-
ع
+

الانبثاق الكوني والنظريات الضمنية (2)

يحيى محمد 

تواجه نظرية قفزة الكموم الكونية - التي تحدثنا عنها خلال الحلقة السابقة - مشاكل كبيرة فيزيائياً وفلسفياً. ويمكن استعراض هذه المشاكل بحسب النقاط التالية:

الى يومنا هذا لم تتوضح الكيفية التي نشأ فيها كوننا الحالي، فحتى لو افترضنا ان الفضاء قابل لانتاج الجسيمات التقديرية وبالتالي قابل لانتاج زوج المادة والمادة المضادة، فان ذلك لم يوضح كيف امكن للمادة ان تنجو من الموت وتنتصر فيما تغيب المادة المضادة كلياً بفعل الفناء الحاصل بينها وبين غريمتها الاولى.

فكما عرفنا ان هذه الجسيمات بعضها يفني البعض الاخر دون ان ينشأ منها ما يكون لصالح هذا او ذاك، ودون ان ينشأ من ذلك مادة وكون. لهذا افترض الفيزيائيون من دون دليل تجريبي بان المادة في البدء قد نجت وانتصرت على مضادتها. وهم لا يعرفون كيف تم هذا الانتصار سوى اقتراحات لا دليل عليها، وحتى التجارب تبدي ان ما يحصل هو افناء احد الجسيمين للاخر مع اعطاء طاقة كبيرة من دون نجاة ولا زيادة للمادة.

والحقيقة ان الفيزيائيين يؤسسون افتراضاً مركباً بهذا الصدد. فبداية انهم يفترضون بان الفضاء الصرف يبعث على جسيمات متضادة، وليس لديهم دليل تجريبي على ذلك، لهذا سميت بالجسيمات التقديرية او الوهمية. ثم بعد ذلك يقيمون افتراضاً اخر على الاول، وهو انه اذا كانت هناك جسيمات مزدوجة تقديرية فلا بد ان يكون الانتصار للمادة على غريمتها المضادة، رغم ان تجارب المعجلات لم تكشف عن مثل هذا الانتصار المفترض.

معلوم ان الفيزياء المعاصرة تعول على تمدد الكون وتضخمه، وهي بالتالي تفترض ان الفضاء كان ضيقاً للغاية الى درجة النقطة تقريباً بما يسمى المفردة. ثم بعد ذلك نشأت الابعاد الزمكانية عند لحظة الانفجار العظيم. وهي الحقبة المقدرة بزمن بلانك من عمر الكون. في حين تعول نظرية القفزة الكونية على ان الكون قد نشأ فجأة من لا شيء. وليس المقصود باللاشيء هو العدم الصرف، والا كان خرقاً لمبدأ السببية جملة وتفصيلاً من دون مبرر ولا دليل، لكنها تعتبر القفزة قد تمت من الفضاء الصرف، حيث لا شيء موجود سوى هذا الفضاء الهندسي. لكن الفضاء بحسب التصور السائد لم يكن له وجود بعد، فهو مجرد نقطة او مفردة أولية من دون ابعاد هندسية، فالفضاء بابعاده المكانية قد انبثق عند زمن بلانك، وهو الزمن الذي يقدر فيه لحظة الانفجار. لذا فالسؤال الذي يرد في الذهن: من أين أتت هذه المفردة الكونية رغم انه لم يسبقها فضاء؟ او من أين جاء هذا الحد من الطاقة الضخمة في نقطة فضائية هي المفردة؟ فهي تمثل طاقة الكون كله. فما هو مصدر هذه الطاقة ولم يتشكل فضاء ثلاثي الابعاد بعد؟ واذا كان ما تقوله نظرية الكوانتم حول العلاقة العكسية بين الطاقة والفضاء صحيحاً؛ فان ذلك لا ينطبق على المفردة كنقطة لم تتحول بعد الى فضاء ثلاثي الابعاد، ناهيك عن ان هذه النظرية قد واجهت مشكلة كبيرة عند تحديدها لكمية الطاقة في المناطق الصغيرة من الفضاء كما سبق ان عرفنا.

ولكي تصبح نظرية القفزة الكونية متسقة كان عليها ان تعتبر الفضاء ازلياً فتتجاوز بذلك قوانين النسبية العامة، وانه لا مجال للقول بالتوسع الفضائي، فالفضاء السابق هو ما يتيح للقفزة الكمومية ان تحدث، لكن في هذه الحالة ليس من المنطقي ان تحصل قفزة واحدة، بل لا بد من قفزات لا متناهية، وان من بين هذه القفزات القفزة الكونية المتعلقة بعالمنا المشهود. وهنا نعود الى نظرية الاكوان المتعددة التي سنتحدث عنها في دراسة مقبلة.

كما هناك عدد من النظريات الضمنية التي حاولت ان تلتف على المفردة وتعتبر الكون يمر بدورات من التوسع والانكماش، ومن بينها مَن تعول على زمن بلانك كبداية ونهاية. حيث يبدأ التوسع منه حتى يصل الى اقصى حد له، ثم ينكمش ويعود الى ذات هذه الحقبة، وبعدها ينتفخ مرة اخرى وهكذا دواليك دون ان يبدأ من المفردة ولا ينتهي اليها. وهي فكرة تم طرحها لدى بعض المناصرين لنظرية الاوتار الفائقة، لكنها لا تفسر من أين أتت المفردة الكونية؟.

ليس الفضاء بحسب التصور المعاصر سوى ابعاد هندسية صرفة؛ رغم انها قابلة للتقلص والتوسع والتمدد والانتفاخ، كما هو فرض النسبية العامة، وانه يختزن في الوقت ذاته طاقة سكونية بالاضافة الى الطاقة المظلمة التي يبثّها عبر الجسيمات المتضادة.. وكل ذلك يجعل من مفهوم الفضاء لا معنى له ما لم يحمّل معنىً اثيرياً، او غشاءً رقيقاً. ومن الطبيعي ان يُسأل عن علة وجود هذا النسيج الاثيري، فهو ليس ثابتاً حيث ان طاقته تقل وتزداد، وهو في اماكن معينة أشد قوة من غيرها، لذلك لا بد من ان يكون لهذه التغايرات ما يبرر السؤال حولها. كما ان حمله للطاقة وقابليته على التراوحات وقفزاتها الكمومية؛ كل ذلك يحتاج الى تعليل. وفي النتيجة نجد انفسنا نواجه السبيية الميتافيزيقية وجهاً لوجه.

فلسفياً ان القفزة عندما تحدث في لحظة ما لا بد من تبريرها بسبب ما من الاسباب، فهي ليست حالة طبعية حتى يكتفى بسببيتها الذاتية دون التبرير الخارجي. وبالتالي فهي تحتاج الى سببية ميتافيزيقية خلافاً لما يحصل في حالة القوانين الطبيعية المعروفة. فهي تختلف مثلاً عما يتعلق بتحولات العناصر الثقيلة المشعة ذاتياً..

فبعض الافكار الواردة في هذه النظرية تشير الى وجود قفزة كمومية واحدة هي التي بدأ منها التشكل الكوني، وان نشوء اكوان أخرى انما جاء فيما بعد، كما هو رأي لورانس كراوس. ففي هذه الحالة سنعود الى مشكلة المفردة الكونية او الفقاعة الاولية التي نشأ منها كوننا الحالي. فمن الجلي ان انبثاق المفردة في هذه الحالة ليس امراً طبعياً، او ان هذا الانبثاق لا يعود الى طبع محدد للكون. لذلك لا بد من تعليله ضمن سبب خارجي. كما ان التغايرات الحاصلة في الكون تحتاج الى تعليل هي الاخرى، مثل كيف نفسر نشوء تكتلات لدى بعض نقاط الفضاء دون البعض الاخر؟ لماذا ظهرت القوانين والثوابت الفيزيائية الدقيقة؟ لماذا ظهر النظام الكوني بهذا الشكل الدقيق؟.. فكل ذلك يحتاج الى تعليل وليس من المنطقي تفسير هذه الدقة بحسب طبع المادة.. بل من الصعب تفسير الدقة العظيمة للنظام من دون افتراض منظِّم ذكي؛ حتى لو بدى النظام طبعياً، فالدقة الكبيرة لا تدع مجالاً للافتراضات القائمة على طبع المادة والصدف والعشوائية.

لذلك ظهرت نظريات ترى بان للفضاء قابلية على تكوين فقاعات كونية من دون انقطاع، وبعضها يرى ان كوننا قد نتج من تصادم فقاعتين او اكثر، كالذي تتبناه نظريات التضخم الكوني، رغم ان هذه الفكرة تستند الى وجود فضاء سابق، وان هذا الفضاء يحتوي على طاقة ضخمة، والسؤال الذي لم تجب عليه: من أين أتت هذه الطاقة؟ وما علاقتها بالابعاد المكانية للفضاء، ولو تم التعويل في ذلك على نظرية النسبية لاقتضى الحال اعتبار الفضاء او المكان ومثله الزمان حادثاً من دون ان يكون له سبق على وجود الاشياء.

وبلا شك ان نظريات التضخم تنسجم مع فكرة ازلية الفضاء وضخّ الفقاعات الكونية على الدوام بلا انقطاع، لذلك اعتمدت عليها اطروحات التعدد الكوني.

وفقاً لنظرية القفزة الكونية ردد الكثير من الفيزيائيين سؤالاً مفاده: لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟ واجابوا على ذلك استناداً الى قابلية الفراغ على تكوين الاشياء باستمرار. وهم يتصورون بان الشيء جاء من لا شيء كوجبة مجانية. والحال انهم لم يجيبوا على السؤال المذكور قط.

فقد افترضوا على الدوام شيئاً موجوداً سلفاً دون ان يردّوه الى لا شيء، فهم لا ينكرون ان للفراغ خصائص فيزيائية، وبعضهم يجعل لهذا الفراغ الزمكاني قابلية على التحول الى شيء اخر او العكس. كما انهم اضافوا الى ما سبق افتراضاً اخر لا دليل لهم عليه، وهو ان هذا الفراغ يشكل سبباً ذاتياً لانتاج الطاقة، اي انهم سلموا بوجود طاقة اولية مع ابعاد مكانية قابلة لتوليدها من دون انقطاع.

فالشيء المعلوم هو وجود طاقة وفراغ هما ما يناط اليهما خلق الاشياء وتكوينها. أما توكيد العلاقة السببية بينهما فهو زعم بلا دليل. اذ الصحيح ان يقال بان الفراغ ليس خاوياً، بل هو ممتلئ بالطاقة كما اثبتت التجارب، ويبقى السؤال الجوهري هو من أين أتت هذه الطاقة التي يحتويها الفراغ؟ فليس من المعقول ان يكون للابعاد الهندسية المحضة قابلية على توليد شيء ما كالطاقة مثلاً، وبالتالي لا بد من البحث عن مصدرها، فالعلاقة بينهما هو كعلاقة البحر بوعائه المكاني، وليس من المنطقي ان نسأل عن مصدر هذا الوعاء، انما يتعلق السؤال الصحيح بمصدر البحر، ولا يعقل ان نربط بين البحر ومكانه رباطاً علّياً، مثل ان نفسر وجود الاول بانه نتج عن سببية الثاني.. فهذا غير معقول، وكذا هو الحال مع محاولات ربط الفراغ بالطاقة علّياً..

وحقيقة لا جواب على السؤال المطروح (لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟) غير وجود الشيء ذاته، أي شيء كان مثل وجودي الخاص. فحيث هناك شيء موجود فذلك يعني انه لا مجال للعدم او اللاشيء، فمن المحال على الاخير ان يولّد شيئاً، لذلك فالفيزيائيون وغيرهم من العلماء يدركون – بوعي وبغير وعي - انه لا غنى من افتراض شيء ما يسلمون بوجوده دون ان يردوه الى اللاشيء المحض، ومن ثم يفسرون من خلاله وجود سائر الاشياء. وقد وجدوا في الفضاء الخاوي خير شيء يستندون اليه في عملية الخلق والصنع، وقد جانبوا الصواب عندما ربطوا بينه وبين الطاقة المخزنة برباط علّي.

ويذكّر هذا الفعل باعتقاد الكثير من العلماء بنظرية التوالد الذاتي للحياة قبل مجيء العالم الفرنسي لويس باستير (Louis Pasteur) خلال القرن التاسع عشر، حيث ربطوا الحياة بالمادة غير الحية رباطاً علّياً، فاعتبروا الاخيرة مصدر تكوين الحياة تلقائياً كما يظهر في ولادة الديدان من المواد المتعفنة. لكن تجارب باستير اثبتت بما لا يقبل الشك ان الحياة لا تولد الا من حياة.

وعموماً يتفق الجميع تقريباً على وجود أصل نهائي غير مردود الى غيره، وهو ما يلغي التناقض والإشكال الذي يُطرح عادة عن علة وجود أصل ميتافيزيقي غير قابل للتفسير، ومن ذلك ما اعترض به البعض على فكرة السبب الميتافيزيقي الخارجي عبر السؤال: من أين أتى هذا الأصل؟ فحيث لا جواب على ذلك فانه بادر الى نفيه جملة وتفصيلاً، مثلما احتج به عالم الاحياء ريتشادر دوكنز Richard Dawkins في كتابه (وهم الإله The God Delusion)، ولم يجد اعتراضاً مهماً فيما طرحه في هذا المصنَّف غير ما اشرنا اليه، رغم انه وأمثاله من العلماء يسلّمون بوجود شيء متأصل من دون ان يعرّضوه للنقد على شاكلة ما سبق ذكره.

لذلك نقول: لا مجال للاعتراض على السبب الميتافيزيقي الخارجي من جهة الردّ الى أصل آخر.. ففي جميع الاحوال نحن مضطرون الى ان نفترض وجود شيء ما يمثل الأصل الذي لا يمكن ارجاعه الى آخر من دون انقطاع، كما لا يمكننا ردّ الأصل الى العدم المحض. وهنا تصدق الحكمة التي تقول: مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ ‹‹نظريتنا›› بحجر، إذ جميعنا يشترك في هذه الحالة ضمن (كلمة سواء).

لو عدنا الى السؤال المركزي: كيف يمكن ان نرجح احدى السببيتين (الضمنية والخارجية) على الاخرى؟ فهل تجد (السببية الاعتقادية) ما يبرر لها مثل هذا الترجيح؟

ويرتبط السؤال المطروح بدليل الحدوث او الامكان والوجوب. فقد كان العلماء القدماء يعتقدون بان هذا الدليل سليم في اثبات وجود الله. وهو ما يُعرف لدى المتكلمين بدليل الحدوث، ولدى الفلاسفة بدليل الامكان والوجوب، ورغم عدد من الاختلافات التفصيلية بين الدليلين الا انهما يعودان من حيث التحليل الى دليل واحد يتعلق بالحدوث، فالامكان الذي يتحدث عنه الفلاسفة يتضمن هذا الحدوث الذي يبغيه المتكلمون، لكن عندهم ان علة الحاجة الى الواجب المرجح هو الامكان لا الحدوث، خلافاً لرأي المتكلمين. مع هذا فانهم لا يقدمون دليلاً على وجود الله من خلال الممكن المحض، بل من خلال الموجود هنا (اي في العالم الارضي لا السماوي)، وهو حادث، حيث يسبقه الامكان، وانه كي يصبح واجب الوجود بغيره فسيحتاج الى علة، وان هذا التحول هو ذاته عبارة عن الحدوث، وهكذا يتسلسل الحال حتى الاضطرار الى التوقف عند واجب الوجود.

وسبق لابن سينا ان حرر هذا الدليل في كتابه (النجاة) بقوله: ‹‹إن ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره إلى واجب الوجود..››. ثم قال: يجوز ان تكون العلل علل الحدوث بعينها ان بقيت مع الحادث، وفي حالة الحوادث لا محالة من ان تنتهي الى واجب الوجود، اذ ‹‹قد بينّا ان العلل لا تذهب الى غير نهاية ولا تدور››.

وقبل ابن سينا كان ارسطو يقول: ‹‹كـل حـادث فـهـو ممكـن الحدوث قـبل أن يحدث››، وان الفلاسفة يقرون بان الوجودات ما تحت القمر هي دائمة الحدوث ازلاً وابداً وفق السنخية الرابطة بين العلة والمعلول، وبالتالي فانها ستحتاج على الدوام الى هذه العلية لاستمرار حدوثها ووجودها. وهم ينفون ان يكون الاساس الذي يعتمد عليه عبارة عن جسم، لأن الجسم هو في حد ذاته معرض للحدوث، فهو قابل للتركيب والتجزئة والاتصال والانفصال وما الى ذلك.

فهذا هو الاساس الذي يُعتمد عليه في اثبات وجود الله.

لكن نعلم اليوم ان عالمنا الطبيعاني لا يتضمن الاجسام والمواد المألوفة فحسب، بل ثمة عناصر اخرى غير جسمية ولا مادية. وتفيدنا هذه الحقيقة بان اقصى ما يمكن ان يبلغه الدليل السابق هو اثبات واجب للوجود، من دون تعيين ان كان متضمناً في اطار الكون المادي والطبيعاني او محايثاً او مفارقاً له، فنفي الفلاسفة ان يكون واجب الوجود عبارة عن جسم لا يعني بالضرورة مفارقة الواجب للعالم. كما ان خصائص الاجسام المشار اليها لا تمنع بالضرورة من ان يكون مردها الى بعض العناصر الثابتة التي تجعلها واجبة للوجود بالذات.

وطبقاً لهذه الحقيقة نعتقد ان هذا الدليل غير تام، فهو لا يمتلك القدرة على تحديد موضع واجب الوجود ان كان متضمناً في عالمنا المادي والطبيعاني او محايثاً او مفارقاً له بالكلية. وبالتالي هل السببية المتحكمة في سلسلة الحدوث ضمنية او خارجية؟ فقد يكون لبعض الاصول الطبيعانية في عالمنا طبع ثابت لتوليد الحوادث ذاتياً دون ان يُشتق من شيء اخر، شبيه بالتحول الذاتي لذرات العناصر الثقيلة غير المستقرة. وهو ما نعبر عنه بالسببية الضمنية، اي السببية الداخلة ضمن الاطار المادي والطبيعاني من دون تجاوز.

وثمة من سعى الى دعم هذا الدليل من خلال التمييز بين العلة والسبب الكافي، كما هو الحال مع الراهب كوبلستون ضمن حواره مع الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، وكما قال: ان العلة هي نوع من السبب الكافي، وان الكائن الممكن الحدوث هو ما يحتاج الى علة، أما الإله فهو سبب كاف بذاته وليس هو العلة لذاته. وبعبارة ثانية ان حاجة سلسلة الحوادث الى سبب خارجي هي لكونها لا تمتلك الاسباب الكافية بذاتها، والا اصبحت ضرورية الوجود، لكنها ليست كذلك؛ لان كل عضو فيها هو محتمل الحدوث.

ونعتقد ان مصدر خطأ كوبلستون يعود الى عدم الالتفات الى الاختلاف الجذري بين مفهومي السبب الكافي والعلة، فاذا كانت العلة عائدة الى السببية الوجودية، فان السبب الكافي لا يعود اليها، بل الى سببية اخرى ذات طابع ابستيمي، وقد سميناها في دراسة مستقلة بالسببية الاعتقادية، لذلك لا يمكن ارجاع احد المفهومين الى الاخر.

وطبقاً لهذا المنطق نجد سبباً كافياً للتوقف عند علة نهائية لا على التعيين ان كانت ضمنية كما في المادة والعناصر الطبيعانية، او محايثة غير طبيعانية، او مفارقة تماماً كما في الإله المتعال. ففي جميع الاحوال ان كل حادث سيحتاج الى سبب حتى ينتهي الامر الى شيء لا يحتاج الى غيره، وهذا الاخير اما ان يكون منتمياً الى العالم الكوني الطبيعاني او غير منتمٍ اليه. ولا تتحدد طبيعة هذا الشيء ما لم تؤخذ بعين الاعتبار علامات اخرى خارج مسألة الحدوث المتعارف عليها.

ونشير الى ان حديثنا السابق يتعلق بحوادث ازلية كما اعتقد بها الفلاسفة القدماء. أما اذا لم تكن هذه الحوادث ازلية، كما في الاعتقاد الفيزيائي الحديث، فسيدل ذلك على السببية الخارجية. لكن لا شيء يضمن حدوث العالم بتمامه، اذ قد يكون الكون حادثاً ضمن سلسلة من الاكوان المتولدة اللامتناهية.

لذلك يمكن تصور ثلاثة امكانات واردة حول نشأة الكون كالتالي:

فإما ان نقول بان الكون حادث فجأة كما هو السائد لدى النظريات الفيزيائية..

او نقول ان الكون ازلي رغم تغاير حوادثه من دون ثبات..

او نقول ان الكون ازلي ذو حوادث ثابتة من دون تغاير.

هذه ثلاث اطروحات ممكنة، ولو غضضنا الطرف عن طبيعة النظام الكوني لدلّت الاطروحة الاخيرة على السببية الضمنية، فهي تفترض ان الحوادث طبعية جارية على وتيرة واحدة ثابتة أزلاً وأبداً، كما هو اعتقاد الفلاسفة القدماء، بمعنى ان من طبع الكون خلق الحوادث باستمرار من دون بداية ولا نهاية وعلى ذات الشاكلة من دون تغاير. وهذا يعني خلافاً للتصور الفلسفي القديم انه لا حاجة لاضافة علة خارجية تتجاوز الاطار الكوني.

في حين تحتاج الاطروحة الاولى الى علة خارجية، فليس ثمة ما يبرر النشأة الكونية المفاجئة من دون سبب، اذ لا شيء ينشأ من العدم المحض طبقاً لمبدأ السببية العامة.

كذلك هو الحال مع الاطروحة الثانية، فعدم وجود ثبات في تولد الحوادث أزلاً وأبداً انما يدل على السببية الخارجية. ومن ذلك ان للاشياء أزمانها؛ فالانسان – مثلاً – ليس ازلياً ليقال بان من طبع المادة القابلية على تكوينه باستمرار من دون انقطاع. وكذا يصدق الحال على بقية الانواع الاخرى الحية وغير الحية. والاهم من ذلك ان افتراض ازلية الخلق لا تتنافى مع هذه السببية.

وللايضاح انه لما كان التغير الكوني ليس على وتيرة واحدة من حيث التغاير، فذلك يكشف عن أن له علة خارجية، سواء كانت محايثة او مفارقة، إذ لو كان التغير حادثاً بحسب الطبيعة الذاتية للمادة لكان قد جرى على وتيرة واحدة، أي لكان التغير ثابتاً من غير تغاير، ولكان بسيطاً من دون نظام دقيق ومعقد. فالتغاير دال على وجود علة خارجية تؤدي اليه، فهو مستنتج من مبدأ السببية العامة، اذ كل تغاير هو ظهور مفاجئ جديد لم يسبق اليه الحال، وهو بحاجة الى تفسير خارج اطار المادة المتضمنة للطبائع الثابتة. ولا يفسر ذلك غير العلة المشار اليها.

وحقيقة ان التغاير حاصل سواء من حيث الاطروحة الاولى او الثانية، وهو ما يحتاج إلى تعليل خارجي، وبه تثبت العلة الخارجية، سواء كانت محايثة او مفارقة بحسب المعنى الضعيف.

كذلك فان النظام الدقيق الذي يتضمنه هذا الكون هو الاخر يحتاج الى تعليل محايث او مفارق ميتافيزيقي، فما من نظام متقن الا ويدل على عقل منظِّم، او ما يُعرف بالمصمم الذكي، وهو المعنى الذي يتوسط ويضيف شيئاً جديداً الى ما سبق من معنى. ولو تم اثبات ان للكون غاية معينة فسيقتضي الحال دلالة اعظم حيث تشير الى ارادة قاصدة، وبقدر ما تسمو الغاية بقدر ما تدل على حكمة الارادة وعظمتها. وهو المعنى القوي قبال المعنيين الانفي الذكر.