يحيى محمد
لقد غُيّبت البساطة المعنوية للإسلام بفعل التعقيد المستحدث والمتراكم طوال القرون الماضية، لذلك كان لا بد من تعقيد مضاد يعود بنا إلى البساطة الأولى النقية.. لقد كان الإسلام واحداً من دون تعدد في عقيدته وسياسته وطقوسه واجتماعه وأخلاقه ومعرفته.. ومع توالي الزمن ذهبت هذه الوحدة وحلت محلها جملة «إسلامات» متضاربة في نواح مختلفة، وهي كثيراً ما تتداخل فيما بينها إلى يومنا هذا: فهناك إسلام مذهبي، وإسلام سياسي، وإسلام طقوسي، وإسلام قومي، وإسلام أخلاقي، وإسلام وجداني شخصي، بل وحتى إسلام عجائز نابع من دين الأمهات.. وهكذا توالى تعدد الإسلامات «الفاهمة»، وكل واحد منها يحمل تعارضات وتناقضات بعضها يتنكر للبعض الآخر. فالإسلام المذهبي يحمل إسلامات مذهبية كثيرة ومتعارضة، وكذا الحال مع الإسلام السياسي، إذ يحمل إسلامات سياسية متناكرة.. ومثل ذلك سائر التنوع في الإسلامات الأخرى. لكن رغم هذا التعدد في الإسلامات الفاهمة إلا أنها تتأسس على إسلام فاهم واحد هو الإسلام المعرفي الإبستيمي، فلولا الأخير ما كان للبقية من شيء. لذلك كان لا بد من البحث في طبيعة هذا الإسلام منهجياً باعتباره يمثل البنية التحتية لسائر النظائر.
***
إن البحث المنهجي في الإسلام هو مهمة علم الطريقة، اذ يتكفل بدراسة مناهج الفهم ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم. فهو يمارس التفكير في المنهج لا بالمنهج. وهو بهذا يقوم باجتراح آفاق جديدة للتفكير وفتح أبواب للدراسة الأكاديمية لم تكن معهودة من قبل. فمن الناحية المنطقية يتوقف الفهم على المنهج المتبع، وهو ما يشكل مادة البحث لعلم الطريقة. إذ يتولى العلم الأخير الكشف عن طبيعة المناهج التي تتناول الفهم بالدرس والتحليل. وفي جميع الأحوال يكون الفهم مسبوقاً بالمنهج أو الطريقة.
فالغرض من (علم الطريقة) هو إخضاع الدراسات الإسلامية تحت هيمنة البحث المنهجي الإبستيمي والقطيعة مع كافة ضروب التفكير المذهبي، حيث يتحقق التفكير في المذهب لا بالمذهب، وبالتالي إنقاذ الدين منه.
فبحسب هذا العلم ينبغي قلب التفكير المذهبي وتصييره منهجياً وفقاً للقاعدة الكوبرنيكية. فبدلاً من الرضوخ إلى الإجترار القائم في جعل المنهج ينتظم وفقاً للتفكير المذهبي؛ لا بد من قلب المعادلة بجعل المنهج هو الأساس وتحويل المذهب وتصييره إلى أنماط من التفكير المنهجي المتعدد الآفاق. وبذلك يخضع المذهب للمساءلة المنهجية من دون عكس.
هكذا نأمل أن تتحقق - في المستقبل - ظروف ملائمة للبحث العلمي يختلف عما كان عليه الأمر من قبل، شبيه بما حدث للعلم الطبيعي من النقلة النوعية بين ما كان عليه قبل النهضة الحديثة وما بعدها، وذلك بفضل الإعتماد على مبدأ المراجعة وفحص النظريات باستمرار من دون انقطاع. وهو ما نحتاجه في فحص المسلمات الدينية ومراجعتها على الدوام؛ بعيداً عن الاعتبارات المذهبية والآيديولوجية، كما وبعيداً عن الأساليب المتبعة في التلقين وخلق الكادر الاستفتائي الذي لا يجيد غير الاستفتاء وتحصيل الجواب الجاهز من دون معرفة طرائق الفهم والتفكير. الأمر الذي يكرّس ظاهرة التقليد المستشرية في مجتمعاتنا الإسلامية. لذلك كان لا بد من خلق الكادر الأدواتي الذي يهتم بالأسئلة العميقة المتعلقة بالأدوات والمناهج الفكرية.
كما نأمل أن يلقى (علم الطريقة) اهتماماً واسعاً للبحث والتطوير، وأن يُعتمد عليه في التدريس لدى الهيئات والمؤسسات العلمية؛ كالمعاهد والحوزات والجامعات الأكاديمية ذات الصلة بالدراسات الدينية والفلسفية. فهو علم جديد يفتح آفاقاً من التفكير لم تُعهد من قبل.
وقد فرض علينا هذا العلم الجديد أن نقدّم مفاهيم وتقسيمات مستحدثة كثيرة؛ تمتاز بالدينامية والفاعلية والثراء المعرفي والفلسفي دون ان تكون من النوع الساكن البسيط الذي لا يفيد ولا يثري ولا يثمر شيئاً.
كما نشير إلى ان هذا العلم لا يقتصر دوره على دراسة اشكالية الفهم الديني منهجياً، بل ينبسط دوره على دراسة العلوم المختلفة، وعلى رأسها العلم الطبيعي، وذلك استناداً إلى وجود بعض المشتركات الأساسية بين هذه الحقول المتنوعة، فكل منها يتأسس بناؤه على عنصرين متفاعلين، هما الذات البشرية - كما تتمثل في القبليات - والموضوع الخارجي، وبالتحديد ان كلاً من هذه الحقول يحمل أجهزة معرفية تتألف من خمسة أركان، وهي عبارة عن: المصدر المعرفي، والأداة، والموجهات والأصول المولدة، والاستنطاق (الاستجواب)، والانتاج المعرفي.
وتأتي دقة علم الطريقة من كونه يتدرج من البنية الأساسية العميقة للفهم إلى السطحية مروراً بالبنية الوسطى. فالبنية الأساسية هي شرط إمكان المعرفة وإن لم يعِها الباحث أو يفكر فيها. فلا تتأتّى معرفة هذا الشرط من دون «حفر» للوصول إلى أقصى منابع توليد الفكر.
فالبناء الفوقي للفكر بكافة مظاهره وأشكاله، ومنها ما يتعلق بالفهم الديني، قائم على البناء التحتي، وأن هذا الفهم بتجلياته المختلفة، سواء تعلّق بالقضايا السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية أو غيرها، كلها رهينة الفهم المتجذر تحتياً والمتصف بالكلية والشمول.. وإن بدا خفياً على مَن خضع له في الفهم وتوليد المعرفة.
ويمتاز علم الطريقة بأنه يتضمن الجمع بين فن التأويل المسمى الهرمنوطيقا، والإبستيميا العلمية. فهو يتضمن فن التأويل بإعتباره يعترف بأن كل فهم ليس بقدرته ان يتعالى على حدود التأويل والتأثر بالقبليات. وهو بذلك ينزع النزعة الذاتية كالذي تؤكد عليه الأدبيات الحديثة ونظريات التلقي، لكنه في الوقت نفسه يحمل الجذور الإبستيمية ليحافظ على المعاني العلمية دون ان يترك للهرمنوطيقا فوضى الفهم المنفتح بلا ضوابط ولا حدود، وبالتالي فهو يعمل على تضييق الممارسة الهرمنوطيقية قدر الامكان، لكنه يعترف باستحالة القضاء عليها. وبالتالي يمكن إعتباره جسر العبور من الهرمنوطيقا إلى الإبستمولوجيا وبالعكس.
وهو علم يكشف عن التواصل المعرفي بين محددات الموضوع المدروس وما يتطلبه من أسس وقوانين وسنن وقواعد اجرائية سابقة تعمل على افراز النتائج النهائية. فهو يقوم برصد الممارسة المعرفية من الخارج، ومنها الفهم الديني، عبر تحديد ما تستند إليه من تلك الأسس والقواعد والأدوات المنهجية. وبالتالي فهو لا يندرج ضمن مجرى الممارسة المشار إليها، بل يكشف عن أبعادها باستقالية تامة، وهي الأبعاد التي تعبّر عن العلاقة الكائنة بين الخارج والداخل، أو القبلي والبعدي، ومثل ذلك العارض والذاتي.
وفي الأساس هو علم يتناول القبليات بالفحص والتدقيق. وللقبليات أهمية هي كونها تتيح لنا الفهم والتفكير حتى وإن لم نتعقلها، فنفكّر بها وإن لم نفكّر فيها. وبالتالي فهي شرط لامكان الفهم والتفكير.
ومن القبليات ما تشكل قواعد كبرى هي تلك التي يبحثها علم الطريقة، وهي تختلف عن القواعد التي تعالجها الدوائر المعرفية بالبحث والتحليل، إذ تتصف الأولى بالكلية والشمول خلافاً للثانية التي تتصف بالضيق والجزئية. كما أن الأخيرة تتأسس على الأولى من دون عكس.
ولهذا العلم مسلمتان اساسيتان إحداهما تكامل الأخرى، وتنص الأولى على إعتبار الفهم غير النص، او ان الفهم غير الدين، فالفهم فهم والدين دين، فلا الفهم يتحول ديناً، ولا الدين يصير فهماً. كما تنص الثانية على كون الفهم هو نتاج مشترك لكل من النص والقبليات، بمعنى أن للذات البشرية دوراً في إنتاج الفهم مثلما للنص هذا الدور، ولأن للذات دوراً في التأثير على الفهم؛ لذا يصبح الأخير قابلاً للتشكل بأشكال مختلفة بلا حدود. والفهم من هذه الناحية شبيه بالعلم في علاقته بالطبيعة. فكل منهما قائم على موضوع خارجي هو الشيء في ذاته، وإنه لا سبيل للتعرف على هذا الشيء من غير أدوات الذات البشرية وقبلياتها وإعتباراتها، سواء أدى ذلك إلى الابتعاد عن معرفة كنه الشيء أو الاقتراب منه.
وبذلك ترتبط اشكالية علم الطريقة على الصعيد الديني بالفهم. فالنص ذاته يُحدث امكانات للفهم متعددة ومفتوحة بلا حدود. إذ يتالف النص من ألفاظ وسياق ومجال، وهذه العناصر الثلاثة تضفي عليه امكانات للمعاني المختلفة حتى مع فرض ثبات سائر العوامل الخارجية، كتلك المتعلقة بالواقع. فطالما كانت هناك معاني مختلفة للألفاظ، وهي تشكل العمود الفقري للنص، فذلك يجعل من الفهم متشعباً ومفتوحاً على مصراعيه. وبالتالي تعتبر هذه الحالة سنة من سنن الفهم التي لا تتوقف على شيء، ولا تنضبط بضوابط وقواعد. فالفهم هنا هو فهم تكويني أو وجودي وفقاً للتعبير الغاداميري، فهو فهم مفتوح وسيال مسترسل بلا حدود، سواء كان فهماً منضبطاً بقواعد محددة أم لا. فأي نص عندما يدخل ساحة الفعل والوجود فسيواجه الفهم المفتوح بلا حدود من الناحية السننية أو الوجودية. ورغم ان حالة الفهم المفتوحة ليست حتمية، بمعنى انه لا يمتنع ان يتفق الكل على فهم محدد للنص دون زيادة ولا نقصان، لكن إحتمال حصول ذلك هو من المستبعد لدى الجماعات البشرية كذوات قارئة. ولا شك إن هناك عوامل عديدة تلعب دوراً في زيادة إنفتاح الفهم وتعدده، مثل غموض النص وإجماليته، ومثل مساحة رقعة النص، وهي سلاح ذو حدين، فقد تكون المساحة ضيقة ومجملة مما يجعل النص قابلاً للتأويلات الكثيرة، كما قد تكون المساحة واسعة فتضفي أبعاداً تقريبية لتضييق دائرة التأويل، لكنها في الوقت ذاته قد تفتح مجالاً أكبر للتأويل بقدر وساعة الرقعة ذاتها.
على أن الفهم يجري على نحوين، فهو إما أن يتعلق بالنص مباشرة، أو ينشأ عبر التوسل بأفهام أخرى، وغالباً ما يحصل الأخير. فالذي يفسّر القرآن مثلاً؛ يلجأ إلى التوسط بسائر التفاسير لينتهي إلى ما يعتقده من نتائج، ونادراً ما يبدأ التفسير بالاعتماد المباشر على النص من دون هذا التوسط. ويتحقق مثل هذا الحال في العلم الطبيعي مع بعض الإختلاف كما سنشير. فقد يُخضِع العلماء نتائجهم النظرية وفق التجارب والملاحظات المباشرة، كما قد يستعينون في ذلك بسائر النظريات المعتبرة أو المسلم بها. فمثلاً إن أينشتاين بلْوَر نظريته عبر الاستعانة بجمع نظريتي نيوتن وماكسويل، وأن من أتى بعده استعانوا بنسبيته كمسلمة أساسية لإبداء وجهات نظرهم العلمية حول الكون، ومثل ذلك التوسط بنظرية الكوانتم، أو التوسل بهذه الأخيرة بمعية النسبية لدى الذين حاولوا توحيد قوى الطبيعة الأربع. وسواء جرت الممارسة العلمية بشكل مباشر أو غير مباشر فإن مؤسسة العلم تتقبلها من دون تحفظ، خلافاً لما يجري في الفهم. فالمؤسسة الدينية تتحفظ غالباً من ممارسات الفهم المباشر؛ بحجة التخوف من عدم استيفائها لشروط البحث الإجتهادي، وترى ان من ضمن هذه الشروط هو الإستفادة من البحوث التراثية. وأحياناً تكون هذه الدعوة مجرد غطاء لتمرير التقليد ورفض كل طرح جديد. وعليه فإن تفاسير القرآن الحديثة المقطوعة الصلة عن الأعمال التراثية هي غير مقبولة لدى الأوساط الدينية واعتبارها تفاسير متهورة، فهي بالنتيجة تغرّد خارج السرب.
كذلك قد لا يتعلق الفهم بالنص ذاته وانما بفهم مثله، فيكون فهماً للفهم. وهو من هذه الناحية يُعد فهماً غير مباشر للنص، وانه يتعامل مع نظيره بجعله نصاً يستحق الممارسة الفهمية، كالذي يزاوله الشرّاح في تفسير ما يقدّمه الآخرون من فهم مباشر للنص. وبذلك ينشأ «فهم الفهم». وقد يتسلسل الحال عبر الأفهام العمودية التي يتركب بعضها على البعض الآخر، فإذا كانت السلسلة ثلاثية الأفهام فإن آخرها يوصف بأنه (فهم فهم الفهم)، وقد يزداد التراكب ضمن السلسلة بلا حدود، حيث تكون رباعية أو خماسية أو أكثر. وكلها تمثل حجباً عن النص الأصلي، وكلما زاد التراكب كلما زاد البعد عن الأخير؛ ما لم تشكل نوعاً من الاستفادة لفهم النص ذاته بوعي ونقد. وينطبق الحال ذاته في العلم، فقد تتأسس نظرية على المعطيات الواقعية، ثم تقوم نظريات أخرى بشرحها أو تأويلها فيحصل ما يمكن تسميته بنظرية النظرية، وقد يتسلسل الحال مثلما يجري في الفهم.
كما قد تتخذ الأفهام من بعضها إنموذجاً ارشادياً (بارادايم paradigm)، فالذين يتأثرون بنظرية معينة، قد يرفعونها الى المستوى الارشادي ضمن ممارساتهم النظرية الأخرى، وقد يحصل ان تكون شخصية فكرية معينة هي محور الإرشاد النظري أو جعلها مجالاً مركزياً للتقليد، وربما يُضفى عليها القداسة المعرفية لمنع تجاوزها والتحول إلى غيرها. وكل ما ذكرناه ينطبق على مجالات التفكير الأخرى غير المتعلقة بالنص، كالمجال العلمي والفكري والأدبي.