-
ع
+

الانبثاق الكوني والنظريات الضمنية (2)

يحيى محمد

تواجه نظرية قفزة الكموم الكونية - التي تحدثنا عنها خلال الحلقة السابقة – عدداً من الاعتراضات، على الصعيدين الفيزيائي والفلسفي، نجملها بالنقاط التالية:

إلى يومنا هذا لم تتوضح الكيفية التي نشأ فيها كوننا الحالي، فحتى مع القول بأن الفضاء قابل لانتاج جسيمات شوينجر، وبالتالي قابل لانتاج زوج المادة والمادة المضادة، فإن ذلك لم يوضح كيف أمكن للمادة ان تنجو من الموت وتنتصر فيما تغيب المادة المضادة كلياً بفعل الفناء الحاصل بينها وبين غريمتها الأولى.

فكما عرفنا ان هذه الجسيمات بعضها يفني البعض الآخر دون ان ينشأ منها ما يكون لصالح هذا أو ذاك، ودون ان ينشأ من ذلك مادة وكون. لهذا افترض الفيزيائيون من دون دليل تجريبي بأن المادة قد نجت وانتصرت منذ البداية على مضادتها. وهم لا يعرفون كيف تم هذا الانتصار، ولم يقدموا بهذا الشأن سوى اقتراحات لا دليل عليها، وحتى التجارب تبدي ان ما يحصل هو افناء أحد الجسيمين للآخر مع اصدار طاقة كبيرة من دون نجاة ولا زيادة للمادة.

وخلال القرن العشرين كان الفيزيائيون يؤسسون افتراضاً مركباً في هذا المجال. فبداية افترضوا بأن الفضاء الصرف يبعث على جسيمات متضادة، ولم يكن لديهم دليل تجريبي آنذاك، لهذا سميت هذه الجسيمات بالتقديرية أو الوهمية. ثم بعد ذلك أقاموا افتراضاً آخر على الأول، وهو انه إذا كانت ثمة جسيمات مزدوجة تقديرية فلا بد من ان يكون الانتصار للمادة على غريمتها المضادة، رغم ان تجارب المعجلات لم تكشف عن مثل هذا الانتصار المفترض. لكن تمّ الاعلان حالياً عن اثبات هذه الجسيمات التقديرية في الفضاء الصرف، واستخدم الفيزيائيون بعض الحقول الكهربائية لاقتلاعها.

معلوم ان الفيزياء المعاصرة تعول على تمدد الكون وتضخمه، وهي بالتالي تفترض ان الفضاء كان ضيقاً للغاية إلى حد النقطة تقريباً بما يسمى المفردة. ثم بعد ذلك نشأت الأبعاد الزمكانية عند لحظة الانفجار العظيم. وهي الحقبة الأولى المقدرة بزمن بلانك من عمر الكون. في حين تعول نظرية القفزة الكونية على ان الكون قد نشأ فجأة من لا شيء.

وليس المقصود باللاشيء هو العدم الصرف، وإلا كان خرقاً لمبدأ السببية العامة جملة وتفصيلاً من دون مبرر ولا دليل، لكنها تعتبر القفزة قد تمت من الفضاء الصرف، حيث لا شيء موجود سوى هذا الفضاء الهندسي.

بيدَ ان الفضاء بحسب التصور السائد لم يكن له وجود بعد، فهو مجرد نقطة أو مفردة أولية من دون أبعاد هندسية، فالفضاء بأبعاده المكانية قد انبثق عند زمن بلانك، وهو الزمن الأول الذي تُقدر فيه لحظة الانفجار.

لذا فالسؤال الذي يرد في الذهن: من أين أتت هذه المفردة الكونية رغم انه لم يسبقها فضاء؟ أو من أين جاء هذا الحد من الطاقة الضخمة في نقطة فضائية هي المفردة؟ فهي تمثل طاقة الكون كله. فما هو مصدر هذه الطاقة ولم يتشكل فضاء ثلاثي الأبعاد بعد؟

وإذا كان ما تقوله نظرية الكوانتم حول العلاقة العكسية بين الطاقة والفضاء صحيحاً؛ فإن ذلك لا ينطبق على المفردة كنقطة لم تتحول بعد إلى فضاء ثلاثي الأبعاد، ناهيك عن ان هذه النظرية قد واجهت مشكلة كبيرة عند تحديدها لكمية الطاقة في المناطق الصغيرة من الفضاء كما سبق ان عرفنا.

ولكي تصبح نظرية القفزة الكونية متسقة كان عليها ان تعتبر الفضاء أزلياً فتتجاوز بذلك قوانين النسبية العامة، وانه لا مجال للقول بالتوسع الفضائي، فالفضاء السابق هو ما يتيح للقفزة الكمومية ان تحدث، لكن في هذه الحالة ليس من المنطقي ان تحصل قفزة واحدة، بل لا بد من قفزات لا متناهية، وان من بين هذه القفزات القفزة الكونية المتعلقة بعالمنا المشهود. وهنا نعود إلى نظرية الأكوان المتعددة كما سنتطرق إليها لاحقاً.

كما هناك عدد من النظريات الضمنية التي حاولت ان تلتف على المفردة من خلال افتراض ان الكون يمر بدورات من التوسع والانكماش، ومن بينها مَن تعول على زمن بلانك كبداية ونهاية. حيث يبدأ التوسع منه حتى يصل إلى أقصى حد له، ثم ينكمش ويعود إلى ذات هذه الحقبة، وبعدها ينتفخ مرة أخرى وهكذا دواليك دون ان يبدأ من المفردة ولا ينتهي إليها. وهي فكرة طرحها بعض المناصرين لنظرية الأوتار الفائقة، لكنها لا تفسر من أين أتت المفردة الكونية؟.

ليس الفضاء بحسب التصور المعاصر سوى أبعاد هندسية خالصة؛ رغم انه قابل للتقلص والتوسع والتمدد والانتفاخ، كما هو فرض النسبية العامة، وانه يختزن في الوقت ذاته طاقة سكونية بالاضافة إلى الطاقة المظلمة التي يبثّها عبر الجسيمات المتضادة.. وكل ذلك يجعل من مفهوم الفضاء لا معنى له ما لم يعتبر أثيراً خالصاً، أو غشاءً رقيقاً.

ومن الطبيعي في هذه الحالة ان يطرح السؤال عن علة وجود هذا النسيج الأثيري، فهو ليس ثابتاً حيث ان طاقته تقل وتزداد، وهو في أماكن معينة أشد قوة من غيرها، لذلك لا بد من ان يكون لهذه التغايرات ما يبرر السؤال حولها.

كما ان حمله للطاقة وقابليته على التراوحات وقفزاتها الكمومية؛ كل ذلك يحتاج إلى تعليل. وفي النتيجة نجد أنفسنا نواجه السبيية الميتافيزيقية وجهاً لوجه.

فلسفياً ان القفزة عندما تحدث في لحظة ما، لا بد من تبريرها بسبب ما من الأسباب، فهي ليست حالة طبعية حتى يُكتفى بسببيتها الذاتية أو الضمنية الكامنة من دون حاجة للتبرير الخارجي. وبالتالي فهي تستوجب السببية الميتافيزيقية بخلاف ما يحصل في حالة القوانين الطبيعية المعروفة. فهي تختلف مثلاً عما يتعلق بتحولات العناصر الثقيلة المشعة ذاتياً.

وربما لهذا السبب أبدى الفلكي آرثر ادنجتون Arthur Eddington ومادوكس Maddox اشمئزازاً من فكرة بداية الخلق كما في نظرية الانفجار العظيم[1].

فبعض الأفكار الواردة في هذه النظرية تشير إلى وجود قفزة كمومية واحدة هي التي بدأ منها التشكل الكوني، وان نشوء أكوان أخرى انما جاء فيما بعد، كما هو رأي لورانس كراوس Lawrence Krauss في كتابه (كون من لا شيء). وفي هذه الحالة سنعود إلى إشكالية المفردة الكونية أو الفقاعة الأولية التي نشأ عنها كوننا الحالي.

فمن الجلي ان انبثاق المفردة في هذه الحالة ليس أمراً طبعياً، أو ان هذا الانبثاق لا يعود إلى طبع محدد للكون. لذلك لا بد من تعليله وفق الأسباب الخارجية.

كما أن التغايرات الحاصلة في الكون تحتاج هي الأخرى إلى تعليل، مثل: كيف نُفسِّر نشوء تكتّلات في بعض نقاط الفضاء دون غيرها؟ ولماذا ظهرت القوانين والثوابت الفيزيائية بهذه الدرجة من الدقة؟ ولماذا انبثق النظام الكوني على هذا النحو المحكم؟

كل ذلك يتطلّب تفسيرًا، ولا يصح منطقيًا ردّ هذه الدقة إلى "طبع المادة"، إذ يصعب تفسير هذا المستوى العالي من الإتقان من دون افتراض وجود منظِّم ذكي. فحتى لو بدا النظام وكأنه ناشئ عن طبيعة المادة، فإن مقدار الدقة لا يترك مجالًا للافتراضات القائمة على طبع المادة والصدف والعشوائية.

لذلك ظهرت نظريات ترى بأن للفضاء قابلية على تكوين فقاعات كونية من دون انقطاع، وبعضها يرى ان كوننا قد نتج من تصادم فقاعتين أو أكثر، كالذي تتبناه نظريات التضخم الكوني، رغم ان هذه الفكرة تستند إلى وجود فضاء سابق، وان هذا الفضاء يحتوي على طاقة ضخمة، والسؤال الذي لم تجب عليه هو كالتالي:

من أين أتت هذه الطاقة؟ وما علاقتها بالأبعاد المكانية للفضاء؟

فلو تم التعويل في ذلك على نظرية النسبية لاقتضى الحال اعتبار الفضاء أو المكان ومثله الزمان حادثاً من دون ان يكون له سبق على وجود الأشياء.

ولا شك أن نظريات التضخم الكوني تنسجم مع فكرة أزلية الفضاء واستمرار ضخّ الفقاعات الكونية على الدوام بلا انقطاع، ولذلك تبنّتها أطروحات الأكوان المتعددة كأساس نظري يدعم تصورها.

وفقاً لنظرية القفزة الكونية ردد الكثير من الفيزيائيين ما سبق إليه الفيلسوف الالماني لايبنتز من سؤال مفاده: لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟

ولا شك ان السؤال مشروع، فمن الصواب ان يقال عن الشيء لِمَ هو موجود؟ ولا يقال عن المعدوم من حيث الأصل: لِمَ هو معدوم؟ وبذلك يحق السؤال عن سبب كل شيء موجود، الأمر الذي يتسلسل حتى يبلغ البحث الميتافيزيقي.. وحينها يتحول السؤال إلى النحو التالي:

هل تتسلسل الأسباب إلى ما لا نهاية، أم من الضروري ان تتوقف عند سبب نهائي؟

وفي الحالة الأخيرة هل السبب النهائي ضمني مثل طبائع الأشياء، أم هو أمر خارج عن نطاق الكون والأشياء المادية، سواء كان مفارقاً أو محايثاً لها؟

لقد توهم الفيزيائيون أنهم أجابوا عن السؤال السابق استناداً إلى فرضية قابلية الفراغ على توليد الأشياء تلقائياً باستمرار. فتصوروا أن الكون نشأ من لا شيء، كوجبة مجانية بلا كلفة. غير أنهم لم يلامسوا أصل الإشكال، فضلاً عن أن يجيبوا عنه.

فقد افترضوا على الدوام شيئاً موجوداً سلفاً دون ان يردّوه إلى لا شيء. فهم لا ينكرون ان للفراغ خصائص فيزيائية، وبعضهم يجعل لهذا الفراغ الزمكاني قابلية على التحول إلى شيء آخر أو العكس.

كما انهم أضافوا إلى ما سبق افتراضاً آخر لا دليل لهم عليه، وهو ان هذا الفراغ يشكل سبباً ذاتياً لانتاج الطاقة، أي أنهم سلّموا بوجود طاقة أولية مع أبعاد مكانية قابلة لتوليد هذه الطاقة من دون انقطاع.

فالشيء المعلوم هو وجود طاقة وفراغ، يُعزى إليهما خلق الأشياء وتكوينها. أما توكيد العلاقة السببية بينهما فهو دعوى بلا دليل. إذ الصحيح وفق المعطيات التجريبية، أن الفراغ ليس خاوياً، بل هو مشحون بطاقة كمومية كامنة، لكن السؤال الجوهري يظل قائماً: من أين جاءت هذه الطاقة التي يختزنها الفراغ؟

فليس من المعقول ان يكون للأبعاد الهندسية المحضة قابلية على توليد شيء ما كالطاقة مثلاً، وبالتالي لا بد من البحث عن مصدرها، فالعلاقة بينهما هي كعلاقة البحر بوعائه المكاني، وليس من المنطقي ان نسأل عن مصدر هذا الوعاء، انما يتعلق السؤال الصحيح بمصدر البحر، ولا يعقل ان نربط بين البحر ومكانه رباطاً علّياً، مثل ان نفسر وجود الأول بأنه نتج عن سببية الثاني، أو العكس. فهذا غير معقول، وكذا هو الحال مع محاولات ربط الفراغ بالطاقة علّياً.

وحقيقة لا جواب عن السؤال المطروح (لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟) غير وجود الشيء ذاته، كيفما كان مثل وجودي الخاص. فحيث هناك شيء موجود فذلك يعني انه لا مجال للعدم أو اللاشيء، فمن المحال على الأخير ان يولّد شيئاً. لهذا فالفيزيائيون وغيرهم من العلماء يدركون - بوعي وبغير وعي - انه لا غنى عن افتراض شيء ما يسلمون بوجوده دون ان يردّوه إلى اللاشيء المحض، ومن ثم يفسرون من خلاله وجود سائر الأشياء. وقد وجدوا في الفضاء الخاوي خير شيء يستندون إليه في عملية الخلق والصنع. لكنهم قد جانبوا الصواب عندما ربطوا بينه وبين الطاقة المخزنة برباط علّي.

ويذكّر هذا الفعل باعتقاد الكثير من العلماء بنظرية التوالد الذاتي للحياة قبل مجيء العالم الفرنسي لويس باستور خلال القرن التاسع عشر، حيث ربطوا الحياة بالمادة غير الحية رباطاً علّياً، فاعتبروا الأخيرة مصدر تكوين الحياة تلقائياً كما يظهر في ولادة الديدان من المواد المتعفنة. لكن تجارب باستور أثبتت بما لا يقبل الشك ان الحياة لا تولد إلا من حياة.

وعموماً يتفق الجميع تقريباً على وجود أصل نهائي غير مردود إلى غيره، وهو ما يلغي التناقض والإشكال الذي يُطرح عادة عن علة وجود أصل ميتافيزيقي غير قابل للتفسير، ومن ذلك ما اعترض به البعض على فكرة السبب الميتافيزيقي الخارجي عبر السؤال التالي:

من أين أتى هذا السبب الميتافيزيقي؟ فحيث لا جواب على ذلك فإنه بادر إلى نفيه جملة وتفصيلاً، مثلما احتج به عالم الحيوان ريتشارد دوكينز في كتابه (وهم الإله The God Delusion)، ولم يجد اعتراضاً مهماً فيما طرحه في هذا المصنَّف غير ما أشرنا اليه[2]، رغم انه وأمثاله من العلماء يسلّمون بوجود شيء متأصل من دون ان يعرّضوه للنقد على شاكلة ما سبق ذكره.

وسبق للفيلسوف البريطاني برتراند رسل ان طرح مثل هذه الشبهة في مناظرته مع الراهب فريدريك كوبلستون Frederick Copleston عام 1948، وتقريرها انه إذا قيل بأن وجود الإله لا يحتاج إلى سبب، فسيُردّ على ذلك بأن يقال عن العالَم الشيء ذاته، وهو انه لا يحتاج إلى سبب. كما إذا قيل ان كل شيء يجب ان يكون له سبب، فسيجاب عنه بأن الإله يجب ان يكون له سبب أيضاً.

وحقيقة، لا مجال للاعتراض على فكرة السبب الميتافيزيقي الخارجي من جهة الردّ إلى أصل آخر كما فعل دوكينز وغيره ضمن عنوان: (من صمم المصمم؟). ففي جميع الأحوال نحن مضطرون إلى ان نفترض وجود شيء ما يمثل الأصل الذي لا يمكن ارجاعه إلى آخر من دون انقطاع. كما لا يمكننا ردّ الأصل إلى العدم المحض. ففي جميع الأحوال الكل يرتكن إلى أصل واحد لا يفسرونه، بل يجعلونه أساس التفسير لغيره.

وهنا تصدق الحكمة التي تقول: مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ "نظريتنا" بحجر، إذ جميعنا يشترك في هذه الحالة ضمن (كلمة سواء).

وينطبق الحال السابق على المعرفة البشرية. فالمعارف بعضها يشتق من البعض الآخر، لكن النتيجة لا تنتهي الى سلسلة مستمرة، بل لا بد من الوصول إلى معرفة لا يمكن استنتاجها من غيرها. ومن عجائب المعرفة ان الأساس المعرفي واضح للبشر، ولو لم يكن واضحاً لعجِزَ البشر ان يركنوا إلى أي شيء يمكن ان يكون صحيحاً. وهذا في حد ذاته اعجاز، إذ ان أساس ما يمكن ان نثبت به الإله، هو ذاته يدل على ان الإله قد هيّء وضعه لتسهيل المهمة المعرفية، من دون دور لاختلاف الجهتين.

لو عدنا إلى السؤال المركزي: كيف يمكن ان نرجح إحدى السببيتين (الضمنية والخارجية) على الأخرى؟ فهل تجد (السببية الاعتقادية) ما يبرر لها مثل هذا الترجيح؟

ويرتبط السؤال المطروح بدليل الحدوث، أو الامكان والوجوب. فقد كان العلماء القدماء يعتقدون بأن هذا الدليل سليم في اثبات وجود الله. وهو ما يُعرف لدى المتكلمين بدليل الحدوث، ولدى الفلاسفة بدليل الامكان والوجوب، ورغم وجود عدد من الاختلافات التفصيلية بين الدليلين إلا انهما يعودان من حيث التحليل إلى دليل واحد يتعلق بالحدوث، فالامكان الذي يتحدث عنه الفلاسفة يتضمن هذا الحدوث الذي يقصده المتكلمون، لكن عندهم ان علة الحاجة إلى الواجب المرجح هو الامكان لا الحدوث، خلافاً لرأي المتكلمين. مع هذا فإنهم لا يقدمون دليلاً على وجود الله من خلال الممكن المحض، بل من خلال الموجود هنا (أي في العالم الأرضي لا السماوي)، وهو حادث، حيث يسبقه الامكان، وانه كي يصبح واجب الوجود بغيره فسيحتاج إلى علة، وان هذا التحول هو ذاته عبارة عن الحدوث، وهكذا يتسلسل الحال حتى الاضطرار إلى التوقف عند واجب الوجود.

وسبق لابن سينا ان حرر هذا الدليل في كتابه (النجاة) بقوله: ‹‹إن ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره إلى واجب الوجود..››. ثم قال: يجوز ان تكون العلل علل الحدوث بعينها ان بقيت مع الحادث، وفي حالة الحوادث لا محالة من ان تنتهي إلى واجب الوجود، إذ ‹‹قد بينّا ان العلل لا تذهب إلى غير نهاية ولا تدور››[3].

وقبل ابن سينا كان ارسطو يقول: ‹‹كـل حـادث فـهـو ممكـن الحدوث قـبل أن يحدث››[4]، وان الفلاسفة يقرون بأن الوجودات ما تحت القمر هي دائمة الحدوث أزلاً وأبداً وفق السنخية الرابطة بين العلة والمعلول، إذ هي بحاجة - على الدوام - إلى هذه العلية؛ لاستمرار حدوثها ووجودها. وهم ينفون ان يكون الجسم هو الأساس الذي يُعتمد عليه في الاثبات، لأن الجسم في حد ذاته معرّض للحدوث، فهو قابل للتركيب والتجزئة والاتصال والانفصال وما إلى ذلك.

فهذا هو الأساس الذي يُعتمد عليه في اثبات وجود الله.

لكن نعلم اليوم ان عالمنا الطبيعاني لا يتضمن الأجسام والمواد المألوفة فحسب، بل ثمة عناصر أخرى غير جسمية ولا مادية.

وتفيدنا هذه الحقيقة بأن أقصى ما يمكن ان يبلغه الدليل السابق هو اثبات واجب للوجود، من دون تعيين إن كان متضمناً في صميم الكون المادي والطبيعاني، أو محايثاً، أو مفارقاً له. فنفي الفلاسفة ان يكون واجب الوجود جسماً لا يعني بالضرورة مفارقة الواجب للعالَم. كما ان خصائص الأجسام المشار إليها لا تمنع بالضرورة من ان يكون مردّها إلى بعض العناصر الثابتة التي تجعلها واجبة للوجود بالذات.

وطبقاً لهذه الحقيقة نعتقد ان هذا الدليل غير تام، فهو لا يمتلك القدرة على تحديد موضع واجب الوجود إن كان كامناً في عالمنا المادي والطبيعاني، أو محايثاً، أو مفارقاً للعالم بالكلية. وبالتالي هل السببية المتحكمة في سلسلة الحدوث ضمنية كامنة أم خارجية؟

فقد يكون لبعض الأصول الطبيعانية في عالمنا طبع ثابت على توليد الحوادث ذاتياً من غير ان يُشتق من شيء آخر، شبيه - من وجه - بالتحلل التلقائي لذرات العناصر الثقيلة غير المستقرة. وهو ما نعبر عنه بـ "السببية الضمنية"، أي السببية الكامنة في صميم الحيز المادي والطبيعاني من دون تجاوز.

وثمة من سعى إلى تعزيز هذا التصور من خلال التمييز بين العلة والسبب الكافي، كما هو الحال في موقف الراهب كوبلستون ضمن حواره مع برتراند رسل، إذ قال: ان العلة هي نوع من السبب الكافي، وان الكائن الممكن الحدوث هو ما يحتاج إلى علة، أما الإله فهو سبب كاف بذاته وليس هو العلة لذاته. وبعبارة ثانية، ان حاجة سلسلة الحوادث إلى سبب خارجي هي لكونها لا تمتلك الأسباب الكافية بذاتها، وإلا أصبحت ضرورية الوجود، لكنها ليست كذلك؛ لأن كل عضو فيها هو محتمل الحدوث[5].

ونعتقد ان هذا التحليل خاطئ؛ بسبب عدم الالتفات إلى الاختلاف الجذري بين مفهومي السبب الكافي والعلة، فإذا كانت العلة تعود إلى "السببية الوجودية"، فإن السبب الكافي لا يُردّ إليها، بل إلى نمط آخر من السببية ذو طابع إبستيمي، وقد أسميناه في دراسة مستقلة بـ "السببية الاعتقادية"، وعليه لا يمكن إرجاع أحد المفهومين إلى الآخر.

وطبقاً لهذا المنطق نجد سبباً كافياً للتوقف عند علة نهائية لا على التعيين؛ إن كانت ضمنية كما في المادة والعناصر الطبيعانية، أو محايثة غير طبيعانية، أو مفارقة تماماً كما في الإله المتعال. ففي جميع الأحوال ان كل حادث سيحتاج إلى سبب حتى ينتهي الأمر إلى شيء لا يحتاج إلى غيره، وهذا الأخير إما ان يكون منتمياً إلى العالم الكوني الطبيعاني، أو غير منتمٍ إليه. ولا تتحدد طبيعة هذا الشيء ما لم تؤخذ بعين الاعتبار علامات أخرى خارج سياق مسألة الحدوث المتعارف عليها.

ونشير إلى ان حديثنا السابق يتعلق بحوادث أزلية كما اعتقد بها الفلاسفة القدماء. أما إذا لم تكن هذه الحوادث أزلية، كما في الاعتقاد الفيزيائي الحديث، فسيدل ذلك على السببية الخارجية. لكن لا شيء يضمن حدوث العالم بتمامه كلياً، إذ قد يكون الكون حادثاً ضمن سلسلة من الأكوان المتولدة اللامتناهية.

لذا يمكن تصوّر ثلاثة إمكانات محتملة بشأن نشأة الكون، على النحو التالي:

إما أن يُقال إن الكون قد حدث فجأة، كما هو السائد في النظريات الفيزيائية المعاصرة.

أو يُقال إن الكون أزلي، رغم تغيّر حوادثه بلا ثبات.

أو يُقال إن الكون أزلي، وحوادثه ثابتة التجدد بلا تغاير.

هذه ثلاث اطروحات ممكنة من حيث المبدأ، ولو غضضنا الطرف عن طبيعة النظام الكوني الدقيق لدلّت الاطروحة الأخيرة على "السببية الضمنية"، إذ تفترض أن الحوادث تجري وفق طبيعة ثابتة، على نسق واحد لا يتغير، أزلاً وأبداً، كما هو اعتقاد الفلاسفة القدماء. أي أن للكون طبعًا جوهريًا يقتضي توليد الحوادث باستمرار، من دون بداية ولا نهاية، وبصورة لا تعرف التغاير. وهذا، بخلاف التصور الفلسفي التقليدي، يعني عدم الحاجة إلى علّة خارجية تتجاوز الإطار الكوني، وذلك ما لم يُستخدم دليل آخر مستمدّ من دقة النظام الكوني ذاته، حيث يُعتمد في هذه الحالة على منطق الاحتمال، وليس على "السببية الوجودية".

في حين تحتاج الاطروحة الأولى إلى علة خارجية، فليس ثمة ما يبرر النشأة الكونية المفاجئة من دون سبب، إذ لا شيء ينشأ من العدم المحض طبقاً لمبدأ السببية العامة.

كذلك هو الحال مع الاطروحة الثانية، فعدم وجود ثبات في تولد الحوادث أزلاً وأبداً انما يدل على السببية الخارجية. ومن ذلك ان للأشياء أزمانها. فالانسان - مثلاً - ليس أزلياً ليقال بأن من طبع المادة القابلية على تكوينه باستمرار من دون انقطاع. وكذا يصدق الحال على بقية الأنواع الأخرى الحية وغير الحية.

والأهم من ذلك ان فرضية أزلية الخلق لا تتنافى مع هذه السببية.

وللايضاح انه لما كان التغير الكوني ليس على وتيرة واحدة من حيث التغاير، فذلك يكشف عن أن له علة خارجية، سواء كانت محايثة أو مفارقة، إذ لو كان التغير حادثاً بحسب الطبيعة الذاتية للمادة لكان قد جرى على وتيرة واحدة، أي لكان التغير ثابتاً من غير تغاير، ولكان بسيطاً من دون نظام دقيق ومعقد. فالتغاير دال على وجود علة خارجية تؤدي اليه، فهو مستنتج من مبدأ السببية العامة، إذ كل تغاير هو ظهور مفاجئ جديد لم يسبق إليه الحال، وهو بحاجة إلى تفسير خارج اطار المادة المتضمنة للطبائع الثابتة. ولا يفسر ذلك غير العلة المشار إليها.

وحقيقة، ان التغاير حاصل سواء من حيث الاطروحة الأولى أو الثانية، وهو ما يحتاج إلى تعليل خارجي، وبه تثبت العلة الخارجية، سواء كانت محايثة أو مفارقة، وفقاً للمعنى الضعيف من الإثبات.

كذلك فإن دقة النظام الذي يتضمنه هذا الكون تستدعي بدورها تفسيرًا ينهض على ضرورة وجود سبب، إمّا محايث له أو مفارق على نحوٍ ميتافيزيقي صرف. فما من نظام متقن إلا ويدل على عقل منظِّم، أو ما يُعرف بـ "المصمّم الذكي". وهو المعنى الذي يرقى إلى منزلة وسطى بين التصوّر الضعيف من الإثبات والتصور الأقوى كما سيأتي بيانه، إذ يضيف بعدًا جديدًا يُعزّز دلالة الحاجة إلى عقل واعٍ وراء هذا الاتساق الكوني البديع.

ولو تم اثبات ان للكون غاية معينة فسيقتضي الحال دلالة أعظم، حيث تشير إلى إرادة قاصدة. وبقدر ما تسمو الغاية بقدر ما تدل على حكمة الإرادة وعظمة شأنها. وهو المعنى الأقوى قبال المعنيين الآنفي الذكر.


[1]    العلم ووجود الله، ص117.

[2]    ريتشارد دوكينز: وهم الإله، ترجمة بسام البغدادي، الطبعة الثانية، ص114 وما بعدها.

[3] ابن سينا: النجاة، مطبعة السعادة، ص235 وما بعدها.

[4] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص68ـ69.

[5]    برتراند رسل: لماذا لست مسيحياً؟، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار التكوين، دمشق – بيروت، الطبعة الأولى، 2015م، ص18 و211 و215.