يحيى محمد
يُعد أبيقور أول من أثار مشكلة الشر كقلق وجودي خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ونقل الاسكتلندي ديفيد هيوم تساؤلات هذا الفيلسوف في (محاورات في الدين الطبيعي) وحسبها ما زالت بلا جواب. ومفاد هذه التساؤلات كالتالي:
إما ان الإله يريد ازالة الشر، لكنه عاجز وغير قادر على ذلك، أو انه قادر على ازالته، لكنه لا يريد فعل ذلك باعتباره شريراً، أو انه تام القدرة والإرادة، لكن في هذه الحالة من أين أتى الشر[1]؟
وقد نحى هيوم إلى طرح تساؤلات مشابهة استناداً إلى ما نقله عن أبيقور، حيث نُسب إلى الفيلسوف الاسكتلندي قوله: ‹‹إذا كان الشر من تصميم الآلهة، فهي إذاً ليست مطبوعة على الخير، وإذا كان الشر متعارضاً مع تصميمها، فهي ليست كلية القدرة، حيث لا يمكن ان تكون القدرة والخيرية في آن واحد››[2].
بمعنى، لو أن الآلهة تمتلك القدرة والخيرية معاً؛ إذاً لماذا يقع الشر؟ فهذا هو الإشكال الأساسي في فلسفة إشكالية الشر.
كما نُسبت مثل هذه التساؤلات إلى اغسطين في كتابه (الاعترافات) خلال القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد. مع هذا فإن ما ذكره اغسطين يختلف عما يُعزى إليه، فهو وإن أثار مشكلة الشر، لكنه قام بتفسيره استناداً إلى من سبقه من الفلاسفة وعلى رأسهم افلاطون. إذ اعتبر الشر ليس بكينونة أو شيئاً جوهرياً، وان كل ما يصدر عن الله فهو حسن، وليس في الإمكان أبدع مما كان، وكل ما نراه في الموجودات من شر، فذلك بسبب جهلنا لحلقات الأشياء بجميع أطرافها وروابطها ضمن سلسلة الوجود، ولو أننا عرفنا ذلك لرأينا كل شيء حسناً من دون شر، فكلها مطابقة لأسبابها ومقاصدها. وبهذا نفى اغسطين وجود شر في الأشياء، لكنه مع ذلك عزاه إلى تمرد الإنسان بفعل شهواته ونزواته[3].
وحقيقة نجد اشارات حول مشكلة الشر لدى فيلسوف مجهول يدعى كايوس كوتا Caius Cotta؛ ورَدَ ذكره في كتاب شيشرون (طبيعة الآلهة). فهو يستعرض هذه المشكلة ضمن ردّه على الفيلسوف الرواقي بالبوس Balbus، ويقول: إنه إذا كان الإله قادراً على فعل كل شيء وان باستطاعته ان يشكّل من المادة الأساسية أي شيء يريده دفعة واحدة، لذا فعندما تحدث كوارث الشر على البشر، يكون الله في هذه الحالة؛ إما جاهلاً بسلطاته، أو غير مبال بالشؤون الإنسانية، أو غير قادر على أن يحكم بما هو الأفضل والأنسب[4].
وبتعبير آخر، أراد كوتا أن يبين بأن حوادث الشر تثير مشكلة في أن الإله إما أن يكون ناقصاً من حيث العلم، أو ناقصاً من حيث الخيرية، أو ناقصاً من حيث القدرة.
إذاً، تنحصر التساؤلات حول إشكالية الشر وعلاقتها بكمالات الإله في نصّي أبيقور كما روّج له ديفيد هيوم، ونصّ الفيلسوف كوتا في القرن الأوّل قبل الميلاد.
الشر ورؤية الفلاسفة القدماء
يمكن إعادة صياغة إشكالية الشر، وما تتضمنه من قلق وجودي، انطلاقًا من الأطروحة اللاهوتية التي تُسند للإله الخالق ثلاث خصائص أساسية كالتالي:
1ـ كلي العلم..
2ـ كلي القدرة..
3ـ كلي الخير (عدلاً ورحمةً)..
هذه ثلاث خصائص أساسية تعزى للإله الخالق من وجهة نظر اللاهوتيين، لكنها تواجه إشكالية الشر بما يجعل بعضها يبدو غير صحيح.
فالشر موجود لا شك فيه، وبوجوده إما أن الله لا يعلم به اطلاقاً رغم قدرته وخيريته التامتين، أو أنه يعلم به تماماً وأنه خيرٌ أيضاً، لكنه غير قادر على ازالته، أو أنه يتصف بالخبث مع بقاء علمه وقدرته مطلقتين. كما قد يكون هناك خلل في أكثر من صفة. وبالتالي فمع وجود الشر تصبح بعض تلك الخصائص غير صحيحة، سواء ضحينا بالعلم، أو بالقدرة، أو بالخير، أو بعدد من هذه الصفات.
ويُعدّ أبيقور حالة استثنائية شاذة وسط ما سلّم به الفلاسفة القدماء من تفسير ظاهرة الشر وفقاً لنقص مراتب الوجود.
فقد سبق للفلاسفة ان قدروا بأن ما يحصل من شرور يعود إلى حتميات الوجود. فالشر وارد لا محالة تبعاً لمقتضيات الحركة الوجودية بفعل تنزلات مراتب العلة والمعلول، ومن ثم تناقص مراتب الوجود والكمال مقارنة بالمراتب العليا التامة. فالكل يغترف بقدر وعائه من بحر الوجود الفيّاض. والشر لديهم هو عدم وجود نسبي، أو هو نقص في الوجود كما يلاحظ لدى مراتبه الدنيا، أو العالم الطبيعي الجسمي. أي انه نقص في الكمال والخير، باعتبار ان الأخير يساوق الوجود، وبالتالي فالايجاد متعلق بالخير لا بالشر. فكل شيء بالنسبة إلى نفسه هو خير وان الشر عارض عليه من الغير بحكم ارتباطات الوجود بعضه بالبعض الآخر، وهذا ما يمنع ان يكون الشر مستقل الوجود والذات عن الخير، وهو ما يدحض فكرة وجود مبدأين للخير والشر، حيث أحدهما فائض عن الآخر بالعرض لا بالذات. لكن تبقى النتيجة هي ان وجود الشر حتمي كحتمية وجود الخير، وتصدق عليه قاعدة (ليس في الإمكان أبدع مما كان)[5].
ولا تختلف النظريات الحتمية الحديثة من حيث المبدأ عن هذه الصورة المجملة. فطالما كانت علاقات الوجود حتمية فالشر وارد لا مفرّ منه، سواء ارتكزنا على أصول ميتافيزيقية، أو أصول مادية خالصة. وربما تعد محاولة مرتضى مطهري في (العدل الإلهي) هي آخر محاولة فلسفية تقليدية لتبرير ظاهرة الشر وفق نظام العلة والمعلول بتنزل مراتب الوجود حتمياً[6].
الشر والرؤية الدينية
عرضنا فيما سبق الرؤية الفلسفية التقليدية في تفسير الشر، وهي تقابل رؤية دينية ترى أن الشر نابع من فعل الله ومشيئته، غايته الابتلاء واختبار العباد، وما يترتب عليه من نتائج دنيوية وأخروية، كما تشير إلى ذلك كثير من النصوص القرآنية. وبهذا التصور نشأت فلسفة التكليف، بوصفه مرتكزاً لهذا الاختبار، بما يشتمل عليه من أركان، كركن النبوة والرسالة للتبليغ وإقامة الحجة، وركن يوم الحساب المتمثّل في الثواب والعقاب[7].
وقد دأبت هذه الرؤية على عزو ما يصيب البشر من كوارث طبيعية إلى غضب إلهي يصيب المفسدين في الأرض. ولا تزال هذه الفكرة حاضرة في مختلف التصورات الدينية. وفي الإسلام تجد لها سنداً فيما ورد من آيات وأحاديث، كقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[8].
ولأن ظاهر الآية يبدو مطلقاً، فقد انساق المفسر محمد حسين الطباطبائي وغيره، إلى حمل هذا الإطلاق على الحقيقة الواقعية، فاعتبر أن الشرور كالحروب، والأوبئة، والزلازل، والجفاف، والفيضانات، كلها من نتاج الانحراف والفساد والغيّ والظلم والضلال[9].
إلا أن الخطأ المنهجي الذي وقع فيه الطباطبائي وسواه من المفسرين، هو التسليم بأن الإطلاق في ظاهر الآية يدل على الحقيقة في جميع الأحوال، في حين أن كلّ إطلاق في النصوص الدينية ليس بمنأى عن التقييد والتخصيص بأدوات خارجية تتجاوز ظاهر النص. صحيح أن العلماء مارسوا تقييد النصوص وتخصيصها، إلا أن ذلك غالباً ما جرى في إطار التناص، أي من خلال نصوص أخرى، لا عبر الرجوع إلى معطيات الواقع وما إليه من الأدوات الخارجية.
وفي كتابنا (النظام الواقعي) بيّنا أنه وفقاً لحقائق الواقع، لا يمكن الأخذ بإطلاق وعموم كثير من النصوص الدينية، وهو ما يقتضي تقييدها وتخصيصها بحسب المعطيات الموضوعية[10].
وعلى صعيد آخر، هناك من يرى أن الله كليّ القدرة، لكنه ليس كليّ الرحمة والخير، وهو ما ينسجم مع المذهب الأشعري، لاسيما وأن بعض الآيات والأحاديث يظهر منها هذا المعنى.
وما يُضعف التصور الإطلاقي غير المقيّد، كما تفهمه الرؤى الدينية التقليدية على غرار ما ذهب إليه الطباطبائي، هو أن كثيراً من الكوارث تصيب بلداناً فقيرة أو معدمة، كالهند وبنغلادش وإندونيسيا وغيرها، وبشكل متكرر. وقد تعرّضت الأخيرة، أثناء إعدادنا لهذا البحث، إلى تسونامي مدمّر عام 2018، راح ضحيته أكثر من ألف قتيل[11]. وسبق أن أصيبت بتسونامي هائل في عام 2004 أودى بحياة أكثر من ربع مليون إنسان.
وخلال إقامتي في مدينة قونيا التركية، وقعت سلسلة من الزلازل العنيفة منذ يوم 6 فبراير 2023، دمّرت عشر مدن جنوب البلاد، فضلاً عن عدد من المدن في شمال سوريا، وأسفرت عن مقتل ما يقرب من خمسين ألف شخص، وقد يكون العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، مع تشريد ملايين البشر في ظروف مناخية قاسية شملت تساقط الثلوج والبرد القارس[12].
وإلى جانب ذلك، فإن الرؤية الدينية التقليدية تعجز عن تفسير أنواع أخرى من الشر لا علاقة لها باختبار العباد، كظواهر الافتراس الوحشي بين الحيوانات، أو ما يتعرّض له الأطفال من مآسٍ ضمن الكوارث العامة والخاصة، ممن لا معارف لهم ولا أقارب، ولا يعلم بمصيرهم أحد، وهو ما يتجاوز حدود ابتلاء الأحياء من المكلَّفين.
اعتراضات فولتير
إن من مفارقات ما يُذكر حول موضوع الشر والرؤية الدينية الآنفة الذكر ما يُعرف بزلزال لشبونة عام 1755، حيث دمّر ثلاثة أرباع المدينة البرتغالية، وسحق حوالي (30) ألف شخص تحت الانقاض، كالذي أشار إليه المفكر والأديب الفرنسي فولتير في روايته الساخرة (كانديد أو التفاؤل)[13]. وفي احصاءات أخرى ان التدمير فاق العدد السابق بأضعاف.
وتعود أهمية هذا الزلزال إلى انه حدث في يوم عيد القديسين الكنسي، إذ دمّر أغلب كنائس المدينة الكاثوليكية، بل ان التدمير شمل المناطق التي تكثر فيها الكنائس بما هو أعظم من المناطق الأخرى الموصوفة بالفاجرة[14].
ومن سخرية القدر ان يستغل اتباع الإيمان مثل هذه الحوادث للتنكيل والنَيْل من بعضهم البعض، كإشارة إلى غضب الله على المخالفين من المذاهب والفرق الدينية. فزلزال لشبونة قد انتشى له الفرنسيون طرباً وسروراً في ضربه لهذه المدينة الكاثوليكية، وهو واحد من محطات كثيرة اتخذتها المذاهب المختلفة للتنكيل ببعضها البعض وفق مقالة "غضب الله".
وقبل هذا الزلزال المدمر بخمسين سنة، نشر الفيلسوف الالماني لايبنتز كتاباً بعنوان (ثيوديسيا Theodicy) أو العدالة الإلهية، وعنى به تبرير المؤمن للشر بما يتفق وهذه العدالة التامة، أو بما يقترب من الرؤية الفلسفية التقليدية، حيث ليس في الإمكان أبدع مما كان، لولا أن هذا الفيلسوف ينفي الخضوع للحتمية لاعترافه بأن لله القدرة والإرادة الحقيقيين.
فمع انه رأى بأن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة، لكن ذلك لم يأتِ وفق القاعدة الأرسطية الآنفة الذكر، إذ لا يوجد ما يحتم ابداع عالمنا بهذا الشكل، بل ما جرى هو لاعتبار ان هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، ولذلك اختاره الله من دون البقية. وهو اتجاه سبق ان قال به عدد من العلماء المسلمين، مثل المشهور من معتزلة بغداد وبعض علماء الشيعة والإمام الغزالي في بعض كتبه.
ووفقًا لمبدأ لايبنتز في "السبب الكافي"، فإن عدم وجود تفضيل بين العوالم الممكنة يستلزم أن الله لا يخلق أيًّا منها، إذ لا مرجّح يقتضي تفضيل أحدها على غيره. ويُشبه هذا ما يُعرف في الفلسفة بمبدأ الترجيح، الذي ينصّ على أن الترجيح لا يكون بلا مرجّح.
لكن حين وقع زلزال لشبونة المدمّر، وجّه فولتير سهام سخريته إلى ثيوديسيا لايبنتز، وإلى فكرته عن "أفضل العوالم الممكنة"، إذ جعل بطله في رواية كانديد يقول بمرارة: "إذا كان هذا هو خير العوالم الممكنة، فكيف تكون إذًا العوالم الأخرى"[15]؟!
وقد أثارت نكبة لشبونة غضب هذا الفيلسوف الأديب، فاستشاط سخطًا من موقف رجال الدين الفرنسيين الذين فسّروا الكارثة على أنها عقاب إلهي لسكان العاصمة البرتغالية على ذنوبهم وخطاياهم. فكتب قصيدة مؤثرة تتسم بروح تشاؤمية، تشكّك في الحكمة من وجود الشر في هذا العالم، وقد ورد نصها مترجماً في كتاب (قصة الفلسفة)، وهذا جزء منها:
أنا جزء صغير من الكل الكبير.. نعم، لقد حُكم على جميع الحيوانات بالحياة.. لقد ولدت جميع المخلوقات بمقتضى القانون ذاته.. وهي تتألم مثلي ومثلي تموت.. يشدّ الصقر على فريسته الوجلة ويطعن بمنسره الدامي أطرافها المرتعشة.. ويبدو كل شيء على ما يرام في عينيه لفترة.. ويمزق النسر الصقر إلى قطع شر تمزيق.. ويرشق الإنسان النسر بنباله ويقتله.. ويسقط الإنسان في غبار معارك الحروب.. ويختلط دمه بدماء القتلى من رفاقه.. ويصبح بدوره طعاماً للطيور الكاسرة.. وهكذا كل شيء في هذا العالم يئن ويتألم.. لقد ولد الجميع للعذاب والموت.. ومن فوق هذه الفوضى الشاحبة ستقول: ينزل الشر بواحد لخير الجميع.. ما هو النعيم! عندما تصرخ بصوت فانٍ يرثى له كل شيء حسن.. إن الكون يناقضك، ويناقض قلبك.. ويدحض مائة مرة أوهام عقلك.. ما هو رأي هذا العقل الأوسع؟.. صمتاً، إن كتاب القدر مغلق علينا.. إن الإنسان غريب في بحثه ولا يعرف من أين يجيء وإلى أين يذهب.. ذرات معذبة في فراش من طين يبتلعها الموت، سخرية القدر.. إن وجودنا ممزوج باللانهائي ولن نرى أنفسنا أو نعرفها أبداً.. إن هذا العالم مسرح للكبرياء والخطأ يعج بالمجانين المرضى الذين يتحدثون عن السعادة.. لقد غُنيت مرة بأنغام أقل كآبة وحزناً بأن السرور المشرق هو الحكم العام.. ولكن الوقت قد تغير.. وعلمني تقدم العمر أن أشارك الناس في إنكسارهم وأبحث عن ضوء وسط الظلام العميق.. لا أقدر إلا أن أقاسي ولن أتذمر أو أتضجر[16].
***
هكذا اعترض فولتير على الفكرة القائلة بأن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة كما سطره لايبنتز، بل ورآه شديد السوء بفعل ما يغلب عليه من شر. لكنه لم يحدد أين مكمن الخلل، خاصة وأن طرحه كان عاطفياً دون ان يهتم بتحليل المشكلة عقلياً. مع هذا فإن فولتير انتقد النزعة المنكرة للغائية الكونية، وردّ على اتباعها أمثال أبيقور ولوكريتيوس عبر الاستشهاد بأعضائنا الظاهرة وكيف انها تعمل وفقاً لأغراض واضحة؛ كالحواس الخمس والقلب وغيرها، مثلما جاء في قاموسه الفلسفي[17].
الشر والحجاجات الإلحادية
تعتبر القدرة الإلهية أبرز صفة تداول حولها الحجاج المعاصر حول معضلة الشر، وذلك إن كانت مطلقة أو نسبية أو معدومة كلياً، وعلى نحو التحديد: هل الإله عاجز عن ازالة الشر تماماً؟
وأقل من القدر الالهية صفة العلم، فهل يمكن للإله أن يكون فاقداً للعلم كلياً أو جزئياً فيما يتعلق بالشر؟ كذلك تمّ استحضار فكرة كون الإله غير مبال بخلقه. وقد اُستبعد وجود إله شرير، أو ما يُعبّر عنه بـ "الإله الشيطان". رغم ان جميع هذه الخصائص داخلة في النقاش المعاصر بين اللاهوتيين ومعارضيهم. فحتى فكرة الإله الشرير مطروحة لدى البعض كإحدى الافتراضات الممكنة، لا سيما وان بعض المذاهب القديمة كالمجوسية والمانوية تنص على وجود إلهين خيّر وشرير، وهو ما يفسر وجود الخير والشر والصراع بينهما. وكل هذه الحجاجات تستنسخ صورة الإنسان لتصنع منها مخيالاً للطبيعة الإلهية.
لقد أُعيد طرح مفهوم الثيوديسيا بقوة نتيجة للجدل الغربي المعاصر حول مشكلة الشر، وهو الجدل الذي اشتد لأول مرة بين اللاهوتيين ومعارضيهم من الملاحدة المنكرين لوجود الله، والربوبيين النافين لصفات الكمال الإلهي. ولم يكن هذا النوع من الجدل قد أُثير في السابق، إذ كانت المشكلة في الماضي لا تتعدى محاولات تفسير هذه الثغرة من قِبل الفلاسفة واللاهوتيين، باستثناء قلّة قليلة ممن نقدوا الأطروحة اللاهوتية بوصفها متناقضة وغير متسقة، دون أن يكون هدفهم من ذلك دعم الإلحاد.
مع هذا أشار البعض خلال القرن التاسع عشر إلى وجود علاقة بين الإلحاد وظاهرة الشر. فالشاعر الالماني جورج بوخنر Georg Büchner (1813-1837) عبّر عن المعاناة البشرية بأنها صخرة الإلحاد، وقال في مسرحية (موت دانتون): لماذا أعاني؟ فهذه هي صخرة الإلحاد. وقد نسبت العبارة الأخيرة في علاقة الشر بالإلحاد إلى اللاهوتي هانز كونج (Hans Küng) عام 1976.
في حين أخذ عدد من الباحثين الجدد يطرحون المشكلة؛ تارة في قبال وجود الله، وأخرى في قبال صفاته التي يؤكد عليها اللاهوتيون من اتباع الديانات السماوية. لذا قد تختلف الصيغ المطروحة في هذا المجال، فمن حيث دلالتها على انكار وجود الله قيل: إما ان الله موجود فالشر غير موجود، وعلى الأقل الصادم منه، أو ان الشر المريع موجود فالله غير موجود.
فالملحدون يثيرون التناقض حول ما يقدمه المؤمنون من صورة للإله تتسم بصفات الكمال في كل شيء معنوي، كالكمال في العلم والقدرة والقوة والرحمة والعدالة وغيرها من الصفات، وهم يرون ان هذه الصفات لا تتوافق مع المكابدة والمعانات والشر المنتشرة في العالم.
وهذا ما جعل معضلة الشر تُعدّ من أكثر الأسباب التي أدت إلى غياب الإيمان لدى الكثير من الناس. وقد وصف الفيلسوف مايكل بيترسون Michael Peterson المشكلة بأنها تحدٍّ خطير ودائم للإيمان الديني، بل انها تضرب في قلب الاعتقاد التقليدي بالله[18].
كما عبّر الباحث اللاهوتي رونالد ناش Ronald Nash عن مكنون الفلاسفة الذين عرّفهم بأنهم جميعاً يعتقدون بأن التحدي الأعظم خطورة على الإيمان بالله، كان وما زال وسيظل، مناطاً بمشكلة الشر[19].
كذلك انعطفت الحجاجات الإلحادية إلى التركيز على مسألة الحب الإلهي وعلاقته بوجود الإله، خاصة فيما تصوره الرؤية المسيحية بأن الله محبة تامة. ومفاد الحجة المطروحة بهذا الصدد، هو أن البشر سيكونون أكثر سعادة إذا ما علموا بوجود الله المحب، فإذا كان موجوداً فسيحرص على أن يعرفه الجميع. وحيث ان البشر لا يدركون محبته، لذا فهو غير موجود[20].
وبعبارة أخرى، إنه لو كان الإله محباً وخيراً لما سمح بالشر والمعاناة، وبالتالي فهو غير موجود.
لقد اعتبرت هذه الأساليب رداً على جميع محاولات الثيوديسيا التي التزم بها المؤمنون بالله من أصحاب الديانات والفلسفات، سواء على نحو التبرير أو التفسير. وما زال الجدل قائماً بين المؤمنين والملحدين، فبقدر ما ينكر الملحد وجود الإله استناداً إلى مشكلة الشر؛ بقدر ما يجد المؤمن تبريراً أو تفسيراً لهذه المشكلة. كما يظهر لهم أحياناً نوع من الدفاع الذي غرضه إبطال ان تكون حجة الملحدين متماسكة.
ونشير إلى ان للإلحاد أكثر من معنى. فثمة تقسيم يتعلق بموضوعنا حول الشر، وهو ان الإلحاد يأتي بمعنيين: موسَّع ومضيَّق، فالموسَّع ينفي وجود الإله مطلقاً، أما المضيَّق فيكتفي بنفي صفات الإله الكمالية كما تبشّر بها الديانات السماوية.
كما هناك من قسّم الإلحاد إلى موجب وسالب، مثلما فعل الفيلسوف الامريكي الملحد ميخائيل مارتن Michael Martin في كتابه (الإلحاد تبرير فلسفي)، فالموجب هو ذلك الذي يعتقد يقيناً بعدم وجود الإله مطلقاً، أما السالب فيتوقف عند عدم الاعتقاد بوجود الإله، ويشمل في هذه الناحية حالة الشك واللاأدرية[21].
مشكلة الشر والجدل المعاصر
يُعدّ الباحث الاسترالي جون ليزي ماكي J. L. Mackie أول من أثار مشكلة الجانب المنطقي ضد الحجة اللاهوتية الشهيرة حول الشر عام 1955، وذلك في مقال له بعنوان (الشر والقدرة الكلية). وقبله بثلاث سنوات عرض الفيلسوف البريطاني برتراند رسل هذه المشكلة وعلاقتها بخالق كلي القدرة في مقال له بعنوان (هل هناك إله؟). فاعتبر انه إذا كان لهذا الخالق غرض وهدف كوني فسيكون بدرجة من الشر يصعب تصوره، فالرجل الذي يرتكب جريمة قتل يُعتبر رجلاً سيئاً، فيما ان الإله القادر يقتل الجميع، وذلك على فرض وجوده. كما يُعتبر الرجل الذي أصاب شخصاً آخر بالسرطان شريراً، فيما أن الخالق يُصيب بهذا المرض الرهيب عدة آلاف كل عام[22].
أما ماكي فيُعتبر أول من مهّد درب الإلحاد عبر تحليله العميق لمعضلة الشر، إذ لم يُعرف قبله بحثٌ مكرّس يربط بين الشر وعلاقته بالإلحاد، أو بإنكار وجود الله من جهة منطقية صريحة. فقد التزم الملحدون بالعنوان العام لمصادفات الكون والحياة، وما ترتب على ذلك من حتمية الشرور، دون أن يُفرِدوا للشر دراسة منطقية خاصة تثير الجدل حول الإيمان.
ويبدو ان علاقة الشر بالإلحاد لم تكن بارزة قبل أطروحة ماكي منتصف خمسينات القرن الماضي، كما لم نسمع عن تحول بعض الناس من حالة إيمان إلى ضده بسبب هذه المعضلة، إنما برزت الأخيرة حديثاً، وكانت أحياناً تمثل أحد الدواعي الرئيسة للإلحاد.
ورغم احتدام الجدل بين اللاهوتيين ومعارضيهم حول هذه الإشكالية، إلا أن غالبية الناس من عامة المتدينين لا يتخذون منها ذريعة للتشكيك أو النيل من الكمالات الإلهية، بل كثيرًا ما يرون فيها مظهرًا من مظاهر الإيمان والتسليم بقضاء الله. وهي ظاهرة راسخة تتناسل من جيل إلى آخر بفعل التأثر العميق بالرؤية الدينية، دون أن تزعزعها الخطابات الفلسفية أو الإشكالات العقلية.
وفي مجتمعاتنا الإسلامية، يغلب الاعتقاد بأن الشر عقوبة إلهية تترتب على تفشي الفساد بين الناس، لذا تكاد تخلو هذه المجتمعات من دراسات معمّقة في فلسفة الشر، إذ لا يظهر فيها قلق وجودي تجاه هذه المسألة كما هو الحال في المجتمعات الغربية.
ومن بين المصنفات والدراسات التي ظهرت مؤخراً في مجتمعاتنا، كتاب بعنوان (مشكلة الشر ووجود الله) عام 2013 للدكتور سامي عامري، ويتضمن عرضاً مباشراً لحجج الملحدين المعاصرة حول الشر والردود عليها، أما الحلول التي طرحها فليست جديدة، حيث انها نابعة من ذات الرؤى الدينية التقليدية بلا تجاوز. كذلك ثمة اهتمام محدود لدى بعض المواقع الالكترونية المسيحية في عرضه لعدد من الكتب العربية حول الموضوع[23]؛ اجتراراً لما يحدث في الغرب.
***
نعود لنقول إن مقالة ماكي تمثل نقطة انطلاق الدراسات حول علاقة الشر بالإلحاد والصفات الإلهية المتعارف عليها ضمن الحجة اللاهوتية. حيث ظهر بعدها كثير من الجدل والآراء المتعارضة بين الملحدين وناكري كمالات الصفات الإلهية من جهة، واللاهوتيين المدافعين عن وجود الله وصفاته الكمالية المطلقة من جهة ثانية، من أمثال جون هيك John Hick وألفن بلانتنجا Alvin Plantinga وريتشارد سوينبرن Richard Swinburne وكارل بارث Karl Barth وغيرهم. لكن عادة ما كان الجدل كلامياً، فهو معني بالأطروحة الدينية في تصورها للإله، أو بأغلب اتباع الديانات السماوية، ومنها المسيحية التي دار الجدل حولها.
وبحسب ما نشره الباحث باري وتني Barry L. Whitney من فهرسة بيانية (bibliography)، فإن عدد الدراسات المطروحة في الغرب خلال إحدى وثلاثين سنة فقط، منذ مطلع ستينات القرن الماضي وحتى بداية التسعينات (1960ـ1991)، قد ربت على (4200) مادة تتعلق بمشكلة الشر، وتم نشرها في دراسة مؤلفة من (490) صفحة عام 1993. لذا أثنى عليه الكثير من الاكاديميين باعتبار ان عمله كان وما زال فريداً من نوعه، وفيه خدمة جليلة للفلاسفة الراغبين في بحث الموضوع، ولم تظهر بعد ذلك أي دراسة تقارب هذا الجهد الضخم حول المسألة[24].
وأهم ما ظهر بهذا الصدد ثلاث نظريات اعتُبرت إلحادية وان بعضها يدعو إلى البعض الآخر. فكانت البداية مع نظرية جون ماكي التي ركزت على إبراز تناقضات الحجة اللاهوتية منطقياً، ثم أعقبتها محاولة الباحث وليام رو William L. Rowe في إبراز الشر المجاني وحجته البرهانية، وذلك في مقال له بعنوان (مشكلة الشر وبعض صنوف الإلحاد) عام 1978، قبل ان يقوم بكتابة عدد من المقالات حول الموضوع، ثم توّجها بكتاب له بذات العنوان الأول عام 2001. كما ظهرت أخيراً محاولة ثالثة حول الحب والاحتجاب الإلهي للباحث شيلينبرغ Schellenberg في كتاب له بعنوان (الاحتجاب الإلهي والعقل البشري) عام 1993.
فهذه هي أبرز دراسات من وُصفوا بالإلحاد في نفي وجود الله، أو على الأقل صفاته الكمالية، من خلال ظاهرة الشر الوجودي، خاصة المروع منه أو غير المبرر. وهو الشر الذي يحدث وفق القوانين الطبيعية بغض النظر عن التدخل البشري المباشر الذي يمكن وسمه بالشر الاخلاقي.
فما زال الشر الوجودي يمثل لدى الكثيرين صخرة الإلحاد التي تتحطم عليها رؤوس الإيمان. ويقابلهم في ذلك المؤمنون حيث يعتبرون النظام الكوني الدقيق والنُظم الحيوية المعقدة صخرة تتحطم عليها رؤوس الإلحاد.
والحقيقة أن كلاً منهما يواجه شبهة كبيرة يعجز عن تفسيرها. فالمؤمن يواجه مشكلة الشر من دون جواب مقنع، فيما يواجه الملحد مشكلة النظام الكوني الدقيق والنُظم الحيوية من دون جواب مقنع هو الآخر. والنتائج المترتبة على كل منهما متعارضة، حيث ان المؤمن يرى ان من السهل الاقتناع بوجود الإله بفضل تلك النُظم الدقيقة، فيما يرى الملحد ان ظاهرة الشر لا تدع مجالاً للاعتقاد بوجود مثل هذا الإله.
ومن حيث التحليل تعتبر الحجة الإلحادية النافية لوجود الإله ضعيفة، فهي لم تراعِ افتراضات عديدة ممكنة قد يطرحها المؤمن.
ومن الممكن ادراك الفارق بين الملحدين والمؤمنين ازاء موقفهم من رؤية العالم الكوني والحياتي والإنساني. فالملحدون يمتلكون أجوبة واضحة حتى وان لم يشرحوا ذلك، لكنها أجوبة كارثية، إذ تتضمن إنكاراً للقيم وجدوى الحياة. في حين يحمل المؤمنون أسئلة معلقة حتى وإن أجابوا عليها بأجوبة دينية تقليدية، فهم لا يمتلكون إجابة إزاء مغزى ما يجري في عالمنا رغم ما يحفل به من شر وجودي.
لكن يبقى بوسع المؤمن ان يطرح افتراضات عديدة حول علة وجود الشر في عالمنا.
اذ يمكن تصور العلاقة بين الإله والمخلوق حتمية كالذي اعتقده الفلاسفة القدماء، كما من الممكن تصور القدرة الإلهية معنية بالأنواع لا الأفراد. كذلك يمكن افتراض ان تكون طبيعة الإله معنية بالقوانين العامة والنظام الكلي، ومنه تنشأ العناية الشاملة مع وجود العوارض الشاذة التي تقتضيها طبيعة المزاحمة بين القوانين الفعلية.. أو غير ذلك من الافتراضات.
[1] ديفيد هيوم: محاورات في الدين الطبيعي، مصدر سابق، ص116ـ117.
[2] بول دافيز: الله والفيزياء الحديثة، مصدر سابق، ص171.
[3] القديس اغسطنيوس: اعترافات، عربه الخوري يوسف العلم، راجعه الاب لويس برسوم الفرنسيسكاني، المعهد الاكليريكي، القاهرة، الطبعة السادسة، 1987م، الكتاب السابع، الفصل السادس، ص122ـ124، عن الموقع الالكتروني: www.cristianlib.com
Marcus Tullius Cicero, 1896.
[5] للتفصيل انظر: النظام الوجودي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (3)، مؤسسة العارف، بيروت.
[6] انظر مرتضى مطهري: العدل الإلهي، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، خاصة الفصل الرابع.
[7] للتفصيل انظر: النظام المعياري.
[8] الروم/41.
[9] محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، ج2، ص181 و183.
[10] انظر الفصل الثالث من: النظام الواقعي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (5)، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت، 2019م.
[11] تمّ نشر هذا البحث في موقع فلسفة العلم والفهم بتاريخ 4-12-2018.انظر: https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=135
[12] كنتُ أقيم وقتها مع ابنتي الكبرى وحفيدتي منها في مدينة قونيا الواقعة في وسط البلاد، وقد تحسست ببعض ترددات هذه الزلازل، وعلى أثرها أُصيبت هذه المدينة أيضاً ببعض الزلازل الخفيفة، وأخذ بعض الناس يهرعون إلى الشوارع خشية حدوث زلزال قاتل.
[13] فولتير: كانديد أو التفاؤل، ترجمة عادل زعيتر، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2012م، ص62 و68.
[14] دانيال سبيك: مشكلة الشر، ترجمة سارة السباعي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2016م، ص141ـ142.
[15] كانديد، ص70.
[16] ول ديورانت: قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة السادسة، 1408هـ - 1988م، ص281ـ282. وانظر أيضاً: Paul S. Chun: Principles of Christian Faith, Lulu Press, 2011, P. 190. Look:https://books.google.tn/books?id=o66gYwbUxvwC&pg
[17] فولتير: القاموس الفلسفي، ترجمة يوسف نبيل، مراجعة جلال الدين عز الدين علي، مؤسسة هنداوي، 2017، فقرة العلل الغائية، ص138.
[18] http://www.atheistrepublic.com/blog/cory-markum/does-problem-evil-presuppose-moral-realism
[19] Ronald H. Nash, Faith and Reason: Searching for a Rational Faith, 1988, p. 177. Look:https://epdf.tips/download/faith-and-reason-searching-for-a-rational-faith.html
[20] http://www.bbc.co.uk/religion/religions/atheism/beliefs/reasons_1.shtml
[21] Michael Martin, Atheism: A Philosophical Justification, 1992, p. 463-5. Look:https://b-ok.cc/book/5149373/954506
[22] Bertrand Russell, Is There a God?, 1952. Look:https://www.cfpf.org.uk/articles/religion/br/br_god.html
[23] http://www.christianlib.com/category/
[24] http://drbarrywhitney.com/blw-7theodicy-3.html