-
ع
+

تطورات الحجة الغائية: من بالبوس الرواقي الى داروين (3)

يحيى محمد 

لقد أصبح العلماء منذ أوائل القرن العشرين غير مقتنعين بالتفسير الفيزيقي للظاهرة الحياتية، وذلك لِما يحمل من سذاجة بالغة لا تتناسب مع التعقيد الحاصل في الظواهر الحيوية. كما في المقابل، اعتبروا التحليلات الغائية المشيرة إلى القوة الحيوية تتسم بالزيف والبطلان، ووجدوا في المذهب الحيوي مشكلات عديدة أدت إلى هجرانه وسقوطه. ويؤرخ البعض لهذا السقوط بعام 1930.

ومن بين الإشكالات الموجّهة ضد المذهب الحيوي، هي ان أن أتباعه لم يتّفقوا على تفسير موحّد لطبيعة القوة الحيوية، بل تباينت رؤاهم وتعددت تفسيراتهم بشأنها، مما جعلها غير متماسكة.

كما لوحظ ان هذه القوة المفترضة لا تخضع للقوانين العلمية، وهي أيضاً غير قابلة للاختبار ودون ان يتمكن أحد من البرهنة عليها، ومن ثم فقد اعتُبرت فكرة ميتافيزيقية.

فالفارق بينها وبين فكرة المجال المغناطيسي مثلاً، هو رغم أن كليهما غير قابلين للملاحظة، إلا ان الأخير محكوم بقوانين دقيقة خلافاً لتلك القوة. لذلك أصبحت النزعة الحيوية اعتقاداً متروكاً، فلم يعد هناك من يحتفي بالمذهب الحيوي أو يعيد بناءه أو يتبناه باستثناء القليل، وكان آخر من له هذا التوجه كل من أليستير هاردي وسيول رايت وتشارلس بيرش وبورتمان، وقد فارقوا الحياة أواخر القرن العشرين، كالذي أشار إليه ارنست ماير في كتابه (هذا هو علم البايولوجيا)[1].

لكن ثمة جهود فردية تقترب من المذهب الحيوي، كالذي دلل عليه الباحث في علم التخاطر الانجليزي روبرت شيلدريك Rupert Sheldrake من خلال الغريزة التي تتمتع بها الطيور في هجرتها وعودتها إلى مواطنها الأصلية، مثل هجرة السنونو الإنجليزي في الخريف إلى جنوب افريقيا ثم العودة إلى انجلترا في الربيع، بل والمدهش انه يعود إلى المبنى نفسه الذي أقام فيه العام الذي سبقه. وقد أشار شيلدريك إلى انه لا أحد يعرف سر تلك المعرفة الغامضة. ومن جهته يحتمل ان الهجرة والعودة قد يعتمدان على نوع من الاحساس أو القوة، وهو ان هناك اتصالاً مباشراً بين الطيور ومنازلهم، أشبه بشريط مطاطي غير مرئي [2].

ومع إقصاء فكرة القوة الحيوية من الحقل العلمي، طُوِي مبدأ الغائية بدوره عن النقاش، رغم انه خلال العقد الثاني من القرن العشرين ظهر هناك من يُحيي هذا المبدأ عند استقصائه لمختلف الظروف المناسبة لنشأة الحياة، كما فعل العالِم والفيلسوف لورنس هندرسون Lawrence Henderson في كتابه (ملائمة البيئة The Fitness of the Environment) عام 1913، حيث أظهر لأول مرة ان بيئة الأرض وظروفها السابقة كانت ملائمة للحياة تماماً، لكن الوسط العلمي العام في ذلك الحين لم يكن مهيأً لتقبل مثل هذه الأفكار، فأخذ يبتعد عنها لعقود طويلة، ثم اعيد الاهتمام بها نتيجة الكشوفات العظيمة التي شهدتها الساحتين الفيزيائية والبايولوجية أواخر القرن المنصرم[3].

العضوانية كبديل وسط

منذ بداية القرن العشرين، برز بديل يتوسط بين المذهبين الفيزيقي والحيوي، سرعان ما لاقى قبولاً واسعاً بين العلماء. فخلال العقود الأولى من هذا القرن ازداد الاحساس بأن الكائنات الحية هي نُظم معقدة وديناميكية، إذ تنطوي على مجموعة من القدرات والأنشطة التي لا نظير لها في عالم الآلات، كالتنظيم التلقائي، والتكاثر والتضاعف الذاتي، والاستجابة للمؤثرات البيئية، وغير ذلك. ومن هذه الناحية تجْمعها رؤية شمولية اصطُلح عليها اسم "العضوانية Organicism"، حيث تبحث في كيفية عمل النظم الحية المعقدة ككل، بعيداً عن التطرف الذي أصاب كلا المذهبين المتنازعين: الآلي والحيوي.

والرائد الأول في هذا المجال هو الفسيولوجي الاسكتلندي جون سكوت هالدين John Scott Haldane الذي اعتمد نهجاً مناهضاً للنزعة الميكانيكية في علم الأحياء. وأصبحت وجهات نظره معروفة على نطاق واسع مع كتابه الأول (الآلية والحياة والشخصية Mechanism, Life and Personality) عام 1913. ورغم أنه لم يكن من أنصار الفكر الحيوي، فقد رأى أن التفسير الآلي الخالص يعجز عن شرح خصائص الحياة.

لقد عامل هالدين الكائن الحي ككيان منظم ذاتياً، مشيراً إلى ان كل جهد لتحليله إلى عناصر مختزلة وفق التفسير الميكانيكي سوف يخِلّ بجوهر تجربتنا المركزية للوجود الحي.

وبذلك كان لعمل هالدين تأثير على مذهب العضوانية. وكتب عدداً من الكتب التي حاول فيها إظهار بطلان المقاربات الحيوية والميكانيكية في العلوم[4].

إن من خصائص مذهب العضوانية، هو انه يركز على تنظيم الكيان الحي ككل أكثر من تركيب الكيان ذاته. وهو يوجّه جلّ اهتمامه إلى الصفات المميزة للكائنات الحية ذات التركيب البالغ التعقيد، وإلى تاريخ برنامجه الجيني[5].

ويعود مصطلح "العضوانية" إلى الفيلسوف رتر Ritter عام 1919، الذي قام بتطويره لاحقاً، فنشر مع زميله بيلي Baily بياناً علمياً عام 1928 حول ارتباط الكل بأجزائه، وهو ارتباط لا يقتصر على التكامل الكمي بينهما، بل يشمل أيضاً ما ينجم عن ذلك من هيمنة الكل على أجزائه.

ومنذ عشرينيات القرن العشرين، شاع استخدام مفهومي العضوانية والشمولية الكلية في مواجهة النزعتين الاختزالية والحيوية؛ إذ تقوم الأولى على التحليل الفيزيائي-الكيميائي الذي يرد النُظم الحية إلى وحداتها المادية الأولية دون اعتبار لأي بُعد آخر، بينما تتضمن الثانية مفاهيم ميتافيزيقية يصعب إثباتها علميًّا.

وقد أدى هذا الطرح إلى مفارقة واضحة مع المذهب الدارويني، في صيغتيه القديمة والحديثة. ففهم الكائن الحي بوصفه كياناً كليًّا يؤثّر في أجزائه لا ينسجم مع التفسير الدارويني، التقليدي أو الحديث، والذي استعان بالتغيرات الجينية في تحديدها لهوية الكائن الحي، وذلك إلى جنب الانتخاب الطبيعي.

ولا يزال علماء الداروينية يعتمدون في تفسير الظواهر الحياتية على النهج الآلي الميكانيكي، كما يتمثّل في الطفرات الجينية العشوائية والانتخاب الطبيعي، وهو ما يتعارض مع التفكير الشمولي.

مع هذا يمكن التمييز بين فئتين من التفكير الشمولي في تناول الكائن الحي، كالذي صوره جارلاند ألين، حيث ينقسم هذا التفكير إلى: مادي ومفارق كما يتمثل بالمذهب الحيوي. وما يميز هذا التفكير هو اعتبار الكائنات الحية وحدات كلية تتأثر فيها الأجزاء ببعضها، كما يتأثر الجزء بالكل، وكذا العكس. ورغم ان التفكير الشمولي المادي يتوزّع بين المعسكرين الغربي والشرقي - كما في المادية الديالكتيكية - إلا انه في جميع الأحوال يؤكد على أهمية التمييز بين مستويات التنظيم في النُظم المعقدة.

لقد تم استبدال التشبيه الآلي للكائن الحي بتصور عضوي من حيث اعتباره كُلاً وظيفيًّا، وليس فسيفساء من أجزاء منفصلة أو قابلة للتحليل الاختزالي.

وقد أدى تطوّر الحال إلى ترسّخ التفكير الشمولي في طيف واسع من المجالات، مثل علم الجينوم، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم الأحياء النمائي، وعلم الوراثة السكانية population genetics وغيرها.

لكن لوحظ ان أي اشارة إلى هذا التفكير يمكن النظر إليها بوصفها منحدراً زلقاً قد يفضي إلى تبنّي المفاهيم الميتافيزيقية، أو العودة إلى الحيوية المفارقة، ومن ثم فتح الباب أمام التفكير الغائي[6].

لقد نُقدت النظرة الآلية ومفهومها الاختزالي في تصوير الواقع بأبعاده ومستوياته المختلفة، وبدأ الواقع يُفهم على أنه بنية هرمية متراكبة تتكوّن من عدّة مستويات، لكلٍّ منها قوانينه الخاصة؛ بدءاً من النظم الفيزيائية والكيميائية، وصولاً إلى النظم البيولوجية والاجتماعية. وهذا ما أكّده عالم الأحياء النمساوي برتالانفي Bertalanffy في كتابه (نظرية النظام العام General system theory) الصادر عام 1968. فوفق هذا التصور، إن وحدة العلوم تعمل لا من خلال اختزالها الطوباوي إلى الفيزياء والكيمياء، بل بجعلها خاضعة للتوحيد البنيوي الذي يراعي تمايز مستويات الواقع وتنظيمها.

وبحسب برتالانفي، فإن النظرة الآلية للعالم أفضت إلى عواقب مدمّرة لحضارتنا، إذ إن الاقتصار على الظواهر الفيزيائية بوصفها المعيار الوحيد للواقع أدّى إلى "ميكنة" الإنسان وتهميش القيم العليا. وبعد الإطاحة بالنظرة الآلية، بات من الضروري الحذر من الوقوع في اختزال العلوم إلى "علم الأحياء"، ومن النظر إلى الظواهر العقلية والاجتماعية والثقافية من منظور بايولوجي صرف.

فحين يُختزل الإنسان إلى كائن حيواني فضولي، ويُنظر إلى المجتمع البشري كخلية نحل، فذلك يكشف عن العواقب العملية القاتلة التي تترتب على التصوّر البايولوجي المحض[7].

وأضاف برتالانفي انه على أثر ذلك تم أهمال المشكلات السائدة لدى التخصصات البايولوجية والسلوكية والاجتماعية في العلوم الكلاسيكية، أو انها لم تدخل في اعتباراتها. في حين عند النظر إلى أي كائن حي سنجد نظاماً رائعاً يتسم بغائية واضحة. ويظهر أبلغ الأثر في ذلك لدى السلوك البشري في سعيه وراء الأهداف والغايات الجلية.

ومع ذلك، فإن مفاهيم مثل التنظيم، والتوجيه، والغائية، لا تظهر في النظام الكلاسيكي للعلوم. لذلك ان النظرة الآلية للعالم والقائمة على الفيزياء التقليدية تتسم إما بالخداع والتضليل، أو انها لا تعدو أن تكون ميتافيزيقية خالصة[8].

نوعان من التفكير الوظيفي

مثلما يمكن التمييز بين فئتي التفكير الشمولي المادي والمفارق، نجد أيضاً نوعين مختلفين ومتمايزين من التفكير الوظيفي، أحدهما مادي منكر للغايات، كما في التفكير التطوري الدارويني، وآخر غائي قد يكون مفارقاً أو متأصلاً، سواء كان هذا الأخير طبيعياً خالصاً، أو أنه خاضع للتصميم والتخطيط سلفاً.

لقد احتفظ أغلب علماء الأحياء بفكرة الوظيفة مع استبعاد الغائية. وسادت الوظيفية الداروينية التي تتنكر للتخطيط والتصميم المسبق، بل وتستبعد مطلق الغائية المفارقة والطبيعية.

وتمثّل الوظيفية الداروينية منظومة من التجمعات العرضية للوظائف التكيفية، التي تنشأ نتيجة خضوعها لهيمنة الانتخاب الطبيعي، إذ تُفسَّر بوصفها خادمة لغرضٍ تكيفي تفرضه البيئة والمحددات الخارجية. غير أن الوظيفية لا تُعدّ شمولية كالذي تميل إليه الوظيفية الغائية عادة، إذ يمكن للوظيفة ان تزول باعتبارها عرضية دون ان تخضع لقانون محدد سوى الانتخاب الطبيعي، لذلك يمكن للعضو ان يفقد وظيفته ويصبح مجرد أثر ضامر؛ قليل الفائدة أو من دونها، كما في حالة عيون بعض الحيوانات التي لا تبصر، ومثلها بقايا مخلفات غير وظيفية ناجمة عن  طفرات عشوائية تراكمية لم تُمحَ بفعل التطور، كما كان يُعتقد سابقاً في ما يُعرف بـ"الدنا الخردة junk DNA"، وهو الاسم الذي أُطلق منذ أوائل سبعينات القرن الماضي على أجزاء من الحامض النووي الرايبوزي منقوص الأوكسجين (DNA) والتي ظنّ العلماء أنها بلا وظيفة.

أما الوظيفية الغائية فهي ليست عرضية، سواء كانت مفارقة اعجازية، أو متأصلة في صميم الطبيعة. وتميل أغلب توجهاتها الفكرية حتى عصر داروين إلى التكيفية الوظيفية الشاملة وفقاً للخضوع لسلطة ميتافيزيقية مفارقة. فلقد كان الكثير من علماء النهضة الحديثة وحتى منتصف القرن التاسع عشر هم وظيفيون غائيون من النوع الشمولي، فكل شيء له غرض تكيفي وظيفي، حتى حلمات الذكور لها هذا المعنى الوظيفي المتأصل، كالذي صرح به عالم الطبيعة الانجليزي جون ري John Ray. وهي الفكرة التي ظلت ملاصقة لدى اللاهوتيين الخلقيين حتى يومنا هذا.

ومن وجهة النظر المادية، يُعدّ التفكير الوظيفي تأويلاً للمظاهر التي تبدو وكأنها مصممة وغائية. ويحمل هذا التأويل غرضاً مزدوجاً لدى علماء الأحياء في القرن العشرين، فمن جهة يُقدّم مفهوم الوظيفة بديلاً عن مفاهيم الغائية والتصميم المُسبق، بما يتماشى مع المنظور الطبيعي غير الميتافيزيقي. ومن جهة أخرى، جاء هذا التأويل ليمهّد طريقاً وسطاً بين الغائية الصريحة والنزعة الآلية الخالصة، إذ يهدف إلى تجنّب الوقوع في فخ الاختزال الفيزيائي-الميكانيكي الذي يُحوّل الكائن الحي إلى آلة صمّاء تفتقر إلى الحيوية والتنظيم الذاتي. غير أن هذا التوجّه، إذا لم يُضبط، قد يرتدّ إلى ذات المنهج الآلي الاختزالي الذي حذّر منه عدد من علماء القرن الماضي.

وحقيقة الحال، ثمة نقطتان رئيسيتان تدفعان باتجاه الانزلاق نحو التفكير الغائي؛ تتمثّل الأولى في الالتزام بفكرة الكلية أو الشمولية، كما سبق عرضها. أما الثانية فتتجلى في تبنّي منطق التفكير الوظيفي، الذي يمثّل بدوره منحدراً زلقاً نحو الغائية. فبحسب فيلسوف العلم كارل همبل، يُعدّ التحليل الوظيفي - من الناحية التاريخية - تعديلاً للتفسير الغائي، فهو لا يشير إلى العلل التي تنتج الحدث، بل إلى الأهداف التي تحدد سلوكياته[9].

وبلا شك، فإن هذه النقطة أقرب إلى التفسير الحيوي منها إلى النموذج الفيزيقي الخالص، رغم النقد الموجَّه إلى المذهب الحيوي في صيغته التقليدية، لما ينطوي عليه من عناصر غير قابلة للاختبار، مثل مفهوم "القوة الحيوية". لكن يبقى التفكير الوظيفي المسلّم به علمياً متميزاً عن التفكير الغائي، كالذي تبنّاه النسق الدارويني ضمن ما يُعبّر عنه بالتكيف الذي يمارسه الانتخاب الطبيعي غير الموجَّه والأعمى.

فقد تحفّظ داروين من النزعة الوظيفية الغائية؛ إذ لم يعترف بالوظيفة إلا بقدر ما تمثل أداةً تكيّفية نشأت عن فعل الانتخاب الطبيعي، وبالتالي فهي وظيفة بلا توجيه أو قصد سابق. وهذا ما يجعل مذهبه قائماً على الأسباب الطبيعية كعلل دافعة نحو ما يترتب عليها من نتائج.

إذاً، فالعلاقة بين السبب والنتيجة، وفق هذا التصور، هي علاقة شرطية ضمنية، لا تقتضي افتراض غايات سابقة ولا انتظار نتائج محددة سلفاً. ومن ثم، فإن ما يُقصَد بالوظيفية Functionalism في السياق الدارويني هو الوظيفية التاريخية أو العرضية، لا الوظيفية الغائية.

غير أن الخلاف بين الوظيفية الغائية، والوظيفية العرضية للداروينيين، يتداخله صنف ثالث يُعبّر عنه بالبنيوية structuralism، أو الشكلية Formalism المعتمدة على علم المورفولوجيا morphology، كالتي استعرضها عالم الحفريات ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould في كتابه المعروف (بنية نظرية التطور The Structure of Evolutionary Theory)[10].

وبحسب البنيوية، ان البنية هي الأساس والأصل الذي تتحدد بموجبه الوظيفة، بخلاف النزعة الوظيفية التي ترى العكس هو الصحيح.

إن أهم ما ترتكز عليه البنيوية – كالتي استعرضها مايكل دنتون في كتابه المميز (التطور: ما يزال نظرية في ازمة Evolution: Still a Theory in Crisis) عام 2016- هو ان في الطبيعة قانوناً متأصلاً بغض النظر عن الوظائف المباشرة. وهي من هذه الناحية تختلف عن الوظيفية التكيفية الشمولية (الغائية)، كما تختلف عن الوظيفية العرضية. بمعنى انها تعتقد بأن بعض أشكال الحياة قد تكونت بفعل القانون الداخلي الطبيعي دون ان تخدم غرضاً تكيفياً محدداً، وهذا هو منشأ اختلافها عن الوظيفية بشطريها، بل وترى ان المحددات الداخلية للنماء تقيد اتجاهات التطور دون اعتبار للوظائف التكيفية. وبحسبها أننا لا نتوقع من الخنزير – مثلاً - ان يتمكن من الطيران، ليس بسبب المحددات الوظيفية، بل بسبب المحددات البنيوية الداخلية لتركيبة الخنزير، فالنماء هو المهيمن[11].

على ان البنيوية هي أيضاً على قسمين: غائية وان لم تعترف بالوظائفية الشمولية، وأخرى حتمية طبيعية من دون تخطيط ولا غرض قصدي، وان الغائية قد تكون قصدية تم التخطيط لها بشكل لاهوتي، وأخرى غائية طبيعية كالذي يميل إليه توماس ناجل.. ويبدو ان البنيوية القصدية هي التي شاعت لدى قرن النهضة العلمية وما بعده حتى منتصف القرن التاسع عشر.

وبحسب مايكل دنتون فإن جميع البايولوجيين تقريباً آمنوا بداية القرن التاسع عشر بالبنيوية[12]. لكن الحدث الذي جعل البنيوية تتراجع هو ظهور (أصل الأنواع) عام 1859، حيث تضاءل الفكر البنيوي مثلما تضاءل الفكر الوظيفي الغائي. فقد قدّم داروين بعض الأدلة المتعلقة بتطور الكائنات الحية، وكان من بينها تشابه الصفات لدى هذه الكائنات، بما يعرف بالدليل المورفولوجي، والتي اعتبرها دالّة على وجود سلف مشترك خلاف الرؤية التي تبناها البنيويون وفق نموذج الأنماط المتقطعة في الطبيعة.

لقد كان ريتشارد اوين واغاسيز من ابرز البنيويين الغائيين الذين عارضوا الفكر الدارويني خلال القرن التاسع عشر، وبحسب اوين ان ترتيب الطبيعة هو خطة الهية لغايات محددة، وقد جاءت قوانين الطبيعة لتحقيق هذه الغايات، ومنها ما يتعلق بالبشر، مثل ان الحصان مقدر له سلفاً ان يكون مسخراً لهم. لهذا نقد اوين التكيف الوظيفي كما تنادي به الداروينية، ورأى الطبيعة تبدي دليلاً على التصميم. اما اغاسيز فقد اعتقد ان النظام التصنيفي الكامل للكائنات الحية هو جزء من خطة الله العظيمة للخلق، معتبراً التصنيف ما هو الا ترجمات افكار الخالق الى لغة البشر.

ورغم ان انتشار الداروينية وهيمنتها على التفكير العلمي قد اضعفت الفكر البنيوي، الا ان القرن العشرين احتفظ بقائمة هامة من البنيويين البارزين كما استعرضهم دنتون.. مثل ويليام باتيسون وتومبسون وستيوارت كوفمان وروبرت ريدل وستيوارت نيومان وبراين جودمان. بل حتى ستيفن جاي جولد تبنى البنيوية اواخر حياته.

ويعتبر دنتون ابرز عالم معاصر يؤيد هذا المسلك، كما اظهر ذلك في كتابه القيم (التطور: ما يزال نظرية في ازمة). فهو يعتقد بمثل ما اعتقده اوين وعدد من بايولوجيي القرن التاسع عشر، وهو ان الحياة جزء لا يتجزء من الطبيعة، وهي تتبع قوانين محددة، وان اشكالها الاساسية مندمجة بطريقة ما في الطبيعة. ورأى ان هذه الفكرة مدعومة بشكل كبير جداً من علم الكونيات في القرن العشرين، ومن ذلك ما يظهر بان قوانين الطبيعة مضبوطة بدقة لملائمة الحياة. وسبق له في كتاب (قدر الطبيعة) الصادر عام 1986 ان اظهر تفاصيل ملائمة هذه القوانين والتطورات الكونية لنشأة الحياة وظهور الكائن الذكي، وانتهى الى ان الدليل يوحي بوجود غاية في الطبيعة وانها تتبع طريقاً سبق رسمه الى نهاية متوقعة. فما دامت قوانين الطبيعة مضبوطة لتسهيل صيرورة الحياة لذا من المعقول منطقياً ان تكون نشأة الكائنات الحية وتطورها قد حُددت عبر قانون طبيعي ايضاً، او ان نشوء الحياة مقدر ومبرمج سلفاً بطريقة ما في بنية الكون او ضمن هذه القوانين، رغم ان الاله قد وهب الكائنات الحية شيئاً من الابداع الذاتي الحر. بل وتقبل فكرة ان اكتشاف مركزية الانسان قد سبق ترتيبه سلفاً في طبيعة الاشياء. كذلك اعتقد انه توجد ادلة متزايدة على ان التطور يتحرك قفزاً، وان التحولات التطورية الكبرى قد حدثت بسرعة كبيرة لتوحي الى ذلك الهدف، فكلما زادت سعة قفزات المسار التطوري اصبح سهلاً تصوره كنتيجة برنامج مدمج معد سلفاً.

وتبدي جميع هذه التصورات ان دنتون كان يميل الى النهج البنيوي منذ زمن مبكر نسبياً، لولا انه كان يعتقد – كما يبدو – ان الصفات البايولوجية تحمل كل منها غرضاً تكيفياً خاصاً.

لقد اعترف هذا العالم الحيوي انه في كتابه السابق (التطور: نظرية في ازمة) الصادر عام 1985 كان مازال يتبع الفكر الوظيفي. فقد كانت الكائنات الحية من وجهة نظره هي اشبه بالساعة المعقدة غير القابلة للاختزال وعبّر عنها بالحزم التكيفية التي تحتوي على صفات؛ كل منها يخدم نهاية تكيفية خاصة. فهذا ما جاء في كتابه الاول (التطور: نظرية في ازمة). لكن بعد ثلاثين سنة ادرك ان صفات الاشياء الحية لم توجد كلها لخدمة هدف تكيفي معين، واورد عدداً من الشواهد الدالة على ذلك واعتبرها تحدياً للداروينية، واستشهد بكتاب ريتشارد اوين (طبيعة الاطراف) المطروح قبل (اصل الانواع) بعشر سنوات. ونبّه الى ان مارسيل بول شوتزنبرغر Marcel–Paul Schützenberger هو من كان له تأثيره الاعظم عليه في تحوله الى البنيوية، وذلك من خلال إشارته إلى المظهر المجرد لكثير من الأشكال النباتية أثناء الزيارات المتعددة إلى حديقة النباتات في باريس أواخر الثمانينيات. يضاف الى ان احد العوامل الاساسية المؤثرة في تحوله الى البنيوية هو تزايد ادراكه بان نموذج مركزية الجينات فاشل على المستوى الخلوي، وان هندسة الخلايا هي قضية فوق جينية ونتيجة للتنظيم الذاتي للمادة الخلوية. كما اشار الى انه كان محرجاً بعض الشيء لاكتشافه المتأخر للنهج البنيوي، ولفشله في الإبصار عبر سراب الانتقاء الشامل للطبقة العميقة من التنظيم اللاوظيفي الذي يتخلل الكائنات الحية، وقد هوّن على نفسه هذا الحال باعتباره ليس الوحيد في ذلك، فحتى ستيفن جاي جولد اعترف بأنه محرج بسبب حماسته لقناعات مذهب التكيف والتي حملها مبكراً في مهنته، قبل أن يدرك أهمية النهج البنيوي والتحدي الذي يطرحه في وجه الداروينية.

ان اهم ما استدل عليه دنتون حول مصداقية البنيوية هو ثبات الكائنات البدائية المدهش والذي يشير الى حالتها الطبيعية الثابتة، وهو يعني ان المحددات والعوامل السببية هي اجزاء من النظام الطبيعي، وان السبل التطورية التي مهدت لها كانت متضمنة في الطبيعة منذ البداية تماماً كما تشير الى ذلك البنيوية.

على ان اهم دعم للنظرية البنيوية هو ما قدمته ثورة الايفو ديفو (النمائية التطورية) خلال الربع الاخير من القرن العشرين. فقبل هذه الثورة لم يكن يتخيل احد نشوء كمية هائلة من التركيب العضوي بفعل المسببات الداخلية ضمن الكائنات الحية ذاتها، لكن اصبح اليوم ما كان يعتبر هرطقة قبل عقود قليلة مذهباً معترفاً به. لقد تم اكتشاف ان اساس تكوين الكائنات هو مجموعة من الدارات الجينية والوحدات النمائية المصونة جداً، فهي التي توجه وتقيد تطور السلالة بغض النظر عن الحاجات التكيفية. ومن ثم غيرت هذه الثورة مفهوم الكائن الحي ذي المرونة اللانهائية، كما لدى الانتخاب الطبيعي، الى تقييد المرونة بعوامل سببية داخلية. وهذا ما تتبناه البنيوية او تتلاقى معه في الاعتقاد بوجود مسببات داخلية هي المسؤولة عن توجيه تطور الحياة. مع هذا يوجد فارق بين الايفو ديفو والبنيوية كالذي استعرضه دنتون. فاغلب الباحثين في الايفو ديفو يرون ان العوامل الداخلية التي توجه الحياة لم تظهر نتيجة الخواص المادية الناشئة للانظمة العضوية كما يعتقده البنيويون، بل من دورات سابقة للتطور التكيفي، اي المحددات التي فرضها التاريخ وليس طبيعة المادة العضوية. لذلك يختلف تفسير الاتجاهين حول وجود الجينات والدارات الجينية المصونة ان كانت تكيفية او انها من الخواص الذاتية للمادة، وانها مقدرة سلفاً في نظام الاشياء لتتلاءم مع ظهور الحياة، مثلما اعتقده اوين خلال القرن التاسع عشر.

ويبدو ان الاتجاه العام للبنيوية في القرن العشرين يميل الى البنيوية الطبيعية دون الغائية والقصدية، اي خلاف ما كان عليه الامر خلال القرون الثلاثة التي سبقته، حيث الميل الى البنيوية القصدية.

كما يلاحظ ان اقوى الاتجاهات الحالية المؤثرة في العلم هي الوظيفية العرضية التاريخية كما تتمثل في الداروينية الحديثة. رغم ان العقود الاخيرة قد اضعفت هذه النظرية كثيراً، خاصة ان الابحاث المعاصرة تبدي ان النظام العضوي معقد للغاية ومن الصعب تفسيره وفق الانتخاب الطبيعي والتكيفات الوظيفية العرضية.

 



[1]   هذا هو علم البيولوجيا، ص24ـ26 و34.

[2]   Rupert Sheldrake, Seven Experiments That Could Change the World, 2002, p. 34. Look:https://b-ok.cc/book/5981751/da5f1f

[3]   قدر الطبيعة، ص562.

[4]   https://en.wikipedia.org/wiki/Vitalism

[5]   هذا هو علم البيولوجيا، ص34.

[6]   Garland E Allen, Mechanism, vitalism and organicism in late nineteenth and twentieth-century biology, 2005. Look:https://www.researchgate.net/publication/24176290_Mechanism_vitalism_and_organicism_in_late_nineteenth_and_twentieth-century_biology_The_importance_of_historical_context

[7]   Ludwig von Bertalanffy, General system theory, 1968, p. 87-88. Look:https://b-ok.cc/book/2031938/b5c82e

[8]   ibid. p. 92

[9]   كارل همبل: منطق التحليل الوظيفي، ضمن قراءات في فلسفة العلوم، مصدر سابق، ص191.

[10] Stephen Jay Gould, Structure of Evolutionary Theory, 2002, Chapter 4 . Look:https://b-ok.cc/book/680059/6f9e88

[11]  مايكل دنتون: التطور: ما يزال نظرية في ازمة، ترجمة محمد القاضي وزيد الهبري وآخرين، مركز براهين، الطبعة الأولى، 2017، ص120ـ121.

[12]  المصدر السابق، ص16.

comments powered by Disqus