-
ع
+

مفاتح البحث الميتافيزيقي والوجود الالهي

يحيى محمد

نقف أمام العالم الخارجي كما يقف الإنسان أمام بابين: أحدهما مفتوح مشرَع، يطلّ على عالم مألوف يمكن للعين أن تخترقه والعقل أن يحلله، والآخر موصد، يقبع خلفه، عالم غيبي غارق في الظلمة والاحتمال، لا يُرى إلا بعيون تتجاوز حدود الحسّ، ولا يُدرك إلا بعقل ينفذ في ما وراء الظاهر.

ولكلّ من هذين العالمين، الظاهر والخفي أدواته الخاصة، وآليات التعامل التي تليق بجوهره: فالعالم الأول هو عالم حسي يخضع للمعاينة والاختبار بانفتاح، على عكس العالم الخفي الذي يقبع خلفه، حيث يتميز بالاقفال والاغلاق، ومن ثم يحتاج إلى بعض المقاليد المناسبة لفتحه.

وينقسم العالم الخفي إلى عالمين: طبيعي وميتافيزيقي، وفي كلتا الحالتين لا بد من اختيار المفاتيح المناسبة لفتح أقفالهما. فليس كل مِقلاد يصلح لكل قفل، بل لا بد من مراعاة خصائص القفل لاختيار المِقلاد الملائم له.

فعلى صعيد العلوم الطبيعية يركز العلماء على نوع خاص من التجارب التي تتناسب مع ما يرغبون في كشفه من الواقع، فليست كل تجربة قادرة على كشف ما يكتنزه العالم الخفي من حقائق.

فمثلاً في بداية القرن العشرين استعان الفيزيائي البريطاني ارنست رذرفورد بتجربة فريدة لاكتشاف ما يختبئ داخل الذرة، فاستخدم جسيمات أشعة ألفا الموجبة الشحنة، ووجهها نحو لوح معدني تعترضه رقيقة من الذهب. وقد اختار الذهب بسبب قابليته العالية للتقطيع إلى شرائح رقيقة. وكان هدفه معرفة ما إذا كانت جسيمات ألفا قادرة على اختراق هذه الشرائح أم لا. وهو اختيار يفي بالمطلوب. إذ لاحظ ان أغلب الأشعة تنفذ، فيما تنعكس بعضها، وقليل جداً منها ينحرف عن المسار، فانتهى به التحليل إلى الاعتقاد بوجود فراغ هائل في الذرة كما يدل عليه نفاذ أغلب الجسيمات، مع وجود نواة مركزية عالية الكثافة ومنتهية الصغر كما يدل على ذلك انعكاس بعض الأشعة، كذلك انتهى إلى ان شحنتها موجبة بفعل انحراف بعض الأشعة التي اقتربت منها لتنافر الشحنات المتماثلة.

فهذا ما أسفرت عنه تجربته الخاصة. وبذلك تمكن من أن يفتح القفل الخاص بالذرة من خلال مِقلاد التجربة المشار إليها.

هذا في العالم الطبيعي، ويصدق الحال ذاته في العالم الميتافيزيقي، حيث انه مقفل ويحتاج إلى مقاليد مناسبة لفتحه، خصوصاً عندما نتعامل مع المسألة الإلهية. فليس ثمة مسألة ميتافيزيقية أهم منها، ولا قضية ظلت حاضرة في الفكر الفلسفي والانساني أكثر منها. ونعلم ما لهذه المسألة من انعكاسات خطيرة على مبحثي الوجود والقيم وما يترتب عليهما من آثار على حياة الانسان وسلوكياته.

وبلا شك يعتمد علاج هذه المسألة المركزية على نوعية مفاتح البحث الابستيمي الميتافيزيقي والتي تختلف حولها المذاهب الفلسفية. ويمكننا تصنيفها – مبدئياً – إلى ثلاثة أنواع، نصطلح عليها بكل من: تعليق الحكم، والنفي، والإثبات.

ونقصد بالأول ذلك الذي يجعل عالم الميتافيزيقا مغلقاً أمام البحث المعرفي الابستيمي، كالذي تلتزم به مدرسة الوضعية المنطقية، ومن قبلها المذاهب الشكية القديمة والحديثة مثل شيشرون وسكستوس ومونتاني وشارون.

كما نقصد بالثاني ذلك الذي يعتبر القضايا الميتافيزيقية وهمية تماماً، كالذي تعتقده المذاهب المادية والإلحادية عبر التاريخ والى يومنا هذا.

في حين نقصد بالثالث ما هو عكس الثاني، إذ يذهب إلى امكانية اثبات القضايا الميتافيزيقية، وعلى رأسها المسألة الإلهية، كما هو حال المذاهب الفلسفية القديمة والمدارس اللاهوتية، فضلاً عن كثير من الاتجاهات الفلسفية الحديثة.

وقديماً قدّم الفلاسفة العديد من المقاليد المقترحة لفتح أقفال عالم الميتافيزيقا واثبات قضاياه، بعضها كانت خاصة، وبعضها الآخر مشتركة؛ لاتصافها بسهولة الاقناع من قبل الفلاسفة والعقلاء، خلافاً للمقاليد الخاصة، حيث تقبّلها البعض دون البعض الآخر، أي أنها موضع التزام مذاهب معينة دون أخرى.

فمثلاً ان الدليل الانطولوجي على وجود الله، كما طرحه القديس انسليم وصاغه ديكارت وغيره، لا يعتبر مقبولاً لدى أغلب مذاهب الفلسفة الإلهية أو الاثباتية، ومثله دليل الصديقين كما طرحه ابن سينا ومن بعده صدرالمتألهين الشيرازي، فهو قائم على بعض التعريفات والمسلمات التي لا تحظى بقبول اللاهوتيين والكثير من الفلاسفة الاثباتيين. ومثل ذلك ما طرحه اللاهوتيون من دليل الحدوث، إذ لا يحظى هو الآخر بموافقة الفلاسفة، لذلك أشكل عليه فيلسوف قرطبة ابن رشد في (مناهج الأدلة في عقائد الملة).

أما المفتاح العام للاثبات فيتصف بأنه قابل للاشتراك العام والموافقة التامة لسهولة ادراكه والاقتناع به لدى الفلاسفة الإلهيين. فعلى الأقل انه يقبل التطبيق على الشاهد، وبالتالي يمكن توظيفه في الغائب.

معايير الكشف عن الإله

باعتقادنا ان من الممكن حصر المبادئ المشتركة للمفتاح العام في إثبات المسألة الإلهية بثلاثة أساسية، هي: السببية الانطولوجية العامة[1]، والمنطق الاحتمالي الاستقرائي، ومبدأ البساطة. لكن الأخير عنصر متمّم وليس مستقلاً بذاته كما هو حال المبدأين الآخرَيْن.

لذلك فثمة مِقلادان أساسيان يحظيان بقيمة عالية في فتح القفل الرئيسي لعالم الميتافزيقا. وهما مبدأ السببية العامة والمنطق الاحتمالي الاستقرائي، وكلاهما من القضايا القبلية الواضحة للمعرفة البشرية، أي أنهما من المقاليد المشتركة. لكنهما يختلفان فيما بينهما بخاصيتين كالتالي:

الخاصية الأولى:

يتصف المِقلاد الأول، كما يتمثل في السببية العامة، بطابعٍ انحيازي، بخلاف المِقلاد الثاني المتمثل في منطق الاحتمال الاستقرائي والذي يتسم بالحياد. فالسببية تنطلق من حكمٍ مُسبق اتجاه القضايا الخارجية، مفاده أن الأشياء بحاجة إلى الأسباب عندما توجد، فما من شيء يوجد إلا عن سبب، وهو حكم يعبّر عن الانحياز في نفي أن يكون للعدم المطلق دور في ايجاد الشيء. أما منطق الاحتمال الاستقرائي، فهو لا يصدر عن حكم مُسبق؛ إذ يظل محايداً تجاه القضايا الخارجية، فلا يُثبت ولا ينفي، بل يكتفي بصياغة افتراضات منطقية مجرّدة، ويبني ترجيحاته على ما يُجمع من قرائن تدعم أحد الاحتمالات الممكنة.

فمثلاً نحن نعلم ان رمي قطعة نقد متماثلة الوجهين يعطي قيمة احتمالية بقدر النصف لكل وجه. فهذا الحكم محايد لا ينحاز إلى هذا الوجه، ولا إلى ذاك. وإذا كنّا لا نعلم بتماثل الوجهين؛ فعلينا ان نرمي قطعة النقد عدداً كبيراً من الرميات لنعرف أي الوجهين أكثر ظهوراً من الآخر. والعملية في هذا المنطق هي أشبه بتجميع عدد الأهداف التي تسجلها الأطراف المتنافسة في السباقات الرياضية، كما في لعبة كرة القدم.

الخاصية الثانية:

يقتصر استخدام السببية العامة – المِقلاد الأول - على فتح الأقفال الضعيفة لا القوية، أي اثبات القضايا المتصفة بالمعنى الضعيف. أما منطق الاحتمال الاستقرائي – المِقلاد الثاني – فله قابلية التعامل مع الأقفال القوية، أي القضايا التي تتصف بالمعنى القوي، وهو ما يجعله من هذه الناحية أكثر أهمية، كما سنبرزه في هذا الكتاب.

على ان للمعنى القوي للاثبات أشكالاً مختلفة، بحيث ان بعضها يكون أقوى من البعض الآخر. ومن ثم يمكن تحديد أربعة أشكال متفاوتة من المعاني لمِقلاد الاثبات، أهونها ذلك الذي يطمح إلى اثبات مبدأ أصلي للوجود يتصف بالعقل اجمالاً، حيث به يفسر وجود سائر الكائنات الممكنة دون ان يدخل في معرفة تفاصيل هذا المبدأ؛ إن كان ذا قدرة وإرادة حقيقيتين أم لا؟ كالذي تطمح إليه السببية العامة، حيث انها لا تثبت إلا القضايا الميتافيزيقية بالمعنى الضعيف، فهي لا تثبت سوى مبدأ أصيل للوجود يتصف ببعض المواصفات المجملة. وقد اقتصر بعض الفلاسفة المسلمين على هذه الامكانية للسببية، كالذي اعتقده صدر المتألهين الشيرازي في بعض من كتبه مثل (مفاتيح الغيب). وكثيراً ما يلجأ الفيزيائيون الإلهيون إلى هذا المعنى المجمل مع تفاصيل قليلة مثل استبعادهم للإله الشخصاني. وبالتالي فهو يمثل المعنى الضعيف للاثبات.

ويقابل هذا المعنى ثلاثة أشكال من المعاني القوية، كلها لا تقف عند حد الاثبات المجمل؛ بل تقرر بعض التفاصيل المتعلقة بالقدرة والإرادة الإلهية. ويمكن ان نستعرضها كالتالي:

يتميز أحد هذه الأشكال بالحتمية الصارمة لنفيه القدرة الإلهية جملة وتفصيلاً، فالعلاقة التي تربط بين المبدأ الأول وصادراته الوجودية تخضع لأحوال صارمة كما تتمثل بقوانين العلة والمعلول، حيث يكون المبدأ الأول علة ما دونه من الموجودات. فرغم انه أكمل منها رتبة، لكنه يخضع مثلها تحت سلطة هذه القوانين. وأبرز من يعبّر عن هذا الشكل هو الفلاسفة القدماء ومن على شاكلتهم.

أما ثاني هذه الأشكال فهو على عكس ما سبق، حيث يتميز باثبات الإرادة المطلقة والقدرة التامة على خلق الأشياء من العدم الصرف بلا استثناء، كالذي يسعى إليه اللاهوتيون من مختلف الديانات السماوية عادة.

في حين يتصف الشكل الثالث بالتوسط بين الشكلين السابقين. فرغم انه يعمل على اثبات القدرة والإرادة الإلهية المتعلقة بظواهر العالم وصوره، لكنه يستثني من ذلك المادة الأصلية التي يُجرى عليها الخلق والصنع والتكوين. وبالتالي يتخذ هذا الشكل طريقاً وسطاً بين مقالة الحتمية الصارمة من جهة، ومقالة القدرة المطلقة على خلق الأشياء من العدم الصرف من جهة ثانية.

***

هكذا يمكن تصنيف الأشكال الأربعة السابقة إلى شكلين أساسيين من معاني الاثبات: ضعيف وقوي. ويتضمن الأخير ثلاثة أشكال مختلفة تقف قبال المعنى الضعيف، فهي تتضمن زيادة في درجات الاثبات مما يجعلها قوية رغم التفاوت فيما بينها، فبعضها يتصف بتمام القوة في المعنى الاثباتي، فيما يتصف البعض الآخر بالتوسط.

وبعبارة ثانية، ثمة معان مختلفة في درجات الاثبات: ضعيف وقوي ومتوسط. وليس لهذه الأشكال علاقة بقيمة الأدلة المطروحة، فسواء كانت أدلة صحيحة أو زائفة، أو كانت ممكنة أو ممتنعة، فذلك لا يقف حائلاً دون تصنيفها بالشكل المعروض وفقاً لدرجات الاثبات. فالمعنى الضعيف يتصف بأنه أسهل أشكال الاثبات مقارنة بغيره، وكلما زاد المعنى قوة كلما دلّ على كونه أكثر ايغالاً أو صعوبة. فالضعف والقوة لهما علاقة بدرجات الاثبات دون قيمته.

لذا أهون هذه الأشكال هو الأول (الضعيف)؛ باعتباره يمثل المعنى المجمل للاثبات من دون تفصيل. في حين يتصف الشكل القائل بالقدرة والإرادة المطلقتين بأقواها وأصعبها جميعاً. فالسمة التي يتميز بها هذا المعنى هو الخلق من العدم المحض، خلافاً لسائر الأشكال الأخرى، لذلك كان أقواها درجة وأشدها إشكالاً، فهو يبسط القدرة والإرادة على خلق كل شيء؛ مادة وصورة، فالعالم بأعراضه وجوهره مخلوق لله بلا استثناء.

ويقابل هذا المعنى ذلك الذي يحيل القدرة والإرادة كلياً، كالذي يصوره الفلاسفة القدماء. حيث يثبتون واجباً للوجود مع الاعتراف بواجبية غيره أيضاً، وإن كان بالعرض لا بالذات، فهما يشكلان علة ومعولاً، وهما بهذا النحو موجودان أزلاً وأبداً على حد سواء، ورغم ان العلة هي الأصل في وجود المعلول، لكنها تفتقر إلى معان القدرة والإرادة الحقيقيتين وفق هذه العلاقة الحتمية، ومن ثم لا مجال للفعل والخلق اطلاقاً.

ويقف بين المعنيين السابقين شكل متوسط هو ذلك الذي يتمسك بالقدرة والإرادة المحددتين بخلق ظواهر العالم وصوره دون ان يمتد إلى مادته الأصلية. فبحسب هذا المعنى يعتبر العالم بكل كائناته مخلوقاً للمبدأ الأول باستثناء المادة الأصلية التي يجري عليها الخلق والتصوير دون ان تخضع للخلق ذاته، وبالتالي فالإرادة الإلهية لا تتعلق بها، كالحال الذي يصفه التصور الارسطي في علاقة واجب الوجود بالمادة القديمة؛ التي يعمل على تحريكها واخراج صورها الممكنة باستمرار، أزلاً وأبداً. لكن التصور الأخير لا يتجاوز المعنى الحتمي الآنف الذكر، فهو لا يطمح إلى اثبات الإرادة الإلهية وقدرتها، بل يكتفي بجعل العلاقة بين واجب الوجود والعالم لا تتعدى الصورة الحتمية لارتباط العلة بالمعلول.

ومن الواضح انه ليس للشكل المتوسط الآنف الذكر شهرة مقارنة بالمعنيين الآخرَيْن من المعاني القوية. وأحياناً نجد مفارقات لدى بعض المحاولات التي تستند إلى المعنى القوي للاثبات رغم انها تتقيد ضمن حدود المعنى المتوسط، كالذي يظهر لدى عدد من اللاهوتيين الكلاميين، وعلى رأسهم ابو القاسم البلخي المعتزلي (المتوفى سنة 319هـ)، فهو يعتقد بأن الأجسام مخلوقة من طبائع لا يمكن تغييرها بعد أن خلقها الله كما هي عليه[2].

ومنطقياً ان فتح قفل عالم الميتافيزيقا لا يحتاج إلى أكثر من الكشف عن صدقية المعنى الضعيف للاثبات. ولو تحقق ذلك لكان انتصاراً للمذاهب الميتافيزيقية الإلهية على غيرها. وقد حظيت هذه القضية باهتمام العديد من علماء الفيزياء والبايولوجيا.

وفي كتابنا (صخرة الإيمان) لم نتوقف عند هذا الحد من المعنى الضعيف، بل ركزنا على ما هو أقوى منه.

كما نشير إلى أن عالم الميتافيزيقا الذي يُراد فتحه يمكن فهمه على نحوين: أحدهما اعتبار هذا العالم مفارقاً تماماً لعالمنا الطبيعي، والآخر اعتباره محايثاً له؛ لكن دون ان يكون جزءاً منه. ولا شك أن المفارق يُعدّ أكثر غموضاً وعمقاً، وأشد تعقيداً من حيث التصور، كما أنه أكثر تجذّراً في الميتافيزيقا.



[1]     انظر حول هذا النوع من السببية: يحيى محمد: السببية الاعتقادية وقضايا المعرفة، موقع فلسفة العلم والفهم: http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=117

[2]     للتفصيل انظر: يحيى محمد: النظام المعياري، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (4).

comments powered by Disqus