-
ع
+

تطورات الحجة الغائية: من بالبوس الرواقي الى داروين (كاملة)

 يحيى محمد

شهد عصرنا الحالي منذ أواخر القرن العشرين وحتى يومنا هذا جدلاً ملفتاً للنظر بين العلماء المختصين حول تفسير النظام الكوني والحياتي ان كان بحاجة إلى مصمم ميتافيزيقي أم لا؟ ولهذا الجدل أهمية بالغة، إذ لأول مرة يناقش العلماء مسألة ميتافيزيقية لها مقدمات علمية دون ان تكون فلسفة خالصة.

فلقد تركز هذا الجدل حول ما تشهده الظواهر الكونية والحياتية من نظام يبدي الغرض والغائية ضمن ما يعرف بالتصميم الذكي Intelligent design. وعرفت الحجة بحجة التصميم، وهي تفترض ان للطبيعة غرضاً دالاً على التصميم استناداً إلى النظام المعقد والمخصص بفعل التماسك الوظيفي الدقيق.. وهي نفسها تعرف بالدليل الغائي Teleological evidence، رغم ان لهذا الدليل صيغاً مختلفة دون ان يتخذ قالباً موحداً كما سنعرف.

الفلاسفة والغائية

قديماً اعتقد أغلب الفلاسفة بأن النظام الكوني محكوم بالغائية، رغم انهم لم يعيروها أهمية كدليل مستقل على وجود إله أو آلهة لهذا الكون. فالاعتقاد بالغائية شيء، والاستدلال بها على الألوهة شيء آخر. وربما يعود سبب ذلك إلى ان فكرة الغائية تأتي بالتبعية بعد الاعتقاد بالإلوهة، أو لأنها ليست قطعية. وفي كلا الحالين انها لا تُطرح كدليل مستقل مثلما يُطرح غيرها من الأدلة التجريدية عادة.

وللغائية ارتباط وثيق بالنظام الكوني والحياتي، وان الأدلة الطبيعية المطروحة حول الألوهة تارة تشير إلى النظام الكوني فحسب، وأخرى إلى الغائية فحسب، وثالثة إلى كليهما بشيء من التداخل. فالعلاقة بين النظام الكوني والغائية هي ذاتها يمكن التعبير عنها بلغة البايولوجيا الحديثة انها علاقة بين البنية التكوينية والوظيفة.

ولهذا التمييز أهمية بالغة عند تناول نمط الأدلة المقدّمة في مسألة الألوهية، وهو ما ينبغي أن يتنبّه له الباحث الفلسفي. فقد كانت هذه الأشكال الثلاثة تُطرح قديماً بصيغ متقاربة، وقد يتعامل معها البعض دون أن يميّز بينها بوضوح.

ومن التاحية التاريخية، اعتاد الباحثون ان يردوا دليل الغائية إلى الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم سقراط وديوجينس وافلاطون وارسطو وغيرهم. ورغم تمسّك هؤلاء القدماء بالغائية، إلا ان ذلك لا يثبت أنهم اعتبروها دليلاً مستقلاً، فأحياناً يشار إليها كاعتقاد لا غنى عنه من غير دليل مستقل، أو يشار إليها عند الحوارات المباشرة كأدلة اقناعية وليست منطقية أو منضبطة، كما قد يشار إلى جزئيات لها دلالة خاصة دون ان تُرفع إلى مستوى الدليل الفلسفي المستقل.

فسقراط مثلاً تطرق إلى الغائية عبر حوار يشير إلى جزئية خاصة كشاهد عليها، فهو يرى ان العين البشرية حساسة اتجاه ما حولها، لهذا اُعدت الجفون مثل الأبواب حيث تُفتح وتُغلق كلما لزم الأمر. كذلك ان الفم الذي من خلاله يدخل الطعام يكون بالقرب من الأنف والعينين لمنع كل ما هو مضر وغير مناسب للتغذية. وعليه انتهى هذا الفيلسوف إلى القول، وهو يخاطب ارسطوديموس Aristodemus، بأن مثل هذه الأشياء لا يمكن ان تكون بفعل الصدفة وانما بفعل الحكمة والابداع[1].

وأرى أن غرض سقراط لم يكن إثبات وجود الله أو المصمم، بل إبراز حكمته وحُسن إبداعه؛ إذ نفى الصدفة من حيث كونها مناقضة للحكمة، وهو موقف يذكّر بما عرضه الإمام الغزالي لاحقاً في كتابه (الحكمة في مخلوقات الله).

وفي السياق ذاته، قدّم ديوجينس Diogenes خلال القرن الرابع قبل الميلاد نصاً دالاً على النظام أقرب منه على الغائية، كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين الغربيين، مثل بارو Barrow وتبلر Tipler في كتابهما (المبدأ الانثروبي الكوني The Anthropic Cosmological Principle). فقد عبّر ديوجينس عن إعجابه بالدورة المنتظمة لفصول السنة، معتبراً أن مثل هذا التوزيع لا يمكن أن يكون قد نشأ عن دون ذكاء حيث كل شيء – من شتاء وصيف، وليل ونهار، ومطر وريح، وفترات من الطقس المعتدل، وغيرها – يجري بقدر موزون. فإذا ما تأملها المرء عن كثب، فسيجد فيها أفضل ترتيب ممكن[2].

من هنا يتضح أن ديوجينس كان يعبر عن إعجابه بالنظام الكوني الدال على الذكاء، دون أن يربطه صراحة بغائية محددة أو بألوهة ميتافيزيقية. فبحسب فلسفته، يتمثل الإله في الهواء، الذي تتكوّن منه الأشياء بأشكال مختلفة. وقد سبقه إلى هذا الرأي أناكسيمينس Anaximenes خلال القرن السادس قبل الميلاد، وهو موقف ينسجم في بعض وجوهه مع ما يذهب إليه أصحاب نظرية وحدة الوجود. إذ يرى ديوجينس أن الهواء يملك الحياة والذكاء[3]. كذلك كان كان أناكسيمينس يعتبر الهواء كياناً إلهياً يمثل نفس الحياة[4].

وثمة شخصية اغريقية أخرى قد استعرضت فكرة النظام بوصفه دليلاً على الألوهة بما يختلف عن دليل الغائية. فالفيلسوف الفيثاغوري وصديق افلاطون سلينياس Cleinias، رأى أن ما يدل على وجود الآلهة هو وجود الأرض والشمس والنجوم والكون، إلى جانب النظام المتوازن لمواسم الفصول وتقسيمها إلى سنوات وشهور[5].

***

ومن وجهة نظري، فإن أقدم صورة واضحة لحجة الغائية وصلتنا هي تلك المتمثلة في كتاب الفيلسوف الروماني شيشرون Cicero (طبيعة الآلهة On the Nature of the Gods) خلال القرن الأول قبل الميلاد. ثم تكررت هذه الحجة لاحقاً بصيغ مختلفة لدى عدد قليل من الفلاسفة، كان أبرزهم الفيلسوف واللاهوتي توما الأكويني (المتوفى عام 1274) الذي أدرجها ضمن حججه الخمس الشهيرة لإثبات واجب الوجود، مُستنداً في ذلك إلى أفكار أرسطو حول العلل الأربع التي تحكم الأشياء.

وفي السياق الإسلامي، ظهرت الحجة نفسها بصيغ مُغايرة عند عدد من الفلاسفة، كالذي سبق إليه يعقوب بن اسحاق الكندي (المتوفى عام 873م)، ثم تلاهُ ابن رشد الاندلسي (المتوفى عام 1198م).

أما في العصر الحديث، فقد أصبحت حجة الغائية موضوعاً خاضعاً لجدلٍ واسع بين النقّاد والمدافعين، حيث تواجه أسئلة نقدية حول مدى صلاحيتها كدليل فلسفي، بينما يحاول آخرون إعادة صياغتها في ضوء معطيات العلم الحديث، ولا تزال تحتل مكانتها في النقاش الفلسفي المعاصر حتى يومنا هذا.

بالبوس هو أول من طرح حجة الغائية

لقد تضمّن كتاب (طبيعة الآلهة) حوارات استمع إليها شيشرون لدى عدد من الفلاسفة - المجهولين - دون ان يساهم فيها، وكما ذكر انه دُعي لحضور مناقشات طويلة أُقيمت في منزل صديقه الخطيب كايوس كوتا Caius Cotta. وكان أطراف الحوار هم: صاحب المنزل كوتا، والابيقوري فيليوس Velleius Caius، والرواقي بالبوس Quintus Lucilius Balbus.

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة كتب أو أجزاء، وقد فُقد قسم كبير من الثالث، وكان أبرز ما جرى في الكتاب الأول هو استعراض النظرية الابيقورية على يد فيليوس ونقدها بحدة من قبل كوتا، أما الكتاب الثاني فكان مخصصاً لاستعراض النظرية الرواقية ونقد الابيقورية من قبل بالبوس، رغم ان فقرات النص توحي وكأن المتحدث هو شيشرون نفسه، لا بالبوس. في حين تخصص الكتاب الثالث لرد كوتا على اطروحة بالبوس ومناقشة نظريته الرواقية.

وفي خاتمة الكتاب، رجّح شيشرون كفة نظرية بالبوس الرواقية، إذ قال في كلماته الأخيرة: «النتيجة أن فيليوس رأى أن حجج كوتا أكثر صحة، أما أنا فاعتقدت أن حجج بالبوس تبدو الأقرب إلى الحقيقة».

وما يعنينا في هذا السياق، أن الجزء الثاني من الكتاب قد تضمن ذكر الحجج الغائية على التصميم، كما استعرضها بالبوس، لكن دون ان يُعرف - بشكل مباشر - انه المتحدث فعلاً لا شيشرون.

لقد قدّم بالبوس الحجة على الغائية والتصميم، فوظّف فكرة الساعة والفنون البشرية قبل ان يوظفها علماء وفلاسفة النهضة الحديثة بأكثر من سبعة عشر قرناً، فاستعرض نماذج من الآثار البشرية الدالة على الفن والذكاء؛ كرؤية تمثال، أو صورة، أو مسار سفينة من بُعد؛ حيث من المؤكد انها تتحرك عن طريق الفن، وكذلك الساعات المهيئة بالفن والذكاء لا الصدفة. واعتبر ان لهذه الأمثلة دلالتها، وان منتجات الطبيعة تفوق مصنوعات الإنسان روعة وإتقاناً. ومن ثم انتهى إلى انه إذا كان الفن لا ينتج شيئاً من دون استخدام الذكاء، فكذلك لا يجوز اعتبار الطبيعة خالية من الذكاء. فتنظيم أجزاء الكون لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، بل ثمرة توجيه وعناية إلهية.

لقد استشهد بالبوس بوقائع عديدة من ظواهر الكون للدلالة على العناية والغرضية والتصميم بأعظم ما يكون، إلى درجة انه اعتقد بأن أي تعديل لبعض من أجزاء هذا الكون سيجعله سيئاً. فكل شيء فيه يدار من قبل الذكاء الإلهي لغرض سلامة جميع الأشياء والحفاظ عليها، وانه ليس هناك أجمل وأكمل منه، بل لا يمكن تخيل ما هو أكمل من ذلك. وبحسب التعبير الفلسفي التقليدي انه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

ومن الأهمية بمكان الاشارة إلى ان بالبوس كان يستعرض النظرية الرواقية كما صاغها مؤسسها الاغريقي زينو Zeno (الذي عاش بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد)، دون أن يفصل حجته عن المنظومة الفلسفية المعهودة من قبل. فقد رأى من جهة أن غاية ما في الكون إنما وُجد لأجل الكائنات العاقلة من البشر والآلهة، باعتبار أن العقل أكمل الموجودات، لذا فكل الأشياء مصنوعة ومسخرة لهم. ومن جهة أخرى، انه لم يفصل الروح الإلهية وذكاءها عن منتجاتها الطبيعية، بل جمعهما في إطار وحدة وجود شاملة. حتى صرّح - ضمن الفقرة الثامنة من الجزء الثالث - بأنه لا شيء في الطبيعة أعظم من الكون، لذا فالكون هو الله. فهو يتصف بالذكاء والعقل والروح والحكمة والعناية. ومن ثم فهناك تناغم متبادل بين جميع أجزاء الكون تجْمعها روح إلهية واحدة سارية في الكل[6]. وهي فكرة سنجد صداها لدى الفيلسوف الاسكتلندي المعروف ديفيد هيوم بعد تجريدها من العناية والتصميم والغرضية.

مع توما الاكويني وحجة الغائية

قدّم الفيلسوف توما الاكويني – في القرن الثالث عشر الميلادي – عدداً من الحجج لإثبات المسألة الإلهية، وكان من أبرزها دليله على الغائية والتصميم، إذ تميز هذا الدليل بوضوحه وتفرده في الإشارة إلى حركة جميع الأشياء نحو غاياتها المحددة بشكل طبيعي، وذلك ضمن البرهان الأخير من براهينه الخمسة حول وجود الله، كما في كتابه الضخم (الخلاصة اللاهوتية). وكانت هذه البراهين عبارة عن كل من: دليل الحركة والحاجة إلى محرك غير متحرك، ودليل العلية أو حاجة المعلول إلى علة مؤثرة، ودليل حاجة ممكن الوجود إلى واجب الوجود، ودليل مراتب الكمال والغاية في الخير والحق والشرف وما إلى ذلك، ودليل غايات أفعال الطبيعة[7].

وقد عبّر الاكويني عن حجة الغائية مجملاً بقوله: «إننا نرى أن بعض الموجودات التي تفتقر إلى المعرفة، وهي الأجرام الطبيعية ، تفعل لغاية، وهذا ظاهر من انها تفعل دائماً أو في الأكثر على نهج واحد إلى ان تدرك النهاية في ذلك. وبهذا يتضح انها لا تدرك الغاية اتفاقاً بل قصداً. على ان ما يخلو من المعرفة ليس يتجه إلى غاية ما لم يسدد إليها من موجود عارف وعاقل كما يسدد السهم من الرامي. فإذاً، يوجد موجود عاقل يسدد جميع الأشياء الطبيعية إلى الغاية، وهذا الذي نسميه الله»[8].

وواضح ان هذا الدليل يستند إلى العلة الغائية وفق التصور الارسطي للعلل الأربع في حركة الأشياء، وهي العلة المادية والصورية والفاعلية والغائية. فكل شيء طبيعي تتلبس فيه المادة والصورة، فإحداهما بحاجة إلى الأخرى، إذ المادة في حد ذاتها لا تعدو أن تكون قوة أو مجرد امكان للشيء فحسب، لكن الأخير يصبح فعلاً ووجوداً بفضل الصورة عند الحركة. فالمادة تبقى على حالها كما هي في حيز الامكان والقوة، أما الصورة فتدخل في سلسلة من التحولات الوجودية التي تستهدف كمال الصورة وغايتها، حيث تتحول إلى صورة مجردة عن المادة عبر اتحادها بالعقول السماوية المجردة، ومن ثم الانتهاء إلى صورة الصور وأكملها، وهي الغاية العظمى من التحولات، كما تتمثل بالمحرك الثابت الذي لا يتحرك، والذي يجذب إليه الأشياء بالعشق المتجذر في الصور.

وهذا يعني ان كل الأشياء محكومة بالحركة المتصاعدة نحو غاياتها المحددة.

على ان الشيء المهم في الموضوع، هو ان ارسطو استعان بفكرة الغائية كتفسير لحركة الأشياء ضمن منظومته الفلسفية دون ان يطرحها كدليل على اثبات واجب الوجود[9]. وحتى الفلاسفة الذين جاءوا بعده – مع بعض الاستثناء - لم يطرحوا هذه الفكرة ضمن الأدلة على وجود الله. بل اعتمدت أدلتهم على جانب من التجريد؛ كاستخدامهم مفاهيم الوجود والعلية ونفي التسلسل. لذلك يمثل الاكويني مرحلة فاصلة في استخدام صيغة محددة للغائية كدليل على واجب الوجود.

الحضارة الاسلامية وحجة الغائية

سبق للعالم المخضرم يعقوب بن اسحاق الكندي – خلال القرن التاسع الميلادي – ان طرح نصاً يتضمن الاشارة إلى الدليل القائم على النظام والتسخير والاتقان والتدبير، وهي أمور دالة على الغائية كالتي تبشر بها الأديان السماوية، لكنها تختلف عن الطريقة التي انتهجها الاكويني بعده بأربعة قرون. فقد استعرض الكندي حجته المجملة في رسالة (الابانة عن العلة الفاعلة)، وقال: «إن في نُظم هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه في بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير بعضه لبعض واتقان هيئته على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد، وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل.. لأعظم دلالة على أتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم..» [10].

وبعد الكندي بأكثر من ثلاثة قرون طرح الفيلسوف الاندلسي ابن رشد دليلاً آخر حول الغائية، وقد اصطلح عليه بدليل العناية الذي أشار إليه القرآن الكريم في عدد من آياته، ويتميز بأن له خصوصية محددة في البشر، حيث أن ظواهر الكون تلائم حياة الانسان، وان خلق جميع الموجودات جاء من أجلها، ولا تفسير لذلك سوى انها جاءت مصممة لهذا الغرض. وقد اعتبر ابن رشد ان هذا الدليل، مع دليل الاختراع، يمثلان الطريق الشرعي الذي نبّه عليهما القرآن ودعا الجميع إليهما حصراً[11].

وما يعنينا فيما قدّمه ابن رشد هو النظر في «الواقع» بغض النظر عن التنبيه الديني، فالدليل مستقى من الواقع أصلاً، رغم العمومات والمجملات بما يجعل الدليل صندوقاً أسود يحتاج إلى الكثير من الأضواء العلمية الدقيقة للكشف عما فيه من تفاصيل موثوقة. وإذا انطلقنا من هذه النقطة فمن الممكن ان نجد صياغة لمثل هذا الدليل بالتفصيل العلمي المميز حديثاً، كالذي فعله مايكل دنتون Michael Denton نهاية القرن العشرين في كتابه (قدر الطبيعة Nature's Destiny)، والذي اعتمد فيه بشكل رئيسي على كتاب (ملائمة البيئة) للعالم المخضرم لورنس هندرسون عام 1913، كذلك ما فعله الباحثان جوليرمو جونزاليز وجي ريتشاردس في (الكوكب المميز) عام 2004. اضافة إلى ان العديد من الفيزيائيين اعتقدوا بمركزية الكائن الذكي استناداً إلى المبدأ الانساني Anthropic principle وقاعدة الضبط الدقيق fine-tuning، بدءاً من ستينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.

يبقى أن الدليل الذي طرحه ابن رشد، ومن قبله الكندي، يختلف عن حجة الغائية التي تشير إلى حركة جميع الأشياء نحو غاياتها الخاصة بصورة تلقائية، كما وردت بوضوح لدى توما الأكويني. فهذه الأخيرة تتناغم أكثر مع المنهج الذي تبناه أنصار حركة التصميم الذكي، ومع الاتجاه العام لعدد من العلماء في مجال البحث البايولوجي. أما طريقة ابن رشد، كما تقدم، فهي أقرب إلى النتائج الفلسفية المستخلصة من المعطيات الفيزيائية المعاصرة.

***

عموماً لم تلقَ حجة الغائية اهتماماً من قبل الفلاسفة عادة، وان الفلاسفة التقليديين من اتباع ارسطو وافلاطون وغيرهما لا يولونها أدنى أهمية، أو انها ليست دليلاً قائماً في حد ذاته، بل تعتبر من مترتبات المنظومة الفلسفية، ولو بالشكل العرضي لا القصد الذاتي، إذ ان واجب الوجود حسب اعتقادهم لا يفعل لغرض سوى ذاته، وان العالي لا يلتفت إلى السافل بالذات وانما بالعرض، وكل ما نجده من نظام وترتيب في عالم التكوين هو نتاج النظام الدائر في العقل الإلهي. مع هذا فبحسب هذه المنظومة ان الغائية حاضرة؛ لكنها تتجه من السافل إلى العالي لا العكس، بمعنى ان واجب الوجود لا يفعل شيئاً أو غرضاً لغير ذاته من حيث القصد الأولي، وانما من طبيعة السافل ان يحمل غرضاً ذاتياً هو اتباع العالي والتشبه به وفقاً لعلاقة المعلول بالعلة الفاعلة. فهذا ما يسلم به الفلاسفة القدماء وفق منطق السنخية[12].

وحديثاً هناك من أشار إلى مثل ذلك المعنى، كالذي نجده لدى زميل الجمعية الملكية في القرن التاسع عشر جون هوتن John Houghton حيث يقول: «العلم الذي نعمل فيه هو علم الله، الله هو المسؤول عن قصة العلم بكاملها.. فالترتيب المذهل والاتساق والثبات والتعقيد المبهر الذي يميز التوصيف العلمي للكون ليس إلا انعكاساً لما يتميز به النشاط الإلهي من ترتيب واتساق وثبات وتعقيد»[13].

العلم الحديث والغائية

يمكن تقسيم علاقة العلم بحجة الغائية إلى جانبين: أحدهما يندرج في صميم المنهج المتعارف عليه، فيما يتعلق الآخر بحافة هذا المنهج لارتباطه المباشر بالحجة اللاهوتية. وهما جانبان لا يخلوان من بعض الارتباط. وتفصيل الحديث عنهما سيكون عبر الفقرتين التاليتين:

1ـ المنهج العلمي والغائية

من المعلوم انه قبل النهضة العلمية الحديثة كانت العلوم التجريبية خاضعة لفلسفة ارسطو والمسلمات الدينية، وكانت فكرة العلل الأربع هي المعول عليها في دراسة هذه العلوم، لكن الحال تغير منذ هذه النهضة، إذ أصبح المنهج العلمي كما رسمه فرانسيس بيكون يستبعد العلل الغائية والقضايا التي لا تخضع للتجارب والملاحظات، ضمن ما يعرف بالقضايا الميتافيزيقية. كما أصبح العلم مديناً للمنهج الاجرائي كما يتمثل في الملاحظة والتجربة والاستقراء. وكان من السهل تطبيق ذلك منذ البداية على العلوم الطبيعية المادية كالفيزياء والكيمياء، أما مسار علم الأحياء فقد اختلف عن ذلك تماماً، فلم يكن من السهل التخلي عن طابعه الغائي، وكان حينها في نزاع مع النهج الآلي أو الفيزيقي، واستمر الجدل بينهما ردحاً من الزمن، ومن ثم تمخض الحال إلى التخلي عن التصور الآلي والنهج الاختزالي الفيزيقي، كما استُبدل مفهوم الغائية بالوظيفية Functionalism التي هيمنت على التفكير البايولوجي خلال القرن العشرين وحتى يومنا هذا.

ومن حيث التفصيل، ان التزام العلم بالطريقة الاجرائية الخالصة مع اقصاء القضايا التي لا تخضع للتجربة والملاحظة ولّد نزعة آلية ميكانيكية خالصة. وقد يكون في وقت ما من الأوقات ان هذه النزعة مناسبة للمنهج العلمي لدى العلوم الطبيعية على شاكلة الفيزياء والكيمياء. فبدون هذه النزعة قد تنفذ العناصر الروحية والنفسية إلى العلمين المشار اليهما مثلما كانت الفلسفات القديمة تميل إلى ذلك. لكن هذه النزعة امتدت إلى علم الأحياء، فأصبح لا يختلف عن العلمين السابقين، بل ان مرده اليهما. وبالتالي فمن وجهة نظر المذهب الآلي انه لا توجد فوارق جوهرية بين المادة الحية والجامدة.

وقد كرّس ديكارت هذه النزعة من عدم الفصل؛ عندما اعتبر الكائنات الحية - باستثناء الانسان – مجرد  آلات مادية خالية من الروح.

لقد قابل التطرف الآلي الذي كرّسه ديكارت ظهور مذهب جديد يدعى بالحيوي vitalism، ومن ثم شهد القرن السابع عشر والقرنان اللذان تلاه تأرجحاً بين النزعة الآلية والفيزيقية من جهة، والنزعة الحيوية من جهة ثانية. لكن السيادة في معظم هذه المدة كانت لصالح المذهب الحيوي.

وهناك من يُلقي المسؤولية على ديكارت وأتباعه الذين كرّسوا المذهب الآلي خلال القرن السابع عشر، ومن ثم الفيزيقي الأكثر تخصصاً، باعتباره مبنياً على جملة قوانين راسخة. وهما في جميع الأحوال قد جعلا الكائنات الحية لا تختلف عن المادة الجامدة؛ كآلات خالية من النفس أو الروح، ومن ثم لا غنى عن ان تخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء فحسب.

ويقرّ المبدأ التفسيري العام للفيزيقيين باختزال ما في الكائن الحي إلى دائرة النشاط الميكانيكي للذرات. وهذا ما جعل تفاسير هذا المذهب تتصف بالسذاجة والقصور. فغالباً ما جاءت تصريحات الفيزيقيين في تفسير الظواهر الحيوية طبقاً للطاقة وحركة الذرات، وهي بالنتيجة اختزالية دون ان تفسر شيئاً من العمليات الحيوية للكائنات الحية. فالعلم المتعلق بهذه العمليات يصبح من وجهة نظر المذهب الاختزالي أشبه بجمع الطوابع حسب الوصف الذي أدلى به ارنست رذرفورد لكل علم باستثناء الفيزياء.

فمثلاً كتب الفسيولوجي الالماني دي بويز ريموند Du Bois-Reymond عام 1872 يقول: «ان فهم الطبيعة رهين بشرح كل ما في العالم من تغيرات كما أحدثتها حركة الذرات”. كما ان عالم الكيمياء الفيزيائية ولهلم استوالد Wilhelm Ostwald عرّف قنفذ البحر بأنه “تجمع كميات من الطاقة ترابطت ثم استقلت”[14].

ان قنفذ البحر الذي تم تعريفه بأنه مجرد طاقة متجمعة؛ كان السبب في تحول أحد الفيزيقيين إلى المذهب الحيوي، فقد قام عالم الأحياء والفيلسوف الالماني هانز دريش Hans Driesch (1867-1941) بتجربة على هذا الحيوان، واستنتج منها أن الحياة لا تدار بواسطة القوانين الفيزيائية والكيميائية، مستدلاً على ذلك بأنه عندما يقوم المرء بتقطيع جنين القنفذ إلى أجزاء مشتتة من الخلايا؛ فإن هذه الأخيرة تعود لتتجمع معاً من جديد، بحيث ان كلاً منها يلتحق بالعضو الذي تم عزلها منه.

ان أهم ما امتاز به المذهب الحيوي هو اعتقاده بوجود شيء لا تمتلكه المادة الجامدة، فمنذ أواسط القرن السابع عشر فما بعده، اعتقد الكثير من العلماء ان هناك شيئاً حيوياً تتوجب دراسته رغم خفائه، واصطُلح عليه بـ "المائع الحيوي"، كالذي أكّد عليه العالم الطبيعي الالماني بلومنباخ أواخر القرن الثامن عشر، فهو من هذه الناحية لا يختلف عن الخفاء الذي تمتاز به عدد من الحقائق الفيزيائية كالجاذبية مثلاً.

وفي أوائل القرن التاسع عشر حاجج العالم الكيميائي جونس يعقوب بيرزيليوس Jöns Jakob Berzelius بأن هناك قوة تنظيمية يجب أن توجد داخل المادة الحية للحفاظ على وظائفها. لهذا توقع الكيميائيون الحيويون أن المواد العضوية لا يمكن تصنيعها من مكونات غير عضوية.

كذلك قبل منتصف القرن التاسع عشر (ما بين عامي 1833 و1844) صنّف جوهانس مولر Johannes Müller كتاباً في علم وظائف الأعضاء أظهر فيه التزاماته بمذهب الحيوية، وحدد السبب الذي يجعل المادة الحية تختلف عن المادة اللاعضوية، فافترض وجود شيء عبّر عنه بـ "القوة الحيوية". وقد أصبح كتاب مولر مرجعاً رائداً في تدريس هذا العلم طوال جزء كبير من القرن التاسع عشر[15].

وبذلك أضحت القوة الحيوية بديلاً عن فكرة (المائع الحيوي) بوصفها تفسيراً لا غنى عنه لمظاهر الحياة المتنوعة، ولاقت قبولاً واسعاً بين العلماء. وقد اعتُبر هذا المفهوم أقرب إلى حقيقة البرنامج الجيني منه إلى التفسيرات الضحلة التي قدمها بعض الفيزيقيين من تلامذة مولر المتمرّدين عليه، كالذي استعرضه عالم الحيوان والتاريخ الطبيعي ارنست ماير في كتابه القيم (هذا هو علم البايولوجيا)[16].

وسواء فكرة المائع الحيوي، أو القوة الحيوية، فإن المذهب القائل بذلك يتسم بنزعة غائية واضحة. فقد اعتُبرت القوة الحيوية، التي سادت ردحاً من الزمن، علة فاعلة تستهدف انتاج المظاهر الحيوية والسلوكية المختلفة لدى الكائنات الحية، وهو ما يميزها عن المادة الجامدة. وبالتالي فإن مذهب القوة الحيوية يتناغم مع حجة الغائية التي يدافع عنها اللاهوتيون، مثلما يتلائم المذهب الآلي والفيزيقي مع الفكر المادي الرافض للقضايا الميتافيزيقية. ولهذا أشار أرنست ماير إلى أن كتابات معظم الحياتيين تتضمن ارتباطاً واضحاً بالمذهب الغائي[17]. وهو المذهب الذي يُتهم عادة بأنه يشبّه الطبيعة بالانسان ومصنوعاته.

ومن الأهمية بمكان الاشارة إلى انه ليس كل من يؤمن بالمنهج الآلي؛ يستلزم انكار اللاهوت أو نفي تأثيره تماماً. فمن المعلوم ان علماء النهضة العلمية وعلى رأسهم نيوتن وغاليلو كانوا يطبقون النهج الآلي في تصوراتهم للطبيعة وقوانينها الفيزيائية، لكنهم في الوقت ذاته يؤمنون باللاهوت. فالتفسير الآلي لم يمنع من الاعتقاد بوجود الإله، لكنه إله متعال لا يتدخل - مبدئياً - في تفاصيل الكون، بل يكتفي بإطلاق النفخة الأولى للنشئة الكونية فقط.

ومع أن بعض هؤلاء العلماء لم يلتزموا تماماً باستبعاد الافتراضات الميتافيزيقية، إلا أن النهج الآلي - لا سيما كما صاغه ديكارت في القرن السابع عشر - كان يدعو بصرامة إلى اعتماد قوانين الطبيعة وحدها في تفسير الظواهر الكونية[18]. لذلك أعاب الرياضي الفرنسي لابلاس على رؤية نيوتن الكونية، وسعى إلى تصحيحها بعيداً عن افتراضات الأخير الميتافيزيقية، كما في استمرار التدخل الإلهي لتعديل المسار الكوني في النظام الشمسي.

ويُعد لابلاس أول من افترض بوضوح وجود حتمية علمية خلال القرن الثامن عشر[19]، وإن لم يكن منكراً للإله، كما قيل.

 وعموماً ان المسار العام للعلوم الطبيعية أخذ ينظّف ما اصطُلح عليه (إله الفجوات God of the gaps) منذ منتصف خمسينات القرن العشرين، والذي كان يُستحضر كلما عجز التفسير العلمي عن سد ثغرة معينة. وبقي الخلاف محصوراً حول النشأة الكونية إن كانت تحتاج إلى إله أم لا.

وكما أن الإيمان بالمنهج الآلي لا يستلزم بالضرورة إنكار اللاهوت، كذلك فإن تبنّي المنهج الغائي لا يقتضي بالضرورة الاعتقاد بوجود إله أو التسليم باللاهوت. فالمفكر الأمريكي توماس ناجل Thomas Nagel، رغم كونه ملحداً، يقدّم في كتابه (العقل والكون Mind and Cosmos) الصادر عام 2012 نقداً جذرياً للمادية بكافة أشكالها، بما في ذلك المادية الداروينية، معلناً إفلاسها التفسيري، حيث يرى أن الطبيعة ليست مجرّد مادة، بل تنطوي على غائية جوهرية متأصلة تعمل كقوانين للتنظيم الذاتي للمادة أساساً. وتختلف هذه القوانين عن تلك الجارية في عالمي الفيزياء والكيمياء؛ باعتبارها ليست حتمية، بل تسمح بكثير من الحرية للطبيعة لتُظهر الصور الغائية[20]. وكل ذلك يتم دون حاجة لافتراض الألوهة، باعتبار ان التفسير القائم على فكرة الإله يعود إلى نوايا خفية الخالق، وهو ما يقع خارج منظومة القانون الطبيعي[21].

وناجل من هذه الناحية يلتقي مع بعض الإلهيين الذين يرون ذات الشيء، وهو أن الغائية خاصية متأصلة في بنية الطبيعة ذاتها دون أن  تُستمد من الخارج. ونجد هذه الرؤية لدى عدد من علماء القرن التاسع عشر ممن عارضوا الفكر الدارويني، كالعالم البريطاني ريتشارد اوين Richard Owen، ويشاركهم في ذلك بعض العلماء المعاصرين المؤيدين لفكرة التصميم الذكي، مثل عالم الكيمياء الحيوية مايكل دنتون.

***

لقد شهد القرن التاسع عشر أحداثاً مثيرة متعارضة ازاء كل من المذهب الحيوي والفيزيقي. فبعضها قد مثّل انتكاساً للمذهب الحيوي، فيما كان البعض الآخر نصراً معززاً له. فبعض التجارب أتت على خلاف توقعات هذا المذهب وتعزيزاً للمذهب الفيزيقي المعارض له، وأدى ذلك إلى انهاء سيادته الممتدة على طول المدة منذ عام 1780 وحتى عام 1828[22]، وإن لم يتم القضاء عليه.

فقد جاءت تجارب انتاج اليوريا التي قام بها الكيميائي الالماني فردريك فولر Friedrich Wöhler عام 1828 على خلاف اعتقاد المذهب الحيوي باستحالة انتاج المواد العضوية من مواد غير حية. وهي تجارب أثّرت على الاعتقادات المتعلقة بنشأة الحياة. فبفعلها توقع العلماء سهولة تخلّق الحياة من خلال التفاعلات المعنية بعدد من العناصر الكيميائية الضرورية ضمن ظروف بدائية خاصة. لكن مع ذلك لم ينتهِ وجود المذهب الحيوي رغم النكسة الموجعة التي أحدثتها هذه التجارب.

كذلك ان لظهور كتاب (أصل الأنواع) لتشارلس داروين عام 1859 أثراً صادماً على الاطروحة الحيوية ومجمل التفاسير التي تتبنى الاعتقادات الغائية. فقد كانت النظريات التي سبقت مذهب داروين تعتبر التنوعات في الكائنات الحية موجهة وغائية. وشملت هذه النظريات كلاً من المذاهب المعترضة على نظرية التطور، ومثلها الداعمة لها، كمذهب العالم الفرنسي لامارك الذي انحاز إلى وجود دوافع حيوية داخلية تعمل على توجيه التطور. وعليه فقد دشّنت الداروينية تاريخاً جديداً في تفسير الحياة بالطرق المادية من العوامل الكيميائية والفيزيائية والبيئية ما لا يدع فرصة لافتراض العناصر الغائية والميتافيزيقية. وما زال أثرها قوياً حتى يومنا هذا.

كما أدت الانتصارات في مجالي الفيزياء والكيمياء - في أواسط القرن التاسع عشر - إلى انبعاث نوع من الفيزيقا الجديدة في البايولوجيا لدى المانيا لازدهار علم الحياة فيها. الأمر الذي عزز عدم وجود فوارق جوهرية بين المادة الحية والجامدة. وخلالها برز علماء عديدون يهاجمون الحيويين لاستشهادهم بالقوة الحيوية باعتبارها قوة ميتافيزيقية غيبية[23].

لكن في قبال تلك الانتكاسات أظهرت تجارب لويس باستور Louis Pasteur (1822-1895) انتصاراً للمذهب الحيوي، إذ تم القضاء على فكرة التحول الذاتي من المادة الجامدة إلى المادة الحية، فالحي لا يأتي إلا من حي. وهي نتيجة صادمة للمذهب الفيزيقي، ومن ثم أظهرت هذه التجارب انها مكافئة لتجارب انتاج اليوريا من حيث أثرهما الصادم والمعاكس على المذهبين المتنافسين.

لقد ولّد الصراع بين النزعتين الغائية والفيزيقية بعض الاقتراحات الرامية إلى وضع تفاسير متكافئة بين الجانبين المادي والغائي أو الوظيفي، مع اعتبار ان التفسير الغائي يستلزم غير الغائي من دون عكس، كالذي استعرضه فيلسوف العلم ارنست نيكل Ernest Nagel.

فمثلاً يمكن توصيف العملية الحيوية للتمثيل الضوئي بتعبيرين متكافئين، أحدهما غائي وآخر فيزيقي، وذلك كالتالي:

التعبير الحيوي الغائي: “إن وظيفة الكلوروفيل في النبات هي تمكينه من أداء التمثيل الضوئي”.

التعبير الفيزيقي: “إن احتواء النبات على الكلوروفيل شرط ضروري لقيامه بعملية التمثيل الضوئي”. أو القول: “لا يقوم النبات بعملية التمثيل الضوئي ما لم يحتو على كلوروفيل”.

ففي التعبيرين السابقين يوجد تكافؤ في ذات القضية، أحدهما يشير إلى الغائية الوظيفية والآخر يكتفي بصياغتها بشكل فيزيقي خالٍ من الوظيفة والغائية.

وعلى هذا المنوال يمكن توصيف وظيفة كريات الدم البيضاء بعبارتين متكافئتين كالتالي:

التعبير الحيوي الغائي: “ان وظيفة الكريات البيضاء في الدم البشري هي الدفاع عن الجسم ضد العضويات الدقيقة الغريبة عنه”.

التعبير الفيزيقي: “ما لم يحتو الدم على عدد كاف من الكريات البيضاء فإن الضرر يحل على أنشطة الجسم العادية”.

ويلاحظ ان التعبيرين متكافئان. لكن بحسب ارنست نيكل فإن هذا التكافؤ المقترح بين التفسيرين الغائي واللاغائي يواجه اعتراضاً أساسياً، وقد يكون جلّ علماء البايولوجيا يتقبلون اعتبار التفسير الغائي يستلزم تفسيراً لا غائياً، بيد ان البعض منهم ينكر قدرة الثاني على استلزام الأول. ومن ثم لا يعد التكافؤ المقترح صحيحاً[24].

يبقى ان هذه مجرد تعابير لغوية لا يلزم أن تطابق الواقع بالضرورة، بدلالة ان العلماء يرفضون تعميمها على القضايا الكونية، إذ لا يمكن القول إن كل قضية كونية تعكس تعبيريْن؛ أحدهما غائي والآخر فيزيائي. ومن ذلك ان ما يعزى للشمس من وظيفة - مثلاً - هو أمر ينافي العقل، إذ إن الشمس ونظامها لا تراعي الحفاظ على ذاتها عند التغيرات البيئية، فهي ليست كائناً بيولوجياً مستقلاً نسبياً عن محيطه. وبالتالي لا يحبذ الفيزيائيون اللغة الغائية، ويتعلق السبب جزئياً بخشيتهم من أن يؤدي استخدامها دون صياغات كمية دقيقة إلى سوء الفهم، وذلك لايحائها بعمليات قصدية[25].

مع هذا ظهرت منذ ستينات القرن العشرين وحتى يومنا هذا نزعات فيزيائية تدعم فكرة الغائية كتخطيط عام مسبق، دون ان تتعلق بالظواهر الجزئية للكون والحياة، باعتبارها تفتقر إلى الحياة والقصد والوعي.

***

لقد أصبح العلماء منذ أوائل القرن العشرين غير مقتنعين بالتفسير الفيزيقي للظاهرة الحياتية، وذلك لِما يحمل من سذاجة بالغة لا تتناسب مع التعقيد الحاصل في الظواهر الحيوية. كما في المقابل، اعتبروا التحليلات الغائية المشيرة إلى القوة الحيوية تتسم بالزيف والبطلان، ووجدوا في المذهب الحيوي مشكلات عديدة أدت إلى هجرانه وسقوطه. ويؤرخ البعض لهذا السقوط بعام 1930.

ومن بين الإشكالات الموجّهة ضد المذهب الحيوي، هي ان أن أتباعه لم يتّفقوا على تفسير موحّد لطبيعة القوة الحيوية، بل تباينت رؤاهم وتعددت تفسيراتهم بشأنها، مما جعلها غير متماسكة.

كما لوحظ ان هذه القوة المفترضة لا تخضع للقوانين العلمية، وهي أيضاً غير قابلة للاختبار ودون ان يتمكن أحد من البرهنة عليها، ومن ثم فقد اعتُبرت فكرة ميتافيزيقية.

فالفارق بينها وبين فكرة المجال المغناطيسي مثلاً، هو رغم أن كليهما غير قابلين للملاحظة، إلا ان الأخير محكوم بقوانين دقيقة خلافاً لتلك القوة. لذلك أصبحت النزعة الحيوية اعتقاداً متروكاً، فلم يعد هناك من يحتفي بالمذهب الحيوي أو يعيد بناءه أو يتبناه باستثناء القليل، وكان آخر من له هذا التوجه كل من أليستير هاردي وسيول رايت وتشارلس بيرش وبورتمان، وقد فارقوا الحياة أواخر القرن العشرين، كالذي أشار إليه ارنست ماير في كتابه (هذا هو علم البايولوجيا)[26].

لكن ثمة جهود فردية تقترب من المذهب الحيوي، كالذي دلل عليه الباحث في علم التخاطر الانجليزي روبرت شيلدريك Rupert Sheldrake من خلال الغريزة التي تتمتع بها الطيور في هجرتها وعودتها إلى مواطنها الأصلية، مثل هجرة السنونو الإنجليزي في الخريف إلى جنوب افريقيا ثم العودة إلى انجلترا في الربيع، بل والمدهش انه يعود إلى المبنى نفسه الذي أقام فيه العام الذي سبقه. وقد أشار شيلدريك إلى انه لا أحد يعرف سر تلك المعرفة الغامضة. ومن جهته يحتمل ان الهجرة والعودة قد يعتمدان على نوع من الاحساس أو القوة، وهو ان هناك اتصالاً مباشراً بين الطيور ومنازلهم، أشبه بشريط مطاطي غير مرئي [27].

ومع إقصاء فكرة القوة الحيوية من الحقل العلمي، طُوِي مبدأ الغائية بدوره عن النقاش، رغم انه خلال العقد الثاني من القرن العشرين ظهر هناك من يُحيي هذا المبدأ عند استقصائه لمختلف الظروف المناسبة لنشأة الحياة، كما فعل العالِم والفيلسوف لورنس هندرسون Lawrence Henderson في كتابه (ملائمة البيئة The Fitness of the Environment) عام 1913، حيث أظهر لأول مرة ان بيئة الأرض وظروفها السابقة كانت ملائمة للحياة تماماً، لكن الوسط العلمي العام في ذلك الحين لم يكن مهيأً لتقبل مثل هذه الأفكار، فأخذ يبتعد عنها لعقود طويلة، ثم اعيد الاهتمام بها نتيجة الكشوفات العظيمة التي شهدتها الساحتين الفيزيائية والبايولوجية أواخر القرن المنصرم[28].

العضوانية كبديل وسط

منذ بداية القرن العشرين، برز بديل يتوسط بين المذهبين الفيزيقي والحيوي، سرعان ما لاقى قبولاً واسعاً بين العلماء. فخلال العقود الأولى من هذا القرن ازداد الاحساس بأن الكائنات الحية هي نُظم معقدة وديناميكية، إذ تنطوي على مجموعة من القدرات والأنشطة التي لا نظير لها في عالم الآلات، كالتنظيم التلقائي، والتكاثر والتضاعف الذاتي، والاستجابة للمؤثرات البيئية، وغير ذلك. ومن هذه الناحية تجْمعها رؤية شمولية اصطُلح عليها اسم "العضوانية Organicism"، حيث تبحث في كيفية عمل النظم الحية المعقدة ككل، بعيداً عن التطرف الذي أصاب كلا المذهبين المتنازعين: الآلي والحيوي.

والرائد الأول في هذا المجال هو الفسيولوجي الاسكتلندي جون سكوت هالدين John Scott Haldane الذي اعتمد نهجاً مناهضاً للنزعة الميكانيكية في علم الأحياء. وأصبحت وجهات نظره معروفة على نطاق واسع مع كتابه الأول (الآلية والحياة والشخصية Mechanism, Life and Personality) عام 1913. ورغم أنه لم يكن من أنصار الفكر الحيوي، فقد رأى أن التفسير الآلي الخالص يعجز عن شرح خصائص الحياة.

لقد عامل هالدين الكائن الحي ككيان منظم ذاتياً، مشيراً إلى ان كل جهد لتحليله إلى عناصر مختزلة وفق التفسير الميكانيكي سوف يخِلّ بجوهر تجربتنا المركزية للوجود الحي.

وبذلك كان لعمل هالدين تأثير على مذهب العضوانية. وكتب عدداً من الكتب التي حاول فيها إظهار بطلان المقاربات الحيوية والميكانيكية في العلوم[29].

إن من خصائص مذهب العضوانية، هو انه يركز على تنظيم الكيان الحي ككل أكثر من تركيب الكيان ذاته. وهو يوجّه جلّ اهتمامه إلى الصفات المميزة للكائنات الحية ذات التركيب البالغ التعقيد، وإلى تاريخ برنامجه الجيني[30].

ويعود مصطلح "العضوانية" إلى الفيلسوف رتر Ritter عام 1919، الذي قام بتطويره لاحقاً، فنشر مع زميله بيلي Baily بياناً علمياً عام 1928 حول ارتباط الكل بأجزائه، وهو ارتباط لا يقتصر على التكامل الكمي بينهما، بل يشمل أيضاً ما ينجم عن ذلك من هيمنة الكل على أجزائه.

ومنذ عشرينيات القرن العشرين، شاع استخدام مفهومي العضوانية والشمولية الكلية في مواجهة النزعتين الاختزالية والحيوية؛ إذ تقوم الأولى على التحليل الفيزيائي-الكيميائي الذي يرد النُظم الحية إلى وحداتها المادية الأولية دون اعتبار لأي بُعد آخر، بينما تتضمن الثانية مفاهيم ميتافيزيقية يصعب إثباتها علميًّا.

وقد أدى هذا الطرح إلى مفارقة واضحة مع المذهب الدارويني، في صيغتيه القديمة والحديثة. ففهم الكائن الحي بوصفه كياناً كليًّا يؤثّر في أجزائه لا ينسجم مع التفسير الدارويني، التقليدي أو الحديث، والذي استعان بالتغيرات الجينية في تحديدها لهوية الكائن الحي، وذلك إلى جنب الانتخاب الطبيعي.

ولا يزال علماء الداروينية يعتمدون في تفسير الظواهر الحياتية على النهج الآلي الميكانيكي، كما يتمثّل في الطفرات الجينية العشوائية والانتخاب الطبيعي، وهو ما يتعارض مع التفكير الشمولي.

مع هذا يمكن التمييز بين فئتين من التفكير الشمولي في تناول الكائن الحي، كالذي صوره جارلاند ألين، حيث ينقسم هذا التفكير إلى: مادي ومفارق كما يتمثل بالمذهب الحيوي. وما يميز هذا التفكير هو اعتبار الكائنات الحية وحدات كلية تتأثر فيها الأجزاء ببعضها، كما يتأثر الجزء بالكل، وكذا العكس. ورغم ان التفكير الشمولي المادي يتوزّع بين المعسكرين الغربي والشرقي - كما في المادية الديالكتيكية - إلا انه في جميع الأحوال يؤكد على أهمية التمييز بين مستويات التنظيم في النُظم المعقدة.

لقد تم استبدال التشبيه الآلي للكائن الحي بتصور عضوي من حيث اعتباره كُلاً وظيفيًّا، وليس فسيفساء من أجزاء منفصلة أو قابلة للتحليل الاختزالي.

وقد أدى تطوّر الحال إلى ترسّخ التفكير الشمولي في طيف واسع من المجالات، مثل علم الجينوم، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم الأحياء النمائي، وعلم الوراثة السكانية population genetics وغيرها.

لكن لوحظ ان أي اشارة إلى هذا التفكير يمكن النظر إليها بوصفها منحدراً زلقاً قد يفضي إلى تبنّي المفاهيم الميتافيزيقية، أو العودة إلى الحيوية المفارقة، ومن ثم فتح الباب أمام التفكير الغائي[31].

لقد نُقدت النظرة الآلية ومفهومها الاختزالي في تصوير الواقع بأبعاده ومستوياته المختلفة، وبدأ الواقع يُفهم على أنه بنية هرمية متراكبة تتكوّن من عدّة مستويات، لكلٍّ منها قوانينه الخاصة؛ بدءاً من النظم الفيزيائية والكيميائية، وصولاً إلى النظم البيولوجية والاجتماعية. وهذا ما أكّده عالم الأحياء النمساوي برتالانفي Bertalanffy في كتابه (نظرية النظام العام General system theory) الصادر عام 1968. فوفق هذا التصور، إن وحدة العلوم تعمل لا من خلال اختزالها الطوباوي إلى الفيزياء والكيمياء، بل بجعلها خاضعة للتوحيد البنيوي الذي يراعي تمايز مستويات الواقع وتنظيمها.

وبحسب برتالانفي، فإن النظرة الآلية للعالم أفضت إلى عواقب مدمّرة لحضارتنا، إذ إن الاقتصار على الظواهر الفيزيائية بوصفها المعيار الوحيد للواقع أدّى إلى "ميكنة" الإنسان وتهميش القيم العليا. وبعد الإطاحة بالنظرة الآلية، بات من الضروري الحذر من الوقوع في اختزال العلوم إلى "علم الأحياء"، ومن النظر إلى الظواهر العقلية والاجتماعية والثقافية من منظور بايولوجي صرف.

فحين يُختزل الإنسان إلى كائن حيواني فضولي، ويُنظر إلى المجتمع البشري كخلية نحل، فذلك يكشف عن العواقب العملية القاتلة التي تترتب على التصوّر البايولوجي المحض[32].

وأضاف برتالانفي انه على أثر ذلك تم أهمال المشكلات السائدة لدى التخصصات البايولوجية والسلوكية والاجتماعية في العلوم الكلاسيكية، أو انها لم تدخل في اعتباراتها. في حين عند النظر إلى أي كائن حي سنجد نظاماً رائعاً يتسم بغائية واضحة. ويظهر أبلغ الأثر في ذلك لدى السلوك البشري في سعيه وراء الأهداف والغايات الجلية.

ومع ذلك، فإن مفاهيم مثل التنظيم، والتوجيه، والغائية، لا تظهر في النظام الكلاسيكي للعلوم. لذلك ان النظرة الآلية للعالم والقائمة على الفيزياء التقليدية تتسم إما بالخداع والتضليل، أو انها لا تعدو أن تكون ميتافيزيقية خالصة[33].

نوعان من التفكير الوظيفي

مثلما يمكن التمييز بين فئتي التفكير الشمولي المادي والمفارق، نجد أيضاً نوعين مختلفين ومتمايزين من التفكير الوظيفي، أحدهما مادي منكر للغايات، كما في التفكير التطوري الدارويني، وآخر غائي قد يكون مفارقاً أو متأصلاً، سواء كان هذا الأخير طبيعياً خالصاً، أو أنه خاضع للتصميم والتخطيط سلفاً.

لقد احتفظ أغلب علماء الأحياء بفكرة الوظيفة مع استبعاد الغائية. وسادت الوظيفية الداروينية التي تتنكر للتخطيط والتصميم المسبق، بل وتستبعد مطلق الغائية المفارقة والطبيعية.

وتمثّل الوظيفية الداروينية منظومة من التجمعات العرضية للوظائف التكيفية، التي تنشأ نتيجة خضوعها لهيمنة الانتخاب الطبيعي، إذ تُفسَّر بوصفها خادمة لغرضٍ تكيفي تفرضه البيئة والمحددات الخارجية. غير أن الوظيفية لا تُعدّ شمولية كالذي تميل إليه الوظيفية الغائية عادة، إذ يمكن للوظيفة ان تزول باعتبارها عرضية دون ان تخضع لقانون محدد سوى الانتخاب الطبيعي، لذلك يمكن للعضو ان يفقد وظيفته ويصبح مجرد أثر ضامر؛ قليل الفائدة أو من دونها، كما في حالة عيون بعض الحيوانات التي لا تبصر، ومثلها بقايا مخلفات غير وظيفية ناجمة عن  طفرات عشوائية تراكمية لم تُمحَ بفعل التطور، كما كان يُعتقد سابقاً في ما يُعرف بـ"الدنا الخردة junk DNA"، وهو الاسم الذي أُطلق منذ أوائل سبعينات القرن الماضي على أجزاء من الحامض النووي الرايبوزي منقوص الأوكسجين (DNA) والتي ظنّ العلماء أنها بلا وظيفة.

أما الوظيفية الغائية فهي ليست عرضية، سواء كانت مفارقة اعجازية، أو متأصلة في صميم الطبيعة. وتميل أغلب توجهاتها الفكرية حتى عصر داروين إلى التكيفية الوظيفية الشاملة وفقاً للخضوع لسلطة ميتافيزيقية مفارقة. فلقد كان الكثير من علماء النهضة الحديثة وحتى منتصف القرن التاسع عشر هم وظيفيون غائيون من النوع الشمولي، فكل شيء له غرض تكيفي وظيفي، حتى حلمات الذكور لها هذا المعنى الوظيفي المتأصل، كالذي صرح به عالم الطبيعة الانجليزي جون ري John Ray. وهي الفكرة التي ظلت ملاصقة لدى اللاهوتيين الخلقيين حتى يومنا هذا.

ومن وجهة النظر المادية، يُعدّ التفكير الوظيفي تأويلاً للمظاهر التي تبدو وكأنها مصممة وغائية. ويحمل هذا التأويل غرضاً مزدوجاً لدى علماء الأحياء في القرن العشرين، فمن جهة يُقدّم مفهوم الوظيفة بديلاً عن مفاهيم الغائية والتصميم المُسبق، بما يتماشى مع المنظور الطبيعي غير الميتافيزيقي. ومن جهة أخرى، جاء هذا التأويل ليمهّد طريقاً وسطاً بين الغائية الصريحة والنزعة الآلية الخالصة، إذ يهدف إلى تجنّب الوقوع في فخ الاختزال الفيزيائي-الميكانيكي الذي يُحوّل الكائن الحي إلى آلة صمّاء تفتقر إلى الحيوية والتنظيم الذاتي. غير أن هذا التوجّه، إذا لم يُضبط، قد يرتدّ إلى ذات المنهج الآلي الاختزالي الذي حذّر منه عدد من علماء القرن الماضي.

وحقيقة الحال، ثمة نقطتان رئيسيتان تدفعان باتجاه الانزلاق نحو التفكير الغائي؛ تتمثّل الأولى في الالتزام بفكرة الكلية أو الشمولية، كما سبق عرضها. أما الثانية فتتجلى في تبنّي منطق التفكير الوظيفي، الذي يمثّل بدوره منحدراً زلقاً نحو الغائية. فبحسب فيلسوف العلم كارل همبل، يُعدّ التحليل الوظيفي - من الناحية التاريخية - تعديلاً للتفسير الغائي، فهو لا يشير إلى العلل التي تنتج الحدث، بل إلى الأهداف التي تحدد سلوكياته[34].

وبلا شك، فإن هذه النقطة أقرب إلى التفسير الحيوي منها إلى النموذج الفيزيقي الخالص، رغم النقد الموجَّه إلى المذهب الحيوي في صيغته التقليدية، لما ينطوي عليه من عناصر غير قابلة للاختبار، مثل مفهوم "القوة الحيوية". لكن يبقى التفكير الوظيفي المسلّم به علمياً متميزاً عن التفكير الغائي، كالذي تبنّاه النسق الدارويني ضمن ما يُعبّر عنه بالتكيف الذي يمارسه الانتخاب الطبيعي غير الموجَّه والأعمى.

فقد تحفّظ داروين من النزعة الوظيفية الغائية؛ إذ لم يعترف بالوظيفة إلا بقدر ما تمثل أداةً تكيّفية نشأت عن فعل الانتخاب الطبيعي، وبالتالي فهي وظيفة بلا توجيه أو قصد سابق. وهذا ما يجعل مذهبه قائماً على الأسباب الطبيعية كعلل دافعة نحو ما يترتب عليها من نتائج.

إذاً، فالعلاقة بين السبب والنتيجة، وفق هذا التصور، هي علاقة شرطية ضمنية، لا تقتضي افتراض غايات سابقة ولا انتظار نتائج محددة سلفاً. ومن ثم، فإن ما يُقصَد بالوظيفية Functionalism في السياق الدارويني هو الوظيفية التاريخية أو العرضية، لا الوظيفية الغائية.

غير أن الخلاف بين الوظيفية الغائية، والوظيفية العرضية للداروينيين، يتداخله صنف ثالث يُعبّر عنه بالبنيوية structuralism، أو الشكلية Formalism المعتمدة على علم المورفولوجيا morphology، كالتي استعرضها عالم الحفريات ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould في كتابه المعروف (بنية نظرية التطور The Structure of Evolutionary Theory)[35].

وبحسب البنيوية، ان البنية هي الأساس والأصل الذي تتحدد بموجبه الوظيفة، بخلاف النزعة الوظيفية التي ترى العكس هو الصحيح.

إن أهم ما ترتكز عليه البنيوية – كالتي استعرضها مايكل دنتون في كتابه المميز (التطور: ما يزال نظرية في ازمة Evolution: Still a Theory in Crisis) عام 2016- هو ان في الطبيعة قانوناً متأصلاً بغض النظر عن الوظائف المباشرة. وهي من هذه الناحية تختلف عن الوظيفية التكيفية الشمولية (الغائية)، كما تختلف عن الوظيفية العرضية. بمعنى انها تعتقد بأن بعض أشكال الحياة قد تكونت بفعل القانون الداخلي الطبيعي دون ان تخدم غرضاً تكيفياً محدداً، وهذا هو منشأ اختلافها عن الوظيفية بشطريها، بل وترى ان المحددات الداخلية للنماء تقيد اتجاهات التطور دون اعتبار للوظائف التكيفية. وبحسبها أننا لا نتوقع من الخنزير – مثلاً - ان يتمكن من الطيران، ليس بسبب المحددات الوظيفية، بل بسبب المحددات البنيوية الداخلية لتركيبة الخنزير، فالنماء هو المهيمن[36].

على ان البنيوية هي أيضاً على قسمين: غائية وان لم تعترف بالوظائفية الشمولية، وأخرى حتمية طبيعية من دون تخطيط ولا غرض قصدي، وان الغائية قد تكون قصدية تم التخطيط لها بشكل لاهوتي، وأخرى غائية طبيعية كالذي يميل إليه توماس ناجل.. ويبدو ان البنيوية القصدية هي التي شاعت لدى قرن النهضة العلمية وما بعده حتى منتصف القرن التاسع عشر.

وبحسب مايكل دنتون فإن جميع البايولوجيين تقريباً آمنوا بداية القرن التاسع عشر بالبنيوية[37]. لكن الحدث الذي جعل البنيوية تتراجع هو ظهور (أصل الأنواع) عام 1859، حيث تضاءل الفكر البنيوي مثلما تضاءل الفكر الوظيفي الغائي. فقد قدّم داروين بعض الأدلة المتعلقة بتطور الكائنات الحية، وكان من بينها تشابه الصفات لدى هذه الكائنات، بما يعرف بالدليل المورفولوجي، والتي اعتبرها دالّة على وجود سلف مشترك خلاف الرؤية التي تبناها البنيويون وفق نموذج الأنماط المتقطعة في الطبيعة.

الانزلاق نحو الفكر الغائي

إن الحياة مرتع يكثر فيها الانزلاق نحو الفكر الغائي. فكلما اشتدت الدراسات البحثية كلما ازداد حضور هذا الافتراض، حتى وان حاول العلماء الابتعاد عنه بشتى الوسائل الممكنة. إذ تشير الدراسات الحديثة منذ حوالي سبعة عقود إلى هذا المعنى باضطراد. فقد فرضت الطبيعة الهندسية والمعلوماتية للتركيب الخلوي الانزلاق المشار إليه..

وقد تبدو فكرة الغائية جلية للعيان كما نشهدها في تكاثر الكائن الحي ونزوعه نحو البقاء. وكلما اشتد البحث العلمي كلما تبين ان هذه الغائية متأصلة في أدق تفاصيلها، كما في الجزيئات الحيوية الضخمة والنُظم الخلوية المعقدة.

فالكائن الحي ليس آلة أو روبوت كما يُشبّه عادة. فسواء من حيث سلوكه، أو وظائف أعضائه، وحتى جزيئاته الخلوية، نجدها كلها تبدي مظاهر غائية تختلف عن الآلة والروبوت.

وعليه نجد الحديث عن الغايات بالتصريح أو الايحاء أمراً شائعاً لدى علماء التطور، سواء من هم من الداروينيين أو غيرهم، كالذي استعرضه فيلسوف العلم المعاصر ستيفن ماير Stephen Meyer لعدد من نصوص العلماء الدالة على ذلك في كتابه القيم (توقيع في الخلية Signature in the cell)، منها ما أشار إليه مؤرخ البايولوجيا تيموثي لينوار Timothy Lenoir بقوله: “لقد قاوم علم البايولوجيا الحديث باصرار التفكير الغائي، ولكن حتى الآن يجد علماء البايولوجيا صعوبات جمة في كل مجالات هذا العلم تقريباً في ان يجدوا لغة لا ايحاء فيها بأن الأشكال الحية لها غاية”.

بل ان منهم من يقع في التناقض كما نصّ على ذلك فيلسوف العلم مايكل روز Michael Ruse، فكما ذكر ان “عالَم علماء التطور مليء بشخصنة الغايات، ومن التناقض ان أشد منتقدي هذه اللغة التي تتحدث عن الغاية يقعون في فخ استخدام نفس اللغة التي ينتقدونها بهدف وصف الأمور بسهولة”[38].

ووفقاًللفيزيائي ديفيد سنوك David Snoke أصبحت لغة الغائية واضحة ومشتركة في بايولوجيا النُظم. حتى كلمة "الغائية" أصبحت أكثر قبولاً. وكما قال بود ميشرا Bud Mishra: “من المرجح ان تحتل الأسئلة الغائية مركز الصدارة، بينما نحن نتنازع في فك ألغاز الأسباب النهائية في علم الأحياء”[39].

لقد بدأت ثورة البايولوجيا الجزيئية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وكان لها دلالتان متضادتان ازاء الصراع بين النزعتين الفيزيقية والحيوية. فقد اعتُبرت في البداية نصراً لوجهة نظر المذهب الفيزيقي في قبال المذهب الحيوي. إذ كانت الفكرة الموضوعة حول الجزيئات الخلوية هي انها تمثل آلات ذات طابع لا يختلف عن الآلات المادية الخالصة. كما ان المادة الوراثية التي تم اكتشافها باللغة الرقمية جعلت العلماء يعتقدون بأن من الممكن تفسيرها مع بقية موضوعات علم الأحياء بما لا يختلف عن تفسير المادة غير الحية، وذلك من خلال مفاهيم الفيزياء والكيمياء وما قاربها. وكان فرانسيس كريك أحد مكتشفَي بنية الدنا (DNA) يرى ان هدف علم الأحياء هو الوصول إلى هذه المرحلة من التفسير المادي، كالذي صرح به عام 1966[40].

لكن بفضل الكثير من البحوث المتتالية إلى يومنا هذا، أصبح من الواضح ان التعابير الاختزالية عن البايولوجيا الجزيئية غير دقيقة ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهي لا تشير إلى الطابع المعلوماتي كما تتميز به سلسلة الدنا، وهذا ما يجعلها غير قابلة للاختزال وفق المفاهيم الفيزيائية والكيميائية. كذلك ان المشابهة بين الجزيئات الخلوية والآلات المادية لا يُلغي وجود عناصر فيهما لا تُفسر بمحض الفيزياء والكيمياء. بمعنى انه حتى الآلات المادية المعقدة تمتلك من العناصر ما لا يمكن تفسيرها بمحض القوانين الطبيعية والمفاهيم الفيزيائية والكيميائية.

وأهم ما تمّ كشفه فيما نحن بصدده، هو وجود تشابه مدهش للغاية بين النُظم الخلوية والنُظم الحاسوبية الناتجة بفعل الذكاء. لهذا فإن عالِم الأحياء الخلوية جيمس شابيرو James A. Shapiro اعتبر أن نظام البروتينات المتكامل، والذي يؤلف نظام تخثر الدم لدى الثديات، يشبه “نظاماً حاسوبياً منتشراً وفعالاً ويعمل في الزمن الحقيقي”. كما نوّه إلى ان العديد من النُظم الكيميائية الحيوية في الخلية تشبه “مخطط الوصلات في الدوائر الالكترونية” [41].

والغريب ان داعية الإلحاد ريتشارد دوكينز Richard Dawkins قد عبّر عن هذه الحقيقة بقوله: “للجينات هيكل داخلي دقيق، يتضمن سلاسل طويلة من المعلومات الرقمية البحتة، كما هو الحال في أجهزة الكومبيوتر والاقراص المضغوطة. والكود الجيني ليس "كود ثنائي" كما هو الحال في أجهزة الحاسوب، ولا رمز من ثمانية مستويات كما هو الحال في بعض نُظم الهاتف، بل هو رباعي بأربعة رموز، بما يشبه أجهزة الكومبيوتر بشكل غريب. وبصرف النظر عن اختلاف المصطلحات، فقد يكون من الممكن تبادل صفحات مجلة البايولوجيا الجزيئية مع صفحات من مجلة هندسة الكومبيوتر”.

وأغرب من ذلك ان دوكينز اعتبر اكتشاف هذه الثورة الرقمية لجوهر الحياة قد سددت ضربة قاضية للمذهب الحيوي، لاعتقاد هذا الأخير بوجود تمايز نوعي بين المادة الحية وغير الحية[42].

ومعلوم لدى كافة العلماء ان هندسة الحاسوب لا يمكن تفسيرها بغير عامل الذكاء والغائية. وبالتالي فإن هذه النتيجة تلقي بظلالها على التفسير المتعلق بالشفرة الجينية.

وعموماً ظهرت تعابير كثيرة تصف العديد من المظاهر الحياتية بأوصاف لا يمكن تفسيرها بغير العلاقات الوظيفية المنطوية على جانب كبير من الذكاء، ومن ثم فإنها تضمر عناصر غائية بمعنى ما من المعاني، كما نجده لدى مفردات علم البايولوجيا الجزيئية من تعابير مستعارة من علم الحوسبة والهندسة الكهربائية والاتصالات. فالشفرة والمعلومات الوراثية والنسخ والترجمة وتعديل الانزيمات ودوائر توصيل الاشارة والتغذية الراجعة ونظام معالجة المعلومات وغيرها[43]؛ كلها لها دلالة على الذكاء والتصميم.

***

إن الصراع بين الفكر الغائي والفكر المادي الطبيعي ما زال قائماً حتى يومنا هذا، ولم يجد الفكر المادي أداة للتفسير يستند إليها غير التشبث - غالباً - بالنهج الدارويني، معتبراً التشكيلات الحيوية تنطلق دائماً من الأسفل والبسيط إلى الأعلى والمعقد؛ بشكل تدرجي من دون قفزات ولا طفرات كبيرة. لذلك تم التشبث بالظاهرة الجينية وطفراتها العشوائية كأساس يعمل عليه الانتخاب الطبيعي.. حتى قيل ان “الدنا يصنع الرنا، والرنا يصنع البروتينات، والبروتينات تصنعنا”.

لكن أثبتت الدراسات المعاصرة ان الجينات ليست هي العامل الرئيسي في تشكيل وحدة الكائن الحي بتراكيبه المختلفة، رغم ما لها من تأثير كبير. فهناك عوامل أخرى غير محددة لها تأثير أعظم على الظاهرة الحيوية؛ تدعى باللاجينية، أو فوق الجينية epigenetic.

لذلك حقّ الرد من قبل البعض على المقولة السابقة بالقول: ان “الدنا لا يصنع الرنا، والرنا لا يصنع البروتين، والبروتين لا يصنعنا” [44].

وبلا شك ان لهذه النتائج آثارها البارزة على التفكير الشمولي ومنزلقاته الغائية.

فقد تبين ان الحياة لا يمكن تفسيرها وفق القوانين والتحليلات الكيميائية والفيزيائية، كما لا يمكن اختزالها وفق افتراض التراكمات التدرجية غير المحسوسة كما تدعيه الداروينية. فالتعقيدات التي تحملها تتميز بالضخامة بما يفوق حد التصور، وهي لا تجد تفسيراً مقنعاً بغير افتراض وجود عوامل ذكية وغائية.

وللمقارنة بين من ينفي غائية الطبيعة، ومن يثبتها دون التمكن من الاحاطة بها، أن الأول لا يرى سوى ارتباطات مادية لزومية، أو عرضية عادية وعشوائية، دون ان تبعث على الدهشة والتعجب مع كل بحث واستكشاف. في حين ان من يؤمن بالغائية يرى في كل بحث جديد ما يدعو للدهشة والتعجب باضطراد.

ويمكن التمثيل على هذا التمايز، بالمقارنة بين من شاهد الخلية عبر المجهر الضوئي خلال القرن التاسع عشر، ومن رآها عبر المجهر الالكتروني خلال القرن العشرين، كالذي توضحه الفقرات الرائعة التالية والمقتبسة من كتاب مايكل دنتون المتميز (التطور: نظرية في أزمة Evolution: A Theory in Crisis) والصادر عام 1985:

“إذا عُرضت الخلية الحية تحت مجهر ضوئي بتكبير إلى نحو عدة مئات المرات - كما كانت الإمكانيات في زمن داروين - فستظهر بمشهد محبط نسبياً، فلا تبدو سوى قالب دائم التغير مضطرب ظاهرياً من النقاط والجسيمات التي ترميها قوى عنيفة غير مرئية جزافاً في جميع الجهات. لكن لكي ندرك حقيقة الحياة كما أظهرتها البايولوجيا الجزيئية يجب علينا أن نكبّر الخلية ألف مليون ضعف، حتى يصل قطرها إلى عشرين كيلو متراً، وتشابه منطاداً ضخماً لدرجة تكفي أن يغطي مدينة ضخمة، مثل لندن أو نيويورك، وما سنراه عندئذ سيكون شيئاً فريداً من التعقيد والتصميم التكيف. سنرى على سطح الخلية ملايين الفجوات التي تشبه كروات سفينة فضائية ضخمة، تُفتح وتُغلق لتسمح لتيار مستمر من المواد أن يتدفق داخلاً وخارجاً. ولو أردنا أن ندخل إحدى هذه الفجوات، فسنجد أنفسنا في عالم من التكنولوجيا العالية والتعقيد المذهل؛ حيث سنرى أروقة لا تحصى عدداً وقد نُظمت إلى حدٍ كبير، ونجد أقنية متشعبة في كل جهة، متجهة إلى خارج حدود الخلية، بعضها يصل إلى بنك الذاكرة المركزي في النواة، وبعضها الآخر إلى مصانع التجميع ووحدات المعالجة، وستكون النواة بمفردها على شكل حجرة كروية واسعة، بقطر طوله أكثر من كيلومتر مثل قبة جيوديسية، نرى في داخلها أميالاً من السلاسل الملتفة من جزيئات الحامض النووي تتكدس جميعها معاً في مصفوفات مرتبة، وسيمر نطاق ضخم من المنتجات والمواد الخام عبر الأقنية المتشعبة بشكل منظم تنظيما عالياً، من وإلى جميع مصانع التجميع المختلفة في المناطق الخارجية من الخلية.

وسنتعجب من مستوى التحكم الكامن في حركة كثير من الأشياء على طول ما يبدو أنه أقنية لا نهاية لها، تتحرك جميعها بانسجام تام، وسنرى حولنا وكيفما قلّبنا النظر جميع أنواع الآلات التي تشبه الروبوتات الآلية. سنلحظ ونذهل من أن أبسط المكونات الوظيفية للخلية هي الجزيئات البروتينية، وهي آليات جزيئية معقدة، كل منها يتكون من ثلاثة آلاف ذرة مرتبة بهيئة ثلاثية الأبعاد منظمة تنظيماً دقيقاً، وسنتعجب أكثر عندما نشاهد نشاطات هذه الآلات الجزيئية العجيبة التي نستغرب أنها نشاطات هادفة، لا سيما عندما ندرك أنه رغم كل معرفتنا التراكمية في الفيزياء والكيمياء تبقى مهمة تصميم آلة جزيئية واحدة كهذه - أي جزيء بروتيني وظيفي واحد فقط - خارج نطاق قدراتنا تماماً في الوقت الحاضر.. فكيف إذن تعتمد حياة الخلية على النشاطات المتكاملة لآلاف الجزيئات البروتينية - وهي عشرات الآلاف - وربما مئات الآلاف.

سنرى أن كل ميزة تقريباً من ميزات آلاتنا المتقدمة لها نظير في الخلية؛ كاللغات الاصطناعية ونُظم تشفيرها، وبنوك الذاكرة المخصصة لتخزين المعلومات واستردادها، وأنظمة التحكم الراقية التي تنظم التجميع الذاتي للقطع والمكونات، وأجهزة الوقاية من الأعطال، وأجهزة التدقيق اللغوي المستخدمة في التحكم بالجودة، وعمليات التجميع التي تتضمن مبدأ التصنيع المسبق والبناء الجزيئي. في الحقيقة سنعيش شعورَ الديجافو (deja–vu) – أي وهم سبق المشاهدة - بشكل عميق جداً، وسيكون التشابه مقنعاً جداً لدرجة أننا سنقتبس الكثير من مصطلحات عالم التكنولوجيا في أواخر القرن العشرين لوصف هذا الواقع الجزيئي الساحر. سيكون ما سنشهده شيئاً يشبه مصنعاً ضخماً أكبر من مدينة، ينفّذ وظائف تساوي بعددها تقريباً كل نشاطات الإنسان التصنيعية على وجه البسيطة، لكنه سيكون مصنعاً له قدرة واحدة لا توجد في أي آلة من أكثر آلاتنا تقدماً؛ إذ سيكون في استطاعته أن ينسخ بنيته بأكملها في غضون ساعات قليلة، وبمشاهدة عمل كهذا بتكبير ألف مليون ضعف سيكون مشهداً مهيباً وملهماً”[45].

عود على بدء

إن ما اتضح قبل قليل من وجود فارق عظيم بين تصور القرن التاسع عشر للخلية وتصور القرن العشرين، انما يعكس الفارق الكبير بين من ينفي الغائية ومن يثبتها. فالأول يتعامل مع الكائن الحي كشيء حتى وان بدا عليه التعقيد لكنه قابل للاختزال، والشاهد على ذلك ان توماس هكسلي وارنست هيكل وغيرهما من علماء القرن التاسع عشر كانوا يعتقدون بأن الخلية التي تطورت منها سائر الكائنات الحية هي بسيطة للغاية، وانها نشأت تلقائياً من طين البحر[46]. فهذا ما ينسجم مع من ينكر الغائية، خلافاً لمن يعتقد بها، والذي يرى في الخلية وسائر الكائنات الحية تعقيدات ضخمة غير قابلة للاختزال.

ورغم أن عمل الخلية والكائن الحي لا يزال يكتنفه الكثير من الأسرار العظيمة، التي تشكّل بمثابة "صناديق سوداء" تحتاج إلى بحوث مستقبلية لفكّ مغاليقها؛ ورغم صعوبة التكهّن بما قد تسفر عنه هذه البحوث من نتائج، إلا أن التجارب السابقة تتيح لنا استشراف ملامح مستقبلٍ علمي قد يُفضي إلى اكتشاف أطيافٍ جديدة ساحرة ومدهشة، تقف أمامها التفسيرات الفيزيائية والكيميائية التقليدية عاجزة عن الإحاطة الكاملة.

وعند هذا الحد، لا مفرّ من الاعتراف ببروز الدلالات الغائية، إذ كلما ازداد عمق البحث العلمي وتعقّد، كلما اقترب التفسير - ولو على مضض - من مفاهيم الغائية أكثر من اقترابه من الصيغ المادية المتعارف عليها.

ومن ثم، قد يُضطر العلماء إلى ابتكار صيغٍ علمية جديدة تُعبّر عن عنصر "الذكاء" وتُدرجه في القوالب المعرفية السائدة، تماماً كما نفعل حين نعزو التصميم المعقد للآلات المادية - كالسّيارة والطائرة والحاسوب - إلى الذكاء البشري، مع أن تعقيد هذه الآلات لا يُقارن بما ينطوي عليه أبسط تركيب خلوي، فضلاً عن الكائنات الأكثر تعقيداً، وفي طليعتها الإنسان.

وهنا نستحضر ما قاله لينوس باولنك linus Pauling الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء: إن “خلية حية واحدة فقط من جسم الانسان هي أعظم تعقيداً من مدينة نيويورك”[47].

***

نشير أخيراً إلى أنه لا يوجد في الوقت الحاضر أي اختصاصي معترف به رسمياً يعتمد على "القوة الحيوية" في تفسير الطابع المعلوماتي الذي تختزنه الجينات وسائر النظم الخلوية المعقدة. ومع ذلك، فقد برزت حركة فكرية جديدة تستبعد التفسيرات المادية الصرفة للتركيب الجيني والبروتيني، وللنُظم الخلوية عموماً، وتُرجّح بدلاً منها فكرة "التصميم الذكي". وقد يُعدّ هذا الاتجاه وجهاً آخر أو بديلاً مكافئاً للمذهب الحيوي، خصوصاً في صيغته التي ترى أن التصميم متأصل في الطبيعة ذاتها، بوصفه برنامجاً داخلياً قادراً على استقبال المعلومات وتخزينها وتوجيهها نحو أغراض خفية. ومن هذا المنظور، يرى بعض رواد حركة التصميم الذكي أن الذكاء لا يلزم بالضرورة أن يكون فوق طبيعي أو ميتافيزيقي، بل قد يكون مبدأً تنظيمياً غائياً متجذراً في الطبيعة نفسها، وبالتالي فهو "طبيعي" من حيث الجوهر دون تجاوز حدود العالم الفيزيائي[48].
2- حافة المنهج العلمي والغائية

سبق أن تناولنا الحديث عن المنهج العلمي المتبع في دراسة الظواهر الطبيعية والحيوية، وبقي أن نسلّط الضوء على "حافّة" هذا المنهج. ونقصد بـ "الحافة" في هذا السياق: الحدود القصوى التي تلامس القضايا الميتافيزيقية. وسنعرض هذه القضية كالتالي:

لقد أفضى المنهج العلمي الحديث إلى إثارة نقاشات عميقة حول قضايا ميتافيزيقية لها علاقة بنتائج هذا المنهج، ومن أبرزها مسألة الغائية. فقد نالت هذه المسألة قدراً من الاهتمام من قِبل عدد من علماء الطبيعة منذ بواكير النهضة العلمية الحديثة، واستمر هذا الاهتمام طيلة القرنين السابع والثامن عشر، حيث بدأت الغائية تُناقش ضمن أطر علمية لا تخلو من الطابع التجريبي، وإن كانت تلامس أطراف الفلسفة.

وقد تعززت هذه المناقشات بفضل تطوّر الاكتشافات العلمية من جهة، وبفعل الجدل المتواصل بين المؤيدين والمعارضين لمفهوم الغائية من جهة أخرى، بعيداً عن الأجواء الفلسفية المجردة. وكان من أبرز الذين خاضوا في هذا الميدان: إسحاق نيوتن، وجون ري، وريتشارد بنتلي، ووليام ديرهام، وغيرهم ممّن سعوا إلى توظيف المنجزات العلمية في إثبات فكرة الغائية في الطبيعة.

فقد أفاض نيوتن في كتابه (البصريات The Opticks) العديد من الأسئلة المتعلقة بحجة الغائية ليستدل منها على وجود كائن ذكي قادر وحكيم، ومن هذه الأسئلة: من أين نشأ ذلك النظام والجمال الذي نراه في العالم؟ وكيف أمكن للكواكب ان تتحرك جميعاً بالطريقة نفسها لدى الأفلاك السماوية؟ ما الذي يمنع النجوم من ان يتساقط بعضها على البعض الاخر؟ كيف جاءت أجسام الحيوانات لتكون مبدعة بالكثير من الفن؟ ولأي غرض كانت أجزاؤها العديدة؟ فهل خُلقت العين من دون مهارة في البصريات، والأذن بدون معرفة بالصوتيات؟ وكيف تنبعث حركات الجسم باتباع الإرادة؟ وكيف نشأت غريزة الحيوانات؟.. ألا يبدو من هذه الظواهر وجود كائن حي ذكي غير مخلوق، وموجود في كل مكان[49]؟!

وفي خاتمة كتابه (المبادئ Principia) أشار نيوتن إلى هيمنة الإله على الكون، فقال: «إن هذا النظام الأجمل للشمس والكواكب والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا بتوجيه وهيمنة كائن ذكي مقتدر»[50].

كما رجّح أن تكون الجاذبية قوة مرتبطة بعامل ميتافيزيقي غير مادي. ففي رسالته الثالثة من رسائله الأربع إلى صديقه بنتلي، خلال العقد الأخير من القرن السابع عشر (عام 1693)، صرّح بأنه لا يمكن تصوّر أن تؤثر مادة جامدة في أخرى مثلها دون احتكاك متبادل، نافياً في الوقت ذاته أن تكون العلاقة بينهما حتمية. أي إن الجاذبية، في نظره، ليست خاصية متأصلة في بنية المادة ذاتها، بل يُحتمل أن تكون صادرة عن عامل خارجي، سواء كان مادياً أو غير مادي، تاركاً الأمر لنظر القارئ وتقديره[51].

ومع مرور الوقت، اقترح نيوتن عدداً من أنواع "الأثير" التي قد تتوسط في التأثير عن بُعد، بعضها مادي ميكانيكي يتكوّن من جسيمات دقيقة لا تكاد تُذكر كتلتها، وبعضها الآخر غير مادي. ورغم أن الباحثين في فكره لاحظوا تردده بين هذين التصورين، إلا أن ما يبدو هو ميله إلى النوع الأخير، بوصفه عنصراً روحانياً أو إلهياً، خاصة وانه سبق ان نسبَ إليه التدخل المستمر في ضبط حركة الكواكب[52].

وعليه فإن نيوتن رغم انه من أبرز رموز المدرسة الميكانيكية؛ لكنه كان ميّالاً بشدّة إلى فكرة الغائية، لا من حيث التنظيم الكوني فحسب، بل أيضاً كقوة حياة، كما هو الحال في المذهب الحيوي.

ومن مصاديق هذا المعنى، انه افترض تدخل الإله باستمرار في تعديل مدارات كواكب المجموعة الشمسية عند الانحراف. إذ واجه مشكلة تتعلق بحساب الجاذبية الناتج عن تأثير أكثر من كوكبين على بعضها البعض، إذ ذلك يجعل من الحساب غير دقيق، وهذا ما جعله يفترض التدخل الإلهي لضبط النظام على الدوام.

غير أن الوصف السابق للعلاقة بين الله والنظام الكوني وجد معارضة من قبل عدد من العلماء والفلاسفة، وكان أبرزهم معاصره الفيلسوف الالماني لايبنتز، والرياضي الفرنسي لابلاس.

فقد اعترض الأخير على التدخل الإلهي الذي حشره نيوتن في منظومته العلمية بغية اعادة الكواكب المضطربة إلى مداراتها، ورأى في المقابل ان الاضطراب هو جزء من القانون المضطرد، وان الكواكب لا تحتاج إلى اصلاح هذا الاضطراب من الخارج؛ تعويلاً على مدارات المشتري وزحل، لكونهما الأثقل، وأحدهما يتمدد والآخر ينكمش.

وكل ذلك يخضع لحتمية صارمة تجعل كل شيء يتحتم مساره، إلى حد أنه لو أمكننا التعرف على الشروط الأولية لنشأة الكون؛ لكان من الممكن ان نستنتج كل شيء قد حدث وسيحدث مستقبلاً. وهو ما لا يترك مجالاً للتدخل الإلهي؛ فيما عُرِف لاحقاً بمشكلة "إله الفجوات God of the Gaps"[53].

وقيل بأن نابليون سأل لابلاس: كيف يمكن افساح المجال لله في هذا التصور الحتمي؟ فرد عليه لابلاس: سيدي، أنا لست بحاجة إلى مثل هذا الفرض[54].

وتُذكّر هذه الحتمية للقوانين الكونية بمقولة الفلاسفة القدماء (ليس في الإمكان أبدع مما كان).

أما الفيلسوف الالماني لايبنتز Leibniz فقد اتهم نيوتن بأنه اقحم الخواص السحرية والمعجزات ضمن فلسفته في قوة الجذب، وهو النقد الذي أشار إليه داروين فيما بعد، لكونه ينسجم مع اطروحته في التطور الطبيعي. وقد اعتبر لايبنتز انه طبقاً لعقيدة نيوتن فإن الرب ليس صانعاً ماهراً للساعات، إذ يحتاج ليعدل ساعته من وقت لآخر؛ وإلا فستتوقف عن الحركة[55].

الساعة الكونية بين نيوتن ولايبنتز

لقد جاءت اطروحة نيوتن على الضد من فلسفة لايبنتز الذي اعتمد على "مبدأ الأفضلية" وما يستند إليه من قانون الاستمرارية law of continuity. ويعني المبدأ المشار إليه ان الله قد اختار عالمنا باعتباره أفضل العوالم الممكنة تبعاً لمبدأ السبب الكافي. إذ لا يمكن ان يختار شيئاً ما لم يتعين سبب كاف لهذا الاختيار، وهو ما يفي به مبدأ الأفضلية.

ويختلف مبدأ الأفضلية عن القاعدة الارسطية (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، إذ تتضمن هذه القاعدة ثبوت حتمية صارمة تحكم الوجود بكافة أبعاده ومراتبه من دون استثناء. وهي فكرة لا يتقبلها لايبنتز لإيمانه بقدرة الله وارادته الحقيقيتين، لذلك عوّل على مبدأ الأفضلية من حيث الكمال.

وقبل لايبنتز ذهب المشهور من معتزلة بغداد وبعض الإمامية الاثنى عشرية إلى القول بهذا المذهب تحت عنوان "قاعدة الأصلحية". وكان مبررهم في ذلك هو أن الله لو لم يفعل الأصلح لكان بخيلاً ما دام يملك القدرة التامة مع وجود الداعي وانتفاء الصارف[56]. وقد خطا الإمام الغزالي، كما في (إحياء علوم الدين)، على شاكلة هذا الاتجاه من حيث التبرير، وأقرّ بالقول: ليس في الإمكان أصلاً أحسن من هذا العالم ولا أتم ولا أكمل منه[57]. وهو قول يناظر القاعدة الارسطية: (ليس في الإمكان أبدع مما كان)، لكنه لا يحمل المعنى الحتمي الذي تحمله هذه القاعدة.

لنعد إلى مبدأ الأفضلية من وجهة نظر لايبنتز، فهي لا تتحقق ما لم يتم التسليم بقانون الاستمرارية، وهو القانون الذي اعتمده في الرياضيات وطبقه على عالم الميتافيزيقا. ويعني انه لا شيء يحدث فجأة البتة. بمعنى ان الطبيعة منتظمة ولا تعمل بالقفزات ولا التوقفات، فالتغيرات والتطورات الحاصلة تتصف على الدوام بالتدرجية، وان هناك وسائط لهذه التغيرات والتطورات لا تعد ولا تحصى من دون ان نراها ونلاحظها[58].

هكذا يصل لايبنتز إلى ان الكون قد تم انشاؤه بطريقة يستغني فيها الإله عن التدخلات المباشرة. فكل تدخل يعتبر فعلاً خارقاً، أو اعجازاً، لا يتناسب مع قانون الاستمرارية، ومن ثم لا يحقق مبدأ الأفضلية في النمذجة الفيزيائية.

فهذه هي النقطة المركزية التي اعترض فيها على نيوتن في التدخلات الإلهية، باعتبارها تتنافى مع قانون الاستمرارية، ومن ثم مع مبدأ الأفضلية. وهو المبدأ الذي عرّضه فولتير للنقد والسخرية في روايته (كانديد).

ويعد "قانون الاستمرارية" ذا أهمية بالغة بالنسبة للفلسفة التي بنى عليها داروين نظريته. لذلك أشار إلى نقد لايبنتز لنيوتن خلال عرض فكرته عن التطور في (أصل الأنواع)[59].

ومن وجهة نظر لايبنتز، ان جميع ما في العالم يتألف من جواهر روحية غير متناهية وصغيرة جداً لا تقبل الانقسام، وهي الأساس الذي تُبنى عليه مختلف المظاهر الكونية والحياتية، ويُطلق على كل منها "الموناد Monad". وتتصف بأنها منعزلة ومتمايزة عن بعضها البعض كتمايز أفراد البشر، وكل منها تمثل مرآة العالم ككل من زاويتها الخاصة. وهي مع ذلك تخلو من التفاعل والتأثير السببي. ومثلما ان لكل منها مادة من حيث الظاهر، فإن لها نفساً وروحاً من حيث الباطن، كما هو حال البشر، وهما متناغمان من دون ان يؤثر أحدهما على الآخر. فلكل منهما قانونه الخاص المغاير للآخر وبقية المونادات.

هكذا خلق الله العالم وفقاً لعلاقات تنظيمية متبادلة، يتناغم فيها الجانبان النفسي والمادي دون أن تربطهما علاقات سببية، إذ تعمل الأجساد كما لو لم تكن هناك أرواح، كما تعمل الأرواح كما لو لم تكن ثمة أجساد. ومع ذلك فكلها تتصرف بتناغم وانسجام بفعل وجود سبب مشترك يجعلها متجهة نحو المزيد من الانسجام والتناغم، ومن ثم الحفاظ على النظام[60].

إن لفكرة "الانسجام" مكانة هامة على الصعيد الغائي لدى نظرية لايبنتز، وهي لا تدور حول مركزية الانسان. فلايبنتز لا ينحاز إلى هذا المعنى من الغرضية، وقد احتج على ذلك بأننا نجد في العالم أشياء لا تُرضينا ونتوقعها ونعرف انها لم تُصنع لنا وحدنا. ورأى ان العلم الميكانيكي الذي يدافع عنه نيوتن لم يترك للغرض المركزي أثر أو مجال.

ومن وجهة نظره، انه لا يمكن ان يكون مثل هذا الغرض واضحاً إلا من خلال دمج المبادئ الهندسية المثالية في الفيزياء. لهذا جادل بأنه على الرغم من وجود عوالم محتملة كثيرة تتصف بالمنطقية والاتساق ذاتياً، لكن وفقاً لمبدأ السبب الكافي كان الاختيار من نصيب هذا الكون لامتلاكه خصائص الأفضلية مقارنة ببقية العوالم الممكنة[61].

هذه هي اطروحة لايبنتز ونقده لنظرية نيوتن في التدخلات الإلهية، وقد انبرى للدفاع عن هذه النظرية صديق نيوتن الفيلسوف اللاهوتي صموئيل كلارك Samuel Clarke في مراسلاته الحوارية الشهيرة مع لايبنتز؛ والتي طالت مدة سنة حتى وفاة الأخير (عام 1716). ويعتبر كلارك المتحدث الرئيسي باسم "الفلسفة النيوتنية الطبيعية"، وكان يعتقد ان الجاذبية ليست خاصية ذاتية للمادة، بل حتى قوانين الحركة لا تمثل هذه الخاصية، وانما جميعها تعبر عن آثار تصرفات الله في المادة مباشرة، أو غير مباشرة من خلال وكلائه أو ملائكته، مشيراً إلى ان الإرادة الإلهية هي التي تمثل السبب الكافي من دون لحاظ شيء آخر كالأفضلية التي ركّز عليها لايبنتز[62].

لقد اعتبر كلارك انه لا ضير من الاعتقاد بأن الله يتدخل باستمرار لتصحيح الانحرافات في تركيب الطبيعة؛ مثلما يرى صانع الساعات أحياناً ان عليه ان يُنظّم ساعته ويصلحها، خلافاً للفيلسوف لايبنتز الذي اعتقد ان ذلك يلغي وجود فارق بين الطبيعي والخارق أو المعجز، وان هذا الرأي يعني ضمناً؛ إما ان قوانين الطبيعة لم تكن كاملة، أو ان الإله يفتقر إلى البصيرة في تقدير ان العالم بحاجة إلى الاصلاح، وانه مضطر للتفكير في نفسه مرة بعد أخرى.

في حين شبّه كلارك الفكرة التي ترى أن العالم عبارة عن آلة تعمل من دون تدخل وتنظيم مستمر؛ بالساعة التي تدق تلقائياً من دون مساعدة، وهي مثل وجود مَلِك لا يتدخل في شؤون مملكته، فهو مجرد مَلِك بالاسم ولا يستحق هذا اللقب، بل ان هذا ما يدعو إلى الشك في وجوده، وكذا هو الحال فيما يتعلق بالله.

لكن لايبنتز ردّ عليه بأن اعتبر العكس هو الصحيح، حيث لله الدور الديناميكي الثابت للحفاظ على نظام الكون[63].

هذه هي خلاصة النزاع بين الغائية النيوتنية، كما تتمثل في الساعة الكونية التي تحتاج إلى الاصلاح باستمرار، وبين الغائية اللايبنتزية كما تتمثل بالنظام الكوني المثالي الذي لا يحتاج إلى أي اصلاح.

***

على ان هناك تصوراً آخر يختلف عن فكرة الساعة الدقيقة في وصف الكون، كما أدلى بها نيوتن. ففي القرن السابع عشر، سبق للكاتبين الهولنديين ليزيوس Lessius وغروتيوس Grotius أن وصفا البنية المعقدة في العالم بأنها أشبه بالمنزل، ومن ثم فمن غير المرجّح ان تنشأ عن الصدفة العمياء.

غير أن تشبيه الكون بالمنزل قد سبق إليه ابو حامد الغزالي في كتابه (الحكمة في مخلوقات الله)[64]، وإن لم يكن غرضه اثبات وجود الله، بل أراد تبيان الأسرار والعجائب التي تتصف بها المخلوقات لترسيخ اليقين لدى قلوب عباده المتفكرين، كما صرح بذلك في المقدمة.

وبلا شك إن تشبيه الكون بالمنزل يجعل بانيه معمارياً لا ساعاتي. ومن أبرز العلماء الذين رأوا في وصف الإله بالمعماري هو ريتشارد اوين خلال القرن التاسع عشر، فمن وجهة نظره ان الإله لا يشبه صانع الساعات الخارق، بل هو أشبه بالمعماري الأسمى، وهو ذاته المخطط الأساسي للطبيعة، وانه وظّف قوانينها لتخدم البناء الفعلي فيها[65].

ومن المهم ان نشير - في هذا المجال - إلى ما قدمه كل من عالم الطبيعة الانجليزي جون ري John Ray والفيلسوف اللاهوتي الانجليزي وليام ديرهام William Derham.

فقد جمع جون ري في كتابه الغائي الشهير (حكمة الله في أعمال خلقه) بيانات واسعة حول الأجرام السماوية والأرض والكائنات الحية وكيفية تكيفها لأجل البقاء على قيد الحياة. وكان مما أشار إليه اعتراضه على الرأي الشائع بأن جميع الأشياء والحيوانات كلها مجرد آلات أو دمى خُلقت لأجل الانسان، معتبراً هذا الرأي أنانياً لا يتناسب مع جلالة الله وحكمته واقتداره. بل واعتقد ان من غير المعقول ان تكون المخلوقات التي لا حصر لها قد تم صنعها للإنسان فقط، وليس لها استخدام آخر، مشيراً إلى ان من السُخف وغير المعقول الاعتقاد بأن الأجسام ذات الاحجام الضخمة مثل النجوم الثابتة تم صنعها لتتلألأ علينا من دون غاية أسمى[66].

أما وليام ديرهام فقد نشر ثلاثة كتب تتعلق بالدليل الغائي، وهي (اللاهوت الفيزيائي عام 1713، واللاهوت الفلكي عام 1714، واللاهوت المسيحي عام 1730)، وكان أهمها اللاهوت الفيزيائي الذي قدّم فيه دليلاً على وجود الله وخصائصه من أعمال خلقه، واستحضر فيه قانون الجاذبية الشامل في الكون؛ معتبراً ان له دلالة على المصمم الذكي، كما استحضر مختلف أنواع الظواهر الفيزيائية والحياتية الدالة على التصميم الإلهي والغائية المتمثلة بمركزية الانسان. لكنه تخلى في وقت لاحق عن هذا الرأي المبتذل والخاص بالمركزية الغائية للانسان. والبعض يعتقد ان لهذا العالِم أثراً مباشراً على وليام بيلي صاحب دليل الساعة[67].

***

هذه هي خلاصة فكرة التصميم وحجة الغائية لدى النهضة العلمية الحديثة التي شاع فيها القول بأن الله معروف من أعماله، كما يظهر من أصدقاء نيوتن أمثال صموئيل كلارك وريتشارد بنتلي Richard Bentley ووليام ويستون William Weston. وقد استند أصحاب حركة التصميم الذكي المعاصرة إلى مثل تلك الأعمال القائمة على العلم.

بل ان الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند رسل Bertrand Russell رغم عدم إيمانه بوجود خالق، فإنه استحسن هذه الحجة للتصميم من حيث ان مقدماتها تجريبية وليست عقلية خالصة كما هو ديدن طريقة الفلاسفة القدماء.

وكما أشار، وهو بصدد عرض آراء الفيلسوف لايبنتز، إلى أن من الممكن تحويل أحد أدلته التي قدّمها إلى ما يسمى بـ "الحجة المستندة إلى التصميم". وخلاصتها هي أننا عندما ننظر إلى العالم المعروف نظرة شاملة، سنجد أشياء لا يمكن تفسيرها بشكل مقبول عند افتراض قوى طبيعية عمياء، بل الأرجح ان تُعدَّ شواهد على قصد الخير. واعتبر رسل أن هذه الحجة ليس فيها نقص منطقي صوري، فمقدماتها تجريبية، ونتيجتها تعني أننا نتوصل إليها بما يتوافق مع القواعد المألوفة للاستدلال التجريبي. ومسألة ما إذا كان علينا تقبل هذه الحجة أم لا؛ لا تتوقف على القضايا الميتافيزيقية، بل على اعتبارات تفصيلية نسبياً[68].

وعموماً أخذت حجة الغائية جدلاً متواصلاً بين المؤيدين والمعارضين لها على طول القرون الثلاثة الأخيرة. فأول من تطرّق إلى نقدها هو فيلسوف الشك الحسي ديفيد هيوم (1711 - 1776) ضمن حواراته الشهيرة المتعلقة بالدين الطبيعي، إذ لم يتقبل تشبيه الكون بالمنزل أو الساعة العظيمة أو أي شيء يمت إلى الكائن الذكي أو النتاج البشري. ثم جاء وليام بيلي ليجعل من حجة الساعة دليلاً منطقياً متماسكاً على اثبات المصمم الذكي، وقد عُرف عمله الضخم بـ "صانع الساعات الذكي". لكن هذا الدليل جوبه ببديل طبيعي قدمه تشارلس داروين (منتصف القرن التاسع عشر) دون حاجة إلى افتراض ذلك المصمم. واستمر هذا البديل - بشكل أو بآخر - لأكثر من مائة عام، وبعد ذلك جوبه باعتراض جذري للعودة من جديد إلى حجة الغائية التي دافع عنها بيلي ومن قبله علماء وفلاسفة النهضة العلمية الحديثة، لكن في هذه المرة ظهرت في الواجهة صياغات محددة دقيقة للحجة من خلال الاعتماد على المعطيات العلمية المعاصرة، والتي شهدت الكثير من الاكتشافات الباهرة، سواء في العالم الفيزيائي أو الحياتي، خاصة فيما يتعلق بمصانع الخلية الحية من الجينات والبروتينات وغيرها.. وقد اشتهرت الحجة بعنوان "التصميم الذكي" التي ما زال الجدل حولها قائماً حتى هذه اللحظة..

وخلاصة الحال انه مع ولادة النهضة العلمية الحديثة ظهر أول استخدام علمي للحجة الغائية، لكن لم تمر مدة طويلة حتى برزت أول معارضة نقدية ضدها من قبل الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم. ثم بعدها أخذ الجدل الفلسفي والعلمي يتنامى حول قيمة هذا الدليل قبل ان يستعيد حضوره وتطوره بقوة خلال عصرنا الحالي.

هيوم ونقد حجة الغائية

معلوم ان ديفيد هيوم لم يسلّم بالأفكار العقلية المخبرة عن الواقع الموضوعي. وهو من هذا المنطلق اعترض على فكرة الصنع والتدبير، ومن ثم عموم حجة الغائية، كما في كتابه (حوارات في الدين الطبيعي)، وذلك من خلال نقده للمبدأ العقلي القائل بأن «المعلولات المتماثلة تنشأ عن علل متماثلة»، وهو المبدأ الارسطي المعروف بالتناسب أو الانسجام؛ والمستخدم لاثبات التعميمات الاستقرائية وفقاً للمذهب العقلي التقليدي. ومن تطبيقاته انه تم الاستدلال به على وجود الله، حيث الاعتقاد بأن العالم الكوني قد أنشأه صانع عاقل مدبر؛ مثل صناعتنا للمنزل، أو الساعة، أو أي شكل من أشكال الفنون والآثار البشرية.

فهذا هو المعنى الذي اعترض عليه هيوم، معتبراً انه لا دليل على وجود الله من دون التجربة، أو انه لا دليل على الفكرة القائلة بأن العالم أشبه بأعمال الابداع البشري، وكذا علته تكون شبيهة أيضاً بعلة هذه الأعمال. فبحسب هيوم ان هذه الفكرة تنطوي على قياس التشبيه، فهي تقيس العالم كله على صنع الانسان وابداعاته رغم ضيق حجمها ومحدوديتها، الأمر الذي يجعل مادة القياس مختلة التناسب بشكل فضيع.

وبتعبير آخر، هناك تعميم بغير حق، إذ كيف يجوز لنا ان نعمم عملاً محدوداً جداً للانسان على عالم غير محدود هو الطبيعة بضخامتها المشهودة، ومن ثم نعتبر الأخيرة مصنوعة من قبل كائن ذكي جداً، مثلما نعتبر البيت والساعة وغيرهما من الفنون مصنوعة من قبل الانسان[69]..؟!

مع هذا لم يعترض هيوم على المبدأ العقلي الآنف الذكر بشكل حاسم ونهائي، بل جعل المسألة مفتوحة للجدل، وطرح فكرة تجريبية لا تقل بنظره اقناعاً عن ذلك المبدأ إن لم تتفوق عليه، وحددها كالتالي: «حيثما لوحظ تشابه بين ملابسات عديدة معروفة؛ لزم ان نجده أيضاً بين الملابسات المجهولة. فمثلاً عندما نرى أطراف بدن بشري نستخلص انها مصحوبة كذلك برأس بشرية وإن كانت محجوبة عنا. كذلك إذا رأينا من فرجة في حائط جزءاً صغيراً من الشمس خلصنا بأنه إذا انزاح الحائط استطعنا ان نرى الجسم كله».

على هذا استنتج ان هناك تشابهاً عظيماً بين العالم ككل من جهة، وبين الحيوان أو النبات من جهة أخرى. فالعالم مثار «بمبدأ مشابه للحياة والحركة، ودورة متصلة للمادة لا يتولد عنها خلل ما، وفساد متصل في كل جزء يعوض عنه دون انقطاع تعاون وثيق نُدركه في جوانب النظام بتمامه. وكل جزء يعمل في انجاز وظائفه الخاصة لحفظ بقائه وحفظ بقاء الكل»[70].

وقد استعاد الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت ما قدّمه هيوم، فنقد تشبيه الطبيعة بالفن البشري، فالفنان خارج عن الطبيعة، فيما الطبيعة تنظّم نفسها بنفسها. لذا اعتبر ان الأصوب هو تمثيلها بالحياة كالذي رجحه هيوم من قبل، لكنه مع ذلك تحفّظ من هذا التشبيه وانتهى إلى انه لا يعرف لها أي تمثيل[71].

وقد زاد (كانت) على ذلك بأن البشر لا يكتفون بالتفسيرات الآلية الموضوعية للطبيعة، بل يضفون عليها ما في داخلهم من مفاهيم وتفسيرات غائية، معتبراً مفهوم الغائية للطبيعة هو من بين المبادئ الترسندالية (المتعالية)، حيث ان ملكة الحكم هي وحدها التي تنسب الانسجام إلى الطبيعة كغائية ترنسندالية. ولو لم تفترض هذه الغائية لما كان لدى البشر أي نظام في الطبيعة وفق القوانين التجريبية [72].

أما هيوم فقد أمعن في تشبيه العالم بالحياة، فاعتبره بمثابة كائن حي أزلي مؤلف من جسد ونفس، وان الإله هو ذات هذه النفس للكائن الحي تثيره وتثار به.

وبلا شك ان هذه الفكرة لا تختلف عن مذهب المجسّمة لعدد من الفلاسفة القدماء الذين تصوروا ان العالم هو جسم الله الظاهر، كالذي أشار إليه هيوم ورجحه معتبراً انه ليس عليه إشكالات كبيرة، خاصة انه يستبعد وجود عقل بلا جسم.. وبالتالي فإن العالم هو أشبه بجسم حيوان أو بشر أو نبات منه بالأعمال الفنية والابداعات الانسانية، كالساعة أو المنزل أو غيرهما من الفنون. وإذا كانت علة الفنون والابداعات البشرية تتمثل بالعقل، فإن علة وجود الكائن الحي تتمثل بالتوالد أو الانبات.

ويبدو ان هيوم قد استحضر – هنا - الحوار الدائر بين الأبيقورية والرواقية كما في كتاب شيشرون (طبيعة الآلهة)، مع الانتصار للأبيقورية.

وبحسبه فإن العقل والتوالد والانبات؛ كلها تدل على قوى وطاقات معينة في الطبيعة آثارها معلومة ولكن جوهرها غير مفهوم. وليس لواحد من هذه المبادئ ميّزة على الآخر تجعل منه معياراً للطبيعة بأسرها. فآثار هذه المبادئ معروفة لنا من التجربة، ولكن المبادئ عينها وطريقة عملها مجهولة تماماً. وليس القول بأن العالم نشأ بالانبات من بذرة نثرها عالَم آخر؛ بأقل اتساقاً ومواءمة مع التجربة، من القول بأنه نشأ عن عقل أو ابداع أو تدبير إلهي.

مع هذا فإنه رجح فكرة التوالد والانبات على الابداع والتصميم. ورأى ان توالد العالم منذ الأزل قائم على شاكلة ما تنثره الشجرة من بذور في الحقول المجاورة، فتولد أشجاراً أخرى، وكذا هو الحال مع العالَم والنظام الكوكبي، حيث ينتج من نفسه بذوراً معينة بانتثارها في الهيولى المحيطة، فتنبت عوالم جديدة. فمثلاً ان نجماً مذنباً يُعدّ بذرةً لعالَمٍ قابل ان ينضج تماماً بانتقاله من شمس إلى شمس أخرى، ومن نجم إلى آخر، فيندفع في النهاية حتى يصير عالماً جديداً.

كما يمكن افتراض ان العالَم هو حيوان ضخم، وان النجم المذنب هو بيضة هذا الحيوان، حيث وضعها على نحو ما تضع النعامة بيضتها على الرمال. وتفقس البيضة دون عناية أخرى من الحيوان، وتولّد حيواناً جديداً وهكذا.. ويعترف هيوم ان تجربتنا محدودة، لكنه رأى أن هذه الفكرة أعظم شبهٍ بالعالَم من أي آلة صناعية تنشأ عن العقل والتدبير[73].

ثم ان هيوم طرح اعتراضاً جدلياً على فكرته، وهو وجود التدبير في النظام حتى مع فرض التوالد أو الانبات. إذ من أين تنشأ ملكة التوالد أو الانبات على روعتها العظيمة ان لم يكن من التدبير؟ أو كيف يمكن لنظام ان ينشأ من شيء لا يعي هذا النظام الذي يضعه؟

هذا هو الاعتراض الذي طرحه هيوم وأجاب عنه جواباً سطحياً وفق معايير عصره، فقال: وفق الشاهد المعلوم ان الشجرة تضع النظام في انباتها دون ان تعرف النظام، وكذا الحيوان مع وليده والطائر مع عشه. والأمثلة كثيرة تزيد على الأمثلة الخاصة بالنظام الذي ينشأ من العقل والابداع. وهو يعتبر ان الانبات والتوالد شأنهما شأن العقل، حيث يُعتبران من مبادئ النظام في الطبيعة، وان تجربتنا ناقصة، ولو جعلناها حَكَماً؛ لكان للتوالد بعض الميزات على العقل، إذ أننا نشاهد العقل ينشأ من التوالد من دون عكس مطلقاً[74].

لكن لو كان هيوم معاصراً لنا فلربما انحاز - وفق المبدأ الذي اتخذه على عاتقه - إلى التدبير منه إلى التوالد والانبات. فقد اتضحت اليوم علة نشأة التوالد والانبات، وأصبحت مفهومة وفق الآلات الحاسوبية العضوية المعقدة التي تعمل على صناعة هذا التوالد، وكذا الانبات، كما في الأحماض النووية والجينات وغيرها من النُظم الخلوية المعقدة.

ونشير بهذا الصدد إلى ان هيوم طرح فكرة هي بمثابة البذرة التي استند إليها دعاة بعض نماذج نظرية الأكوان المتعددة من الفيزيائيين. فهو يقول: «إذا استعرضنا سفينة فأية فكرة رفيعة يلزم ان نكونها عن عبقرية النجار الذي بنى مثل هذه الآلة المعقدة المفيدة الجميلة؟ وأية دهشة يلزم ان نستشعرها عندما نجده صانعاً غبياً يقلد الآخرين وينقل عن فن قد تقدم بالتدريج بعد ان مر بعصور طويلة متعاقبة وبعد محاولات عديدة وأخطاء وتصويبات ومشاورات ومجادلات؟. لا بد وان عوالم جديدة قد لفقت ورقعت منذ الأزل قبل ظهور هذا النظام واستنفد الكثير من الكدح والمحاولات الفاشلة واطرد في بطء اصلاح متصل لفن صناعة العالم خلال عصور لا نهاية لها. ففي مثل هذه الموضوعات من ذا الذي يستطيع ان يتكهن بمكان الرجحان بين عدد حاشد من الفروض التي يمكن اقتراحها وبين عدد أعظم منها يمكن تخيله؟»[75].

وقديماً ذهب لوكريتوس في قصيدته (طبيعة الأشياء) إلى أن الصدفة وطول الزمان هما العِلّتان الحقيقيتان الكامنتان خلف نشأة الموجودات وتراكيبها المعقدة[76].

***

ننتهي إلى ان هيوم اعتبر تفسير العالَم؛ إما ان يكون على شاكلة التدبير والعقل، أو على شاكلة التوالد والانبات، وقد رجح الكفة الأخيرة على الأولى لكثرة الأمثلة عليها، ولأن الجسم يُنتج العقل من دون عكس. لكن فاته انه لا قيمة للكثرة التي لاحظها لولا النظام الذي تتأسس عليه، فالتوالد والانبات ما كان لهما ان يحدثا من دون نظام دقيق كما تكشّف في عصر الجينات والبروتينات. كذلك ينطبق هذا الحال على العلاقة الدائرة بين الجسم والعقل. فإذا كان هيوم قد رأى الجسم يُنتج العقل من دون عكس، فإن الجسم في حد ذاته قائم على نظام معلوماتي ما زلنا لا نعرف عنه إلا القليل، وكذا العقل أيضاً.

ومن حيث الأساس استند هيوم في ادارته للجدل بين الفكرتين الآنفتي الذكر إلى "مبدأ التشابه"، فإحدى الفكرتين تتصف بالتشابه الضيق، كما في حالة الابداعات البشرية التي تم توظيفها وفق المبدأ العقلي الارسطي، حيث تفضي إلى نتيجة مفادها ان العالم يحتاج إلى مبدع مدبّر، فيما تتصف الفكرة الثانية بالتشابه الأوسع، كما في رؤيتنا لظاهرتي توالد الحيوان وانبات النبات، ومنها يمكن استنتاج ان العالم كله قائم على التوالد أو الانبات. فالمبدأ الأساس الذي استند إليه هيوم في المعالجة هو "التشابه"، ومن ثم القياس والتعميم.

لكن يؤسف له ان هيوم لم يولِ أهمية للنظام الدقيق في العالم بحسب مقاييس عصره بعيداً عن ظاهرتي التوالد والانبات. فمثلاً ان من المتعارف عليه آنذاك ان للمجموعة الشمسية نظاماً دقيقاً للغاية وفق علاقتي الحركة والتجاذب، فأي خلل في هذا النظام الدقيق يجعل المجموعة الشمسية في مهب الريح، وهي ظاهرة لا يمكن تشبيهها بالتوالد والانبات، بل هي أقرب للساعة المصممة مثلما رآها نيوتن وأتباعه.

بيلي وصانع الساعات الذكي

إن أشهر حجة كلاسيكية على التصميم هي ما قدمه العالم اللاهوتي وليام بيلي William Paley في كتابه الشهير (اللاهوت الطبيعي Natural Theology) عام 1802. فهي الأولى من نوعها في المجال العلمي من حيث الدقة والتفصيل قياساً بما سبقها، وما زالت تناقش حتى يومنا هذا. وكثيراً ما تُعارض بحجة هيوم السابقة وبنظرية داروين اللاحقة.

ويستند أصل هذه الحجة إلى التمييز بين العثور على شيء معقد ومنظم ذي غاية، كساعة دقيقة مثلاً، والعثور على شيء آخر بسيط غير منظم، كحجر في مكانه الطبيعي.

ففي الفصل الأول من (اللاهوت الطبيعي) أشار بيلي إلى هذا المعنى بمقالته الشهيرة: هب أني اثناء عبوري مرجٍ عثرتُ بحجر وتساءلت: ما الذي جاء بهذا الحجر في هذا المكان؟ وقد أُجيبُ على ذلك بأنه يقبع هنا منذ الأزل، إذ لا أعرف شيئاً خلاف هذه الأجابة، وليس من السهل تبيان سخفها. لكن لنفترض أني وجدت ساعة على الأرض، وتساءلت: ما الذي أتى بها في هذا المكان؟ وحينها استبعد ان تكون الأجابة كالسابق مع الحجر، بل لا أجد جواباً شافياً سوى أن أحدهم قد صنعها، ثم انتهى بها الأمر إلى أن أُهملت أو فُقدت، حتى صادفتها في هذا المكان.

ويُظهر بيلي في تحليله أن ثمة مزايا في الساعة تدلّ على أنها من نتاج الصنع والتصميم؛ إذ إنها تتميّز بغائية واضحة، تؤدّي بها وظيفة محددة، ولا يمكن تحقيق هذه الوظيفة إلا إذا كانت أجزاؤها وآلياتها مضبوطة الحجم، محكمة الترتيب، ومغطّاة بمادة زجاجية تتيح قراءة الوقت. إن قدرة الساعة على حفظ الوقت تعتمد على دقة أشكال أجزائها، وأحجامها، وترتيبها، الأمر الذي يشير إلى أنها من صنع مُصمِّم قصد هذا البناء الدقيق لأداء تلك الغاية.

وعليه استنتج بيلي بأن هذا التركيب الدقيق والغائي، كما تفي به الساعة وغيرها من التصاميم البشرية هو ذاته نراه بشكل أعظم بما لا يقاس في الطبيعة، فهي غنية بالقوانين الكونية وعوالم الكائنات الحية من الحيوانات والنباتات. فمثلما ان الساعة تستوجب ان يكون لها مصمم صانع، فكذا أن الطبيعة بظواهرها المختلفة التي تتفوق على الساعة بكثير، هي الأخرى تستوجب ان يكون لها مصمم صانع. وهو التطبيق الذي أكّد عليه خلال الفصل الثالث من كتابه. وقدّم بهذا الصدد مثالاً يتعلق بالتركيب الغائي المعقد لعضو العين في الحيوانات ومقارنتها بالتلسكوب، منتهياً إلى ان العين تتفوق على التلسكوب بأمرين: أحدهما انها تتكيف بدرجات مختلفة من الضوء، والثاني هو انها تتكيف مع التنوع الكبير للمسافة ورؤية الأشياء بسلاسة، حيث يمكنها الرؤية من بضع بوصات إلى عدد من الأميال. لذا كانت العين معقدة ودقيقة للغاية لتفي بمثل هذه الأغراض المختلفة[77].

لقد جاءت حجة بيلي حول الساعة مختلفة تماماً عما أفاده ديفيد هيوم الذي انطلق من منطق المشابهة بين العالم الكوني والابداعات البشرية. فحجة بيلي لا تعير أهمية إلى مثل هذه العلاقة القياسية، بل تركز على النظام الغائي المتضمن للتركيب المعقد، فكل ما هو معقد ودقيق التركيب ويؤدي غرضاً محدداً ذا قيمة فإنه لا بد من ان يكون نتاج صنع وتصميم. لهذا استخدم مثال الساعة وقارنه بالحجر. وعُرفت حجته بحجة الساعة، وان مصمم الكون قد عُرف بدوره - طبقاً لهذه الحجة - بأنه "الساعاتي" أو صانع الساعات.

وبلا شك ان هذه الحجة تعتبر تتويجاً وتدقيقاً للغائية العلمية التي قدّمها علماء القرنين السابع والثامن عشر، فهي تستند إلى تحليل العلم بالتفصيل والتدقيق، وهذا ما يميزها عن الغائية المؤطرة باللباس العلمي لدى العلماء السابقين، كما انها تتميز عن الغائية الفلسفية بطابعها العلمي، يضاف إلى أنها تُعتبر ضبطاً لمطلق حجة الغائية التي يعيها الانسان، سواء كان عادياً، أو عالماً، أو فيلسوفاً. فقد أدرك الإنسان العادي منذ القدم أن النظام الكوني والحياتي ينطوي على غايات وحِكَم تشير إلى تصميمٍ مقصود من قِبل إلهٍ عليمٍ قدير. وقد شهدت الأديان السماوية بدورها على هذه الحالة الإدراكية، ولا يزال معظم البشر يُقِرّون بهذه الحجة، استناداً إلى الشواهد المستقاة من كتاب الطبيعة.

الداروينية وحجة بيلي

تلك هي حجة بيلي من حيث الاجمال، وقد لاقت استحساناً وتأثيراً واسعاً بين الأوساط الفلسفية والعلمية. ومن ذلك ان داروين كان من أشد المعجبين والمنبهرين بعمل بيلي، حتى انه كان في شبابه مقتنعاً به تماماً، وكما ذكر في سيرته الذاتية بأن حجة بيلي قد بدت له في الماضي انها جازمة إلى أقصى حد، لكنه وجد ان جميع البراهين القديمة الخاصة بوجود تخطيط وتصميم في الطبيعة، مثلما تم تقديمها من قبل بيلي، هي ساقطة بعد ان تم اكتشاف قانون الانتخاب الطبيعي، فهي ليست غير صحيحة فحسب، بل انها لا تمت إلى العلم بصلة لافتقارها للآليات والقوانين الطبيعية.

واستشهد على ذلك بمثال من عالم الحيوانات، مفاده أنه من غير المتوقع أن تكون المفصلة الجميلة الخاصة بأي قوقعة ثنائية المصراع قد تم صنعها من قبل كائن ذكي؛ مثلما تم صنع مفصلة الباب على يد الإنسان. وانتهى إلى استبعاد وجود أي تخطيط مسبق في قابليات التغاير التي تطرأ على الكائنات الحية، مشبّهاً إياها بما يحدث في هبوب الرياح، حيث إن كل ما في الطبيعة – في نهاية المطاف – لا يعدو أن يكون نتاجاً لقوانين ثابتة تحكمها[78].

هكذا انقلب داروين على بيلي بالبديل الذي رجحه والمتمثل بالانتخاب الطبيعي الذي رآى انه يفسر الظواهر المعقدة للحياة بما يعجز عن تفسيرها المصمم الذكي. فهي تبدو مصممة لكنها من غير مصمم واع.. بمعنى ان التصميم جاء لاحقاً لا سابقاً.

ونجد ذات هذا التقييم لدى عالم الحيوان الشهير ريتشارد دوكينز، فقد أبدى اعجابه الشديد بكتاب بيلي ووصفه بأنه قدّم اجابة تقليدية متقنة وموسعة وأشد اقناعاً مقارنة بمن سبقوه لحل الأحجية، لكنه مع ذلك اعتبر الظواهر المعقدة في عالم الحياة لا يفسرها مبدأ صانع الساعات الذكي، بل يفسرها صانع الساعات الأعمى، كما يتمثل في الانتخاب الطبيعي، على شاكلة ما طرحه داروين. واعتبر نفسه يعمل اليوم في الكفاح لأجل تفسير لائق يتعلق بهذا الصانع الأعمى؛ بمثل ما أفلح به بيلي في ان يفعل في عصره ما يدعو إلى الاقناع، طبقاً للمصمم الذكي، وذلك قبل مجيء داروين الذي قلب الطاولة على بيلي بفكرة الانتخاب الطبيعي[79].

على ان النقطة التي أثارها دوكينز ضد بيلي، رغم اعجابه بدراسته الثرية في البايولوجيا، هي تلك المتعلقة بالتمثيل بين التلسكوب والعين، وكذا بين الساعة والكائن الحي، معتبراً هذا التمثيل زائفاً، وكما قال: ان «صانع الساعات الحقيقي له تبصر للأمام، فهو يصمم تروسه وزنبركاته ويخطط ما بينها من ترابطات، وقد وضع نصب عينيه هدفاً مستقبلياً، أما ما يصنع الساعات في الطبيعة، وهو الانتخاب الطبيعي، فهو تلك العملية الاوتوماتيكية العمياء غير الواعية التي اكتشفها داروين والتي نعرف الآن انها تفسر بايولوجيا الحياة، فليس له عقل ولا هدف، فهو أعمى بالنسبة للمستقبل وليس له هدف على المدى الطويل، انه بلا عقل، وبلا عين لعقل، وهو لا يخطط للمستقبل، وليس له رؤية، ولا بصيرة للامام، ولا بصر على الاطلاق، وإذا كان من الممكن ان يقال عنه انه يلعب دور صانع الساعات في الطبيعة، فهو صانع ساعات أعمى»[80].

أو كما جاء في مقالة (التطور والاصلاح الأخرق Evolution and Tinkering) لعالم الجينات الفرنسي فرانسوا جاكوب François Jacob فإن الانتخاب الطبيعي لا يُعدّ مهندساً مدبراً، بل مجرد مُصلحٍ أخرق، لا يعرف بالضبط ما الذي سينتجه، ويستعمل كل ما يصادفه في طريقه، خلافاً للمهندس الذي يعي ما يفعله عبر خطة مبيتة سلفاً لإنتاج المطلوب[81].

لكن لو استعرنا الكلمات الأخيرة التي استخدمها دوكينز والكثير من رجال التطور عن الانتخاب الطبيعي في صنعه الأعمى للكائنات الحية، وهو انه (بلا عقل ولا يخطط للمستقبل، وليس له رؤية ولا بصيرة للامام..)، للاحظنا مفارقة لافتة؛ إذ إن هذا العامل "الأعمى"، بحسب زعمهم، قد أفضى إلى إنتاج كائنات حيّة تؤدي وظائف محددة، وتعمل لغايات كثيرة متنوعة، من دون استثناء. وهي وإن كانت - باستثناء البشر - بلا عقل ولا تخطيط ولا بصيرة للأمام على غرار الساعة التي تؤدي وظيفة دقيقة دون أن تكون عاقلة، لكن أفعالها غائية موجهة على عكس صانعها الأعمى المزعوم الذي أنتجها من دون غاية.. ويا لها من مفارقة مثيرة؟!

غير أنه ما زالت ثمة مسألة تعتبر موضع إشكال على حجة الغائية والتصميم، وهي وجود ما يسمى بـ "الأعضاء الأثرية الضامرة"، أو تلك التي بدت لا فائدة فيها لدى بعض الحيوانات. فقد كانت الآراء السائدة في القرن الثامن عشر وحتى النصف الأول من القرن الذي تلاه، تركز على إظهار التوافق بين الوسائط والغايات لإثبات وجود خالقٍ حكيم، وعلى رأس هذه الوسائط العلاقة بين أعضاء الكائن الحي ووظائفها الغائية.

لكن هذه العلاقة تعرضت لنقد شديد، استناداً إلى وجود عدد من الأعضاء التي بدت بلا فائدة واضحة، مثل: حلمات ذكور الثدييات، وأسنان فك الحوت غير المثبتة في اللثة، وأجنحة بعض الطيور والحشرات التي لا تطير، وعيون بعض الحيوانات العمياء، وعدد من الأعضاء البشرية... الخ. وقد وجد أنصار نظرية التطور في هذه الأمثلة ما يُفسِّرها ضمن إطار الانتخاب الطبيعي وتراكم التغيرات الوراثية، دون حاجة إلى اللجوء إلى فكرة التصميم الغائي أو "صانع الساعات الذكي". ولا تزال هذه المسألة موضع جدل ونقاش حتى اليوم.


[1]   John D. Barrow and Frank J. Tipler, The Anthropic Cosmological Principle, 1986, p.36 . Look:www.The-Anthropic-Cosmological-Principle-John-Barrow.pdf

[2]   Ibid; p. 36.

[3]   https://www.iep.utm.edu/diogen-a/

[4]   https://en.wikipedia.org/wiki/Anaximenes_of_Miletus

[5]   John D. Barrow and Frank J. Tipler, 1986, p. 35.

[6] انظر الكتاب الثاني من (طبيعة الآلهة) لشيشرون، خاصة الفقرة (34):

    Marcus Tullius Cicero, On the Nature of the Gods, Translator: Francis Brooks, 1896. Look:

https://oll.libertyfund.org/titles/cicero-on-the-nature-of-the-gods

[7]   توما الاكويني: الخلاصة اللاهوتية، ترجمة الخوري بولس عواد، دار صادر، بيروت، ج1، ص32ـ34، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[8]   الخلاصة اللاهوتية، ج1، ص34.

[9]   انظر: ارسطو: الفيزياء: السماع الطبيعي، ترجمة عبد القادر فينيني، دار افريقيا الشرق، المغرب، 1998م، المقالة الثانية: الفصل الثامن (الغائية في الطبيعة)، والمقالة السابعة: الفصل الأول (البرهان على وجود المحرك الأول).

[10]  الابانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد، ضمن رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق محمد عبد الهادي ابو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1369هـ - 1950م، ص215..

[11]  إبن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص150.

[12]  تطرقنا إلى تفصيل علاقة المنظومة الفلسفية بمنطق السنخية في كتابين هما: نُظم التراث، والنظام الوجودي، وذلك ضمن سلسلة المشروع الخماسي (المنهج في فهم الاسلام)، والذي تم نشره في مؤسسة العارف ببيروت.

[13]  جون لينوكس: العلم ووجود الله، ترجمة ماريانا كتكوت، ص33. انظر:https://ktabpdf.com/uploads/files/401379206.pdf

[14]  ارنست ماير: هذا هو علم البيولوجيا، ترجمة عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1422هـ ـ2002م، ص22.

[15]  https://en.wikipedia.org/wiki/Vitalism

[16]  هذا هو علم البيولوجيا، ص26ـ29.

[17]  المصدر السابق، ص29.

[18]  ستيفن هوكنج وملوندينوف ليونرد: التصميم العظيم، ترجمة ايمن احمد عياد، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2013م، ص35.

[19]  المصدر نفسه، ص41.

[20]  Thomas Nagel, Mind and Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature Is Almost Certainly False, 2012, p. 113-134. Look:http://library.lol/main/8E6081288FB26FA163A85C815050F2C0

[21]  Ibid, p. 91-94.

[22]  مايكل دنتون: قدر الطبيعة، ترجمة موسى ادريس وآخرين، مركز براهين للأبحاث والدراسات، 2016، ص175.

[23]  هذا هو علم البيولوجيا، ص20ـ21.

[24]  ارنست نيقل: التفسيرات الغائية والانساق الغائية، ضمن قراءات في فلسفة العلوم، تحرير باروخ برودي، ترجمة وتقديم نجيب الحصادي، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م، ص172ـ173.

[25]  المصدر السابق، ص175ـ176.

[26]  هذا هو علم البيولوجيا، ص24ـ26 و34.

[27]  Rupert Sheldrake, Seven Experiments That Could Change the World, 2002, p. 34. Look:https://b-ok.cc/book/5981751/da5f1f

[28]  قدر الطبيعة، ص562.

[29]  https://en.wikipedia.org/wiki/Vitalism

[30]  هذا هو علم البيولوجيا، ص34.

[31]  Garland E Allen, Mechanism, vitalism and organicism in late nineteenth and twentieth-century biology, 2005. Look:https://www.researchgate.net/publication/24176290_Mechanism_vitalism_and_organicism_in_late_nineteenth_and_twentieth-century_biology_The_importance_of_historical_context

[32]  Ludwig von Bertalanffy, General system theory, 1968, p. 87-88. Look:https://b-ok.cc/book/2031938/b5c82e

[33]  ibid. p. 92

[34]  كارل همبل: منطق التحليل الوظيفي، ضمن قراءات في فلسفة العلوم، مصدر سابق، ص191.

[35] Stephen Jay Gould, Structure of Evolutionary Theory, 2002, Chapter 4 . Look:https://b-ok.cc/book/680059/6f9e88

[36]  مايكل دنتون: التطور: ما يزال نظرية في ازمة، ترجمة محمد القاضي وزيد الهبري وآخرين، مركز براهين، الطبعة الأولى، 2017، ص120ـ121.

[37]  المصدر السابق، ص16.

[38]  ستيفن ماير: توقيع في الخلية، ترجمة كل من آلاء حسكي واسامة ابراهيم ومحمد القاضي ومهند التومي، نشر مركز براهين للأبحاث والدراسات، الطبعة الأولى، 2017م، ص36ـ37.

[39] David Snoke, Systems Biology as a Research Program for Intelligent Design, 2014. Look:

https://www.bio-complexity.org/ojs/index.php/main/article/view/BIO-C.2014.3/BIO-C.2014.3

[40]  Crick, Francis, Of Molecules and Men, 1966, p. 10. Look:https://archive.org/details/ofmoleculesmen0000cric/page/n3/mode/2up

[41]  توقيع في الخلية، ص37ـ40.

[42]  Richard Dawkins, River Out of Eden: A Darwinian View of Life, 1995, p. 34. Look:https://b-ok.cc/book/880698/b42047

[43]  توقيع في الخلية، ص36ـ37.

[44]  جوناثان ويلز: العلم الزومبي: أيقونات التطور من جديد، ترجمة جنات جمال، مركز براهين، الطلعة الأولى، 2019م، ص116.

[45]  مايكل دنتون: التطور: نظرية في ازمة، ترجمة آلاء حسكي ومؤمن الحسن ومهند التومي وآخرين، مركز براهين، الطبعة الأولى، 2017، ص400ـ402.

[46]  مايكل بيهي: صندوق داروين الأسود، ترجمة مؤمن الحسن وآخرون، مركز براهين، الطبعة الثانية، 2018، ص352.

    https://quotefancy.com/quote/1360939/Linus-Pauling-Just-one-living-cell-in-the-human-body-is-more-complex-than-New-York-City

[48]  وليام ديمبسكي وجوناثان ويلز: تصميم الحياة، ترجمة موسى ادريس ومؤمن الحسن ومحمد القاضي، مراجعة وتقديم احمد يحيى وعبدالله الشهري، دار الكاتب للنشر والتوزيع، مصر، الاسماعيلية، الطبعة الأولى، 2014م، ص355.

[49]Isaac Newton, Opticks, The Fourth Edition, p. 370. Look: http://www.gutenberg.org/files/33504/33504-h/33504-h.htm

[50]  Isaac Newton, natural philosophy, translated into English by Andrew Motte. P. 504. Look:http://redlightrobber.com/red/links_pdf/Isaac-Newton-Principia-English-1846.pdf

[51] Isaac     Newton, Four Letters ... to Doctor Bentley, 1756. Look:https://www.sophiararebooks.com/pages/books/3537/sir-isaac-newton/four-letters-to-doctor-bentley

[52]  Sfetcu, Nicolae, "About God in Newton's correspondence with Richard Bentley and Queries in Opticks", SetThings (February 13, 2019). Look:https://www.setthings.com/en/about-god-in-newtons-correspondence-with-richard-bentley-and-queries-in-opticks/

[53]  تُنسب هذه العبارة إلى تشارلس كولسون Charles Coulson عام 1955.

[54]  انظر: ستيفن هوكنج وملوندينوف ليونرد: التصميم العظيم، مصدر سابق، ص41. وجون جريبن: البساطة العميقة، عرض صبحي رجب عطا الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م، ص16. والكشف عن حافة الزمن، ترجمة علي يوسف علي، نشر المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2001م، ص27، عن مكتبة الموقع الإلكتروني www.4shared.com

[55]  Exchange of papers between Leibniz and Clarke:https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/leibniz1715_1.pdf

[56]  يوسف بن المطهر الحلي: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، انتشارات الرضي ـ بيدار، الطبعة الثانية، ص156ـ157. وعبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص403.

[57]  أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، ج4، ص258.

[58]  Gottfried Wilhelm Leibniz. Look:https://plato.stanford.edu/entries/leibniz/

[59] تشارلس داروين: أصل الأنواع، ترجمة مجدي محمود المليجي، تقديم سمير حنا صادق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004م، ص765.

[60]  https://plato.stanford.edu/entries/leibniz/

[61]  John D. Barrow and Frank J. Tipler, p.64 . 

[62]  Samuel Clarke. Look:https://plato.stanford.edu/entries/clarke/

[63]  Exchange of papers between Leibniz and Clarke:https://www.earlymoderntexts.com/assets/pdfs/leibniz1715_1.pdf

[64]  وكما قال الغزالي: “إنك إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبني، المعد فيه جميع ما يحتاج اليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم منصوبة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر. وكل شيء معد مهيأ لشأنه، والانسان كالمالك للبيت، المحول لما فيه، فضروب النبات لمآربه، وأصناف الحيوانات في مصالحه..” (ابو حامد الغزالي: الحكمة في مخلوقات الله، تحقيق محمد رشيد قباني، دار أحياء العلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 1398هـ ـ 1978م، ص15).

[65] التطور: ما يزال نظرية في ازمة، ص85.

[66] انظر الفقرة 176 من كتاب جون ري:John Ray, The Wisdom of God Manifested in the Works of the Creation. Look:http://www.moonmentum.com/blog/wp-content/uploads/2011/11/wisdom_of_god1.pdf

[67]  https://en.wikipedia.org/wiki/Teleological_argumentكما انظر كتاب (اللاهوت الفيزيائي) لديرهام في الموقع الالكتروني التالي:https://books.google.tn/books?id=a8s3AAAAcAAJ&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false

 [68] برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، المكتبة المصرية العامة للكتاب، 1977م، ج3، ص148.

[69]  ديفيد هيوم: محاورات في الدين الطبيعي، ترجمه وقدّم له وعلق عليه محمد فتحي الشنيطي، مكتبة القاهرة الحديثة، الطبعة الأولى، 1956، ص75 و83.

[70]  المصدر السابق، ص75ـ77.

[71]  إمانويل كَنْت: نقد ملَكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2005، ص319ـ320.

[72]  المصدر السابق، ص80 و84.

[73]  محاورات في الدين الطبيعي، ص84ـ87.

[74]  المصدر السابق، ص87ـ89.

[75]  المصدر نفسه، ص71.

[76]  قدر الطبيعة، ص565.

[77]  انظر الفصل الأول والثالث من:William Paley, Natural Theology, 1802. Look:https://appearedtoblogly.files.wordpress.com/2011/05/paley-william-natural-theology.pdf

 [78] تشارلس داروين: قصة حياة تشارلس داروين، تحرير فرانسيس داروين،ترجمة مجدي محمود المليجي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2011، ص310.

 [79] ريتشارد دوكينز: الجديد في الانتخاب الطبيعي (صانع الساعات الأعمى)، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002م، ص25.

 [80] المصدر السابق، ص26 و83.

 [81] François Jacob, Evolution and Tinkering, 1977. Look:http://ww2.chemistry.gatech.edu/~lw26/course_Information/6572/papers/jacob_evolution_tinkering_1977.pdf

comments powered by Disqus