-
ع
+

ترسندالية الواقع الموضوعي

يحيى محمد

عندما ظهرت الطبعة الأولى لكتاب (نقد العقل المحض) للفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت تعرّض مؤلفه إلى سيل من الانتقادات التي تتهم نظريته بالمثالية الخالصة؛ مثل تلك التي سبق إليها باركلي[1]. وهذا ما دفعه إلى ان يرد عليها في طبعة الكتاب الثانية والكشف عن اختلاف مثاليته التي اوسمها بالترسندالية عن تلك التي تعود إلى باركلي وغيره.

تعترف المثالية الترسندالية بأنه لا المكان ولا الزمان ولا الظواهر لها وجود خارجي صرف، بل ما يمكن ان يتصفى في الخارج هو عالم مجهول يسميه (كانت) الشيء في ذاته، فموضوعات التجربة (الادراكية) ليست معطاة قط في ذاتها، بل فقط في التجربة ولا وجود لها خارجها.

إن وجود ظواهر في الذهن البشري هي ما تمثل الشيء لذاتنا؛ حيث تحضر مباشرة من دون استدلال، ويتوقف حضورها على جملة من القبليات. وكل هذه المعرفة سواء من حيث الظاهرة أو القبليات تعتبر واضحة دون أدنى شك. وعليها حاول (كانت) تأسيس استدلالاته على الواقع الموضوعي لتجسير الهوة بين الأنا والخارج، أو الذات البشرية والواقع الموضوعي.

لكن هل استطاع (كانت) ان يثبت الواقع الموضوعي؟ كما هل استطاع ان يثبت معه الشيء في ذاته؟ وهل للشيء في ذاته علامة ما في الواقع الموضوعي الصرف؟ فاذا كانت القضايا والمبادئ القبلية ليس لها أي حضور ووجود لدى أي من الواقع الخارجي وعالم الشيء في ذاته، وان كل ما نمتلكه هو الشيء لذاتنا المتشكل بفعل تحديد هذه القضايا لعالم الظواهر عبر الحدس الحسي المباشر، وان الاستدلال على أي من الواقع الموضوعي والشيء في ذاته يفترض أولاً وجود الظواهر التي تتشكل ذاتياً بفعل ذلك الحدس، فالنتيجة هي كيف يمكن ان نثبت اياً منهما ونحن لا نمتلك من ادوات غير تلك التي تتشكل في أذهاننا؟ فكيف نتأكد من وجودهما اعتماداً على تحديدات قضايانا الذاتية، وهي قضايا نسبية لا تمتلك اطاراً ضرورياً شاملاً من الناحية الانطولوجية؛ باعتبار ان أحكامها لا تمتد إلى الواقع الموضوعي الصرف ولا إلى عالم الشيء في ذاته؟

وبعبارة ثانية، ان كل ما نمتلكه هو هذا العالم الذاتي بما في ذلك علاقتنا المفترضة بعالم الظواهر، فكيف يمكن ان نستدل على الواقع الموضوعي والشيء في ذاته، وفيما اذا كانا يمثلان ذات الشيء من دون اختلاف؟

للأسف إن أول ما يواجهنا بهذا الصدد هو اعتقادنا بأن (كانت) يبدي واقعاً نسبياً مزيجاً من الحس والواقع، وهو عالم ينتفي بانتفاء الحس ذاته. انه عالم غير ما نعرفه عن الواقع الصرف الذي يتركه من غير بحث وتحديد. ولدينا من المؤشرات الكثيرة التي تبرر هذه القضية رغم ان (كانت) لم يكن صريحاً ازاءها.

إن لهذا المفكر نصوصاً متضاربة كما تبدو للقارئ، فبعضها يشير إلى ان الظواهر تمتثل في الواقع الموضوعي، فيما يشير البعض الآخر إلى انها تصورات ذاتية. ولو اعتمدنا على التفسير القائل بواقعية الظواهر لأصبحت نظرية هذا الفيلسوف متناقضة تماماً. لكن يمكن ان يجاب على التناقضات بوجود واقع موضوعي نسبي مرتبط بالحس البشري، فهو ليس منتمياً إلى الذات العقلية المجردة كما هو حال المقولات، كما انه ليس واقعياً محضاً كشيء في ذاته.

لذلك نعتقد ان هناك واقعين: الأول هو الواقع الصرف والذي لم يشر إليه (كانت) صراحة في البحث والاثبات، مثلما لم يتعرض إلى تحديد صفاته إن كانت له صفات محددة مميزة سوى ما قد يمثل الشيء في ذاته، وهو الموضوع الفلسفي الذي اولاه أهمية عظمى قبل انطلاقه لمعالجة القضايا الميتافيزيقية. أما الواقع الثاني فهو الواقع النسبي الممتزج بالحس، وهو الذي يلوّح إليه كثيراً.

وفي تعبير له عن الواقع الثاني المرتبط بالحس قوله صراحة: ان ‹‹العدد هو كم الظاهرة، والاحساس هو واقع الظاهرة، والثابت والدائم هو جوهر الظاهرة، والخالد هو ضروري الظاهرة››. فقد عبّر في هذا النص بأن الاحساس هو واقع الظاهرة، بمعنى انه ليس للظاهرة من وجود غير وجودها في الحس.

وحقيقة لو ان (كانت) كان يعترف بالوجود الواقعي المستقل للظواهر الفيزيقية؛ لشكلت نظريته أساس ما صنعته نظرية الكوانتم الفيزيائية. اذ لديها ان الظواهر الطبيعية تخضع لاعتبارات الزمان والمكان والسببية، فيما أعماق العالم الداخلي يخلو من هذه الروابط والقوالب، إلى درجة ان البعض اعتقد بأن العالم الجسيمي كما يتمثل في الالكترون يتحرك بفعل الإرادة الحرة التي لا تخضع لحتميات السببية، وهو ما يقرّب الصورة من فكرة الشيء في ذاته، رغم انه علة تشكل العالم الخارجي، مثلما ان الشيء في ذاته علة وجود الظواهر.

فالمفارقات التي تتضمنها فلسفة (كانت) قد تذكّر بالمفارقات التي حلت في الفيزياء المعاصرة لدى نظرية الكوانتم. فهناك شيء من الشبه بين المنظومتين قد توحي بأن الأخيرة متأثرة بفيلسوف التنوير. ففكرة عدم خضوع العالم الذري تحت نظام السببية الحتمية وكون تصرف الالكترونات هي تصرفات (حرة)، وكون هذا العالم هو أساس عالمنا الكبير الذي تسوده العلاقات الحتمية، كل ذلك يشابه بعض الشيء ما جاء به هذا الفيلسوف من نظرية الشيء في ذاته وكونه أساس الظواهر التي نتعامل معها معرفياً، رغم ان الأول يتصف بالإرادة الحرة فيما يتصف الآخر بالحتمية.

لقد أفرغ (كانت) الواقع الموضوعي من كل ما نتصوره وأبقى فقط على شيء واحد أحد هو الشيء في ذاته. وهو ما جعل مثاليته مختلفة عن المثالية الصرفة لباركلي. بل انه تردد في موضع وجود هذا الشيء إن كان يعود إلى الذات أم إلى الواقع الموضوعي. لذلك لم يوظفه في عملية اثبات هذا الواقع، انما سلك سبيلاً آخر ليدل على الأخير. وفي النتيجة انه دلل على كل منهما بأدلة مستقلة مغايرة من دون ان يوظف اثبات أحدهما في وجود الآخر. وهو ما يؤكد بأن الواقع الذي يريد اثباته هو الواقع النسبي لا الصرف.

وستتضح الصورة أكثر بأن الواقع الذي يريد اثباته هذا الفيلسوف هو الواقع النسبي الذي يلمّح إليه كثيراً، دون الواقع الصرف والمطلق والذي يميل إلى اعتباره حاملاً للشيء في ذاته، وهو بذلك لم يثبت شيئاً سوى الواقع البشري فحسب!

بادئ ذي بدء، لا ينفع الاعتماد في اثبات الواقع الموضوعي على مبدأ السببية، ولا غيره من المقولات، لكونها تشكل لديه روابط صورية مفترضة لتفسير هيئة الظواهر دون ان تكون من الحدسيات. وبالتالي لا نتوقع من هذا الفيلسوف ان يستعين بالمبدأ السببي أو غيره من المبادئ الذاتية لحل هذه المعضلة. لذلك فان له طريقة أخرى غير معهودة للحل. ومع هذا تعرضت نظريته إلى الاتهام بأنها ترْكَب الموجة المثالية كما سبقتها اطروحة باركلي، وهو ما دعاه إلى نقدها ليؤكد بذلك نهجه الخاص في اثبات الواقع الموضوعي، رغم ضعف هذه المحاولة.

لقد أثار (كانت) في اثباته للواقع الموضوعي عدداً من الافتراضات، يمكن ان نستخلص منها مبدأين؛ أحدهما بديهي فيما يحتاج الآخر إلى دليل مستقل. فالأول هو التمييز بين الحدس الداخلي والحدس الخارجي، وهو أمر بديهي. ويبدي (كانت) أحياناً اكتفاءه بهذا التمايز ليقرر ‹‹إن تجربتنا الباطنة ليست هي نفسها ممكنة دون افتراض التجربة الخارجية››. كما يقرر أيضاً: ‹‹يدلل مجرد الوعي بوجودي الخاص وعياً متعيناً امبيرياً على وجود الموضوعات في المكان خارجاً عني››.

لكن من الممكن تفسير مثل هذه النصوص طبقاً للمبدأ الثاني، وهو يتعلق بفكرة الزمان والتغير. فقد أقام (كانت) صلة بين اثبات الواقع الخارجي من جهة، وبين وعي الانسان لوجوده كمتعين في الزمان من جهة ثانية. فتعاقب الحس الباطني للنفس دال على الزمان، حيث تتعاقب الفكرة تلو الثانية، والعاطفة تلو الأخرى. فكل تعين زمني يشترط شيئاً دائماً في الادراك، وان كل تغير يفترض شيئاً دائماً في الحدس كي يدرك بأنه تغير، لكن حيث انه ليس هناك حدس دائم في الحس الباطن؛ لذا فهو موجود في الحس الخارجي.

وبعبارة ثانية، ان كل تغير وتعين زماني يفترض امراً دائماً. فلما كنا ندرك بأن الحدس الداخلي هو متعين وليس دائمياً، فبالتالي لم يبق إلا اعتبار الدائم مناطاً بالخارج لا الداخل. وهو ما يثبت الواقع الموضوعي لوجود شيء في الخارج حيث يتصف بالديمومة.

ومن الواضح ان هذا الاستدلال يفترض فكرة حاجة التغير إلى شيء دائم؛ بما يرتبط بفكرة الزمان. فالزمان لا يستدل عليه بالتعاقب الزمني، بل ان هذا الأخير يثبت قبلية الزمان كشيء دائم لا يجري عليه التعاقب. بمعنى انه لا يمكن ادراك تغير الزمن إلا من حيث افتراض وجود الزمان كشيء ثابت دائم قبلاً. والزمان لا يكون ثابتاً إلا لثبوت شيء آخر هو الجوهر في المكان. فهذه هي مصادرة (كانت) التي تعتبر فكرة الزمان الدائم مرتبطة بفكرة الجوهر الثابت. بمعنى ان ‹‹ادراك هذا الدائم ليس ممكناً إلا من خلال شيء خارج عني وليس من خلال مجرد تصور شيء خارج عني. وبالتالي فان تعين وجودي في الزمان ليس ممكناً إلا من خلال وجود الأشياء المتحققة التي أدلكها خارجاً عني.. ان وعيي بوجودي الخاص هو معاً وعي مباشر بوجود الأشياء الأخرى خارجاً عني››.

وكتعبير آخر على هذا المعنى قول (كانت): ‹‹إني لا أعي مباشرة إلا ما في داخلي، أي تصور للأشياء الخارجة عني›› مع الشك بوجود الأشياء خارجاً ‹‹غير أني أعي وجودي في الزمان من خلال التجربة الباطنة، وهذا أكثر من مجرد وعي بتصوري، إلا انه يساوي مع ذلك وعيي الامبيري بوجودي الذي لا يتعين إلا من خلال الصلة مع ما هو مربوط بوجودي وخارج عني. فوعيي لوجودي في الزمان هو اذن مربوط هوياً بوعي العلاقة بما هو خارج عني. فالتجربة اذن لا الاختلاف، والحسي لا المخيلة هما الذان يربطان بين الخارج وحسي الباطن ربطاً لا ينفصم››.

ويعتبر (كانت) صفة الدوام مرتبطة بالجوهر، فمبدأ دوام الجوهر يعني انه يبقى كما هو ثابتاً على الدوام رغم تبدل الظواهر، وكميته في الطبيعة لا تزداد ولا تنقص. وكل ما يتبدل للظواهر ينتمي إلى وجود هذا الجوهر، فما يتغير هو تعين وجوده، فاعراضه تتغير وهو دائم ثابت. فالأعراض هي تعينات الجوهر، والحركة ملازمة للجوهر المقوم، والدوام شرط ضروري لتعين الظواهر.

فهذه هي ذات النظرية التقليدية لدى الفلاسفة القدماء، وإن كان لصدر المتألهين موقف آخر مغاير لسنا بصدد طرحه هنا. فالجوهر مضايف للعرض بحسب (كانت)، ولو انه تغير لكان الفرض متناقضاً، بمعنى لأصبح عرضاً وليس جوهراً. وإن كان من حيث التحقيق ان اعتبار الجوهر متغيراً كالعرض ليس متناقضاً ولا يجعله ذلك عرضاً بالضرورة، فالصفة التي يحملها وهي كونه موضوعاً للاعراض هي ما تجعله مختلفاً عن العرض، باعتبار ان الأخير لا يمثل موضوعاً لشيء. لكن يظل الجوهر في جميع الأحوال أسّ تبدل الظواهر، ووفقاً لهذا الفيلسوف انه يبقى والاعراض تتبدل، وفيه وحده يمكن تعيين تتالي الظواهر وكونها معاً. وهو لا يطلق إلا على ما نفترض وجوده في كل زمان، أي انه دائم، رغم انه لا دليل على هذا الدوام لكنه واضح وتحصيل حاصل. وعليه انتهى هذا الفيلسوف إلى ان من غير الدائم ليس ثمة علاقة زمنية، كما ان سبب دوام الزمان هو لدوام الجوهر. فالجوهر هو دوام الواقعي في الزمان. فهو يدوم حيث يتبدل الباقي، فالزمان ثابت ودائم كمناسب لشيء ثابت في الوجود وهو الجوهر.

وبحسب (كانت) فان الجوهر هو كالمكان يعتبر من القبليات، فكل شيء لو انتزعناه مما هو امبيريقي فسيبقى شيء لا يمكن انتزاعه، وهو المكان ومثله الجوهر. وبالتالي فهما من القضايا القبلية التي لا تستمد من التجربة. فمثلما ان المكان شرط قبلي لإمكان الظواهر الخارجية. فكذلك هو الحال مع الجوهر الحامل لهذه الظواهر.

فالحامل الأول لسببية كل ما ينشأ ويفنى لا يمكن ان يكون هو نفسه النشوء والفناء. وهذه القضية بنظر (كانت) هي استنتاج موثوق يؤدي إلى الضرورة الامبيرية والدوام في الوجود ومن ثم إلى مفهوم الجوهر. فالجوهر ثابت رغم توارد الصفات عليه، فهو لا ينشأ ولا يتبدل بل تنشأ حالته، والتغير الذي يحصل في حالته لا يمثل صدوراً عن عدم. وعندما يعتبر هذا الصدور بمثابة مسبب لسبب خارجي يسمى خلقاً. والخلق ليس حادثة بين الظواهر، وذلك لأن إمكانه يلغي وحده وحدة التجربة.

لقد ركز (كانت) على اعتبار الدائم يتمثل بالجوهر، ومثله المكان الذي اعتبره الوحيد المتعين بشكل دائم خلافاً للزمان، وان كل تغير أو تحول لحالة معينة - مثل (أ) هنا أصبحت هناك - فانه يفترض شيئاً دائماً في الحدس، وحيث لا يوجد حدس دائم في الحس الباطن كما في الزمان، لذا فهو في الخارج، أي في المكان. اذ ‹‹لا يمكن لمقولة الاشتراك من حيث إمكانها ان تفهم قط بمجرد العقل، ولا يمكن من ثم ان نرى الواقع الموضوعي لهذا الافهوم من دون حدس، أي من دون حدس خارجي في المكان، اذ كيف نريد ان نفكر إمكان ان توجد عدة جواهر›› تتفاعل من دون مكان مفترض سلفاً؟ وذلك كردّ على نظرية لايبتنز.

هكذا لا يمكن ان نرى الواقع الموضوعي من دون حدس خارجي في المكان. فالمكان يتضمن قبلياً علاقات خارجية صورية كشرط لإمكان العلاقات الواقعية ‹‹في الفعل ورد الفعل وبالتالي الاشتراك››. وهو ما يفترض الجوهر ومن ثم الزمان. لذلك فان (كانت) يرى انه لا يمكن ان نفسر الواقع إلا بتصور زمن يكون إما ممتلئاً بهذا الواقع أو فارغاً منه، لكن لو أُهمل الدوام الذي هو وجود في كل زمن فانه لن يبقى لنا من أجل مفهوم الجوهر سوى التصور المنطقي للحامل، ومن خلال ذلك لا يتعين أي موضوع لاستعمال ذلك المفهوم.

من كل ما سبق يمكن اختصار استدلال (كانت) على الواقع الموضوعي من خلال الفقرة التالية:

لقد أناط هذا الفيلسوف اثبات الواقع الموضوعي بالوعي الداخلي في الزمان، وللزمان صفة الديمومة لارتباطه بشيء دائم، ومن المؤكد ان هذا الشيء ليس في داخلنا، بل هو خارج عنا، وهو الجوهر في المكان، وبذلك يثبت الواقع الخارجي.

هذا هو مجمل استدلال (كانت) على الواقع الموضوعي، وهو استدلال يحمل عدداً من الثغرات المخلة، كالذي نستعرضه خلال الفقرات التالية:

قد يبدو كلام (كانت) حول علاقة الديمومة بالزمان متناقضاً. فالديمومة هي وصف زماني، والزمان ليس له اعتبار خارجي لدى هذا الفيلسوف، لذا كيف يمكن ان يكون شيء يتصف بالدوام وهو داخلي فينا، مع ان حياتنا منقطعة من دون دوام؟

إن فحوى دليل (كانت) يعتمد على التمايز بين الحدسين الداخلي والخارجي، واننا بالحدس ندرك بأن الأول متعين في الزمان خلافاً للثاني. لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد: ما الذي يمنع ان يكون الحدس الخارجي المنطوي على الديمومة وهماً، طالما ما زلنا تحت إطار الحدس، وقد يخطئ هذا الحدس، فالحدس الداخلي هو حدس حضوري لا يحتاج إلى دليل، فيما الحدس الخارجي يحتاج إلى هذا الدليل، فقد يكون وهماً ذاتياً مثلما نتوهم أشياء كثيرة، ومثلما نتصور ونحن في عالم الأحلام ان الحياة التي نزاولها هي حقيقة خارجية. ففي الأحلام ليس هناك فارق نوعي بين الحدسين الداخلي والخارجي، حيث كلاهما يعودان إلى الداخل لا الخارج. واذا كان الحدس الخارجي يدلنا على الديمومة الواقعية، فلماذا رفض (كانت) ان يكون للمكان واقعاً في الخارج رغم حدسه الخارجي. أي ما الفرق بين هذين الحدسين؟ لماذا أحدهما يدل على الخارج فيما لا يدل الآخر عليه؟

إن استدلال (كانت) على الواقع الموضوعي من خلال ربط الدوام الزماني بالدوام الخارجي للجوهر يفترض مبدأ السببية القائل بأن من المحال ان يصدر شيء من لا شيء. فنحن لم نجرب الدوام، وكل تجربتنا الذاتية منقطعة، وبالتالي ما الذي يضمن لنا وجود علاقة بين دوام الزمان والجوهر الخارجي من دون افتراض السببية؟ بمعنى ما الذي يضمن لنا دوام الجوهر وثباته وانه لم يصدر عن لا شيء لولا مبدأ السببية؟ مع ان السببية لدى (كانت) هي من المقولات الصورية التي ليس لها وظيفة الكشف والحدس بل الربط فحسب. بل ان (كانت) لا يعول على السببية فيما يتعلق بالجوهر، فهو يربط السببية بالظواهر فحسب، الأمر الذي اضطره إلى افتراض مبدأ آخر قبلي اطلق عليه مبدأ الدوام الذي وصف به الجوهر وعبّر عنه بأن من المحال ان يصدر شيء من لا شيء. والعجيب ان هذا المضمون هو ذات المضمون السالب للسببية، فمن حيث المضمون الموجب تعني بأن كل صادر يحتاج إلى سبب لصدوره، وهو ما يعترف به (كانت)، أما من حيث المضمون السالب أو العدمي، فهو انه لا يمكن ان يكون هناك صادر من دون سبب مطلقاً، أو ان من المحال ان يصدر شيء من لا شيء، وما الدوام إلا نتيجة المضمون السالب لمبدأ السببية.

وبعبارة ثانية، يستنتج (كانت) من مفهوم دوام الجوهر مبدأ ‹‹لا يمكن صدور شيء عن لا شيء››. فهو ليس سوى استنتاج آخر لمبدأ الدوام، وبالاحرى لمبدأ الوجود المستمر لحامل الظواهر تخصيصاً، وهو معنى الجوهر. فلا شيء يتولد عن العدم، كما لا شيء يعود إلى العدم. ولكون الجوهر دائماً فهو لا يحتاج إلى علة عليا. فمبدأ الدوام هو مبدأ قبلي مثل مبدأ السببية. وحقيقة ان (كانت) لم يقل شيئاً سوى تحصيل حاصل.. فالجوهر دائم وثابت لأنه دائم وثابت.. في حين انه كان يفترض ان يستدل عليه من خلال مبدأ السببية الذي يحيل ان يصدر شيء من لا شيء. واذا كان هذا الفيلسوف يمنع صدور الجوهر من علة خارجية لمبدأ الدوام كما يقول، فكيف أجاز ان تصدر سلسلة الأسباب والمسببات من الإرادة الحرة للشيء في ذاته، رغم ان الأولى تتصف بالدوام الثابت، وان الأخيرة – أي الإرادة - هي علة خارجية غير مشروطة بالظواهر الطبيعية وقوانينها السببية؟!

لقد ربط (كانت) اثبات الواقع الموضوعي بالمشترك من الجواهر في المكان، لكن هذه العناصر تعتبر لديه من التصورات القبلية، وبالتالي كيف يعتبر هذه التصورات التي ليس لها حقيقة واقعية مطلقة أساساً لاثبات الواقع؟ فهذا الفيلسوف يسلم بالحقيقة الخارجية للظواهر في المكان والزمان، وقد اوهم ذلك البعض بوجود الظواهر في الواقع الخارجي، خاصة وان لدى (كانت) من النصوص ما يبدي هذا المعنى، لكنه سرعان ما يعتبر ذلك من التصورات، وهو رغم هذا يميزها عن الحلم وفقاً للقوانين الامبيرية. اذ يرى ان هناك اختلافاً بين الحقيقة الامبيرية للفكرة وبين الحلم. ومن ثم فهو لا يتجاوز في تقريره الواقع الحسي دون الواقع الموضوعي الصرف. فالذي نفهمه بعيداً عن نصوصه التي تبدي التناقض ان الواقع الموضوعي لديه يتداخل مع الحساسية البشرية، فاحدهما مندمج مع الآخر، وبهما يتشكل الحدس المكاني ومضامينه. بل يخيل إلي ان (كانت) يكاد يتحدث عما يشبه أحوال المعتزلة فيما يخص الظواهر، فيبدي انها ليست حسية باطنية، بل حسية خارجية لكنها في الوقت ذاته تشكل تصورات ليس لها واقع موضوعي حقيقي، حيث يصفها بالواقعية أو حتى الحدس الخارجي والحسي. وهي اشبه بالاعيان الثابتة لدى العرفاء، فلا هي موجودة خارجاً، كما انها ليست معدومة. أو هو يذكر بالوصف الفيزيائي الغريب حول قطة شرودنجر كما روجت إليه مدرسة كوبنهاكن الكوانتية، فاعتبرتها ليست حية ولا ميتة، بل معلقة حتى يُفتح الصندوق. ويعرّف (كانت) الموضوعات الخارجية بأنها ليست سوى مجرد تصورات لحساسيتنا التي صورتها المكان، ومتضايفها الحقيقي هو الشيء في ذاته الذي لا يعرف ولن يعرف.

فمن وجهة نظر (كانت) ان أذهاننا مصممة بالشكل الذي نرى الأشياء الخارجية كما هي وفق عدد من المقولات القبلية، وان هذه المقولات تظهر لنا واضحة جلية، وهو يبدي ان لهذه المقولات واقعاً موضوعياً حيث يشير إلى انه لا معنى ان تكون كذلك ان لم يكن لها واقع موضوعي، فيوهم بأنه يصادر هذه المقولات في نسبتها إلى الواقع الظاهر، في الوقت الذي يغيّبها من عالم الشيء في ذاته. فهناك عالم مزدوج بنوع من المفارقة، فمن جهة هناك عالم يشتمل على الظواهر الطبيعية التي تتأطر بالزمان والمكان وتتضمن علاقات سببية حتمية، وعبارات (كانت) توهم أحياناً بأن هذا العالم هو موضوعي خارجي يقابل عالماً آخر باطني يخلو من تلك الاطر والعلاقات. وكأن هناك مفارقة لدى الواقع؛ ظاهره يناقض باطنه، وان هذه المفارقة المفترضة تشابه ما يدعو إليه العرفاء من وجود عالمين متناقضين، أحدهما ظاهر يمتثل لكل القضايا المنطقية والعقلية والضرورية، في حين ان باطن هذا العالم يتحرر كلياً من هذه القيود دون ان يمتثل لها أبداً. فحتى بخصوص مبدأ عدم اجتماع الأضداد فانه لا يتحكم بهذا العالم الخفي، فهو جامع الأضداد والتناقضات، وهو المتحرر من كل قيد وشرط ووصف، وهو الأحد بلا إسم ولا رسم ولا نعت[2]. وهو بالتالي أشبه ما يكون (الشيء في ذاته) المجهول الهوية واللامشروط بحسب تعبير فيلسوف التنوير (كانت).

نعتقد ان الأصل في الزمان لا يرتبط بالجوهر المادي ذاته، وانما بمطلق الوجود، سواء كان الوجود ذاتياً أو خارجياً، ودوام الزمان نابع من دوام هذا الوجود باعتباره عارضاً عليه. وبالتالي لا يمكن ان يكون الزمان دليلاً في حد ذاته على الواقع الموضوعي.

إن من المفارقات التي سقط فيها (كانت) هي انه اعتمد في اثباته للواقع الموضوعي على دوام الزمان، في حين انه قد ذهب فيما بعد إلى ان الزمان ومثله المكان لا تعلم حقيقتهما إن كانت تتضمن الدوام واللانهاية أم لا، وهو المبرر الذي جعله ينكر وجودهما الواقعي. وتنطوي هذه النتيجة على مفارقتين، احداهما اقراره بعدم وجود ما يثبت التسلسل في الزمان، وهو ما يعني العجز عن اثبات الدوام الثابت خلافاً لمصادرته السابقة التي اعتمد فيها على اثبات الواقع الموضوعي. كذلك فانه قد نفى واقعية كل من المكان والزمان وما فيهما من ظواهر، وذلك على خلاف ما أراد اثباته عبر فكرة الجوهر وعلاقته بالزمان.

وبالتالي فما يغزله هذا الفيلسوف هنا ينقضه هناك!

وعموماً نعتقد انه لا سبيل لنا للاستدلال على الواقع الموضوعي جملة؛ كالذي فصلنا الحديث عنه في (الاستقراء والمنطق الذاتي).


[1]           اعتمدنا في كل ما يتعلق بتفصيل نظرية عمانوئيل كانت على كتابه: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الانماء القومي، بيروت، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[2]           لدى الصوفية ان هوية الحق تقبل الأضداد والصور لكونها محيطة بالكل وشاملة للجميع، وقد سئل أبو سعيد الخراز: بم عرفت الله؟ فقال: بجمعه بين الاضداد، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهذه الحدود – بحسب ما يراه العرفاء - تصدق عليه من وجه واحد وليس من وجوه متعددة كالذي يتوهمه العقل ويحيله[2]، فالعقل لا ينسب الضدين إلى شيء واحد إلا من جهتين مختلفتين، لذلك كان هناك طور فوق طور العقل المشوب بالوهم، وعلى رأيهم انه ليس لنا الإحاطة بحدود جميع صور العالم وأرواحها وحقايقها ومعانيها، ومن ثم لا يمكن حد الحق، فهو لا يتميز بخصوصية تفصله عن خصوصية أخرى، وإلا كان محدوداً ومقيداً بتلك الخصوصية، وبالتالي فحيث لم تنحصر الصور وتنضبط التعينات غير المتناهية؛ لذا لا يمكن حد الكل إلا بمجمل كليته (انظر حول ذلك: ابن عربي: الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1998م، ج1، ص2432. وترجمان الاشواق، دار صادر، بيروت، 1386هـ - 1966م، ص85. وداود بن محمود القيصري: مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، منشورات انوار الهدى، الطبعة الأولى، 1416هـ، ج1، ص260. ومؤيد الدين الجندي: شرح فصوص الحكم، تعليق وتصحيح جلال الدين اشتياني، انتشارات دانشگاه مشهد، ايران، ص277-279).

comments powered by Disqus