذلك لا يكفي دون ان يجري الفاعل خطواته ضمن ترتيب محدد للمادة وفقاً لقابليتها.

وللتمثيل على ذلك، نفترض ان لدينا المادة المناسبة لصناعة الطائرات، لكن من دون وجود فاعل قادر على تشكيلها. وواضح ان النقص هنا عائد إلى غياب الفاعل القادر لا المادة. كذلك الحال فيما لو توفرت هذه القدرة، لكن من دون مادة مناسبة بتمامها، مثل أن ندعو مهندساً بارعاً في صناعة الطائرات لانتاج واحدة من دون ان نقدّم له شيئاً غير الحجر والطين. فواضح ان هذه الاستحالة غير معنية بقدرة المهندس وبراعته في الصناعة المذكورة، بل لها علاقة بقصور المادة الخام المعطاة له.

وقد تحصل الاستحالة لعدم الترتيب والضبط الدقيق بين عناصر المادة المناسبة. فصناعة الطائرة - كما في مثالنا السابق - لا تعتمد على قدرة المهندس والمواد الأولية المناسبة لصناعتها فقط، بل لا بد من ان تتخذ هذه المواد بعض الأشكال من الترتيب والتنظيم دون غيرها لتتم الصناعة بنجاح.

وهذا ما نقصده بعجز المادة الأصلية، سواء في الحالة الأخيرة أو ما قبلها. فثمة استحالة ذاتية لكل ما يتجاوز طبيعة هذه المادة، مثلما هناك استحالة ذاتية تتعلق بخلقها من العدم المحض.

لذلك - وكما ذكرنا - لا بد من توفر ثلاثة عناصر لإتمام الخلق والصناعة بنجاح، أحدها يعود الى قدرة الخالق أو الصانع، أما البقية فتعود إلى قابلية المفعول أو المادة ذاتها.

والحال هنا اشبه بالأعيان الثابتة أو الماهيات التي يتحدث عنها العرفاء، فكل ما نراه من نقص وشرور واختلاف انما يعود إلى هذه الأعيان، وليس للمبدأ الحق إلا افاضة الوجود عليها، فلسان حالها طلب الخروج من الظلمة والعدم؛ فيجود عليها بقدر قابلياتها؛ لاستحالة العطاء أكثر من القابلية.

ويرد لدينا بهذا الصدد أنواع عديدة للاستحالة، ومن ضمنها ما اشرنا اليه، وفي قبالها أنواع الامكانات، وذلك كالتالي:

1ـ الاستحالة المنطقية: وهي التي تستند إلى مبدأ عدم التناقض، فكل قضية تتضارب مع هذا المبدأ تعتبر مستحيلة منطقياً، فمثلاً ان الجمع الحاصل بين الواحد وآخر مثله لا يعطينا أكثر من اثنين، مهما كانت القدرة العقلية متوفرة، كالقدرة الإلهية، والا وقعنا في الاستحالة المنطقية وتجويز التناقض.

2ـ الاستحالة العقلية: وهي قضايا تختلف عن الاستحالة المنطقية باعتبارها لا تتناقض مع مبدأ عدم التناقض، لكنها مع ذلك تعتبر من المستحيلات التي لا يصدقها العقل أساساً، مثل تولد الأشياء من العدم المحض أو بدون سبب أصلاً، ومثل ان تكون لله قدرة على افناء ذاته..

3ـ الاستحالة الواقعية: وهي قضايا وان كانت ليست من الاستحالة العقلية لكنها مستحيلة ايضاً بحكم النظر إلى واقع الشيء. مثل ان يتمكن الانسان من السفر في ارجاء الكون كله، وهو بهذه الصورة الجسمية. أو مثل ان يعيش في الماء من دون وسائل مساعدة، أو مثل ان يبقى حياً من دون رأس..

4ـ الاستحالة النسبية: وهي قضايا تتعلق بالامكانات الواقعية التي لم يتح لحد الآن تحقيقها لاستحالة ذلك طبقاً للوسائل المتاحة، مثل سفر الانسان خارج المنظومة الشمسية.. ومثل القدرة على علاج جميع الأمراض البشرية..

5ـ الاستحالة المفترضة: وهي قضايا لا تمتلك وضوحاً قطعياً حول استحالتها، بخلاف القضايا السابقة، لذلك تخضع للنقاش إن كانت تتضمن الاستحالة أم لا؟ كتلك المتعلقة بقضيتنا المطروحة. وكنموذج عليها الخلاف الحاصل بين الفلاسفة القدماء والمتكلمين حول خرق السببية الطبيعية. ففي احتراق القطن بالنار مثلاً؛ يقول الفلاسفة إنه لو حصلت شروط الإحراق المادية كاملة لتحقق الإحتراق بدون توقف ولا تخلف. بينما يقول مخالفوهم، كالمتكلمين، إنه من الجائز أن لا يحصل الاحتراق حتى مع وجود كامل الشروط المادية، إذ يتوقف الأمر على الإرادة الإلهية بوصفها مختارة، لا بوصفها واقعة تحت أسر الضرورة العلية.

ومن حيث التحليل يعود الخلاف الأخير إلى الخلاف المتعلق حول خلق المادة الأصلية المشتركة. كما يعود اليه الخلاف المرهون حول امكانية خلق الكون والحياة إلى آخر غايتهما من دون تطور، بل دفعة واحدة، ومثل ذلك ازالة الشرور ابتداءاً مع حصول الغرض من الخلق.

فهذه المسائل بعضها يرتبط بالبعض الآخر، والأساس فيها هو الخلاف المتعلق بحقيقة المادة الأصلية ان كانت مخلوقة أم لا؟

ولسنا نتحدث – هنا - عن أزلية حدوث العالم أو ابتدائه، وانما نتحدث عن المادة الأصلية فحسب، فخلق هذه المادة أو عدم خلقها لا يمنع كلا الفرضين السابقين. إذ بضرب الفروض مع بعضها ينتج لدينا أربعة لا غير، وكل واحد منها قائم في حد ذاته بغض النظر عن ترجيح بعضها على حساب البعض الاخر. فالترجيح لا يمنع الفرض.. وهي كالتالي:

1ـ المادة الأصلية مخلوقة مع أزلية الحدوث.

2ـ المادة الأصلية مخلوقة مع ابتداء الحدوث.

3ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع أزلية الحدوث.

4ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع ابتداء الحدوث.

ونظرة دقيقة لهذه الفروض تجعلنا ندرك بأن الثلاثة الاولى منها معقولة بغض النظر عن مدى ترجيحنا القبلي لبعضها على البعض الآخر. ويبقى الفرض الأخير، فقد يوحي بأنه غير متسق، فهو يعني ان المادة موجودة ومعطلة إلى حين ابتداء خلق العالم. لكن هذا الحال يصدق على مجمل خلقه ابتداء، فهو يعني التعطيل الإلهي إلى حين بدء هذا الخلق؛ بغض النظر ان كانت المادة مخلوقة أو مستقلة غير مخلوقة، طالما افترضنا وجود القدرة التامة على ايجاد العالم.

وكما قلنا يترتب على قضية المادة الأصلية الخلاف المتعلق حول طبيعة القوانين الكونية والتطور ومشكلة الشر الوجودي. فلو كانت المادة غير مخلوقة لكان كل ما ذكرناه من طبيعة الخلق والتطور ومشكلة الشر؛ لا علاقة له بالقدرة الإلهية بقدر ما له علاقة بامكانات المادة الأصلية غير المخلوقة، ولكان حال الاستحالة في تجاوز امكانات هذه المادة كحال الاستحالة المنطقية، وهي انها ليست نابعة عن عجز القدرة الإلهية، بل متعلقة بقصور المادة وضعف امكاناتها.

فالتطور الكوني وطبيعة القوانين ومشكلة الشر كلها مناطة بالمادة المشتركة. فلو ان هذه المادة مخلوقة لما كانت هناك استحالة تتعلق بالخلق دفعة واحدة من دون تدرج وتطور، ومثل ذلك فإنه لا توجد هناك استحالة تتعلق بازالة الشر ابتداءاً. بل على هذا الافتراض تصبح القوانين الطبيعية معتمدة كلياً على الإرادة الإلهية المطلقة كما يراهن على ذلك المتكلمون من أمثال الأشاعرة وغيرهم.

ولهذه العلة لا يمكن ان يتحقق ما افترضه الخيّام كما نسب اليه قوله: ‹‹لو كانت لي سلطة على الكون مثل الله لأفنيت هذا الكون من جذوره ولخلقت كوناً جديداً يصل فيه كل شيء وبحرية تامة إلى مرامه››[1].

أما لو كانت المادة غير مخلوقة، فسيعني ذلك انها الشيء الذي يجري عليه الخلق والتكوين ضمن الحد الذي تسمح به طبيعتها، ومن ذلك ما تسمح به بعض قوانينها الطبيعية في الشرط المادي للتغير السببي، كالذي جاء في مثال احتراق القطن. كذلك كان لا بد من التدرج والتطور، ويصبح وجود الشر ضرورياَ خلال هذه العملية رغم عرضيته القابلة للزوال عند الاكتمال الوجودي. فالشر مرتهن بعملية التطور الموجهة، مثلما ان زواله خاضع لها حتى التكامل. وتشهد على ذلك التطورات غير المنقطعة للواقع الكوني والحياتي والعقلي، بل والاجتماعي ايضاً، فنحن البشر نخضع – بقدراتنا وإراداتنا - ضمن المشيئة الإلهية للتطور الخلاق باتجاه الاصلح. وأبلغ ما يدل على التوجه التكاملي ما يفيده المبدأ الانساني أو الانثروبي (Anthropic Principle‏) كالذي عبّر عنه الفيزيائي كارتر خلال الستينات من القرن العشرين، أي قبل أن يُحوّر إلى نظرية التعدد الكوني كملاذ للتهرب من فكرة الضبط الدقيق للتصميم الإلهي[2].

نعود فنقول: إنه من الناحية العقلية لا يمكننا التوصل إلى خلق المادة الأصلية أو عدم خلقها واستقلالها. كما ان النص الديني المتمثل في القرآن الكريم لا يتحدث عن أصل مادة الخلق، فقد جاء ذكر بعض المواد الاولية كالماء والدخان من دون ان يُذكر حولهما شيء من الخلق أو عدمه، فضلاً عن ان لفظة الخلق وردت حول الأشياء التي تُصنع من أشياء أخرى وليس من العدم المحض، كخلق الانسان من طين مثلاً. صحيح ان بعض الآيات القرآنية تُظهر وكأن صورة الخلق تحدث دفعة واحدة مباشرة تلبية لإرادة الله وأمره، كالذي يظهر من قوله تعالى: ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[3]. فالمتبادر من معنى ((كُنْ فَيَكُونُ)) هو أن يتحقق الشيء دفعة مباشرة، كما راهن عليه المفسرون عادة. لكن بشهادة الواقع ان كل عمليات الخلق والتكوين المطلوبة لا تحدث دفعة واحدة من دون سابقة، بل تدريجية وتطورية. فهذه المعرفة القبلية ترشدنا إلى أن المعنى المقصود من الآية الكريمة ليس هو الظاهر المتبادر، ولا بد من تأويله إلى التدرج أو التطور. ويؤيد هذا الحال سياق بعض النصوص القرآنية التي وردت على شاكلة الآية السابقة[4]، كذلك سائر النصوص التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض والإنسان، فجميعها يؤكد حالة التدرج في الخلق وتطوره دون الدفعة المباشرة.

وكما قلنا ان الناحية العقلية لا تعيننا على ترجيح كفة خلق المادة الأصلية أو عدم خلقها واستقلالها. لكن لو افترضنا بأن المادة الأصلية مخلوقة بالفعل، فحينها سوف يصعب تفسير لماذا تتخذ قوانين الطبيعة شكلاً محدداً للوصول إلى غاياتها من دون تغيير؟ ولو قيل بأن هذه الحالة هي الأفضل والاصلح من بين الطرق الممكنة للوصول إلى الغايات الطبيعية، لأجبنا إنه من الناحية العقلية الصرفة، إن تحقيق الغايات عبر الوسائل الموضوعة يفضي إلى الكثير من الآلام والنكبات والعذاب والاضرار، وكان من الممكن عقلياً تجنب هذه المترتبات السلبية عبر ابدال القوانين بقوانين أخرى، أو الوصول إلى الغايات من دون وسائط طبيعية.

ولسنا نذهب في ذلك إلى ما يخلص اليه الفلاسفة القدماء من ان الحال دال على حتمية هذه القوانين، بل نرى بأن الإرادة الإلهية متعلقة بأفضل السبل الممكنة لتحقيق الغايات الطبيعية. فمع افتراض قِدم المادة التي هي محل التخليق والتكوين يصبح الموجود هو الأصلح والأفضل. في حين لو افترضنا فكرة خلق المادة الأصلية لأدى بنا الحال إلى الاعتقاد بأن أفعال الله لا تخضع للحكمة ولا للأصلحية والأفضلية، كما هو معتقد الاشاعرة مثلاً. كذلك لو لم نعترف بقدرة الله وإرادته الحقيقيتين لأفضى الحال إلى أن تكون قوانين الطبيعة حتمية صارمة غير قابلة للتبديل بقوانين وشروط أخرى كما يصورها النظام الوجودي للفلسفة والعرفان. في حين إن الخيار الثالث يخالف اعتقاد منطق الاشاعرة في نفي حكمة الله ومراعاته لخلقه، كما يخالف قول نظام الفلسفة والعرفان في جعل الإرادة والقدرة الإلهية مجازيتين. وبالتالي جاء الخيار الثالث جامعاً لأمرين لا يجتمعان لدى غيره، وهما عدم خلق المادة الأصلية، والقدرة الإلهية الشاملة. وهو خيار لا يتنافى بالضرورة مع الرؤية الدينية التي تشدد على فكرة البلاء والإمتحان كغاية لخلق العباد. فيمكن لهذه الرؤية ان تنضوي تحت القوانين والخيارات التي شاءها الله مصلحة لعباده؛ كأفضل السبل الممكنة، وبموجبها يمكن للشرور أن تتناقص عند الإلتزام بتعاليم الخير والمُثل الدينية.

كما وفقاً لهذا الخيار لا يمكن اعتبار ما يعرف بمعاجز الانبياء على انها خرق لقوانين الطبيعة، فهي ذاتها قائمة على بعض القوانين المجهولة وإن لم ترد حولها اشارات معينة من قبل النصوص الدينية باعتبارها مجملة.

وعموماً ان الخيار الإلهي كما نراه في العالم هو خيار القوانين والسنن الثابتة، وكان من الممكن ان يختار الإله خيارات أخرى لقوانين مختلفة أو ناقصة، مثل ان ينشأ الكون من دون حياة، أو تنشأ الحياة من دون كائن ذكي كالبشر، أو تنشأ الكائنات ناقصة أو مشوهة.. فكل ذلك ممكن، لكن أي خيار يضع يده عليه فسيحتفظ بقوانينه وقواعده الثابتة عبر الاشتغال على المادة الأصلية. فالحال هنا اشبه بقوانين اللعب كما في الكرة، حيث يمكن ان نلعبها بالقدم ككرة القدم، أو باليد، ككرة الطائرة أو السلة أو غير ذلك من الالعاب، وكذا في لعبة الدومينا حيث هناك ما يعرف باللعبة الامريكية، وأخرى المصرية، ومثلها لعبة الشطرنج وغيرها من الالعاب، وفي كل لعبة قوانينها الخاصة، فلعبة كرة القدم تشترط على اللاعبين باستثناء حامي المرمى ان يلعبوا بالقدم لا اليد، وذلك على عكس قوانين اللعب في الطائرة والسلة مثلاً.. واي مساس بترك القواعد فسيفسد اللعبة وتحول إلى فوضى من دون نظام. وهكذا هو العمل الإلهي على المادة الأصلية حيث النظام والقوانين من دون تخلف.

هكذا فالاعتراض الذي يرد على الدوام: لماذا لا يمنع الله الشر؟ وما فائدة وجوده ان لم تكن له قدرة على دفعه كلياً؟ يمكن الإجابة عليه وفق تصوراتنا حول قصور المادة الأصلية. ومعلوم انه من الناحية الفيزيائية قد يعتبر العالم أفضل العوالم لثرائه ونظامه الدقيق[5].. لكن أصل الاشكال يمكن الجواب عليه وفق ما سبق عرضه، وهو ان زوال الشر يأتي على التدريج وفق قوانين التطور الكوني والحياتي والعقلي، ولا محيص من ذلك استناداً إلى طبيعة المادة الأصلية المشتركة التي يُجرى عليها الخلق والتصنيع والابداع.

فمن خلال التطور يزول الشر بالتدريج، رغم حدوث الانتكاسات، بل وضرورتها في تعجيل هذه العملية التي تتخذ شكلاً حلزونياً لا خطي. فعلى الصعيد البشري تبعث الانتكاسات على التحدي والجدل الديالكتيكي، ومن ثم فإن الشر يبعث على الخير عادة رغم انه لا يقصده ذاتاً، لكنه ضروري للتطور والبناء وفق السنن الكونية والانسانية. لذلك كان العرفاء يقولون: لا فتى إلا أحمد وابليس، أو كما يُنسب إلى الحلاج قوله: ‹‹ما صحّت الفتوة إلا لأحمد وابليس››[6].

فمثلاً لولا الأمراض ما عرف الانسان الدواء، ولولا الطبقية والاستعمار الغربي ونهب ثروات الشعوب ما تم التعجيل بالثورة الصناعية وما ترتب عليها من ثورة معلوماتية، ولولا اضطهاد الكنيسة وفتكها بالعلماء ما تحقق للغرب من مكاسب في سبيل الحرية والتقدم العلمي المستقل. وعلى هذه الشاكلة جاءت بعض الآثار الايجابية التي شهدها الغرب بسبب المآسي التي خلّفتها الحربان العالميتان الاولى والثانية، مثل ترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني..

وسواء على الصعيد البشري عموماً أو على الصعيد الفردي نجد العناية ظاهرة بفعل قوانين الطبيعة والسنن الاجتماعية، وهي تتوخى الحفظ والتكامل ضمن حدود. وهو ما يعني ان عناية االله مصاغة بالقوانين العامة الموضوعة دون ان تحمل معها عصى السحر والمعجزات. لذلك كان لا بد من وجود شيء من الشر والنكبات التي تصيب بعض الناس رغم ان قسطاً من العناية يلوحهم بشكل أو بآخر، فحتى الموت هو رحمة عندما يعبّر عن ولادة جديدة أخرى، فكل ألم وعذاب مآله الزوال والنسيان، وعند اخذ اعتبار الولادة الجديدة يصبح كل شيء في هذه الدنيا لا يقاس بمعيار تلك الولادة، مثلما لا يقاس الحلم بالواقع، أو الجنين بالمولود الجديد..

***

أخيراً يمكن النظر إلى اطروحة (عجز المادة الأصلية) من خلال البعد العرفاني لوحدة الوجود. فكل ما ندركه يمثل مصنوعات الله وعظيم قدرته. ولو حوّلنا هذه المصنوعات إلى تجليات واستعرنا ما يقوله العرفاء حول وحدة الوجود فسيصبح ان كل ما ندركه هو تجليات الحق في العين الثابتة للمادة المشتركة. وعليه يمكن النظر إلى بدائع خلق الله بمنظارين كما يصوره العرفاء مع الحفاظ على القدرة الشاملة والإرادة الحرة التي صادرها العرفاء من الوجود قاطبة. فيمكن تشبيه الحال بنور الشمس الملقى على زجاجات مختلفة الالوان[7]، إذ تتكشف الوانها وتبرق حين سريان النور فيها، ومن دونه لا يظهر لها لون أبداً. فمع ان النور واحد، لكن الالوان التي تظهر فيها مختلفة. مما يعني ان طبائع الزجاجات تختلف بحسب ما هي عليه من قابليات، وليس بحسب ما عليه نفس النور المتحد في لونه وقوة سريانه في الجميع. وكذا يقال ان اختلاف المظاهر المرئية هي لاختلاف ما تحمله المادة الأصلية من امكانات غير قابلة للحصر والعد، وان التجلي الإلهي على هذه المادة هو ما يجعلها تظهر امكاناتها، ولولاه ما ظهر شيء من الصنائع والبدائع اطلاقاً.

كما يمكن تشبيه الحال بمثال النار والفحم. فالفحم بما هو كذلك لا نور ولا نار فيه، لكنه ينقلب بالتدريج إلى جمرة من النار عند وضعه فيها، وبهذا يكون حاملاً لصفاتها[8]. وكذا فإن الحق عندما يفيض بنوره على المادة الأصلية تصبح مشرقة ظاهرة بنوره، لحملها صفاته، بحيث يعبّر عنها بهذا الإعتبار انها (هي هو).

وبلا شك ان المثالين السابقين يعطيان دلالتين مختلفتين للتجلي الإلهي. فالمثال الأخير يبدي ان ما يظهر على المادة المشتركة هو صفات الحق، فهذه الصفات هي التي تظهر على المادة فتنورها بنور الحق. فالحق هو الظاهر بصفاته، كالذي جاء في قول العرفاء (كان الله ولم يكن معه شيء، والآن كما كان). أما المثال الأول فيبدي ان ما يظهر انما يعبّر عن صفات المادة المشتركة، وان ظهرت بنور الوجود الإلهي. وبحسب هذا المثال ان ظهور الخلائق ليس فيه ما يحمل صفات هذا الوجود، فالحق مخفي بوجودها، فيما انها ظاهرة بفعل الحق. ووفقاً للتعبير العرفاني انها تعتبر من حيث الباطن حقاً، ومن حيث الظاهر خلقاً[9].

وفي (صخرة الايمان) عبّرنا عن هذه العلاقات بالاحتكاك الدائم والمتفاوت بين الإله المحايث – أثير الذكاء الروحي – ومصنوعاته المختلفة.


[1]     العدل الإلهي، ص173.

[2]  للتفصيل انظر: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي.

[3]  النحل\40.

[4]  مثل قوله تعالى: ((قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) آل عمران\ 47. وقوله: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) آل عمران\ 59.

[5]           لاحظ التفاصيل في: الاقتراب من الله، ص197.

[6]  صدر المتألهين: مفاتيح الغيب، ص173-174. والمبدأ والمعاد، ص198.

[7]  صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج1، ص70-71.

[8]  انظر: القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج1، ص51. و حيدر الآملي: أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وانوار الحقيقة، ص213-214. وجامع الأسرار ومنبع الانوار، ص393.

[9]  للتفصيل انظر: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.

comments powered by Disqus