يحيى محمد
شهد عصرنا الحالي منذ أواخر القرن العشرين وحتى يومنا هذا جدلاً ملفتاً للنظر بين العلماء المختصين حول تفسير النظام الكوني والحياتي ان كان بحاجة إلى مصمم ميتافيزيقي أم لا؟ ولهذا الجدل أهمية بالغة، إذ لأول مرة يناقش العلماء مسألة ميتافيزيقية لها مقدمات علمية دون ان تكون فلسفة خالصة.
فلقد تركز هذا الجدل حول ما تشهده الظواهر الكونية والحياتية من نظام يبدي الغرض والغائية ضمن ما يعرف بالتصميم الذكي Intelligent design. وعرفت الحجة بحجة التصميم، وهي تفترض ان للطبيعة غرضاً دالاً على التصميم استناداً إلى النظام المعقد والمخصص بفعل التماسك الوظيفي الدقيق.. وهي نفسها تعرف بالدليل الغائي Teleological evidence، رغم ان لهذا الدليل صيغاً مختلفة دون ان يتخذ قالباً موحداً كما سنعرف.
الفلاسفة والغائية
قديماً اعتقد أغلب الفلاسفة بأن النظام الكوني محكوم بالغائية، رغم انهم لم يعيروها أهمية كدليل مستقل على وجود إله أو آلهة لهذا الكون. فالاعتقاد بالغائية شيء، والاستدلال بها على الألوهة شيء آخر. وربما يعود سبب ذلك إلى ان فكرة الغائية تأتي بالتبعية بعد الاعتقاد بالإلوهة، أو لأنها ليست قطعية. وفي كلا الحالين انها لا تُطرح كدليل مستقل مثلما يُطرح غيرها من الأدلة التجريدية عادة.
وللغائية ارتباط وثيق بالنظام الكوني والحياتي، وان الأدلة الطبيعية المطروحة حول الألوهة تارة تشير إلى النظام الكوني فحسب، وأخرى إلى الغائية فحسب، وثالثة إلى كليهما بشيء من التداخل. فالعلاقة بين النظام الكوني والغائية هي ذاتها يمكن التعبير عنها بلغة البايولوجيا الحديثة انها علاقة بين البنية التكوينية والوظيفة.
ولهذا التمييز أهمية بالغة عند تناول نمط الأدلة المقدّمة في مسألة الألوهية، وهو ما ينبغي أن يتنبّه له الباحث الفلسفي. فقد كانت هذه الأشكال الثلاثة تُطرح قديماً بصيغ متقاربة، وقد يتعامل معها البعض دون أن يميّز بينها بوضوح.
ومن التاحية التاريخية، اعتاد الباحثون ان يردوا دليل الغائية إلى الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم سقراط وديوجينس وافلاطون وارسطو وغيرهم. ورغم تمسّك هؤلاء القدماء بالغائية، إلا ان ذلك لا يثبت أنهم اعتبروها دليلاً مستقلاً، فأحياناً يشار إليها كاعتقاد لا غنى عنه من غير دليل مستقل، أو يشار إليها عند الحوارات المباشرة كأدلة اقناعية وليست منطقية أو منضبطة، كما قد يشار إلى جزئيات لها دلالة خاصة دون ان تُرفع إلى مستوى الدليل الفلسفي المستقل.
فسقراط مثلاً تطرق إلى الغائية عبر حوار يشير إلى جزئية خاصة كشاهد عليها، فهو يرى ان العين البشرية حساسة اتجاه ما حولها، لهذا اُعدت الجفون مثل الأبواب حيث تُفتح وتُغلق كلما لزم الأمر. كذلك ان الفم الذي من خلاله يدخل الطعام يكون بالقرب من الأنف والعينين لمنع كل ما هو مضر وغير مناسب للتغذية. وعليه انتهى هذا الفيلسوف إلى القول، وهو يخاطب ارسطوديموس Aristodemus، بأن مثل هذه الأشياء لا يمكن ان تكون بفعل الصدفة وانما بفعل الحكمة والابداع[1].
وأرى أن غرض سقراط لم يكن إثبات وجود الله أو المصمم، بل إبراز حكمته وحُسن إبداعه؛ إذ نفى الصدفة من حيث كونها مناقضة للحكمة، وهو موقف يذكّر بما عرضه الإمام الغزالي لاحقاً في كتابه (الحكمة في مخلوقات الله).
وفي السياق ذاته، قدّم ديوجينس Diogenes خلال القرن الرابع قبل الميلاد نصاً دالاً على النظام أقرب منه على الغائية، كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين الغربيين، مثل بارو Barrow وتبلر Tipler في كتابهما (المبدأ الانثروبي الكوني The Anthropic Cosmological Principle). فقد عبّر ديوجينس عن إعجابه بالدورة المنتظمة لفصول السنة، معتبراً أن مثل هذا التوزيع لا يمكن أن يكون قد نشأ عن دون ذكاء حيث كل شيء – من شتاء وصيف، وليل ونهار، ومطر وريح، وفترات من الطقس المعتدل، وغيرها – يجري بقدر موزون. فإذا ما تأملها المرء عن كثب، فسيجد فيها أفضل ترتيب ممكن[2].
من هنا يتضح أن ديوجينس كان يعبر عن إعجابه بالنظام الكوني الدال على الذكاء، دون أن يربطه صراحة بغائية محددة أو بألوهة ميتافيزيقية. فبحسب فلسفته، يتمثل الإله في الهواء، الذي تتكوّن منه الأشياء بأشكال مختلفة. وقد سبقه إلى هذا الرأي أناكسيمينس Anaximenes خلال القرن السادس قبل الميلاد، وهو موقف ينسجم في بعض وجوهه مع ما يذهب إليه أصحاب نظرية وحدة الوجود. إذ يرى ديوجينس أن الهواء يملك الحياة والذكاء[3]. كذلك كان كان أناكسيمينس يعتبر الهواء كياناً إلهياً يمثل نفس الحياة[4].
وثمة شخصية اغريقية أخرى قد استعرضت فكرة النظام بوصفه دليلاً على الألوهة بما يختلف عن دليل الغائية. فالفيلسوف الفيثاغوري وصديق افلاطون سلينياس Cleinias، رأى أن ما يدل على وجود الآلهة هو وجود الأرض والشمس والنجوم والكون، إلى جانب النظام المتوازن لمواسم الفصول وتقسيمها إلى سنوات وشهور[5].
***
ومن وجهة نظري، فإن أقدم صورة واضحة لحجة الغائية وصلتنا هي تلك المتمثلة في كتاب الفيلسوف الروماني شيشرون Cicero (طبيعة الآلهة On the Nature of the Gods) خلال القرن الأول قبل الميلاد. ثم تكررت هذه الحجة لاحقاً بصيغ مختلفة لدى عدد قليل من الفلاسفة، كان أبرزهم الفيلسوف واللاهوتي توما الأكويني (المتوفى عام 1274) الذي أدرجها ضمن حججه الخمس الشهيرة لإثبات واجب الوجود، مُستنداً في ذلك إلى أفكار أرسطو حول العلل الأربع التي تحكم الأشياء.
وفي السياق الإسلامي، ظهرت الحجة نفسها بصيغ مُغايرة عند عدد من الفلاسفة، كالذي سبق إليه يعقوب بن اسحاق الكندي (المتوفى عام 873م)، ثم تلاهُ ابن رشد الاندلسي (المتوفى عام 1198م).
أما في العصر الحديث، فقد أصبحت حجة الغائية موضوعاً خاضعاً لجدلٍ واسع بين النقّاد والمدافعين، حيث تواجه أسئلة نقدية حول مدى صلاحيتها كدليل فلسفي، بينما يحاول آخرون إعادة صياغتها في ضوء معطيات العلم الحديث، ولا تزال تحتل مكانتها في النقاش الفلسفي المعاصر حتى يومنا هذا.
بالبوس هو أول من طرح حجة الغائية
لقد تضمّن كتاب (طبيعة الآلهة) حوارات استمع إليها شيشرون لدى عدد من الفلاسفة - المجهولين - دون ان يساهم فيها، وكما ذكر انه دُعي لحضور مناقشات طويلة أُقيمت في منزل صديقه الخطيب كايوس كوتا Caius Cotta. وكان أطراف الحوار هم: صاحب المنزل كوتا، والابيقوري فيليوس Velleius Caius، والرواقي بالبوس Quintus Lucilius Balbus.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة كتب أو أجزاء، وقد فُقد قسم كبير من الثالث، وكان أبرز ما جرى في الكتاب الأول هو استعراض النظرية الابيقورية على يد فيليوس ونقدها بحدة من قبل كوتا، أما الكتاب الثاني فكان مخصصاً لاستعراض النظرية الرواقية ونقد الابيقورية من قبل بالبوس، رغم ان فقرات النص توحي وكأن المتحدث هو شيشرون نفسه، لا بالبوس. في حين تخصص الكتاب الثالث لرد كوتا على اطروحة بالبوس ومناقشة نظريته الرواقية.
وفي خاتمة الكتاب، رجّح شيشرون كفة نظرية بالبوس الرواقية، إذ قال في كلماته الأخيرة: «النتيجة أن فيليوس رأى أن حجج كوتا أكثر صحة، أما أنا فاعتقدت أن حجج بالبوس تبدو الأقرب إلى الحقيقة».
وما يعنينا في هذا السياق، أن الجزء الثاني من الكتاب قد تضمن ذكر الحجج الغائية على التصميم، كما استعرضها بالبوس، لكن دون ان يُعرف - بشكل مباشر - انه المتحدث فعلاً لا شيشرون.
لقد قدّم بالبوس الحجة على الغائية والتصميم، فوظّف فكرة الساعة والفنون البشرية قبل ان يوظفها علماء وفلاسفة النهضة الحديثة بأكثر من سبعة عشر قرناً، فاستعرض نماذج من الآثار البشرية الدالة على الفن والذكاء؛ كرؤية تمثال، أو صورة، أو مسار سفينة من بُعد؛ حيث من المؤكد انها تتحرك عن طريق الفن، وكذلك الساعات المهيئة بالفن والذكاء لا الصدفة. واعتبر ان لهذه الأمثلة دلالتها، وان منتجات الطبيعة تفوق مصنوعات الإنسان روعة وإتقاناً. ومن ثم انتهى إلى انه إذا كان الفن لا ينتج شيئاً من دون استخدام الذكاء، فكذلك لا يجوز اعتبار الطبيعة خالية من الذكاء. فتنظيم أجزاء الكون لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، بل ثمرة توجيه وعناية إلهية.
لقد استشهد بالبوس بوقائع عديدة من ظواهر الكون للدلالة على العناية والغرضية والتصميم بأعظم ما يكون، إلى درجة انه اعتقد بأن أي تعديل لبعض من أجزاء هذا الكون سيجعله سيئاً. فكل شيء فيه يدار من قبل الذكاء الإلهي لغرض سلامة جميع الأشياء والحفاظ عليها، وانه ليس هناك أجمل وأكمل منه، بل لا يمكن تخيل ما هو أكمل من ذلك. وبحسب التعبير الفلسفي التقليدي انه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
ومن الأهمية بمكان الاشارة إلى ان بالبوس كان يستعرض النظرية الرواقية كما صاغها مؤسسها الاغريقي زينو Zeno (الذي عاش بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد)، دون أن يفصل حجته عن المنظومة الفلسفية المعهودة من قبل. فقد رأى من جهة أن غاية ما في الكون إنما وُجد لأجل الكائنات العاقلة من البشر والآلهة، باعتبار أن العقل أكمل الموجودات، لذا فكل الأشياء مصنوعة ومسخرة لهم. ومن جهة أخرى، انه لم يفصل الروح الإلهية وذكاءها عن منتجاتها الطبيعية، بل جمعهما في إطار وحدة وجود شاملة. حتى صرّح - ضمن الفقرة الثامنة من الجزء الثالث - بأنه لا شيء في الطبيعة أعظم من الكون، لذا فالكون هو الله. فهو يتصف بالذكاء والعقل والروح والحكمة والعناية. ومن ثم فهناك تناغم متبادل بين جميع أجزاء الكون تجْمعها روح إلهية واحدة سارية في الكل[6]. وهي فكرة سنجد صداها لدى الفيلسوف الاسكتلندي المعروف ديفيد هيوم بعد تجريدها من العناية والتصميم والغرضية.
مع توما الاكويني وحجة الغائية
قدّم الفيلسوف توما الاكويني – في القرن الثالث عشر الميلادي – عدداً من الحجج لإثبات المسألة الإلهية، وكان من أبرزها دليله على الغائية والتصميم، إذ تميز هذا الدليل بوضوحه وتفرده في الإشارة إلى حركة جميع الأشياء نحو غاياتها المحددة بشكل طبيعي، وذلك ضمن البرهان الأخير من براهينه الخمسة حول وجود الله، كما في كتابه الضخم (الخلاصة اللاهوتية). وكانت هذه البراهين عبارة عن كل من: دليل الحركة والحاجة إلى محرك غير متحرك، ودليل العلية أو حاجة المعلول إلى علة مؤثرة، ودليل حاجة ممكن الوجود إلى واجب الوجود، ودليل مراتب الكمال والغاية في الخير والحق والشرف وما إلى ذلك، ودليل غايات أفعال الطبيعة[7].
وقد عبّر الاكويني عن حجة الغائية مجملاً بقوله: «إننا نرى أن بعض الموجودات التي تفتقر إلى المعرفة، وهي الأجرام الطبيعية ، تفعل لغاية، وهذا ظاهر من انها تفعل دائماً أو في الأكثر على نهج واحد إلى ان تدرك النهاية في ذلك. وبهذا يتضح انها لا تدرك الغاية اتفاقاً بل قصداً. على ان ما يخلو من المعرفة ليس يتجه إلى غاية ما لم يسدد إليها من موجود عارف وعاقل كما يسدد السهم من الرامي. فإذاً، يوجد موجود عاقل يسدد جميع الأشياء الطبيعية إلى الغاية، وهذا الذي نسميه الله»[8].
وواضح ان هذا الدليل يستند إلى العلة الغائية وفق التصور الارسطي للعلل الأربع في حركة الأشياء، وهي العلة المادية والصورية والفاعلية والغائية. فكل شيء طبيعي تتلبس فيه المادة والصورة، فإحداهما بحاجة إلى الأخرى، إذ المادة في حد ذاتها لا تعدو أن تكون قوة أو مجرد امكان للشيء فحسب، لكن الأخير يصبح فعلاً ووجوداً بفضل الصورة عند الحركة. فالمادة تبقى على حالها كما هي في حيز الامكان والقوة، أما الصورة فتدخل في سلسلة من التحولات الوجودية التي تستهدف كمال الصورة وغايتها، حيث تتحول إلى صورة مجردة عن المادة عبر اتحادها بالعقول السماوية المجردة، ومن ثم الانتهاء إلى صورة الصور وأكملها، وهي الغاية العظمى من التحولات، كما تتمثل بالمحرك الثابت الذي لا يتحرك، والذي يجذب إليه الأشياء بالعشق المتجذر في الصور.
وهذا يعني ان كل الأشياء محكومة بالحركة المتصاعدة نحو غاياتها المحددة.
على ان الشيء المهم في الموضوع، هو ان ارسطو استعان بفكرة الغائية كتفسير لحركة الأشياء ضمن منظومته الفلسفية دون ان يطرحها كدليل على اثبات واجب الوجود[9]. وحتى الفلاسفة الذين جاءوا بعده – مع بعض الاستثناء - لم يطرحوا هذه الفكرة ضمن الأدلة على وجود الله. بل اعتمدت أدلتهم على جانب من التجريد؛ كاستخدامهم مفاهيم الوجود والعلية ونفي التسلسل. لذلك يمثل الاكويني مرحلة فاصلة في استخدام صيغة محددة للغائية كدليل على واجب الوجود.
الحضارة الاسلامية وحجة الغائية
سبق للعالم المخضرم يعقوب بن اسحاق الكندي – خلال القرن التاسع الميلادي – ان طرح نصاً يتضمن الاشارة إلى الدليل القائم على النظام والتسخير والاتقان والتدبير، وهي أمور دالة على الغائية كالتي تبشر بها الأديان السماوية، لكنها تختلف عن الطريقة التي انتهجها الاكويني بعده بأربعة قرون. فقد استعرض الكندي حجته المجملة في رسالة (الابانة عن العلة الفاعلة)، وقال: «إن في نُظم هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه في بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير بعضه لبعض واتقان هيئته على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد، وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل.. لأعظم دلالة على أتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم..» [10].
وبعد الكندي بأكثر من ثلاثة قرون طرح الفيلسوف الاندلسي ابن رشد دليلاً آخر حول الغائية، وقد اصطلح عليه بدليل العناية الذي أشار إليه القرآن الكريم في عدد من آياته، ويتميز بأن له خصوصية محددة في البشر، حيث أن ظواهر الكون تلائم حياة الانسان، وان خلق جميع الموجودات جاء من أجلها، ولا تفسير لذلك سوى انها جاءت مصممة لهذا الغرض. وقد اعتبر ابن رشد ان هذا الدليل، مع دليل الاختراع، يمثلان الطريق الشرعي الذي نبّه عليهما القرآن ودعا الجميع إليهما حصراً[11].
وما يعنينا فيما قدّمه ابن رشد هو النظر في «الواقع» بغض النظر عن التنبيه الديني، فالدليل مستقى من الواقع أصلاً، رغم العمومات والمجملات بما يجعل الدليل صندوقاً أسود يحتاج إلى الكثير من الأضواء العلمية الدقيقة للكشف عما فيه من تفاصيل موثوقة. وإذا انطلقنا من هذه النقطة فمن الممكن ان نجد صياغة لمثل هذا الدليل بالتفصيل العلمي المميز حديثاً، كالذي فعله مايكل دنتون Michael Denton نهاية القرن العشرين في كتابه (قدر الطبيعة Nature's Destiny)، والذي اعتمد فيه بشكل رئيسي على كتاب (ملائمة البيئة) للعالم المخضرم لورنس هندرسون عام 1913، كذلك ما فعله الباحثان جوليرمو جونزاليز وجي ريتشاردس في (الكوكب المميز) عام 2004. اضافة إلى ان العديد من الفيزيائيين اعتقدوا بمركزية الكائن الذكي استناداً إلى المبدأ الانساني Anthropic principle وقاعدة الضبط الدقيق fine-tuning، بدءاً من ستينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
يبقى أن الدليل الذي طرحه ابن رشد، ومن قبله الكندي، يختلف عن حجة الغائية التي تشير إلى حركة جميع الأشياء نحو غاياتها الخاصة بصورة تلقائية، كما وردت بوضوح لدى توما الأكويني. فهذه الأخيرة تتناغم أكثر مع المنهج الذي تبناه أنصار حركة التصميم الذكي، ومع الاتجاه العام لعدد من العلماء في مجال البحث البايولوجي. أما طريقة ابن رشد، كما تقدم، فهي أقرب إلى النتائج الفلسفية المستخلصة من المعطيات الفيزيائية المعاصرة.
***
عموماً لم تلقَ حجة الغائية اهتماماً من قبل الفلاسفة عادة، وان الفلاسفة التقليديين من اتباع ارسطو وافلاطون وغيرهما لا يولونها أدنى أهمية، أو انها ليست دليلاً قائماً في حد ذاته، بل تعتبر من مترتبات المنظومة الفلسفية، ولو بالشكل العرضي لا القصد الذاتي، إذ ان واجب الوجود حسب اعتقادهم لا يفعل لغرض سوى ذاته، وان العالي لا يلتفت إلى السافل بالذات وانما بالعرض، وكل ما نجده من نظام وترتيب في عالم التكوين هو نتاج النظام الدائر في العقل الإلهي. مع هذا فبحسب هذه المنظومة ان الغائية حاضرة؛ لكنها تتجه من السافل إلى العالي لا العكس، بمعنى ان واجب الوجود لا يفعل شيئاً أو غرضاً لغير ذاته من حيث القصد الأولي، وانما من طبيعة السافل ان يحمل غرضاً ذاتياً هو اتباع العالي والتشبه به وفقاً لعلاقة المعلول بالعلة الفاعلة. فهذا ما يسلم به الفلاسفة القدماء وفق منطق السنخية[12].
وحديثاً هناك من أشار إلى مثل ذلك المعنى، كالذي نجده لدى زميل الجمعية الملكية في القرن التاسع عشر جون هوتن John Houghton حيث يقول: «العلم الذي نعمل فيه هو علم الله، الله هو المسؤول عن قصة العلم بكاملها.. فالترتيب المذهل والاتساق والثبات والتعقيد المبهر الذي يميز التوصيف العلمي للكون ليس إلا انعكاساً لما يتميز به النشاط الإلهي من ترتيب واتساق وثبات وتعقيد»[13].