يحيى محمد
تُعدّ مشكلة الشر من أعقد المشاكل الفلسفية التي يواجهها الإنسان عموماً والمؤمن خصوصاً، ولا يبدو ان علاجها سهل أو من غير تنازلات، لكن طبيعة القضايا الفلسفية الكبرى للوجود تبعث على تقبل ما هو صعب بأقل كلفة، باعتبار ان ما عدا ذلك يجر إلى محالات أو صعوبات أعظم. وكما قال المحقق الخيالي شيرلوك هولمز Sherlock Holmes في إحدى روايات الطبيب الاسكتلندي آرثر دويل Arthur Doyle: “بمجرد أن تتخلص من المستحيل، فإن كل ما تبقى، مهما كان بعيد الاحتمال، يجب أن يكون الحقيقة”[1].
ففي مسألة أصل الأشياء، لا محيص من افتراض وجود شيء ما متأصل تولدت عنه سائر الخلائق، وبدون الأخذ بهذا الافتراض غير المألوف، سنقع في صعوبات أعظم أو محالات، مثل صدور الخلق عن العدم المحض، أو التسلسل اللانهائي للأشياء من دون أصل.
وكذا الحال فيما يتعلق بمسألتنا حول الشر، فمن غير الأخذ بأقلها كلفة فسنقع في اشكالات مستعصية عن الحل.
ونجد أن الطريقة الإلحادية النافية لوجود الله عاجزة عن معالجة هذه المعضلة، رغم وصفها لها بـ "صخرة الإلحاد".
فتبنّي الإلحاد يعني ترجيح ما هو فوضى على ما هو نظام، وأن سيادة الفوضى - لو قُدّر لها أن تُنتج الحياة - تستلزم هيمنة الشر. فالفوضى تُنتج الشر أصالة، بخلاف النظام الغائي المحكَم، الذي لا يصدر عنه الشر إلا عرضاً. ومن ثم لو كانت الرؤية الإلحادية صادقة، لكان الشر ممتدّاً في كلّ ناحية وصوب، ولتعطّلت سُبل الحياة، غير أن الواقع يُكذّب هذا الافتراض.
الشر وأصالة العدم والفوضى
وفق العقل القبلي المجرد، إن للعدم والاضطراب أصالة مقارنة بالوجود والنظام. فمن حيث الأصل لا يحتاج العدم والاضطراب إلى تفسير، بخلاف الوجود والنظام. فلو افترضنا أنّ الأصل هو العدم، لما تطلّب تفسيراً. ومثلُ ذلك يُقال في الفوضى، إذ بوصفها حالةً أولية، لا تحتاج إلى تبرير. وذلك على خلاف ما لو كان الأصل يعبّر عن الوجود، ومثله النظام، حيث تعمل السببية الابستيمية (الاعتقادية) على تفسير نشأتهما.
فوجود أي شيء يتطلّب تعليلاً وتفسيراً، بما في ذلك مبدأ الوجود الأول. في حين لا يحتاج العدم المحض إلى تعليل وتفسير. وكذا الحال في حالة النظام والفوضى. فالنظام يتطلّب تفسيراً، بخلاف الفوضى أو الشواش، حيث لا تحتاج - من حيث الأصل - إلى تعليل.
ومن حيث التحليل العقلي، فإن العدم المحض لو انقلب إلى وجود، فسيتطلّب تفسيراً قائماً على مبدأ السببيّة العامة. في حين لو لم يقع هذا الانقلاب، فإن العدم لا يقتضي تفسيراً وفق ذات المبدأ. وعلى المنوال نفسه، فإنّ الفوضى أو الشواش، ما لم يتحوّلا إلى نظام، لا يستدعيان تفسيراً، لكن تحوّلهما إلى نظامٍ يستدعي تعليلاً يستند إلى منطق الاحتمالات وتقدير الإمكانات.
لذا فمسؤولية تقديم الأدلة والبراهين تقع على عاتق من يؤمن بالوجود، أي وجود كان، ومن ذلك وجود الإله. وعند التردد بين الاثبات والنفي فإن كفة النفي هي المرجحة. وهذا ما يفسّر المثال الذي طرحه برتراند رسل ليبرر قضية الإلحاد من دون قطع أو دوغمائية، فيما يُعرف بـ "إبريق الشاي الكوني"، حيث اعتبر من الخطأ تماماً افتراض وجود ابريق شاي صيني يدور حول الشمس بين الأرض والمريخ، وتحدى فيه ان كان من الممكن دحض هذا الافتراض، مع الحرص على ان يكون هذا الابريق صغيراً جداً بحيث لا يمكن الكشف عنه بأجهزة التلسكوب.
لكن رسل اعتبر مثل هذا الافتراض محض هراء. إذ هو أقرب للنفي منه إلى الاثبات. وإذا كان هناك من يعتقد بوجوده فعليه تقديم الدليل، خلافاً للذي ينفيه، حيث لا يتوجب عليه ان يقدّم دليلاً على النفي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النفي في هذه الحالة لا يصح ان يكون قطعياً أو دوغمائياً. وكذا هو الحال مع مسألة وجود الله، حيث اعتبرها أقرب للنفي منها إلى الاثبات لعدم وجود أدلة عليها، وليس لوجود دليل ضدها[2]. فالإلحاد هنا بالمعنى السلبي لا الايجابي وفق تقسيم ميخائيل مارتن.
لذلك عندما سُئل هذا الفيلسوف عن موقفه بعد الموت والوقوف بين يدي الله، كيف سيبرر عدم إيمانه به؟ أجاب ببساطة: “عدم كفاية الأدلة، يا رب عدم كفاية الأدلة”[3].
وقد تابعه في هذا المعنى الفيزيائي لورانس كراوس في كتابه (كون من لا شيء)، فعندما سُئل: هل أنت ملحد؟ فإنه أجاب: “ليس بالمعنى الذي استطيع ان ادعي حاسماً انه لا يوجد إله أو غاية من الكون، مثلما لا استطيع ان أزعم حاسماً انه لا يوجد ابريق شاي يدور حول عطارد، كما قال رسل ذات مرة. فهذا أمر مستبعد بشدة. لكن ما استطيع زعمه بحسم هو أنني لم أكن لأرغب العيش في كون واحد مع الله بينما يجعلني ضد الألوهية”[4].
والحقيقة ان ما ذكره رسل في مثال ابريق الشاي يعتبر صحيحاً وإن لم يقم بتحليله وتفسيره. وهو بلا شك لا يصدق على المسألة الإلهية باعتبارها كأساً ممتلئة بالأدلة. وفي (علم الطريقة) سبق ان حللنا هذه القضية وفق قاعدة النفي المرجح في المنظومات والأنساق المغلقة التي لا يمكن تفكيكها والتحقيق فيها مباشرة وغير مباشرة. وخلاصتها أنه عندما تكون هناك إمكانات متعددة، أكثر من إثنين، فإن نفي أي من هذه الإمكانات سيكون أكثر توقعاً من إثباته، ويزداد توقع هذا النفي باضطراد كلما زاد عدد الإمكانات المحتملة. وعلى عكسه تضعف قيمة احتمال الإثبات أكثر فأكثر كلما زادت تلك الإمكانات.
هكذا يترجح محور النفي على الإثبات عند الشك والتردد بينهما، لتعدد إمكانات النفي خلافاً لمحور الإثبات، حيث لا يمتلك إلا حالة واحدة تمثل الجانب الموضوعي للقضية.
وعموماً، ان ما يفاد من مثال ابريق الشاي الكوني هو إلقاء المسؤولية على المؤمن ان يقدّم أدلة مقنعة أو مرجحة على ما يؤمن به. وكما سبق ان قدّمنا أنه من حيث الأصالة يحتاج الوجود والنظام إلى تفسير، بخلاف العدم والفوضى.
الشر والفوضى وحجة الإيمان
من المعلوم أنه ليس للفوضى قابلية على صنع نظام معقد وحياة وبشر، ولا معنى للخير والشر في جو خال من الحياة. ولو فرضنا جدلاً ان الحياة نشأت عبر تطور الفوضى؛ فإن الشر هو الذي سيسود دون الخير. وما نراه هو العكس بفضل النظام الذي يحكم العالم مع هامش قليل من العشوائية الظاهرة، ونحسب انها لا تخرج عن قوانين العناية الإلهية الكلية، ويمكن ان نطبق عليها منطق الاختبار غير المباشر لادراك ما تنطوي عليه من عناية مجهولة، كما سيأتي بيان ذلك لاحقاً.
ومن المنطقي ان تصاغ حجة الخير والشر لصالح الإيمان لا الإلحاد. ويمكن ابراز هذه الحجة عبر النقاط الثلاث التالية:
1ـ ليس في الوجود إله قط..
2ـ الفوضى هي السائدة دون النظام. أي انه إذا كان الوجود خالياً من الإله؛ فمن المنطقي ان الفوضى هي السائدة لا غير.
3ـ من لوازم الفوضى سيادة الشر في الحياة على فرض وجودها. أي ان من المنطقي ان تبعث الفوضى على الشر بخلاف النظام.
هذا هو الدليل المنطقي لنفي وجود الإله من خلال ظاهرة الشر. لكن من حيث الواقع فإن الشر والفوضى ليسا سائدين. وهو ما يعني نسف المقدمات السابقة، أو جعلها تنقلب إلى أضدادها وفق قياس الخُلف، ومن ثم فالإله موجود. إذ تصبح الصياغة المنطقية في حالة وجود الإله على الضد مما سبق، وذلك وفق النقاط التالية:
1ـ في الوجود إله..
2ـ النظام هو السائد لا الفوضى. أي انه إذا كان في الوجود إله؛ فمن المنطقي ان النظام سيسود.
3ـ من لوازم النظام سيادة الخير في الحياة. وهو ما يعني ان من المنطقي ان يبعث النظام على الخير بخلاف الفوضى.
وعليه لا يمكن اللجوء إلى مقالة الإلحاد النافية لوجود الإله في تفسير الشر ما لم نقع في استحالات وصعوبات لا مخرج منها، وهي مقالة لا تنسجم مع فكرة سيادة النظام الدقيق الدال على العناية الهادفة رغم جهلنا للكثير من تفاصيلها، خاصة وان العلم يفاجئنا كل يوم باكتشاف مذهل يوحي بروعة العناية الإلهية ومقاصدها.
وتبقى عقدة النقص في مقالة الإلحاد أنها تُمارس القفز من الجهل بالعناية الكامنة في الحياة إلى نفي وجودها نفياً تامّاً، مع أن عدم الوجدان لا يدل عدم الوجود بالضرورة.
هل الله قادر على ازالة الشر؟
في قبال ما سبق، نقدّم أطروحة جديدة نعبّر عنها بنظرية "عجز المادة الأصلية". إذ ترى هذه النظرية أن ظواهر العالم وحوادثه مدينة في وجودها إلى القدرة الإلهية الشاملة، مع افتراض عدم خلق المادة المشتركة أو الأصلية للكون. فرغم أن قدرة الله - سواء كان محايثاً أو مفارقاً - هي أساس وجود العالم بمظاهره المختلفة، لكنها - في الوقت ذاته - لا تمثل علة وجود هذه المادة.
وليس قصدنا بالمادة - هنا - المعنى الفلسفي المتمثل بالهيولى، والتي هي مجرد قوة من دون وجود فعلي. كما لا نقصد بها المعنى العلمي مثلما متعارف عليه. بل ما نقصده هو أبسط مشترك وجودي في الكون وإنْ لم يكتشف علمياً بعد، فقد يكون عبارة عن نفس الطاقة، كما قد يكون هو أساس المادة والطاقة معاً، فحيث ان إحداهما تتحول إلى الأخرى، فقد يكون المشترك بينهما شيئاً ثالثاً يجعلهما يتحولان إلى بعضهما البعض، مثل التحول المائي إلى حالاته الثلاث الصلبة والسائلة والغازية، فكل حالة لا تعتبر أساس غيرها، بل ان وجود هذه الحالات مدين إلى شيء آخر هو الأصل في وجودها، وهو الشيء المعبر عنه بجزيئة الماء (H2O). وهي الجزيئة المختلفة كلياً عن الحالات الثلاث الناتجة عنها.
فعلى ضوء هذه النظرية ان بالإمكان تفسير علة وجود الشر، ومثله تفسير علة تطور العالم واستحالة ان يتحقق الخلق دفعة واحدة. فكل ذلك يعود إلى طبيعة المادة الأصلية التي يُجرى عليها التخليق والتطوير ضمن حدود ما تسمح به. فرغم ان قدرة الخالق وإرادته حقيقية غير مجازية – أي خلاف ما يعوّل عليه نظام الفلسفة والعرفان-، لكنها لا تتعدى طبيعة المادة التي تتشكل منها مظاهر الكون والحياة والتطور.
ومن حيث المبدأ، لا بد من تكامل العلاقة بين قدرة الفاعل وقابلية المفعول. فأي نقص أو خلل في إحداهما سوف يفضي إلى عدم اعطاء النتائج المطلوبة.
وتعتمد قابلية المفعول على كل من وجود المادة وكفايتها ومناسبتها، إضافة إلى اتخاذها شكلاً محدداً من الترتيب والنظام. وباختصار انها تعتمد على أمرين: أحدهما توفر المادة المناسبة من دون نقص. والثاني أن تتخذ هذه المادة نوعاً منضبطاً من الترتيب المحدد.
وبالتالي فثمة ثلاثة عناصر تتكامل في الصنع والخلق، وهي كالتالي:
1ـ قدرة الفاعل وإرادته.
2ـ المادة المناسبة بتمامها.
3ـ ترتيب المادة وتنظيمها وفق أشكال محددة دون غيرها.
فهذه العناصر تتكامل بالضرورة واللزوم في الصنع والخلق، وبدون اجتماعها لا تسفر النتائج عن شيء. فلو لم تتوفر قدرة الفاعل وإرادته لما كان لقابلية المادة ان تُنتِج شيئاً مطلوباً. كما لو توفرت القدرة والإرادة، لكن من دون مادة تامة ومناسبة، لما تمكّن القادر على فعل شيء. كذلك فيما لو توفرت قدرة الفاعل مع وجود المادة المناسبة بتمامها، فذلك لا يكفي دون ان يجري الفاعل خطواته ضمن ترتيب محدد للمادة وفقاً لقابليتها.
وللتمثيل على ذلك، نفترض ان لدينا المادة المناسبة لصناعة الطائرات، لكن من دون وجود فاعل قادر على تشكيلها. وواضح ان النقص هنا عائد إلى غياب الفاعل القادر لا المادة. كذلك الحال فيما لو توفرت هذه القدرة، لكن من دون مادة مناسبة بتمامها، مثل أن ندعو مهندساً بارعاً في صناعة الطائرات لإنتاج واحدة من دون ان نقدّم له شيئاً غير الحجر والطين. فواضح ان هذه الاستحالة غير معنية بقدرة المهندس وبراعته في الصناعة المذكورة، بل لها علاقة بقصور المادة الخام المعطاة له.
وقد تحصل الاستحالة بسبب عدم الترتيب والضبط الدقيق بين عناصر المادة المناسبة. فصناعة الطائرة - كما في مثالنا السابق - لا تعتمد على قدرة المهندس والمواد الأولية المناسبة لصناعتها فقط، بل لا بد من ان تتخذ هذه المواد بعض الأشكال من الترتيب والتنظيم دون غيرها من الأشكال، وذلك لإتمام خطوات الصناعة بنجاح.
وهذا ما نقصده بعجز المادة الأصلية، سواء في الحالة الأخيرة أو ما قبلها. فثمة استحالة ذاتية لكل ما يتجاوز طبيعة هذه المادة، مثلما هناك استحالة ذاتية تتعلق بخلقها من العدم المحض.
لذلك - وكما ذكرنا - لا بد من توفر ثلاثة عناصر لإتمام عملية الخلق والصناعة بنجاح، أحدها يعود الى قدرة الخالق أو الصانع، أما البقية فتعود إلى قابلية المفعول أو المادة ذاتها.
والحال هنا أشبه بالأعيان الثابتة أو الماهيات التي يتحدث عنها العرفاء، فكل ما نراه من نقص واختلاف وشرور انما يعود إلى هذه الأعيان، وليس للمبدأ الحق إلا افاضة الوجود عليها، فلسان حالها طلب الخروج من الظلمة والعدم؛ فيجود عليها الحق بقدر قابلياتها؛ لاستحالة العطاء أكثر من هذه القابليات.
هل عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة؟
ثمة أنواع عديدة للاستحالة، ومن ضمنها ما سبقت الإشارة اليه، وفي قبالها أنواع الإمكانات، وهي على خمسة أنواع كالتالي:
1ـ الاستحالة المنطقية: وهي التي تستند إلى مبدأ عدم التناقض، فكل قضية تتضارب مع هذا المبدأ تعتبر مستحيلة منطقياً. فمثلاً ان الجمع الحاصل بين الواحد وآخر مثله لا يعطينا أكثر من اثنين، مهما كانت القدرة العقلية متوفرة، كالقدرة الإلهية، وإلا وقعنا في الاستحالة المنطقية وتجويز التناقض.
2ـ الاستحالة العقلية: وهي قضية تختلف عن الاستحالة المنطقية باعتبارها لا تتناقض مع مبدأ عدم التناقض، لكنها مع ذلك تعتبر من المستحيلات التي لا يصدقها العقل أساساً، مثل تولد الأشياء من العدم المحض أو بدون سبب أصلاً، ومثل ان تكون لله قدرة على افناء ذاته..
3ـ الاستحالة الواقعية: وهي قضية وإن كانت ليست من الاستحالة العقلية لكنها مستحيلة - أيضاً - بحكم النظر إلى واقع الشيء. ومن الأمثلة عليها ان يتمكن الإنسان من السفر في ارجاء الكون كله، وهو بهذه الصورة الجسمية.. ومثل ذلك ان يعيش الإنسان في الماء من دون وسائل مساعدة، أو ان يبقى حياً من دون رأس..
4ـ الاستحالة النسبية: وهي قضية تتعلق بالإمكانات الواقعية التي لم يتح لحد الآن تحقيقها لاستحالة ذلك طبقاً للوسائل المتاحة، مثل سفر الإنسان خارج المنظومة الشمسية.. ومثل القدرة على علاج جميع الأمراض البشرية..
5ـ الاستحالة المفترضة: وهي قضية لا تمتلك وضوحاً قطعياً حول استحالتها، بخلاف القضايا السابقة، لذلك تخضع للنقاش إن كانت تتضمن الاستحالة أم لا؟ كتلك المتعلقة بمسألتنا المطروحة. وكنموذج عليها الخلاف الحاصل بين الفلاسفة القدماء والمتكلمين حول خرق السببية الطبيعية. ففي احتراق القطن بالنار مثلاً؛ يقول الفلاسفة إنه لو حصلت شروط الإحراق المادية كاملة لتحقق الإحتراق بدون توقف ولا تخلف. بينما يقول مخالفوهم، كالمتكلمين، إنه من الجائز أن لا يحصل الاحتراق حتى مع وجود كامل الشروط المادية، إذ يتوقف الأمر على الإرادة الإلهية بوصفها مختارة، لا بوصفها واقعة تحت أسر الضرورة العلية.
ومن حيث التحليل يعود الخلاف الأخير إلى الخلاف المتعلق بخلق المادة الأصلية المشتركة. كما يعود إليه الخلاف المرهون حول إمكانية خلق الكون والحياة إلى غاية الكمال من دون تطور، بل دفعة واحدة، ومثل ذلك ازالة الشرور ابتداءاً مع تحقيق الغاية المنشودة لعملية الخلق.
فهذه المسائل بعضها يرتبط بالبعض الآخر، والأساس فيها هو الخلاف المتعلق بحقيقة المادة الأصلية ان كانت مخلوقة أم لا.
ولسنا نتحدث - هنا - عن أزلية حدوث العالم أو ابتدائه، وانما نتحدث عن المادة الأصلية فحسب، فخلق هذه المادة أو عدم خلقها لا يمنع كلا الفرضين السابقين. وبضرب الفروض مع بعضها نحصل على أربعة لا غير، وكل واحد منها قائم في حد ذاته بغض النظر عن ترجيح بعضها على حساب البعض الآخر. فالترجيح لا يمنع الفرض.. وهي كالتالي:
1ـ المادة الأصلية مخلوقة مع أزلية الحدوث. أي ان الله خلق كل شيء من دون بداية محددة.
2ـ المادة الأصلية مخلوقة مع ابتداء الحدوث. أي ان الله خلق كل شيء وفقاً لبداية محددة.
3ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع أزلية الحدوث. أي ان عملية الخلق لم يكن لها بداية محددة مع وجود مادة أصلية جرى عليها الخلق.
4ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع ابتداء الحدوث. أي ان عملية الخلق كان لها بداية محددة رغم أزلية المادة الأصلية التي جرى عليها الخلق[5].
ونظرة دقيقة لهذه الفروض تجعلنا ندرك بأن الثلاثة الأولى منها معقولة - نسبياً - بغض النظر عن مدى ترجيحنا القبلي لبعضها على البعض الآخر. ويبقى الفرض الأخير، فقد يوحي بأنه غير متسق، فهو يعني ان المادة موجودة ومعطلة إلى حين ابتداء خلق العالم. لكن هذا الحال يصدق على مجمل خلقه ابتداء، فهو يعني التعطيل الإلهي إلى حين بدء هذا الخلق؛ بغض النظر ان كانت المادة مخلوقة أو مستقلة غير مخلوقة، طالما افترضنا وجود القدرة التامة على ايجاد العالم.
وكما ذكرنا، يترتب على قضية المادة الأصلية الخلاف المتعلق حول طبيعة القوانين الكونية والتطور ومشكلة الشر الوجودي. فلو كانت المادة غير مخلوقة لكان كل ما ذكرناه من طبيعة الخلق والتطور ومشكلة الشر؛ لا علاقة له بالقدرة الإلهية بقدر ما له علاقة بإمكانات المادة الأصلية غير المخلوقة، ولكان حال الاستحالة في تجاوز إمكانات هذه المادة كحال الاستحالة المنطقية، وهي انها ليست نابعة عن عجز القدرة الإلهية، بل منبعثة عن قصور المادة وضعف إمكاناتها. ولو استعرنا لسان الفلاسفة القدماء سنقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
ففكرة ان عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة لم تقتصر على الفلاسفة القائلين بحتميات المراتب الوجودية، بل راودت العديد من الفلاسفة والمتكلمين المعترفين بالإرادة الإلهية وقدرتها التامتين. وسبقت الإشارة إلى الفيلسوف الالماني لايبنتز الذي صرح بهذه الفكرة استناداً إلى القدرة الإلهية المطلقة. وقبل هذا الفيلسوف كان الإمام الغزالي والكثير من المعتزلة يتبنون هذه الرؤية.
فمثلاً كان الغزالي يرى أن كل ما خلقه الله تعالى من السماوات والأرض ليس فيه من تفاوت ولا فطور، وكل ما قسّم بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية؛ فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي بالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل. ثم ان الغزالي صرح بأن الله لو كان قد أدخر شيئاً مما تفضّل به من فعل في هذا العالم ‹‹لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل، ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية. بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة، وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره. إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر النعمة، وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل››[6].
مع هذا، فجواب الغزالي الآنف الذكر عن وجود الشر والضر في الدنيا غير مقنع، إذ يبقى الإشكال قائماً: لماذا خلق الله الشر، رغم انه من الممكن ان يخلق الخير التام مع إلهام الناس بمعرفة قدر النعمة التي هم عليها دون حاجة لمثل هذا البلاء العظيم؟
وعليه نقول: إن التطور الكوني وطبيعة القوانين ومشكلة الشر؛ كلها مناطة بالمادة الأصلية المشتركة. فلو ان هذه المادة مخلوقة؛ لكان الخلق دفعة واحدة من دون تدرج وتطور غير مستحيل. كذلك لانتفت الاستحالة المتعلقة بازالة الشر ابتداءاً. بل وعلى هذا الافتراض؛ تصبح القوانين الطبيعية معتمدة كلياً على الإرادة الإلهية المطلقة كالذي يراهن عليه المتكلمون من أمثال الأشاعرة وغيرهم. فالقادر يمكنه خلق أي شيء دفعة واحدة سواء كان بسيطاً أو مركباً أو معقداً بلا حاجة للتطور.
وفي هذه الحالة تصدق الشبهة التي افترضها العالم المخضرم عمر الخيّام (1048-1131م) وفق ما نُسب إليه من قول: ‹‹لو كانت لي سلطة على الكون مثل الله، لأفنيت هذا الكون من جذوره ولخلقت كوناً جديداً يصل فيه كل شيء وبحرية تامة إلى مرامه››[7].
وشبيه بهذا الحال ما حصل مع الفلكي الحكيم وملك قشتالة وليون الفونسو العاشر (خلال القرن الثالث عشر الميلادي) الذي اعترض على الإله لتصوره بأن نظام الطبيعة متعسف وغير بسيط. فقد حافظ على الاعتقاد بنظرية بطليموس رغم اعتباره النظام الكوني مخلاً ومعقداً، وتفوّه بقوله الشهير: ‹‹لو استشارني الرب قبل ان يخلق العالم لأسديت له نصيحة مجزية››[8].
أما لو كانت المادة غير مخلوقة، فستتخذ في هذه الحالة العنصر الذي يجري عليه الخلق والتكوين ضمن الحد الذي تسمح به طبيعتها، ومن ذلك ما تشترطه قوانينها الطبيعية في جعل التغيرات السببية قائمة على الشروط المادية، كالذي جاء في المثال السالف الذكر حول احتراق القطن. وبالتالي كان لا بد من التدرج والتطور استناداً إلى مثل هذه الشروط. الأمر الذي يجعل حدوث الشر مما لا مفر منه؛ رغم عرضيته القابلة للزوال عند الاكتمال الوجودي. فالشر هو حالة عرضية لا تنفك عن عملية التطور، وأن زواله خاضع للتوجيه عند الاكتمال.
وهذا ما تشهد عليه التطورات غير المنقطعة للواقع الكوني والحياتي والعقلي، بل والاجتماعي أيضاً. فكل شيء - بما في ذلك الإنسان - خاضع للمشيئة الإلهية عبر التطور الخلاق باتجاه الأصلح. وهو ما يبرر استشرافنا لقدوم كائن جديد يحمل صفات أكمل مما لدينا نحن البشر.
وأبلغ ما يدل على الصيرورة التكاملية ما جاء به "المبدأ الانثروبي" كالذي عبّر عنه الفيزيائي كارتر خلال الستينات من القرن العشرين، أي قبل أن يُحوّر إلى نظرية التعدد الكوني كملاذ للتهرب من فكرة الضبط الدقيق للتصميم الإلهي[9].
عالمنا وخيار القوانين الثابتة
من الناحية العقلية المجردة، وبغض النظر عن معطيات الواقع الموضوعي، لا يمكننا معرفة إنْ كانت المادة الأصلية مخلوقة، أو مستقلة غير مخلوقة. كما لا يمكننا معرفة هذا الحال من خلال الرؤية الدينية. فمثلاً في الدين الاسلامي نجد ان النص القرآني لا يتحدث عن أصل مادة الخلق، إذ اقتصر على الإشارة إلى بعض المواد الأولية، كالماء والدخان، من غير بيانٍ يتعلق بخلقها أو استقلالها الذاتي. فضلاً عن أن لفظة "الخلق" كثيراً ما وردت في القرآن في سياق التصنيع من مادةٍ موجودة، لا في معنى الإيجاد من العدم المحض، كخلق الإنسان من طين مثلاً.
ولا شك أن بعض الآيات القرآنية تبدي وكأن عملية الخلق تحدث دفعة واحدة استناداً إلى إرادة الله وأمره من دون مراحل، كالذي جاء في هذه الآية: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[10]. حيث المتبادر من معنى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو أن يتحقق الشيء دفعة مباشرة بلا تدرّج، كما راهن عليه المفسرون عادة. لكن بشهادة الواقع أن كل عمليات الخلق والتكوين المطلوبة لا تحدث دفعة واحدة من دون سابقة، بل تدرّجية تطورية. فهذه المعرفة المسبقة تدفع إلى إعادة النظر في فهم الآية، وتُرشدنا إلى تأويلها على نحوٍ يتسق مع ظاهرة المراحل التدرّجية.
ويؤيد هذا المعنى سياق بعض النصوص القرآنية التي جاءت على غرار الآية السابقة[11]، كذلك سائر النصوص التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض والإنسان، فجميعها يؤكد حالة التدرّج في الخلق وتطوره دون الدفعة المباشرة.
وكما أسلفنا، فإن العقل المجرد لا يسعفنا في ترجيح كفّة خلق المادة الأولى أو استقلالها. لكن لو افترضنا أنّ المادة الأصلية مخلوقة، فستنشأ معضلة تفسير القوانين الطبيعية؛ إذ يصبح من العسير تعليل اتّخاذ هذه القوانين صورةً معيّنة وثابتة في سلوكها، وبلوغها غايات محدّدة دون تحوّل أو تبدّل. فلو كانت المادّة مخلوقة، لَما وُجد تفسيرٌ واضحٌ لثبات قوانين الطبيعة بهذا النحو الصارم.
وإذا قيل إن هذه الحالة هي "الأفضل والأصلح" من بين الطرق الممكنة للوصول إلى الغايات الطبيعية، فسيكون جوابنا هو أنه من منظور العقل الخالص أن تحقيق الغايات عبر هذه الوسائل الطبيعية كما نعرفها يَنتج عنه قدرٌ وافرٌ من الألم والعذاب والمآسي والخسائر، وكان من الممكن - عقلاً - تجنب هذه المترتبات السلبية عبر إبدال القوانين بأخرى، أو الوصول إلى الغايات من دون وسائط طبيعية.
ومع ذلك، فنحن لا نذهب مذهب الفلاسفة القُدامى الذين يرون في هذا الثبات حتمية لا بد منها. بل نؤمن بأن الإرادة الإلهية هي ما تقف خلف ثبات هذه القوانين، لتكون وسيلة إلى تحقيق الغايات بأفضل السبل الممكنة. ومع فرض قِدَم المادّة التي هي محلّ التكوين والتخليق، فإن هذا العالم على ما هو عليه يكون هو الأصلح والأوفق ضمن ما هو متاح.
ويقف هذا المذهب كخيار بين افتراضين غير مقبولين لعدد من المشاكل، أحدهما القول بأن المادة الأصلية مخلوقة، وهو افتراض يفضي إلى الاعتقاد بأن أفعال الله لا تخضع للحكمة ولا للأصلحية والأفضلية، كما هو معتقد الاشاعرة مثلاً. إذ لو كانت المادة الأصلية مخلوقة؛ لكان كل شيء قابلاً للخلق دفعة واحدة من دون تمييز بين المعقد والبسيط، وكذا بين التام والناقص. وبالتالي ما الذي يبرر - في هذه الحالة - ما يحصل من نقص وتطور ومعاناة وكرب وعذاب، كالذي نشاهده في عالمنا الموضوعي؟ إذ الاعتقاد بخلق المادة الأصلية يجعل كل شيء قابلاً للخلق دفعة واحدة من دون نقص ولا معاناة.
أما الافتراض الثاني فهو القول بنفي ان تكون لله قدرة وإرادة حقيقيتان، وبالتالي تصبح قوانين الطبيعة حتمية غير قابلة للتبديل بشروط أخرى، كما يصورها النظام الوجودي للفلسفة والعرفان. لكن هذا الافتراض غير معقول هو الآخر، إذ يسلب من الوجود صفة القدرة والإرادة الحقيقيتين. فإذا كنّا نحن البشر لا نشك بقدرتنا وإرادتنا ضمن حدود، فكيف يجوز لنا ان نسلب هذه القدرة والإرادة من الله الذي خلقنا؟
في حين إن الخيار الثالث يخالف كلا الافتراضين السابقين، فهو يخالف الافتراض الأول النافي لحكمة الله ومراعاته لخلقه، كما يخالف الافتراض الثاني الذي يجعل من إرادة الله وقدرته مجازيتين غير حقيقيتين. وبالتالي جاء الخيار الثالث جامعاً للاعتقاد باطروحتين لا تجتمعان لدى غيره، هما أطروحة أصالة المادة المشتركة المستقلة، وأطروحة القدرة الإلهية الكلية. وهو خيار لا يتنافى بالضرورة مع الرؤية الدينية التي تشدد على فكرة البلاء والإمتحان كغرض لخلق العباد. إذ يمكن لهذه الرؤية ان تنضوي تحت القوانين والخيارات التي شاءها الله مصلحة لعباده؛ كأفضل السبل الممكنة، وبموجبها يمكن للشرور أن تتناقص عند الإلتزام بتعاليم الخير والقيم الدينية.
كما وفقاً لهذا الخيار تصبح ما تعرف بمعاجز الأنبياء قائمة على بعض القوانين المجهولة دون أن تكون خرقاً لها، رغم انه لم ترد حولها اشارات معينة من قبل النصوص الدينية باعتبارها مجملة غير مفصلة.
ومن الواضح ان الخيار المشهود في عالمنا هو خيار القوانين والسنن الثابتة، وكان من الممكن ان نشهد خيارات ذات قوانين مختلفة أو ناقصة، مثل ان ينشأ الكون من دون حياة، أو تنشأ الحياة من دون كائن ذكي كالبشر، أو تنشأ الكائنات الحية ناقصة أو مشوهة.
إذاً، هذه مجرد افتراضات ممكنة. لكن أي خيار يضع الإله يده عليه فسيحتفظ بقوانينه وقواعده الثابتة عبر الاشتغال على المادة الأصلية.
فالحال هنا أشبه بقواعد اللعب كما في الكرة، حيث يمكن ان نلعبها بالقدم ككرة القدم، أو باليد ككرة الطائرة والسلة، أو بغير ذلك من الألعاب. وكذا في لعبة الدومينا حيث ثمة ما يعرف باللعبة الامريكية، وأخرى المصرية، ومثلها لعبة الشطرنج وغيرها من الألعاب. وفي كل لعبة قواعدها الخاصة، ففي كرة القدم تشترط القواعد على اللاعبين ان يلعبوا بالقدم لا باليد، باستثناء حامي المرمى، وذلك على عكس قواعد اللعب في الطائرة والسلة مثلاً.. وأي مساس بترك القواعد سيفسد اللعبة بالتحول إلى فوضى من دون نظام.
وهكذا هو العمل الإلهي على المادة الأصلية حيث النظام والقوانين من دون تخلف.
لذا يمكن الجواب عن الاعتراض الذي يرد على الدوام: لماذا لا يمنع الله الشر؟ وما فائدة وجوده إنْ لم يمتلك قدرة على دفعه كلياً؟ إذ تأتي الإجابة عنه وفق تصوراتنا حول قصور المادة الأصلية. ومعلوم انه من الناحية الفيزيائية قد يعتبر العالم أفضل العوالم لثرائه ونظامه الدقيق[12].. لكن أصل الإشكال يمكن الإجابة عنه وفق ما سبق عرضه، وهو ان زوال الشر يأتي على التدريج وفق قوانين التطور الكوني والحياتي والعقلي، ولا مفرّ من ذلك استناداً إلى طبيعة المادة الأصلية المشتركة التي يُجرى عليها الخلق والتصنيع والإبداع.
إذاً، فمسيرة الكون تطوّرية تدريجية، يتخلّلها شر يختزن في طيّاته فرصاً للانكسار والانتكاس، فتبدو سيرورة الحياة وكأنها حلزونية غير خطية. فالانتكاسات - على الصعيد البشري - تُوقظ روح التحدّي والجدل الديالكتيكي، فتتحوّل جرعات الألم إلى لحظات خَلْق وإبداع، إذ ينطوي الشر رغم ما يعتريه من قسوة على حافزٍ يدفع بالمجتمعات إلى البناء والرُقي وفق سنن كونية وإنسانية. ومن هنا يُنسب إلى الحلاج قوله: «ما صحّت الفتوة إلا لأحمد وإبليس»[13]، وذلك كدلالة على أن جدلية الخير والشر هي السبيل الأوحد إلى بلوغ الغايات السامية.
فمثلاً لولا الأمراض ما اكتشف الإنسان الدواء، ولولا الظلم الاجتماعي والنهب الاستعماري لما انطلقت الثورة الصناعية، ولما تبلورت الثورة المعلوماتية. ولولا اضطهاد الكنيسة وفتكها بالعلماء لما انتصرت قيم الحرية والتقدم العلمي المستقل. وعلى هذه الشاكلة جاءت بعض الآثار الايجابية التي شهدها الغرب بسبب المآسي التي خلّفتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، مثل ترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، رغم أنها مطبقة على النطاق القطري الضيق، بل وأنها معرضة للخرق والاستثناءات وازدواجِ المعايير أو الكيل بمكيالين. لكنها على العموم تمثل خيراً قادته مصائب عظيمة.
هكذا يظهر الشر في معظمه سنة اجتماعية تدفع نحو الخير؛ سواء على مستوى الجماعة أم الفرد.
وسواء على الصعيد البشري عموماً، أو على الصعيد الفردي، ثمة عناية ظاهرة بفعل قوانين الطبيعة والسنن الاجتماعية التي تتوخى حفظ الإنسان وتكامله ضمن حدود. فعناية االله مصاغة بالقوانين العامة وليس بعصى موسى والسحر والمعجزات. لذلك كان لا بد من وجود شيء من الشر الممتزج بالعناية. فكل وجعٍ وعذاب مآله الزوال والنسيان، وحتى الموت ذاته هو رحمة حين يعبّر عن ولادة جديدة ثانية، فعند أخذ هذه الولادة بعين الاعتبار؛ لم تَعُد الدنيا تُقاس بمقاييسها الضيقة، كما لا يُقاس الحلم بالواقع، أو الجنين بالمولود الجديد.
وواضح ان قوانين الطبيعة صارمة غير قابلة للخرق والتعطيل وفق التجارب والحسابات العلمية، وهي من هذه الجهة تحافظ على النظام العام، إذ ليس من المعقول تعطيل هذه القوانين لعوارض استثنائية من الشر والمصائب التي يتعرض لها الناس. فالقوانين ثابتة، وهي مصممة لأغراض ذات عناية نوعية فائقة، إلى درجة يتهيأ لنا بأن الأرض محفوظة، ومثلها الحياة، بل ويتهيأ بأن كل نوع من الكائنات الحية الحالية محفوظ ما لم ينتهِ الغرض من وجوده لغاية أو حكمة مفترضة ما زلنا نجهلها.
هكذا فمثلما لدينا دقة نظام؛ كما في القوانين والثوابت الكونية، ودقة وظائف وغايات هادفة؛ كما في الحياة، ودقة مسار تطوري موجه وغائي؛ كما في ظهور الإنسان وما بعده.. فكذلك ثمة عناية دقيقة تلوح الكائنات الحية، وعلى رأسها البشر.
ووفق هذا المنظور القائم على أصالة المادة المشتركة المستقلة، تتخذ عملية التخلق والتكوين شكلاً صعودياً من البسيط إلى المعقد، ومن الناقص إلى الكامل، خلافاً لرؤية الفلاسفة القدماء، حيث تتخذ عملية الصدور والتكوين شكلاً نزولياً من العالي إلى السافل، ومن الكامل إلى الناقص، وفقاً لنظام العلّية. كما يختلف هذا المنظور عن الرؤى اللاهوتية التي ترى جميع الأشكال ممكنة، سواء كانت صعودية أو نزولية أو غير محددة الملامح.
فواقعنا المحسوس يشي بأن مسيرة الكون تنحو ناحية الصعود والتعالي، وأن الشر - رغم ظلامه - هو لُبّ الرحلة نحو الكمال.
لكن ماذا بشأن الشر الصادم؟
يمثل هذا السؤال أصعب ما في معضلة الشر. ومن حيث المبدأ ترد أربعة افتراضات مختلفة حول أهمية هذا الشر وعلاقته بالنظام الحياتي والإنساني وفق الاعتقاد الإيماني، وذلك كالتالي:
1ـ ليس للشر الصادم أي ارتباط لزومي ضمن علاقات النظام الحياتي والإنساني. بمعنى ان الله قد أوجد هذا الشر من دون اهمية ولا لزومٍ يربطه بالنظام الحياتي والإنساني.
2ـ للشر الصادم الشخصي فضلاً عن النوعي أهمية لا غنى عنها وفق عناية هذا النظام. ففائدة هذا الشر بجميع أصنافه هي ما تبرر حدوثه.
3ـ للشر الصادم النوعي بالخصوص أهمية ضمن عناية النظام المشار إليه.
4ـ إن الشر الصادم هو من مقتضيات الارتباط الحياتي والإنساني وفق علاقات السببية الضرورية دون ان يشكل في حد ذاته شيئاً من عناية النظام الحياتي. وهو بهذا المعنى يصبح شراً لا بد منه، باعتبار ان ازالته تعني تغيير النظام الحياتي إلى صيغة أخرى مختلفة.
هذه أربعة افتراضات نطرحها لمعالجة الشر الصادم ضمن النظام الكوني والإنساني، فالأول منها ينفي ان يكون لهذا الشر علاقة لزومية بالنظام الحياتي والإنساني. والثاني يقر بأهمية جميع أصناف هذا الشر. أما الثالث فيحتفظ بأهمية الشر الصادم على الصعيد النوعي دون الشخصي. في حين ان الرابع يعتبر الشر الصادم هو نتاج العلاقات السببية كشر لا بد منه.
ويمكن إلقاء ضوء من التحليل النقدي عليها كالتالي:
فالافتراض الأول لا يصدق إلا مع فرضية الاعتقاد اللاهوتي التقليدي من ان الله خلق الأشياء من العدم المحض، وان له القدرة المطلقة في ان يفعل ما يشاء.
لكن المشكلة التي يواجهها هذا الاعتقاد هي تبرير رضا الله بهذا الشر المروّع رغم كمال قدرته وخيره. فوجود الشر في هذه الحالة لا ينسجم مع أطروحة خلق الأشياء من العدم. ولتجنب هذا الاعتراض لا غنى عن التمسّك بمقالة الخلق من مادة أصلية مشتركة، ومن ثم نستبعد الافتراض المطروح ليبقى التنافس بين الافتراضات الثلاثة الأخرى.
ولو تحولنا إلى الافتراض الثاني فسنجد أنه لا ينسجم مع مشاهداتنا التي تكشف لنا عن ان من الشر الصادم ما لا فائدة فيه، رغم ان بعض حالات هذا الشر يعتبر ذا فائدة عظيمة[14]. لكن ليس كل الشرور الصادمة تؤدي إلى نتائج مثمرة، وبالتالي نستبعد الافتراض المتعلق به أعلاه.
يبقى التنافس الحقيقي بين الافتراضين الثالث والرابع. فالافتراض الرابع هو الحد الأدنى للقبول، حيث الاكتفاء بأن ما يحصل من شر صادم هو من اللوازم الحتمية الناتجة عن علاقات السببية وتداخلاتها.
في حين ان الافتراض الثالث يقتضي الرابع من دون عكس، لذا يحتاج إلى مزيد من الدليل. فوفقاً له ان للشر المروع عناية تخصه من الناحية النوعية، على غرار العناية التي تخص بعض حالات هذا الصنف من الشر الشخصي، رغم أننا لا ندرك هذه العناية لحد الآن، وقد يأتي اليوم الذي تتجلى فيه هذه الفرضية، مثل معرفتنا للكثير من الوظائف الحيوية التي كنّا في يوم من الأيام نحسبها عديمة الفائدة والغرض.
فإذا كنّا لا نعلم الحكمة والغرض من وجود الشر الصادم - عموماً - ضمن النظام الكوني، فذلك لا يتيح لنا نفي هذا الغرض كلياً، وربما من الممكن ترجيح وجود هذه العناية بشكل منطقي غير مباشر. وسبق لنا في كتاب (علم الطريقة) ان طبقنا هذه القاعدة على عدد من المنظومات المعرفية، مثل منظومة الفلسفة التقليدية، حيث يمكن تفكيكها إلى أربع منظومات: منطقية ورياضية وطبيعية وميتافيزيقية. وتُعدّ الأخيرة مغلقة، إذ لا يمكن التحقيق فيها مباشرة خلافاً للمنظومات الثلاث الأخرى. وأقرب المنظومات التي تساعدنا على الكشف عنها هي منظومة العلوم الطبيعية، فهي تشترك مع المنظومة الميتافيزيقية بكونها تتحدث عن الأمور الخارجية، خلافاً للمنظومتين المتبقيتين، لذا يمكن تعريض منظومة العلوم الطبيعية للكشف والتحقيق، بفضل العلوم الحديثة. إذ تشكل القضايا الطبيعية لوازم تساعدنا على رفع درجة احتمال صدق المنظومة الميتافيزيقية أو خفضها[15].
وكذا يمكن تطبيق هذه القاعدة على قضيتنا من خلال اثبات العناية المذهلة للنظام الكوني الذي انتج الحياة والكائن الذكي، وحافظ عليه من مختلف ضروب الفناء الممكنة التي يعج بها الكون خارج حدود البقعة الضيقة التي تسعنا في هذا العالم.
فهذه العناية المثبتة تعزز قدر احتمال حضور العناية الخاصة بالشر الصادم نوعياً. فالحالة الفردية من هذا الشر قد تبدو خالية من الفائدة، لكن عموم الشر الصادم يتقبل ان يكون ذا فائدة ضمن النظام الحياتي العام. وهو على غرار بقية أنواع الشر الأخرى، حيث لا يبدو في بعضها الخير واضحاً رغم أهمية وجود الشر في تطور الحياة الإنسانية بشكل عام، وأن للشر الصادم أهميته في هذا المجال، خاصة وانه يعمق الروابط العاطفية والروحية بين البشر ويخفف من الأحقاد ونوازع الشر فيما بينهم.
وبعبارة أخرى، يمكن التفرقة بين الشر الصادم الشخصي، والشر الصادم النوعي، فخلو الأول من الفائدة القوية في كثير من الأحيان لا يعني غيابها من الشر الثاني، وهو الأهم لِما له من علاقة بالنظام الحياتي العام. فهو على غرار التفرقة بين موت الأفراد وبقاء النوع على قيد الحياة، فعندما نفترض ان الأنواع الحية يرتبط بعضها بالبعض الآخر، وقد تتوقف حياة بعضها على الآخر، يصبح ان موت بعض أفراد النوع لا يؤثر على طبيعة التوازن الحياتي، إذ لا تتوقف بقية الأفراد والأنواع على هلاك البعض منها، وهو خلاف الحال عند افتراض فناء النوع الذي قد تتوقف عليه بقية الأنواع أو جملة منها، كما هو معترف به علمياً.
ولا شك أن ما سبق يجري على شاكلة ما يعترض البحث العلمي أحياناً من وجود زوائد وتراكيب عضوية تبدو بلا فائدة، لكن عند لحاظ ان أغلب الأعضاء لدى الكائنات الحية المعروفة تمتلك وظائف هامة معلومة، لذا فإن وجود بعض الشذوذ لا يتيح لنا التسرّع في نفي ان يكون لها فوائد ووظائف مهمة، خاصة وان بعضها تمّ لحاظ فائدتها بعد نفيها مسبقاً، كما في الجينات الخردة والزائدة الدودية والعصعص وغيرها.
كذلك الحال فيما يتعلق بالعناية الشخصية، إذ نشاهدها بوضوح لدى الكائنات الحية. حيث تتجلّى في أوضح صورها لدى الكائنات الحيّة. إذ يمتلك كلّ كائنٍ حي قوى باطنية تحفظ حياته، وتقيه من الأخطار، وتُصلح ما يصيبه من علل، ضمن حدودٍ مقدّرة لا تتجاوزها، إذ لا مفرّ من الموت. لكن حتى مع الموت، لا يمكن الجزم بأنّ الحياة قد انقطعت دون امتدادٍ إلى حياةٍ أخرى أكمل وأسمى، تنعم بالسلام والسكينة.
فقد تكون حياتنا القصيرة بمعاناتها، قنطرة لحياة أخرى دائمة. فنحن هنا أشبه بالجنين الذي لا يعي ان معاناة الأم ومخاضها سينتهي بالولادة إلى حياة ثانية أوسع وأمتع مما هو عليه في بطن أمه. كما لا يعي الطفل الرضيع ان العناية تنتظره ليتجاوز حد الرضاعة إلى ما هو أكمل من ذلك، حيث يلعب ويرتع ويتعلم كيف يألف واقعه الجديد مثل جنة عدن.. وكذا الحال مع الأطوار البشرية الأخرى.
فلعلّ حياتنا الدنيا، بما فيها من معاناةٍ وآلام، ليست إلا قنطرةً تعبر بنا إلى دارٍ أخرى دائمة. فنحن - في هذا العالم - أشبه بالجنين في رحم أمّه، لا يعي أن المخاض العسير سينقلب إلى ميلادٍ رحبٍ في عالمٍ أوسع وأبهى. وكما لا يدرك الرضيع أن العناية تحفّه ليغادر طور الرضاعة إلى فضاءٍ أرحب، حيث يلعب ويرتع ويتعلم كيف يألف واقعه الجديد مثل جنة عدن، فكذلك الإنسان يمرّ بأطوار تتجه به نحو ما يشبه هذه الجنة، في دورة من التطور المتواصل والرقيّ المستمر.
مع الأخذ بعين الاعتبار ان كل فرد منا تصيبه من العناية بالقدر الممكن، ونجد بعض القوانين الكونية تبدي تحنناً على الضحية بتسكين آلامها ومعاناتها. فالألم محدود وزائل لا يكتب له دوام، وكذا المعاناة. وهنا يكمن سرُّ الرحمة في الموت ذاته، إذ قد يقود الروح إلى مسكنٍ أرحب من البهجة والسلام لا نعلمه في الدنيا. إن التحنن قانون شامل يستشعر مفعوله كلّ منا، فعلى رغم الآلام والمصائب تنجلي لنا مسكنات طبيعية تشاركنا الرحمة.
ولعلّ أصدق تجسيدٍ لهذا التحنّن علاقة الأم بطفلها الرضيع؛ فهي تسهر على راحته، وتخفّف عنه آلامَه، وهو لا يعي بعدُ معنى الحنان ولا يقدر لُطفَها المتدفّق. كذلك نحن البشر؛ نعاني وننضج في سوح الألم، نبحث عن سبل التخفيف بالعلم والطب والدعم الروحي، من دون أن ندرك المسكنات الوجودية التي تهبها لنا العناية الطبيعية. وأبرز ما يرد من أمثلة في هذا المجال: الخطوط الدفاعية المختلفة لجهاز المناعة الحيوية، الذي يكافح عدوَّه الصامت على مدى الحياة.
وفي بعض درجات الوعي والترويض قد يتحول العذاب إلى عذوبة، والآلام إلى بهجة وسعادة، وهي درجة متقدمة من الذوق الصوفي، وقد يأتي اليوم الذي يصبح هذا الحال مهيأً للجميع، وعندها تتبين أهمية ما اعتاد عليه البشر من تطور، وتصبح الإشكالات على الشر الوجودي في مهب الريح. هذا إن لم يحدث تطور جديد يسفر عن ايجاد كائن آخر أكثر تقدماً ورقياً كما نعتقد.
وفي كتابنا (صخرة الإيمان) بينّا أن كل شيء طبيعي لا يدانيه بديل صناعي. فكيف أمكن للطبيعة ان تهتدي إلى أفضل ما يمكن؛ فيما جبروت العقل البشري عاجز عن اتيان بديل صناعي مكافئ له أو أفضل؟. فهذه قاعدة عامة ليس في الشاهد ما ينقضها بمثال. ولها دلالتان:
الأولى: أنه إذا كانت الطبيعة تفوق عمل فنون الذكاء البشري؛ فإن ما يقف خلفها يجب ان يتصف بذكاء خارق.
والثانية: هي أن الطبيعة تتضمن عناية خاصة خلف الجودة التي تهيئها للكائنات الحية. وهذه العناية لا يبررها منطق الإلحاد، ولا الاحتجاب.
فكل عضو في الإنسان - مثلاً - آية في الدقة والتعقيد والوظيفة المتضمنة للعناية. وأن آلام العضو ومعاناته تأتي كمنبّه لاسترداد هذه العناية، كما يحصل في حالة المعالجة الطبية والعمليات الجراحية القسرية، ولولا ذلك لاعتُبرت الآلام شراً بلا فائدة.
لهذا قد نعتبر بعض الحالات من الشر خيراً بفضل العناية التي تساهم في حفظ الكائن الحي، رغم الاعتراف بوجود حالات فردية من الشر الصادم "المجاني"، فهي مما لا بد منه إذا ما أخذنا بالاعتبار سلطة القوانين الكونية الثابتة.
البعد العرفاني للأطروحة
يمكن النظر إلى أطروحة "عجز المادة الأصلية" من خلال البعد العرفاني لوحدة الوجود. فكل ما ندركه يمثل مصنوعات الله وعظيم قدرته. ولو حوّلنا هذه المصنوعات إلى تجليات واستعرنا ما يقوله العرفاء حول وحدة الوجود، فسيغدو أن كل ما ندركه هو تجليات الحق في العين الثابتة للمادة المشتركة. وعليه يمكن النظر إلى بدائع خلق الله بمنظارين، كما يصوره العرفاء، مع الحفاظ على القدرة الشاملة والإرادة الحرة التي صادرها هؤلاء من الوجود قاطبة.
فيمكن تشبيه الحال بنور الشمس الملقى على زجاجات مختلفة الألوان[16]، إذ تتكشف ألوانها وتبرق حين سريان النور فيها، ومن دونه لا يظهر لها لون أبداً. فمع ان النور واحد، لكن الألوان التي تظهر فيها مختلفة. مما يعني ان طبائع الزجاجات تختلف بحسب ما هي عليه من قابليات، وليس بحسب ما عليه نفس النور المتحد في لونه وقوة سريانه في الجميع. وكذا نقول ان اختلاف المظاهر المرئية هي لاختلاف ما تحمله المادة الأصلية من إمكانات غير قابلة للحصر والعد، وان التجلي الإلهي على هذه المادة هو ما يجعل إمكاناتها تظهر، ولولاه ما ظهر شيء من الصنائع والبدائع اطلاقاً.
كما يمكن تشبيه الحال بمثال النار والفحم. فالفحم بما هو كذلك ليس فيه نور ولا نار، لكنه ينقلب بالتدريج إلى جمرة من نار عند وضعه فيها، وبهذا يكون حاملاً لصفاتها[17]. وكذا فإن الحق عندما يفيض بنوره على المادة الأصلية تصبح مشرقة ظاهرة بنوره، لحملها صفاته، فتصبح "هي هو" في تألق وجلاء.
وبلا ريب، يقدّم المثالان دلالتين متميزتين في بيان التجلّي الإلهي:
ففي المثال الأخير، يتجلّى الحق في صفاته على المادة المشتركة، فتستضيء بها وتتلألأ بنوره. وهنا يكون الحق هو الظاهر بصفاته، كما عبّر عنه العرفاء بقولهم: «كان الله ولم يكن معه شيءٌ، والآن كما كان».
أما في المثال الأول، فالذي يظهر إنّما يعبّر عن صفات المادة المشتركة، وإن أشرقت بنور الوجود الإلهي. وبحسب هذا المثال ان ظهور الخلائق ليس فيه ما يحمل صفات هذا الوجود، فالحق مخفي بوجودها، فيما انها ظاهرة بفعل الحق. ووفقاً للتعبير العرفاني انها من حيث الباطن تُعدّ حقاً، ومن حيث الظاهر تُعدّ خلقاً[18].
وفي بعض الدراسات عبّرنا عن هذه العلاقات بالاحتكاك الدائم والمتفاوت بين الإله المحايث - أثير الذكاء الروحي - ومصنوعاته المختلفة، ومنه تظهر تجليات الادراك والإرادة وفق التعقيد الحاصل من عملية الخلق والصنع الخاصة بالمادة المشتركة.
***
وفي نهاية المطاف، نشير إلى أن للعلم، بوجه عام، وللفيزياء على وجه الخصوص، تخوماً وحدوداً. فعند الحواف يحصل التشابك مع الفلسفة عادة، بخلاف التخوم التي تُظهر الاستقلالية النسبية بينهما. لكن مثلما يوجد في العلم تخوم لا تقترب منها الفلسفة، فكذلك ثمة عتبات يعجز عن تجاوزها العلم، فتغدو أرضاً خالصة للفكر الفلسفي. ومن تلك الأرض اطروحة "عجز المادة الأصلية"، حيث تنتمي إلى تخوم الفلسفة، وإن استندت ابتداءً إلى معطيات واقعية مستمدة من ملاحظاتنا لقوانين الطبيعة ومسارات التطور، دون أن تُقيدها الضوابط الصارمة للعلم التجريبي.
وفي مثل هذه الحال، لا تسعفنا المعالجة القائمة على استعراض النظريات العلمية، مهما بلغ شأنها، بما في ذلك النظريتان الأساسيتان: النسبية والكوانتم، وسائر المحاولات الرامية إلى التوفيق بينهما، أو تلك الساعية إلى توحيد القوى الأربع، أو المعتمدة على "النموذج المعياري" بما ينطوي عليه من ثغرات ومساعٍ لإصلاحه أو تجاوزه. فكل هذه الطروحات إنما تندرج ضمن إطار الفهم العلمي، تسعى إلى تفسير معقول لطبيعة الكون، لكنها - في جوهرها - لا تتعدى نطاق العلم نفسه، ولا تنفذ إلى تخوم الفلسفة، رغم تماسها بحوافها أحياناً.
ويكفي أن نلحظ أن كلاً من العالِم والمتلقي العادي يدرك، ولو بفطرته، أن جريان الأمور في الكون والحياة والوجود الإنساني يتم وفق نسق من التدرج والتطور، لا عبر دفعات سحرية مباغتة. وهذه الحقيقة التي تتبدى بجلاء، تُطرح فلسفياً بوصفها مسألة تتصل بمدى قدرة الاستقراء على تقديم نتائج موثوقة تدل على اطراد القوانين، بما له من أثر في التأسيس لكل من النظر العلمي والتأمل الفلسفي.
فعلى المستوى العلمي، يمكن تحديد القوانين ورصد نوع التطور، بل ومحاولة تسريعه في بعض السياقات ضمن حدود الأسباب الموضوعية الممكنة. أما على المستوى الفلسفي، فالمسألة تُطرح بإطار مغاير: هل يمكن خرق القوانين الطبيعية والحصول على نتائج آنية، من دون وسائط مادية أو أسباب ظاهرية، كما توحي بذلك الشبهة الهيومية؟ وهل يُعقل أن توجد ظاهرة فيزيائية تُنبئ عن خلق من عدمٍ محض، كما يُساء أحياناً فهمه في بعض التصورات الفيزيائية؟
وهنا، تحديداً، تنبت أطروحة "عجز المادة الأصلية"، إذ تُعد من القضايا التي تنتمي إلى تخوم الفلسفة، لا إلى صميم العلم.
[1] https://www.amazon.com/Sherlock-Holmes-eliminated-impossible-improbable/dp/B01IJ2J2X6#:~:text=VIDEOS-,Sherlock%20Holmes%20%2D%20Sir%20Arthur%20Conan%20Doyle%20When%20you%20have%20eliminated,improbable%2C%20must%20be%20the%20truth
[2] Bertrand Russell, Is There a God?, 1952. Look:https://www.cfpf.org.uk/articles/religion/br/br_god.html
[3] وهم الإله، ص107.
[4] لورانس كراوس: كون من لا شيء، مصدر سابق.
[5] ثمة فرض خامس نستبعده تماماً ولا يستحق الذكر، وهو القول بأن المادة الأصلية أزلية، لكن من دون ان تكون محلاً للعملية التي جرى فيها الخلق. اذ في هذه الحالة تصبح هذه المادة بحكم العدم، ولا حاجة لافتراض وجودها.
[6] الغزالي: احياء علوم الدين، ج4، ص258.
[7] العدل الإلهي، مصدر سابق، ص173.
[8] نجيب الحصادي: معيار المعيار، الدار الجماهيرية للنشر، ليبيا، ص21، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[9] للتفصيل انظر: منهج العلم والفهم الديني.
[10] النحل\40.
[11] مثل النص القرآني التالي: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذا قَضَى أمراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ آل عمران\ 47. ومثله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ آل عمران\ 59.
[12] لاحظ التفاصيل في: الاقتراب من الله، ص197.
[13] صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح سيد جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفه ايران، 1976م، ص198. ومفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، ص173-174.
[14] نشير إلى ان كتابة هذا البحث قد تزامنت مع التداعيات الاعلامية الضخمة التي خلّفتها جريمة القتل الوحشي للصحفي السعودي جمال خاشقجي، حيث حرّكت الضمير العالمي للحث على ايقاف عدد من السياسات الهمجية، ومن أبرزها الحرب الطاحنة في اليمن. لذلك أشرنا حينذاك إلى هذه الجريمة كمثال على ما يمكن ان يخلّفه الشر الصادم من فوائد. انظر:https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=137
[15] انظر: يحيى محمد: علم الطريقة، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (1).
[16] صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار أحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج1، ص70-71.
[17] انظر: القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، ج1، ص51. وحيدر الآملي: أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وأنوار الحقيقة، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، 1983م، ص213-214. وللمؤلف ذاته: جامع الأسرار ومنبع الانوار، مع تصحيح ومقدمة كل من هنري كوربان وعثمان إسماعيل يحيى، طبع شركت انتشارات علمي وفرهنكي، ايران، طبعة ثانية، 1368هـ، ص393.
[18] للتفصيل انظر: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.