يحيى محمد
حافة المنهج العلمي والغائية
سبق أن تناولنا الحديث عن المنهج العلمي المتبع في دراسة الظواهر الطبيعية والحيوية، وبقي أن نسلّط الضوء على "حافّة" هذا المنهج. ونقصد بـ "الحافة" في هذا السياق: الحدود القصوى التي تلامس القضايا الميتافيزيقية. وسنعرض هذه القضية كالتالي:
لقد أفضى المنهج العلمي الحديث إلى إثارة نقاشات عميقة حول قضايا ميتافيزيقية لها علاقة بنتائج هذا المنهج، ومن أبرزها مسألة الغائية. فقد نالت هذه المسألة قدراً من الاهتمام من قِبل عدد من علماء الطبيعة منذ بواكير النهضة العلمية الحديثة، واستمر هذا الاهتمام طيلة القرنين السابع والثامن عشر، حيث بدأت الغائية تُناقش ضمن أطر علمية لا تخلو من الطابع التجريبي، وإن كانت تلامس أطراف الفلسفة.
وقد تعززت هذه المناقشات بفضل تطوّر الاكتشافات العلمية من جهة، وبفعل الجدل المتواصل بين المؤيدين والمعارضين لمفهوم الغائية من جهة أخرى، بعيداً عن الأجواء الفلسفية المجردة. وكان من أبرز الذين خاضوا في هذا الميدان: إسحاق نيوتن، وجون ري، وريتشارد بنتلي، ووليام ديرهام، وغيرهم ممّن سعوا إلى توظيف المنجزات العلمية في إثبات فكرة الغائية في الطبيعة.
فقد أفاض نيوتن في كتابه (البصريات The Opticks) العديد من الأسئلة المتعلقة بحجة الغائية ليستدل منها على وجود كائن ذكي قادر وحكيم، ومن هذه الأسئلة: من أين نشأ ذلك النظام والجمال الذي نراه في العالم؟ وكيف أمكن للكواكب ان تتحرك جميعاً بالطريقة نفسها لدى الأفلاك السماوية؟ ما الذي يمنع النجوم من ان يتساقط بعضها على البعض الاخر؟ كيف جاءت أجسام الحيوانات لتكون مبدعة بالكثير من الفن؟ ولأي غرض كانت أجزاؤها العديدة؟ فهل خُلقت العين من دون مهارة في البصريات، والأذن بدون معرفة بالصوتيات؟ وكيف تنبعث حركات الجسم باتباع الإرادة؟ وكيف نشأت غريزة الحيوانات؟.. ألا يبدو من هذه الظواهر وجود كائن حي ذكي غير مخلوق، وموجود في كل مكان[1]؟!
وفي خاتمة كتابه (المبادئ Principia) أشار نيوتن إلى هيمنة الإله على الكون، فقال: «إن هذا النظام الأجمل للشمس والكواكب والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا بتوجيه وهيمنة كائن ذكي مقتدر»[2].
كما رجّح أن تكون الجاذبية قوة مرتبطة بعامل ميتافيزيقي غير مادي. ففي رسالته الثالثة من رسائله الأربع إلى صديقه بنتلي، خلال العقد الأخير من القرن السابع عشر (عام 1693)، صرّح بأنه لا يمكن تصوّر أن تؤثر مادة جامدة في أخرى مثلها دون احتكاك متبادل، نافياً في الوقت ذاته أن تكون العلاقة بينهما حتمية. أي إن الجاذبية، في نظره، ليست خاصية متأصلة في بنية المادة ذاتها، بل يُحتمل أن تكون صادرة عن عامل خارجي، سواء كان مادياً أو غير مادي، تاركاً الأمر لنظر القارئ وتقديره[3].
ومع مرور الوقت، اقترح نيوتن عدداً من أنواع "الأثير" التي قد تتوسط في التأثير عن بُعد، بعضها مادي ميكانيكي يتكوّن من جسيمات دقيقة لا تكاد تُذكر كتلتها، وبعضها الآخر غير مادي. ورغم أن الباحثين في فكره لاحظوا تردده بين هذين التصورين، إلا أن ما يبدو هو ميله إلى النوع الأخير، بوصفه عنصراً روحانياً أو إلهياً، خاصة وانه سبق ان نسبَ إليه التدخل المستمر في ضبط حركة الكواكب[4].
وعليه فإن نيوتن رغم انه من أبرز رموز المدرسة الميكانيكية؛ لكنه كان ميّالاً بشدّة إلى فكرة الغائية، لا من حيث التنظيم الكوني فحسب، بل أيضاً كقوة حياة، كما هو الحال في المذهب الحيوي.
ومن مصاديق هذا المعنى، انه افترض تدخل الإله باستمرار في تعديل مدارات كواكب المجموعة الشمسية عند الانحراف. إذ واجه مشكلة تتعلق بحساب الجاذبية الناتج عن تأثير أكثر من كوكبين على بعضها البعض، إذ ذلك يجعل من الحساب غير دقيق، وهذا ما جعله يفترض التدخل الإلهي لضبط النظام على الدوام.
غير أن الوصف السابق للعلاقة بين الله والنظام الكوني وجد معارضة من قبل عدد من العلماء والفلاسفة، وكان أبرزهم معاصره الفيلسوف الالماني لايبنتز، والرياضي الفرنسي لابلاس.
فقد اعترض الأخير على التدخل الإلهي الذي حشره نيوتن في منظومته العلمية بغية اعادة الكواكب المضطربة إلى مداراتها، ورأى في المقابل ان الاضطراب هو جزء من القانون المضطرد، وان الكواكب لا تحتاج إلى اصلاح هذا الاضطراب من الخارج؛ تعويلاً على مدارات المشتري وزحل، لكونهما الأثقل، وأحدهما يتمدد والآخر ينكمش.
وكل ذلك يخضع لحتمية صارمة تجعل كل شيء يتحتم مساره، إلى حد أنه لو أمكننا التعرف على الشروط الأولية لنشأة الكون؛ لكان من الممكن ان نستنتج كل شيء قد حدث وسيحدث مستقبلاً. وهو ما لا يترك مجالاً للتدخل الإلهي؛ فيما عُرِف لاحقاً بمشكلة "إله الفجوات God of the Gaps"[5].
وقيل بأن نابليون سأل لابلاس: كيف يمكن افساح المجال لله في هذا التصور الحتمي؟ فرد عليه لابلاس: سيدي، أنا لست بحاجة إلى مثل هذا الفرض[6].
وتُذكّر هذه الحتمية للقوانين الكونية بمقولة الفلاسفة القدماء (ليس في الإمكان أبدع مما كان).
أما الفيلسوف الالماني لايبنتز Leibniz فقد اتهم نيوتن بأنه اقحم الخواص السحرية والمعجزات ضمن فلسفته في قوة الجذب، وهو النقد الذي أشار إليه داروين فيما بعد، لكونه ينسجم مع اطروحته في التطور الطبيعي. وقد اعتبر لايبنتز انه طبقاً لعقيدة نيوتن فإن الرب ليس صانعاً ماهراً للساعات، إذ يحتاج ليعدل ساعته من وقت لآخر؛ وإلا فستتوقف عن الحركة[7].
الساعة الكونية بين نيوتن ولايبنتز
لقد جاءت اطروحة نيوتن على الضد من فلسفة لايبنتز الذي اعتمد على "مبدأ الأفضلية" وما يستند إليه من قانون الاستمرارية law of continuity. ويعني المبدأ المشار إليه ان الله قد اختار عالمنا باعتباره أفضل العوالم الممكنة تبعاً لمبدأ السبب الكافي. إذ لا يمكن ان يختار شيئاً ما لم يتعين سبب كاف لهذا الاختيار، وهو ما يفي به مبدأ الأفضلية.
ويختلف مبدأ الأفضلية عن القاعدة الارسطية (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، إذ تتضمن هذه القاعدة ثبوت حتمية صارمة تحكم الوجود بكافة أبعاده ومراتبه من دون استثناء. وهي فكرة لا يتقبلها لايبنتز لإيمانه بقدرة الله وارادته الحقيقيتين، لذلك عوّل على مبدأ الأفضلية من حيث الكمال.
وقبل لايبنتز ذهب المشهور من معتزلة بغداد وبعض الإمامية الاثنى عشرية إلى القول بهذا المذهب تحت عنوان "قاعدة الأصلحية". وكان مبررهم في ذلك هو أن الله لو لم يفعل الأصلح لكان بخيلاً ما دام يملك القدرة التامة مع وجود الداعي وانتفاء الصارف[8]. وقد خطا الإمام الغزالي، كما في (إحياء علوم الدين)، على شاكلة هذا الاتجاه من حيث التبرير، وأقرّ بالقول: ليس في الإمكان أصلاً أحسن من هذا العالم ولا أتم ولا أكمل منه[9]. وهو قول يناظر القاعدة الارسطية: (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، لكنه لا يحمل المعنى الحتمي الذي تحمله هذه القاعدة.
لنعد إلى مبدأ الأفضلية من وجهة نظر لايبنتز، فهي لا تتحقق ما لم يتم التسليم بقانون الاستمرارية، وهو القانون الذي اعتمده في الرياضيات وطبقه على عالم الميتافيزيقا. ويعني انه لا شيء يحدث فجأة البتة. بمعنى ان الطبيعة منتظمة ولا تعمل بالقفزات ولا التوقفات، فالتغيرات والتطورات الحاصلة تتصف على الدوام بالتدرجية، وان هناك وسائط لهذه التغيرات والتطورات لا تعد ولا تحصى من دون ان نراها ونلاحظها[10].
هكذا يصل لايبنتز إلى ان الكون قد تم انشاؤه بطريقة يستغني فيها الإله عن التدخلات المباشرة. فكل تدخل يعتبر فعلاً خارقاً، أو اعجازاً، لا يتناسب مع قانون الاستمرارية، ومن ثم لا يحقق مبدأ الأفضلية في النمذجة الفيزيائية.
فهذه هي النقطة المركزية التي اعترض فيها على نيوتن في التدخلات الإلهية، باعتبارها تتنافى مع قانون الاستمرارية، ومن ثم مع مبدأ الأفضلية. وهو المبدأ الذي عرّضه فولتير للنقد والسخرية في روايته (كانديد).
ويعد "قانون الاستمرارية" ذا أهمية بالغة بالنسبة للفلسفة التي بنى عليها داروين نظريته. لذلك أشار إلى نقد لايبنتز لنيوتن خلال عرض فكرته عن التطور في (أصل الأنواع)[11].
ومن وجهة نظر لايبنتز، ان جميع ما في العالم يتألف من جواهر روحية غير متناهية وصغيرة جداً لا تقبل الانقسام، وهي الأساس الذي تُبنى عليه مختلف المظاهر الكونية والحياتية، ويُطلق على كل منها "الموناد Monad". وتتصف بأنها منعزلة ومتمايزة عن بعضها البعض كتمايز أفراد البشر، وكل منها تمثل مرآة العالم ككل من زاويتها الخاصة. وهي مع ذلك تخلو من التفاعل والتأثير السببي. ومثلما ان لكل منها مادة من حيث الظاهر، فإن لها نفساً وروحاً من حيث الباطن، كما هو حال البشر، وهما متناغمان من دون ان يؤثر أحدهما على الآخر. فلكل منهما قانونه الخاص المغاير للآخر وبقية المونادات.
هكذا خلق الله العالم وفقاً لعلاقات تنظيمية متبادلة، يتناغم فيها الجانبان النفسي والمادي دون أن تربطهما علاقات سببية، إذ تعمل الأجساد كما لو لم تكن هناك أرواح، كما تعمل الأرواح كما لو لم تكن ثمة أجساد. ومع ذلك فكلها تتصرف بتناغم وانسجام بفعل وجود سبب مشترك يجعلها متجهة نحو المزيد من الانسجام والتناغم، ومن ثم الحفاظ على النظام[12].
إن لفكرة "الانسجام" مكانة هامة على الصعيد الغائي لدى نظرية لايبنتز، وهي لا تدور حول مركزية الانسان. فلايبنتز لا ينحاز إلى هذا المعنى من الغرضية، وقد احتج على ذلك بأننا نجد في العالم أشياء لا تُرضينا ونتوقعها ونعرف انها لم تُصنع لنا وحدنا. ورأى ان العلم الميكانيكي الذي يدافع عنه نيوتن لم يترك للغرض المركزي أثر أو مجال.
ومن وجهة نظره، انه لا يمكن ان يكون مثل هذا الغرض واضحاً إلا من خلال دمج المبادئ الهندسية المثالية في الفيزياء. لهذا جادل بأنه على الرغم من وجود عوالم محتملة كثيرة تتصف بالمنطقية والاتساق ذاتياً، لكن وفقاً لمبدأ السبب الكافي كان الاختيار من نصيب هذا الكون لامتلاكه خصائص الأفضلية مقارنة ببقية العوالم الممكنة[13].
هذه هي اطروحة لايبنتز ونقده لنظرية نيوتن في التدخلات الإلهية، وقد انبرى للدفاع عن هذه النظرية صديق نيوتن الفيلسوف اللاهوتي صموئيل كلارك Samuel Clarke في مراسلاته الحوارية الشهيرة مع لايبنتز؛ والتي طالت مدة سنة حتى وفاة الأخير (عام 1716). ويعتبر كلارك المتحدث الرئيسي باسم "الفلسفة النيوتنية الطبيعية"، وكان يعتقد ان الجاذبية ليست خاصية ذاتية للمادة، بل حتى قوانين الحركة لا تمثل هذه الخاصية، وانما جميعها تعبر عن آثار تصرفات الله في المادة مباشرة، أو غير مباشرة من خلال وكلائه أو ملائكته، مشيراً إلى ان الإرادة الإلهية هي التي تمثل السبب الكافي من دون لحاظ شيء آخر كالأفضلية التي ركّز عليها لايبنتز[14].
لقد اعتبر كلارك انه لا ضير من الاعتقاد بأن الله يتدخل باستمرار لتصحيح الانحرافات في تركيب الطبيعة؛ مثلما يرى صانع الساعات أحياناً ان عليه ان يُنظّم ساعته ويصلحها، خلافاً للفيلسوف لايبنتز الذي اعتقد ان ذلك يلغي وجود فارق بين الطبيعي والخارق أو المعجز، وان هذا الرأي يعني ضمناً؛ إما ان قوانين الطبيعة لم تكن كاملة، أو ان الإله يفتقر إلى البصيرة في تقدير ان العالم بحاجة إلى الاصلاح، وانه مضطر للتفكير في نفسه مرة بعد أخرى.
في حين شبّه كلارك الفكرة التي ترى أن العالم عبارة عن آلة تعمل من دون تدخل وتنظيم مستمر؛ بالساعة التي تدق تلقائياً من دون مساعدة، وهي مثل وجود مَلِك لا يتدخل في شؤون مملكته، فهو مجرد مَلِك بالاسم ولا يستحق هذا اللقب، بل ان هذا ما يدعو إلى الشك في وجوده، وكذا هو الحال فيما يتعلق بالله.
لكن لايبنتز ردّ عليه بأن اعتبر العكس هو الصحيح، حيث لله الدور الديناميكي الثابت للحفاظ على نظام الكون[15].
هذه هي خلاصة النزاع بين الغائية النيوتنية، كما تتمثل في الساعة الكونية التي تحتاج إلى الاصلاح باستمرار، وبين الغائية اللايبنتزية كما تتمثل بالنظام الكوني المثالي الذي لا يحتاج إلى أي اصلاح.
***
على ان هناك تصوراً آخر يختلف عن فكرة الساعة الدقيقة في وصف الكون، كما أدلى بها نيوتن. ففي القرن السابع عشر، سبق للكاتبين الهولنديين ليزيوس Lessius وغروتيوس Grotius أن وصفا البنية المعقدة في العالم بأنها أشبه بالمنزل، ومن ثم فمن غير المرجّح ان تنشأ عن الصدفة العمياء.
غير أن تشبيه الكون بالمنزل قد سبق إليه ابو حامد الغزالي في كتابه (الحكمة في مخلوقات الله)[16]، وإن لم يكن غرضه اثبات وجود الله، بل أراد تبيان الأسرار والعجائب التي تتصف بها المخلوقات لترسيخ اليقين لدى قلوب عباده المتفكرين، كما صرح بذلك في المقدمة.
وبلا شك إن تشبيه الكون بالمنزل يجعل بانيه معمارياً لا ساعاتي. ومن أبرز العلماء الذين رأوا في وصف الإله بالمعماري هو ريتشارد اوين خلال القرن التاسع عشر، فمن وجهة نظره ان الإله لا يشبه صانع الساعات الخارق، بل هو أشبه بالمعماري الأسمى، وهو ذاته المخطط الأساسي للطبيعة، وانه وظّف قوانينها لتخدم البناء الفعلي فيها[17].
ومن المهم ان نشير - في هذا المجال - إلى ما قدمه كل من عالم الطبيعة الانجليزي جون ري John Ray والفيلسوف اللاهوتي الانجليزي وليام ديرهام William Derham.
فقد جمع جون ري في كتابه الغائي الشهير (حكمة الله في أعمال خلقه) بيانات واسعة حول الأجرام السماوية والأرض والكائنات الحية وكيفية تكيفها لأجل البقاء على قيد الحياة. وكان مما أشار إليه اعتراضه على الرأي الشائع بأن جميع الأشياء والحيوانات كلها مجرد آلات أو دمى خُلقت لأجل الانسان، معتبراً هذا الرأي أنانياً لا يتناسب مع جلالة الله وحكمته واقتداره. بل واعتقد ان من غير المعقول ان تكون المخلوقات التي لا حصر لها قد تم صنعها للإنسان فقط، وليس لها استخدام آخر، مشيراً إلى ان من السُخف وغير المعقول الاعتقاد بأن الأجسام ذات الاحجام الضخمة مثل النجوم الثابتة تم صنعها لتتلألأ علينا من دون غاية أسمى[18].
أما وليام ديرهام فقد نشر ثلاثة كتب تتعلق بالدليل الغائي، وهي (اللاهوت الفيزيائي عام 1713، واللاهوت الفلكي عام 1714، واللاهوت المسيحي عام 1730)، وكان أهمها اللاهوت الفيزيائي الذي قدّم فيه دليلاً على وجود الله وخصائصه من أعمال خلقه، واستحضر فيه قانون الجاذبية الشامل في الكون؛ معتبراً ان له دلالة على المصمم الذكي، كما استحضر مختلف أنواع الظواهر الفيزيائية والحياتية الدالة على التصميم الإلهي والغائية المتمثلة بمركزية الانسان. لكنه تخلى في وقت لاحق عن هذا الرأي المبتذل والخاص بالمركزية الغائية للانسان. والبعض يعتقد ان لهذا العالِم أثراً مباشراً على وليام بيلي صاحب دليل الساعة[19].
***
هذه هي خلاصة فكرة التصميم وحجة الغائية لدى النهضة العلمية الحديثة التي شاع فيها القول بأن الله معروف من أعماله، كما يظهر من أصدقاء نيوتن أمثال صموئيل كلارك وريتشارد بنتلي Richard Bentley ووليام ويستون William Weston. وقد استند أصحاب حركة التصميم الذكي المعاصرة إلى مثل تلك الأعمال القائمة على العلم.
بل ان الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند رسل Bertrand Russell رغم عدم إيمانه بوجود خالق، فإنه استحسن هذه الحجة للتصميم من حيث ان مقدماتها تجريبية وليست عقلية خالصة كما هو ديدن طريقة الفلاسفة القدماء.
وكما أشار، وهو بصدد عرض آراء الفيلسوف لايبنتز، إلى أن من الممكن تحويل أحد أدلته التي قدّمها إلى ما يسمى بـ "الحجة المستندة إلى التصميم". وخلاصتها هي أننا عندما ننظر إلى العالم المعروف نظرة شاملة، سنجد أشياء لا يمكن تفسيرها بشكل مقبول عند افتراض قوى طبيعية عمياء، بل الأرجح ان تُعدَّ شواهد على قصد الخير. واعتبر رسل أن هذه الحجة ليس فيها نقص منطقي صوري، فمقدماتها تجريبية، ونتيجتها تعني أننا نتوصل إليها بما يتوافق مع القواعد المألوفة للاستدلال التجريبي. ومسألة ما إذا كان علينا تقبل هذه الحجة أم لا؛ لا تتوقف على القضايا الميتافيزيقية، بل على اعتبارات تفصيلية نسبياً[20].
وعموماً أخذت حجة الغائية جدلاً متواصلاً بين المؤيدين والمعارضين لها على طول القرون الثلاثة الأخيرة. فأول من تطرّق إلى نقدها هو فيلسوف الشك الحسي ديفيد هيوم (1711 - 1776) ضمن حواراته الشهيرة المتعلقة بالدين الطبيعي، إذ لم يتقبل تشبيه الكون بالمنزل أو الساعة العظيمة أو أي شيء يمت إلى الكائن الذكي أو النتاج البشري. ثم جاء وليام بيلي ليجعل من حجة الساعة دليلاً منطقياً متماسكاً على اثبات المصمم الذكي، وقد عُرف عمله الضخم بـ "صانع الساعات الذكي". لكن هذا الدليل جوبه ببديل طبيعي قدمه تشارلس داروين (منتصف القرن التاسع عشر) دون حاجة إلى افتراض ذلك المصمم. واستمر هذا البديل - بشكل أو بآخر - لأكثر من مائة عام، وبعد ذلك جوبه باعتراض جذري للعودة من جديد إلى حجة الغائية التي دافع عنها بيلي ومن قبله علماء وفلاسفة النهضة العلمية الحديثة، لكن في هذه المرة ظهرت في الواجهة صياغات محددة دقيقة للحجة من خلال الاعتماد على المعطيات العلمية المعاصرة، والتي شهدت الكثير من الاكتشافات الباهرة، سواء في العالم الفيزيائي أو الحياتي، خاصة فيما يتعلق بمصانع الخلية الحية من الجينات والبروتينات وغيرها.. وقد اشتهرت الحجة بعنوان "التصميم الذكي" التي ما زال الجدل حولها قائماً حتى هذه اللحظة..
وخلاصة الحال انه مع ولادة النهضة العلمية الحديثة ظهر أول استخدام علمي للحجة الغائية، لكن لم تمر مدة طويلة حتى برزت أول معارضة نقدية ضدها من قبل الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم. ثم بعدها أخذ الجدل الفلسفي والعلمي يتنامى حول قيمة هذا الدليل قبل ان يستعيد حضوره وتطوره بقوة خلال عصرنا الحالي.
للبحث صلة...
[1]Isaac Newton, Opticks, The Fourth Edition, p. 370. Look: http://www.gutenberg.org/files/33504/33504-h/33504-h.htm
[2] Isaac Newton, natural philosophy, translated into English by Andrew Motte. P. 504. Look:http://redlightrobber.com/red/links_pdf/Isaac-Newton-Principia-English-1846.pdf
[3] Isaac Newton, Four Letters ... to Doctor Bentley, 1756. Look:https://www.sophiararebooks.com/pages/books/3537/sir-isaac-newton/four-letters-to-doctor-bentley
[4] Sfetcu, Nicolae, "About God in Newton's correspondence with Richard Bentley and Queries in Opticks", SetThings (February 13, 2019). Look:https://www.setthings.com/en/about-god-in-newtons-correspondence-with-richard-bentley-and-queries-in-opticks/
[5] تُنسب هذه العبارة إلى تشارلس كولسون Charles Coulson عام 1955.
[6] انظر: ستيفن هوكنج وملوندينوف ليونرد: التصميم العظيم، مصدر سابق، ص41. وجون جريبن: البساطة العميقة، عرض صبحي رجب عطا الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م، ص16. والكشف عن حافة الزمن، ترجمة علي يوسف علي، نشر المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2001م، ص27، عن مكتبة الموقع الإلكتروني www.4shared.com
[7] Exchange of papers between Leibniz and Clarke:https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/leibniz1715_1.pdf
[8] يوسف بن المطهر الحلي: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، انتشارات الرضي ـ بيدار، الطبعة الثانية، ص156ـ157. وعبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص403.
[9] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، ج4، ص258.
[10] Gottfried Wilhelm Leibniz. Look:https://plato.stanford.edu/entries/leibniz/
[11] تشارلس داروين: أصل الأنواع، ترجمة مجدي محمود المليجي، تقديم سمير حنا صادق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004م، ص765.
[12] https://plato.stanford.edu/entries/leibniz/
[13] John D. Barrow and Frank J. Tipler, p.64 .
[14] Samuel Clarke. Look:https://plato.stanford.edu/entries/clarke/
[15] Exchange of papers between Leibniz and Clarke:https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/leibniz1715_1.pdf
[16] وكما قال الغزالي: “إنك إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبني، المعد فيه جميع ما يحتاج اليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم منصوبة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر. وكل شيء معد مهيأ لشأنه، والانسان كالمالك للبيت، المحول لما فيه، فضروب النبات لمآربه، وأصناف الحيوانات في مصالحه..” (ابو حامد الغزالي: الحكمة في مخلوقات الله، تحقيق محمد رشيد قباني، دار أحياء العلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 1398هـ ـ 1978م، ص15).
[17] التطور: ما يزال نظرية في ازمة، ص85.
[18] انظر الفقرة 176 من كتاب جون ري:John Ray, The Wisdom of God Manifested in the Works of the Creation. Look:http://www.moonmentum.com/blog/wp-content/uploads/2011/11/wisdom_of_god1.pdf
[19] https://en.wikipedia.org/wiki/Teleological_argumentكما انظر كتاب (اللاهوت الفيزيائي) لديرهام في الموقع الالكتروني التالي:https://books.google.tn/books?id=a8s3AAAAcAAJ&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false
[20] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، المكتبة المصرية العامة للكتاب، 1977م، ج3، ص148.