-
ع
+

اللاطبيعانية وأثير الذكاء (2)

يحيى محمد

التطور البايولوجي وقاعدة عدم الاختزال

لقد تمّ تطبيق معيار الطبيعانية على حقلين أو مستويين في علم الأحياء كما أشرنا في الحلقة الأولى من هذه الدراسة، حيث جاء الأول لغرض تفسير التطور البايولوجي، والثاني لغرض تفسير نشأة الحياة.

ويتجسد الأول بالتمسك بآلية الانتخاب الطبيعي كافتراض لتفسير تطور النُظم الحية المعقدة باختزالها إلى خطوات تدريجية بسيطة، لكن من غير تفصيل وايضاح الكيفية المباشرة لهذا التدرج المزعوم. وذلك كردّ على فكرة ان يكون للكائنات الحية دوافع غائية، أو انها نتاجات فعل غائي.

أما الثاني فيتعلق بالجهود المضنية التي لا تمل ولا تكل من البحث عن أي سند كيميائي يوضح كيف نشأت الحياة على الأرض وفقاً للتفسير الطبيعاني، وذلك كردّ على أي فكرة ترى وجود اختلاف جذري أو نوعي بين الحياة والمادة المألوفة. والى هذا اليوم لم تتقدم الجهود المبذولة في هذا المجال خطوة جوهرية واضحة نحو الأمام، فما زالت المسألة تدور في محلها دون أي تقدم كبير.

وسوف نتعرف على بعض التفاصيل المعنية بالمشكلتين السابقتين المتعلقتين بالتفسير الطبيعاني، مع تحديد طبيعة الإشكالية المشتركة بينهما.

وسنبدأ بالتطبيق الأول لمعيار الطبيعانية كما يتمثل بالانتخاب الطبيعي ومنهج الاختزال الذي شكّل عائقاً أمام آلاف الشواهد الحيوية المعقدة، والتي يتفاوت تعقيدها إلى حد عظيم..

الانتخاب الطبيعي ومنهج الاختزال

لقد سبق لداروين ان اعتقد بأن نظريته ستنهار تماماً فيما لو ثبت وجود نُظم حية غير قابلة للاختزال.

والمقصود بالاختزال عموماً هو تفسير المعقد بردّه إلى ما هو أبسط منه دون حاجة لافتراضات أجنبية. فمثلاً يمكن تفسير العناصر الكيميائية بردّ بعضها إلى البعض الآخر حتى الوصول إلى أبسطها تركيباً كما يتمثل في الهايدروجين.

لذا فمن وجهة نظر داروين ان أي ظاهرة حيوية لا بد ان تتقبل التبسيط التدرجي، وان كل معقد يرتد إلى التطور بخطوات بسيطة بالتدرج البطيء، وبغير ذلك تصبح النظرية غير قابلة لتفسير التطور البايولوجي.

هذا هو معيار داروين في اختبار نظريته القائمة على مبدأ الاختزال، وكما قال في (أصل الأنواع): “اذا كان من الممكن اثبات وجود أي عضو جسدي مركب ليس من المحتمل ان تمّ تكوينه عن طريق تعديلات بسيطة عديدة ومتتالية؛ فإن ذلك من شأنه ان يجعل نظريتي تنهار تماماً، ولكني لا استطيع ان اكتشف أي حالة بهذا الشكل”[1].

وإلى يومنا هذا ما زال مبدأ الاختزال الدارويني يتحكم في عقلية الغالبية العظمى من علماء التطور. فمثلاً سلك ريتشارد دوكينز منهج داروين في نفيه لوجود نُظم غير قابلة للاختزال؛ مراهناً على انه لو وجدت مثل هذه النُظم فسوف يكفّ عن الإيمان بالداروينية، كالذي صرح به في (صانع الساعات الأعمى). وكرر هذا المعنى في (وهم الإله) معتبراً انه لو وجدت حالة واحدة للتعقيد المتعذر الاختزال لانتهت نظرية التطور[2]. لذا آمن بوجود توسطات في تطور الأعضاء الحيوية ووظائفها، وهي ما تدل على التدرج وفق الانتخاب الطبيعي، كما في الأعين والآذان والأجنحة والأطراف وغيرها[3]. فمن خلال تراكم الطفرات الجينية تتكون البنى المعقدة الجديدة ذات الوظائف والتكيفات المختلفة التي يعمل الانتخاب الطبيعي على حفظها من دون تلاشي.

لكن ما يقدمه الداروينيون بهذا الصدد هو كلام افتراضي لا يحمل آثاراً علمية تبدي تفاصيل اختزالية واضحة باستثناء عدد محدود جداً من المحاولات الجادة التي ركزت على بعض المراحل التطورية الرئيسة، خاصة بالنسبة للأجزاء الخلوية المعقدة، مهما كانت صغيرة، كالآلات البروتينية وما فوقها.

وهذه هي النقطة التي جعلت الكيميائي الحيوي مايكل بيهي يُصدر كتابه (صندوق داروين الأسود) عام 1996. وهو الأثر الذي اعتبره فيلسوف العلم ومدير معهد ديسكفري ستيفن ماير انه استطاع ان يجعل فكرة التصميم الذكي تحتل مكاناً لدى الخارطة العلمية والثقافية كما أشرنا من قبل[4].

وبالفعل أثار كتاب بيهي الكثير من الجدل اللافت في الأوساط العلمية والثقافية، وما زال الجدل متواصلاً دون ان ينتهي رغم مرور أكثر من ربع قرن على صدور الكتاب. وهو ما لم يحدث مع أي من العلماء الذين خالفوا داروين وانتقدوا نظريته. وقد يصادف ان يسجل تاريخ العلم انتصاراً لبيهي على داروين، مثلما سبق لانتصار الأخير على وليام بيلي، وعندها ستُردّ الحقوق إلى أصحابها، وسيصبح بيهي في مصاف العظماء أمثال نيوتن واينشتاين ووالاس وداروين.

صندوق داروين الأسود

إن معنى "الصندوق الأسود"، كما يتضمنه عنوان كتاب بيهي، هو انه جهاز لا يعرف أحد كيف يشتغل. فأعماله الداخلية خفية لأنها غير قابلة للادراك أو الرؤية. فمثلاً معظمنا يستخدم الحواسيب الالكترونية دون أدنى فكرة عن كيفية عملها، فنقوم بمعالجة الكلمات أو رسم المخططات أو التمتع بالألعاب؛ جاهلين ما يحدث تحت هذا الصندوق، حتى إذا أزلنا الغطاء فإن قلة منا يمكنه ان يميز في أدغال القطع الداخلية، فلا يوجد رابط بسيط يمكن ملاحظته أو إدراكه بين أجزاء الحاسوب والأشياء التي ينجزها[5].

وينطبق هذا الحال على الآليات العاملة داخل الخلية وغيرها من المستويات الحيوية المعقدة، فما زلنا – كبشر - لا نعرف كيف يجري العمل في تكوين الظواهر الحيوية من الآلات البروتينية وما فوقها تبعاً لمعيار الطبيعانية. فما هي الآلية الطبيعية التي يمكنها صنع هذه الظواهر بشكل واضح لا ريب فيه؟

او كما تساءل بيهي بالقول: : ‹‹هل توجد آلية طبيعية لم تكتشف إلى الآن ويمكنها تفسير التعقيد البايوكيميائي؟ لا يوجد أحد من الحماقة بمكان لينكر ذلك الاحتمال كلياً، ومع ذلك يمكننا القول إن وجدت هذه الآلية، فلا أحد يعرف أي شيء عن كيفية عملها، بالاضافة إلى أن ذلك سيسير عكس كل الخبرة البشرية، كما لو افترضنا أن العمليات الطبيعية قد تقدم تفسيراً لوجود الحواسيب. ان استنتاج عدم وجود هذه الآلية يحمل الرصانة العلمية ذاتها للقول بأن التخاطر الذهني غير ممكن، أو ان وحش بحيرة لوش نيس غير موجود››.

ولم يتوقف بيهي عند نفي وجود آلية طبيعية لتفسير التعقيدات الحيوية، بل اعتبر ان تجاهل الأدلة الهائلة التي نملكها على وجود التصميم البايوكيميائي لصالح آلية شبحية مثل آلية الانتخاب الطبيعي؛ هو كلعب دور المحققين في غرفة الجريمة متجاهلين وجود الفيل[6].

لذا فالتطور الحيوي - بحسب بيهي - لا يزال يفتقد إلى مرجعية علمية للتفسير الطبيعاني كما يتمثل في الداروينية الجديدة. فثمة نُظم حيوية معقدة ضمن الخلية يتعذر اختزالها وفق النهج التدرجي. إذ لو حللنا هذه النُظم إلى أجزاء أبسط منها؛ فسوف تفتقد وظيفتها الأساسية، أو انها لا تعمل بهذه الوظيفة إلا عندما تكون مجتمعة مع بعض.

وقد عُرفت هذه القضية باسم "نظام التعقيد غير القابل للاختزالIrreducible complexity system"، وهو المصطلح الذي أدخله بيهي لأول مرة في كتابه السالف الذكر، لكنه قام بوصفه قبل ذلك ضمن مساهمته غير المعلنة في الطبعة الثانية المنقحة لكتاب (الباندا والناس) عام 1993، وذلك في فصل يتعلق بتخثر الدم، كالذي كشف عنه نيكولاس مازكي من خلال عدد من القرائن ومن بينها تشابه بعض النصوص الواردة في الكتاب مع ما جاء في (صندوق داروين الأسود)، اضافة إلى اعتراف بيهي بهذه المساهمة في محكمة دوفر الشهيرة[7].

وفي العام المشار إليه، أو ما يقاربه، انقلب بيهي على النظرية الداروينية التي سبق ان آمن بها، وذلك بعد اطلاعه على كتاب (التطور: نظرية في ازمة) لمايكل دنتون، كالذي أشار إليه في كتابه (تراجع داروين Darwin Devolves) الصادر عام 2019، حيث وصف نفسه عند قراءة كتاب دنتون بأنه أُصيب بالذهول، لما تضمنه من معضلات خطيرة حول نظرية داروين على المستوى الجزيئي، معترفاً بأنه لم يواجهها من قبل رغم انه كان استاذاً في الكيمياء الحيوية.

فقد أشار إلى انه لم يسمع أي نقد من أساتذته حول نظرية داروين طيلة تلمذته العلمية. كما أبدى انه خلال دراساته العليا في الكيمياء الحيوية، وكذا خلال عمله لما بعد الدكتوراه في المعاهد الوطنية للصحة، لم تكن لديه أي مخاوف حول النظرية التطورية أو الداروينية. لهذا أُصيب بالصدمة بعد اطلاعه على كتاب دنتون، مما دفعه للتوجّه إلى بعض المكتبات قاضياً فيها الكثير من الوقت على مدى أشهر لمحاولة العثور على أوراق أو كتب توضح بالتفصيل الحقيقي كيف يمكن للطفرة العشوائية مع الانتخاب الطبيعي أن يُنتجا نُظماً شديدة التعقيد عبر الكيمياء الحيوية، لكنه بعد البحث والتفتيش عاد بخُفّيْ حُنين دون العثور على شيء تماماً.

فرغم ان العديد من المنشورات تحَيّي داروين، وان قليلاً منها يتناول حكايات تطورية مزعومة، لكن جميعها لم يوضح كيفية تفسير آلية النُظم الوظيفية المعقدة، وعندها وجد بيهي ان القصص التطورية الغامضة لم تقنعه كما كانت تفعل في الماضي، وأصبح يطالب بإجابات حقيقية، ومن ثم استنتج ان اندفاعه السابق إلى الإيمان بنظرية داروين لم يكن بسبب الأدلة القوية، بل جاء بتأثير العوامل الاجتماعية.

ومنذ ذلك الوقت صمم بيهي على اتخاذ القرار بنفسه وفقاً لما تظهره الأدلة فحسب، معتقداً انه عندما يبدأ المرء في التعامل مع الداروينية باعتبارها فرضية حول الكيمياء الحيوية فسيستغرق الأمر عشر دقائق ليستنتج انها غير ملائمة جذرياً، وربما سيستغرق الأمر عشر دقائق أخرى ليدرك أن الأساس الجزيئي للحياة قد تمّ تصميمه بشكل فعال، وهو نفس السبب الذي جعل أناكساغوراس وجالينوس وبيلي ان يتوصلوا إلى الاستنتاج ذاته حول مستويات البايولوجيا المرئية[8].

وفي ذات السياق، سبق ان صرح بيهي في حديث مسجّل لفيديو وثائقي تمّ إنتاجه عام 2003 بعنوان (فكّ لغز الحياة unlocking the mystery of life)، بأنه منذ عشر سنوات وبعد ان اطلع على كتاب دنتون تحوّل اتجاه تفكيره من الاعتقاد بنظرية داروين الحديثة إلى الضد تماماً[9].

تاريخ قاعدة عدم الاختزال

رغم أن مايكل بيهي يُعدّ المؤسّس الفعلي لقاعدة "نظام التعقيد غير القابل للاختزال"، فإن الفكرة ذاتها - أو ما يقاربها في الجوهر - قد ظهرت على ألسنة عدد من العلماء والمفكرين منذ زمن بعيد، بمن فيهم بعض الملتزمين بمعيار الطبيعانية وأنصار نظرية التطور الدارويني.

ففي القرن السابع عشر، نجد إشارات واضحة إلى هذا التصوّر لدى الفيلسوف نيكولاس مالبرانش، الذي تناول شرح فيزياء ديكارت في كتابه (البحث عن الحقيقة) عام 1674، قائلاً: ‹‹يحتوي الجسم المنظم على عدد لا نهائي من الأجزاء التي تعتمد بشكل متبادل لتحقيق غايات معينة، والتي يجب أن تتشكل سوية من أجل العمل ككل. فمثلاً لا يمكن للقلب أن يخفق بدون تأثير الأرواح الحيوانية، ولا تنتشر هذه في جميع أنحاء القلب بدون الأعصاب، والأعصاب تنشأ في الدماغ، ومنه تصل الأرواح. علاوة على ذلك، لا يستطيع القلب ضخ الدم عبر الشرايين إلا إذا كانت الأوردة التي يرجع الدم إليها كاملة بالفعل››[10].

وفي مطلع القرن التاسع عشر اعتمد وليام بيلي على مثل هذه الحجة في اثبات الصانع، كما في (اللاهوت الطبيعي) عام 1802، مستخدماً مثال الساعة الشهير، إذ تتميز بأجزاء وآليات تتعاون جميعها لغرض معين هو تحديد الوقت الزمني. والحال ذاته ينطبق على علاقات الطبيعة بظواهرها الدقيقة المختلفة، ومنها البنى الحيوية ووظائفها الغائية.

كما نشر عالم الحفريات الفرنسي جورج كوفييه كتاباً بعنوان (مناقشة حول ثورات سطح الأرض) عام 1822، شدد فيه على تناسق أجزاء الحيوان بعضها مع بعض، بحيث ان أي تغير في بعضها يفضي إلى التغير في البقية. وكما أوضح، وفق علم التشريح المقارن، أن الكائن الحي ‹‹يشكل كلاً فريداً ونظاماً مثالياً من الأجزاء المنسجمة مع بعض، بحيث تكون أفعالها وردود هذه الأفعال متوافقة، ولا شيء من هذه الأجزاء يمكن أن يتغير دون أن يتغير الكل››.

وأيد هذا المعنى بمثال يتعلق بالحيوانات آكلات اللحوم، حيث يمتلك الفرد منها فكوكاً تتناسب مع هضم والتهام فريسته، ومخالباً للاستيلاء عليها وتمزيقها، وأسناناً حادة للتمزيق وتهشيم العظام، وهيكلاً متكاملاً لأجهزته الحركية ليتتبع الفريسة وينقضّ عليها وفقاً لتناسق العضلات والأوتار والعظام، وأي تغيير في بعضها سيؤدي إلى التغير في بقية الأجزاء. كما يمتلك أعضاءاً ادراكية يستخدمها في كيفية اخفاء نفسه ونصب الأفخاخ لضحاياه. ومن ثم لا بد من وجود المخالب وقوائم الكتف ومفاصل الفكين والأسنان المناسبة وعظام الفخذ مع بقية العظام الأخرى، فكلها تتفاعل معاً لهدف محدد يناسب أكل اللحوم، وهو خلاف ما تمتاز به الحيوانات آكلات العشب[11].

كذلك اعتمد هربرت سبنسر في كتابه (مبادئ علم الأحياء) عام 1864 على التكيف المشترك للأجزاء العضوية المتعاونة في الحيوان، كما في حالة القرون المتضخمة في الأيل، وفي الحيوانات التي اعتادت القفز، وكذلك في حالة الزرافة. وأكّد في هذا الصدد انه قد ثبت بأن التعديلات المشتركة الضمنية للأجزاء لم تتأثر بالانتخاب الطبيعي. فهذا الانتخاب لا يقدّم تفسيراً للتكيف المشترك للأجزاء المتعاونة، حتى عندما يكون هذا التعاون بسيطاً نسبياً. لهذا لجأ إلى التفسير عبر وراثة الصفات المكتسبة، لا الانتخاب الطبيعي.

وبعد ثلاثة عقود من صدور كتابه قال: ‹‹نأتي الآن إلى محاولة البروفيسور وايزمان لدحض فرضيتي الثانية القائلة (إن من المستحيل أن أشرح بالانتخاب الطبيعي وحده التكيف المشترك للأجزاء المتعاونة). لقد مرّت ثلاثون عاماً منذ أن تمّ تحديد ذلك في مبادئ علم الأحياء››[12].

أيضاً كان القديس جورج ميفارت، وهو من أبرز نُقّاد داروين كما في كتابه (حول نشأة الأنواع) الصادر عام 1871، قد صرح في فصل له بعنوان (عدم كفاءة الانتخاب الطبيعي لتفسير المراحل الأولية للبنى المفيدة) بأنه لا يمكن للتنسيقات المعقدة والمتزامنة للأعضاء الحيوية ان تتخلق عن بدايات متناهية الصغر، وكل بحث يحاول ان يجد صلات تطورية متصلة بهذا الشأن يكون عديم الفائدة، طالما لا يمكن للانتخاب الطبيعي ان يحقق الخصائص الجديدة المبتكرة، إذ سوف لا تكون المراحل الأولية مفيدة. ومن ذلك ما عرضه السيد مورفي من صعوبات تتعلق بالتطور البصري للعين، حيث انه يبدأ من نقاط انطلاق مختلفة، ويستمر عبر طرق مستقلة[13].

كما استعرض ميفارت في محل آخر مثل هذه الحجة من عدم القابلية على الاختزال التدريجي، وقد عرض داروين وجهة نظر هذا الناقد في (أصل الأنواع) واستعان بعالم الجيولوجيا والاحاثة لويس أغاسيز Louis Agassiz للردّ عليه.

فقد كان ميفارت يتساءل: ما الاستخدام الموجود للبدايات غير المكتملة الأولى الخاصة بالتراكيب العضوية لحيوانات مثل قنفذ البحر؟ ورأى انه حتى التكوين الفجائي لعملية التلقف (الالتقاط) والانطباق السريع يصبح بدون فائدة من غير وجود ساق حرة التحريك، ولا ان هذه الساق ستصبح كفوءة بدون الفكوك القابضة فجأة، كما ان من غير الممكن ان تجري تعديلات لا نهائية في وقت واحد لتفضي إلى توافقات معقدة التركيب[14].

وقد اعتبر عالم الحفريات المعروف ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould (عام 1985) ان ميفارت هو من أكثر نقاد داروين رعباً، خاصة فيما يتعلق بالمعضلة المشار إليها حول تفسير المراحل الأولية للبنى المعقدة والتي ما زالت لم تحل حتى يومنا هذا. كما اعتبر اعتراضاته على الانتخاب الطبيعي قوية ورائعة، مشيراً إلى انه ما زال يمثل حجر عثرة أساسية أمام الداروينيين، وليس هناك أكثر ازعاجاً من هذا النقد الخاص بعدم قدرة الانتخاب الطبيعي على تفسير تراكم المراحل الأولية للبنى المعقدة المفيدة[15]. بمعنى انه لا يمكن اختزال البنى الحيوية المعقدة بالطرق التدريجية خطوة فخطوة.

وخلال القرن العشرين سبق لعالم الوراثة الحائز على جائزة نوبل هيرمان مولر Hermann J. Muller ان صرح عام 1918 بأن بنى الآلات الجزيئية معقدة في تفاعل أجزائها وانتظامها، بل وأصبحت ضرورية ضمن بنيتها الجديدة بعدما كانت مجرد شيء نافع قبل ان تتطور إلى ما هي عليه بالتدريج وفق التصور الدارويني[16].

كما برزت خلال عشرينات القرن الماضي فكرة العضوانية على يد الفيلسوف رتر Ritter وزميله بيلي Baily عام 1928، والتي تشير إلى حالة الارتباط بين الأجزاء العضوية وتفاعلها مع بعض ومع الكل، حيث أحدهما يؤثر في الآخر؛ بعيداً عن النزعة الاختزالية القائمة على التحليل الفيزيائي والكيميائي. فالكائن الحي هو كل وظيفي وليس فسيفساء من الأجزاء المنفصلة المستقلة، كالذي سبقت الاشارة إليه.

وفي عام 1971 كتب عالم فسيولوجيا النبات فرانك سالزبوري Frank Salisbury مقالاً بعنوان (شكوك حول النظرية التركيبية الحديثة للتطور)، أعرب فيها عن وجود معضلة تتعلق بالتفسير الطبيعاني لكيفية صنع جزيء ذاتي التكاثر كالحامض النووي الرايبوزي منقوص الاوكسجين (الدنا DNA)، إذ يحتوي على ألف زوج من النيوكليوتيدات nucleotides ويعيد استنساخ ذاته ويتكاثر مليون مرة في الثانية، ويتطلب عمله جملة من البروتينات أو الانزيمات التي تساعده على التكرر والاستنساخ؛ رغم انه يقوم في الوقت ذاته بخلق وبناء البروتينات؛ عبر ترجمة ما لديه من معلومات. فهو بهذا نظام متكامل ومعقد للغاية. وكما قال: ‹‹يجب أن يتشكل النظام بأكمله كوحدة واحدة، أو أنه لا قيمة له. وقد تكون هناك طرق للخروج من هذه المعضلة، لكنني لا أراها في اللحظة الراهنة››[17].

كما في عام 1972 أشار الاحفوريان البارزان نيلز ألدريدج وستيفن جاي جولد إلى عبارة تتضمن المصطلح الذي يعنينا حول قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال، فنقلا رأياً يعبّر بصريح الكلمة ‹‹أن التعقيد هو غير قابل للاختزال complexity is irreducible››. واعتبرا هذا الوصف يقف ضد علم الشكل النامي، واستشهدا بما كتبه وينتوورث طومبسون Wentworth Thompson[18]، بأنه عندما يقارن عالِم التشكل morphologist بين كائن حي بآخر، يصف الاختلافات بينهما نقطة بنقطة، وخصوصية بخصوصية، وان الارتباط بينهما غامض إلى حد ما. وجاء هذا الحديث في معرض نقده للانتخاب الطبيعي ضمن كتابه الضخم (النمو والشكل On Growth And Form) لدى طبعة 1942  والصادر عام 1917[19].

وفي عام 1974 جادل اللاهوتي هنري موريس في كتابه (الخلقوية العلمية) بأن اللجوء إلى استخدام مبادئ بسيطة للاحتمال الرياضي يكشف لنا عن وجود مشكلة يمكن تحديدها ببساطة حول ما إذا كان من الممكن لنظام معقد يتضمن مكونات عديدة تعمل بشكل موحد، ويكون فيها كل عنصر ضرورياً للأداء الفعال للكل.. هل من الممكن ان ينشأ بعمليات عشوائية؟ وقد اعتبر هذا السؤال قاطعاً بشكل خاص عندما نتعامل مع نُظم الحياة باعتبارها أعقد من العلاقات غير العضوية[20].

وفي عام 1975 صنّف توماس فرازيتا Thomas H. Frazzetta كتاباً بعنوان (التكيفات المعقدة في تطور الجمهرات السكانية)، جاء فيه ان التكيف المعقد لأي كائن حي يعتمد على جهاز مركب من أجزاء جينية وبروتينية عديدة؛ يترابط بعضها بالبعض الآخر لجعله يعمل وينجز تكيفاً وظيفياً معقداً. وهي نقطة جديرة في الكشف العلمي، حيث تجعل من التكيفات الوظيفية المعقدة لها أصل مرتبط بالجينات والبروتينات. فـ ‹‹التكيف المعقد للجهاز مبني على عدة مكونات ممتزجة معاً من الناحية التشغيلية لجعل التكيف يعمل، فهو أشبه بالآلة التي يعتمد أداؤها على التعاون الدقيق لأجزائها. لذلك لا يمكن لأحد ان يغير أياً من هذه الأجزاء من دون تغيير أداء الجهاز بأكمله››.

وقد اعتبر فرازيتا ان كل حيوان هو كآلة ضخمة تمتلك نُظماً معقدة لدى مستوياتها المختلفة؛ من أصغرها إلى أعظمها مستوى. وطبّق هذا المعنى بشكل موسع على جهاز فك الثعبان الذي اعتبره مذهلاً في تكيفه المعقد، فأحال ان يكون قد جاء بفعل التطور، وأشار إلى ان مثل هذا التعقيد المذهل يمكن رؤيته في مختلف الكائنات الحية وأعضائها الحيوية ذات الأجهزة المعقدة، كما في أعين الفقريات وغيرها. لذلك استبعد التغير التدريجي في أي بنية معقدة التكيف والوظيفة، طالما ان مكوناتها الأساسية، كما في الجينات، تقتضي التعاون معاً لتأدية وظيفتها المحددة. وهذا ما جعله يعلن شكوكيته ازاء التفسير الدارويني للتطور[21].

وفي عام 1978 اختتم الكيميائي الحيوي روبرت ماكناب Robert M. Macnab دراسة مطولة حول الآلية الحسية والحركية لبكتيريا الاشريكية القولونية (E. coli) بقوله: ‹‹لا يسع المرء إلا أن يتعجب من التعقيد في بكتيريا بسيطة من إجمالي الجهاز الحركي والحسي الذي كان موضوع هذه المراجعة، بحيث يصبح مفهوم التطور المعتمد على السمة الانتخابية لهذه الحالة ليس إلا تبسيطاً مفرطاً، إذ ما هي الميزة التي يمكن الحصول عليها من مكونات ما قبل السوط (preflagellum)؟ ومع ذلك ما هو احتمال التطور المتزامن للعضية عند المستوى الذي تصبح فيه مفيدة؟››[22].

وفي عام 1982 كشف عالم الخلية ادموند جاك امبروز في كتابه (طبيعة العالم البايولوجي وأصله) عن ان تكوين أبسط بنية حيوية جديدة لم تكن معهودة من قبل يحتاج إلى ترابط ما لا يقل عن خمسة جينات تعمل سوية لخلق هذه البنية. كما ان تكوين أبسط الأعضاء الحيوية - مثل جناح ذبابة الفاكهة - يحتاج إلى عشرات الجينات المترابطة. وكل من هذه الجينات يحمل رسالة مزدوجة، مما يجعل المعلومات التي تتضمنها ضخمة للغاية. لذلك وصفها بأنها ‹‹تتحدث فيما بينها لغرض التنسيق كتعبير عن ترابطها الوثيق، وهو أمر لا غنى عنه في صنع البنى الحيوية››[23].

وسنرى ان هذه الفكرة هي ذاتها التي استعان بها مايكل بيهي في تطوير نظام عدم القابلية على الاختزال إلى معيار أدق أطلق عليه "خطوات الترابط".

كما في هذا العام ذاته (1982) استخدم عالم الحيوان الخلقوي أرييل روث Ariel A. Roth ما يقترب من مفهوم بيهي حول "التعقيد غير القابل للاختزال"، فكما روى عنه نورمان جيزلر، انه ضمن شهادته للدفاع في محكمة ماكلين ضد أركنساس، ذكر رقماً من المشاكل الخطيرة التي تقف عائقاً أمام تطور البنى المعقدة المتكاملة، منكراً ان يتحقق ذلك عبر تطور الأجزاء بالتدريج وفق الانتخاب الطبيعي. ففي الجهاز التنفسي - مثلاً - لا يمكن لهذا النظام المعقد ان يعمل ما لم تكن جميع أجزاؤه حاضرة معاً[24].

وفي عام 1985 أورد التطوري الكيميائي غراهام كايرنز سمث Graham Cairns-Smith ما يقترب من فكرة عدم الاختزال في كتابه (سبع أدلة تلميحية لأصل الحياة). حيث استشهد بمثال يتعلق بطوق مبني من الحجارة بالتدريج حجرة فأخرى، واعتبر ذلك من التناقض من حيث الظاهر، إذ كيف يمكن ان تنشأ سلسلة من التعديلات الصغيرة لبناء نوع من الطوق بشكل تدريجي؟ وكان جوابه ان ذلك يحصل من خلال سقالات داعمة كانت موجودة ثم رفعت بعد ذلك ليترك بناء الطوق كما يبدو متناقضاً، وان ازالة أي حجر منه سوف يؤدي إلى انهياره. واعتبر هذا المثال مشابهاً لما هو حاصل من مساندة النُظم الفرعية في الكائنات الحية بعضها للبعض الآخر، بحيث ازالة كل جزء منها سوف يفقد وظيفتها، لذا فتفسير وجود هذا النوع من التعاون المتبادل انما يعود إلى ما كان في الماضي السحيق من وجود سقالات (مادية) مساعدة قبل ان تُفقد بعد ذلك، مثل التعاون الوثيق الحاصل بين الأحماض الأمينية العشرين لتكوين البروتين، وان ازالة أي منها سيؤدي إلى انهيار الصرح بأكمله[25].

وفي عام 1993 كتب عالم الخلية والطفيليات ريتشارد لومسدن مقالة بعنوان (صانع الساعات ليس أعمى)، استهدف فيها الانتصار لوليام بيلي في (اللاهوت الطبيعي) والرد على ريتشارد دوكينز في (صانع الساعات الأعمى)، مستشهداً بمثالين أحدهما التركيب المعقد للعين البشرية، أما الآخر فهو سوط البكتيريا كما لدى الكثير من أنواعها. وبالنسبة للبكتيريا فرغم انها بدائية النوى لكن سوطها أعقد بكثير من أهداب الخلية حقيقية النوى، لذلك اعتبر هذه الحقيقة لا تتناسب مع فكرة التطور من البسيط إلى المعقد كما في النظرية الداروينية. لهذا تمّ وضع بعض السيناريوهات التي تقول بأن السوط قد جاء في فترة متأخرة عن وجود البكتيريا الفاقدة للسوط، خاصة وانه يقدر حوالي )50%( من البكتيريا هي من هذا النوع.

إن المدهش في سوط البكتيريا هو ان له عجلة تدور بما يصل إلى (18) ألف دورة في الدقيقة الواحدة، وفي بعض الحالات أكثر من ذلك بأضعاف كثيرة كما سنعرف. وهي حقيقة تُلهم بأن لهذا السوط بنية معقدة متكاملة، بحيث لا شيء يمكنه العمل ما لم يكن كل واحد من مكونات هذا السوط في مكانه المناسب[26]. ويعتبر لومسدن سابقاً لبيهي في تناوله موضوع السوط البكتيري من حيث تعقيده غير القابل للاختزال.

بيهي وتأسيس قاعدة عدم الاختزال

يُعد مايكل بيهي المنظّر والمؤسس الأول لقاعدة "نظام التعقيد غير القابل للاختزال"، فقد أشبع هذا الموضوع بالتفاصيل العلمية الدقيقة، مع تأطيرها بهذه القاعدة وفق شروط محددة، كما أبرز ذلك في مختلف كتبه ومقالاته وندواته ومحاضراته، وعلى رأسها وأساسها (صندوق داروين الأسود)، حتى أصبحت هذه القاعدة مقترنة باسمه دون غيره من العلماء.

ومن حيث التعريف قصد بيهي بالتعقيد غير القابل للاختزال كما في كتابه السالف الذكر انه نظام واحد مؤلف من عدة أجزاء تتفاعل معاً لتساهم في الوظيفة الأساسية، ولو حُذف أي جزء منها فسيتوقف النظام عن وظيفته. لذلك أحال ان ينتج هذا النظام عبر تعديلات مباشرة طفيفة ومتوالية لنظام سالف، أي عن طريق تطوير مستمر للوظيفة البدائية وتعمل بالآلية ذاتها، لأن أي سلف لنظام معقد غير قابل للاختزال ينقصه جزء ما؛ هو بالتعريف نظام غير صالح للعمل. وقد اعتبر ذلك تحدياً حقيقياً للنظرية الداروينية، إذ الانتخاب الطبيعي لا يحتفظ سوى بالنُظم التي تؤدي وظائفها جيداً، في حين ان النظام الحيوي قد ظهر كوحدة متكاملة في خطوة واحدة من دون تدرّج يمكّن الانتخاب الطبيعي من العمل عليه.

ولتوضيح هذا المفهوم استعرض مثالاً من حياتنا اليومية يتعلق بمصيدة الفئران، فهي مؤلفة من عدة أجزاء حسبها خمسة، هي النابض والمطرقة والقاعدة الخشبية والمقبض وقضيب التثبيت. وعلى الأقل ان الأساسية منها هي الثلاثة الأولى. فلو فُقد أي جزء من هذه الأجزاء فسوف يتعطل عملها في القبض على الفأر تماماً، ولو بنصف أو ربع أو ما شاكل ذلك من العمل. لذا فالمصيدة تمثل تعقيداً غير قابل للاختزال[27].

ومعلوم انه سبق لداروين ان اعتقد بوجود طريقتين أو ثلاث للتطور التدريجي، إحداهما كمية تحسينية مباشرة للوظيفة؛ مثل تطور العين المعقدة من أعين بسيطة بالتدريج، أما الأخرى فهي نوعية ملتوية تفضي إلى تحويل الوظيفة؛ مثل تطور الأطراف الرباعية من زعانف الأسماك، أو تطور الرئتين من المثانة الغازية gas bladders. كما يخلّف التطور عادة فقداناً للوظيفة أو ضعفها، مثلما يحدث في حالة الأعضاء الضامرة والأثرية.

وتعتبر هذه الطرائق من المصادر الهامة التي تعتمد عليها الداروينية الجديدة. في حين حصر بيهي في (صندوق داروين الأسود) مسألة التطور الدارويني في الطريقة الأولى فحسب، وغفل عن الثانية عند تناوله لمسألة تطور النُظم الجزيئية في الخلية. فالنقد الذي وجّهه نحو الداروينية قد انحصر في تطور النظام الحيوي المعقد وفق التحول المباشر للنمو الكمي دون ان يمس التطور الملتوي لهذا النظام.

لذا اعترف بالنقص المشار إليه بعد مرور خمس سنوات من صدور كتابه، فذكر ان قاعدة التعقيد غير القابل للاختزال تتضمن عدداً من العيوب والخلل، ومن ثم تحتاج إلى اصلاح، سواء من حيث تقنية التعريف أو من حيث المضمون، كما في مقالته الموسومة بعنوان (الرد على منتقدي صندوق داروين الأسود).

فمن حيث التقنية صرح في عنوان فرعي (عيوب في تعريف التعقيد غير القابل للاختزال) ان التعريف كما ورد في الكتاب كان غامضاً وملتبساً ومن ثم فهو بحاجة إلى اصلاح. وأشار في موضع التباسه، إلى أنه من الناحية المفاهيمية يمكن التمييز نظرياً بين فئتين من مكونات النظام المعقد، إحداهما تعمل على تنفيذ المهمة الوظيفية بعنصر أو مكون واحد فقط، وهو أمر نظري لأنه من الناحية الواقعية ان الخلية تستخدم عدة مكونات. أما الفئة الثانية فلا يمكنها ان تنفذ المهمة إلا عند اجتماع عدد من العناصر أو المكونات، مثل ان السوط البكتيري لا يعمل ليقوم بالدفع الدوار ما لم يمتلك - على الأقل - ثلاثة مكونات، هي المجداف والدوار والمحرك.

وقد اعتبر التعريف في (الصندوق) لم يميز بين الفئتين، رغم انه قصد الفئة الثانية فقط لا الأولى. واعتبر انه لحسن الحظ ان اللبس الوارد لا يؤثر على العلم باعتبار ان الفئة الأولى هي مجرد حالة نظرية لا يوجد لها تطبيق في الواقع الحي. ومع ذلك وصف تعريفه الحالي بأنه لا يميز بين الاثنين، ويمكن اصلاح النقص الوارد بسهولة عن طريق ادخال كلمة لتعريف "التعقيد غير القابل للاختزال" على النحو التالي:

‹‹نظام واحد يتكون بالضرورة من عدة أجزاء متوافقة بشكل جيد، وهي تتفاعل لتساهم في انشاء الوظيفة الأساسية، وان ازالة أي جزء من الأجزاء يتسبب في توقف النظام عن العمل بشكل فعال››.

لكن الغريب ان هذا التعريف لا يبدو مختلفاً عما ورد في (الصندوق)، أو انه لا يتضمن الاشارة إلى الفئة الأولى، وانما يقتصر على الثانية فقط.

أما خلل المضمون فقد أشار بيهي إلى ان تعليقات روبرت بينوك وآخرين على كتابه جعلوه يدرك بأن هناك ضعفاً في المفهوم الذي قدّمه. فقد كان يعتقد في (الصندوق) انه لا يمكن إنتاج نظام معقد بشكل غير قابل للاختزال مباشرة، أي بواسطة التحسين المستمر للوظيفة الأولية وتعمل بالآلية ذاتها عن طريق تعديلات طفيفة متتالية لاسلاف النظام، لأن أي سلف لنظام معقد بشكل غير قابل للاختزال إذا ما فقد جزءاً منه فهو بحكم التعريف غير وظيفي. لكنه اعترف ان هذا المفهوم خاطئ. إذ من الممكن ان يكون لسلف ومكونات النظام وظائف وآليات أخرى مختلفة عن النظام ذاته، وهو ما يتناسب مع المفهوم الدارويني دون ان يقضي عليه. لذلك اعتبر مفهومه الجديد لا ينال شيئاً من التفسير الدارويني عند ازالة أجزاء من النظام يُفترض أنها كانت ذات وظائف مختلفة سلفاً.

أما الاصلاح الجديد فيتعلق بأن النظام المعقد غير القابل للاختزال لا يمكن ان يتشكل من خلال الخطوات التدريجية للأجزاء السابقة عليه عبر الانتخاب الطبيعي حتى لو امتلكت جميعها وظائف مختلفة. فهنا ان المشكلة التي تواجه النظرية الداروينية ليست كما كانت في (الصندوق) حول فقدان الوظيفة للأجزاء والمكونات عند ازالة بعضها، بل تتحدد في كيفية إنتاج وظيفة جديدة للنظام عبر جمع وظائف ثانوية للمكونات الأساسية. فهذه هي العقبة الكبرى التي احتفظ بها بيهي، وكما قال انه يأمل اصلاح العيب السابق في المستقبل[28].

وبعبارة ثانية، تقبّل بيهي الحقيقة القائلة بأن النظام المعقد غير القابل للاختزال قد يتفكك إلى أجزاء وظيفية مختلفة، وتبقى المشكلة منحصرة حول كيفية جمع الأجزاء المفككة لخلق وظيفة جديدة وفقاً للانتخاب الطبيعي. ففي حالة سوط البكتيريا - مثلاً - لا يمتنع ان تكون أجزاؤه ذات وظائف ثانوية مختلفة، لكن المشكلة هي كيف تولدت الوظيفة الجديدة الأساسية حول دوران السوط من خلال جمع الأجزاء وربطها مع بعض؟.

وفي دراسة لبيهي عام 2004 قدّم مثالاً افترض فيه ان كل مكون من مكونات النظام غير القابل للاختزال يمتلك بروتينات متماثلة وكانت له وظيفة فردية مستقلة سابقة في الخلية. لكن مع ذلك ان أشكال البروتينات المختلفة للمكونات السابقة يجعلها غير قابلة للارتباط والاجتماع بشكل مناسب لتنتج نظاماً جزيئياً معقداً كالذي اقترحه بعض الداروينيين، مذكراً ان هذه الصورة تبالغ في تبسيط الصعوبة كما تمت مناقشة ذلك في (صندوق داروين الأسود)[29].

وكردٍّ على بعض منتقديه من أمثال عالم الأحياء ألن أور H. Allen Orr في مراجعته للصندوق بعنوان (داروين ضد التصميم الذكي) عام 1996[30]، قصد بيهي بالتعقيد غير القابل للاختزال ما يتحدد بالنظام المنفرد، وليس الأعضاء الكاملة، ولا الكائن الحي المليء بالنُظم بما في ذلك الخلية الواحدة. وبالتالي فإن تطبيق قاعدته ينحصر في النُظم الحيوية على المستوى الجزيئي ضمن الخلية، أما الأعضاء الكاملة مثل العين والرئة أو أي عضو آخر للكائن الحي فهي ليست أجهزة منفردة، لذلك لا تنطبق عليها قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال[31].

وقد وقع فوتويما Futuyma بمثل هذا الخطأ لدى مقاله (المعجزات والجزيئات) عام 1997، والذي استهدف فيه توسعة بعض النقاط النقدية التي دشّنها أور[32]، فردّ عليه بيهي بمثل ما ردّ على أور ضمن مقاله (اعتراضات فلسفية على التصميم الذكي) عام 2000[33].

هذا على الرغم من ان ارتباط الأنسجة والأعضاء والأجهزة الحيوية مع بعض يجعل منها تعقيداً غير قابل للاختزال على المستوى فوق الخلوي، فكل تغير في بعضها يفضي إلى التغير في البقية، وبالتالي تبقى جميع هذه المستويات من الارتباط عصية على الاختزال، كالذي سبق لكوفييه ان أماط اللثام عنها. ويبدو ان بيهي مقتنع بذلك، لكنه أراد ان لا يخرج عن التفاصيل العلمية الدقيقة التي نذر نفسه للكشف عنها ضمن دائرة مجال تخصصه.

غياب المنشورات العلمية

من الناحية العلمية، كان مايكل بيهي كثيراً ما يشكو من غياب المنشورات المتخصصة التي تتناول بالتفصيل كيفية نشوء الأنظمة الحيوية المعقدة وفقاً لمبدأ الاختزال الدارويني. وكان يؤكد أنه لا وجود لأي إصدار علمي موثوق يصف أصل الآلات البروتينية المعقدة، إذ إن الطفرات الجينية التي يُعوّل عليها في نظرية التطور لا تستطيع - بحسب قوله – أن تُنتج حتى بروتيناً واحداً بما يحمله من بنية تركيبية بالغة التعقيد.

وكرر هذا المعنى في العديد من مواضع (صندوق داروين الأسود)[34]. وبعد عشر سنوات من صدور هذا الكتاب عاد إلى إثارة الموضوع؛ مكرراً زعمه بعدم وجود منشورات علمية تصف كيفية التطور الجزيئي أو حالة التدرج الدارويني لأي نظام كيميائي حيوي معقد حقيقي؛ ماضياً وحاضراً[35].

وفي أحد مواضع كتابه صرح بيهي بأنه لا توجد أي رواية داروينية تفصيلية تبين اختزال النُظم المعقدة. وكما قال: إنه من الفصل الثالث ومروراً بالفصل السابع أوضحنا انه لم يفسر أحد أصل النُظم الكيميائية الحيوية المعقدة التي نوقشت هنا، وذلك رغم وجود عشرات الآلاف من العلماء في امريكا ممن يهتمون بالأساس الجزيئي للحياة[36].

ومن الشواهد التي دلل من خلالها على هذا الغياب هو ان مجلة التطور الجزيئي ومجلات أخرى رغم انها تعتني بتحليل تتابع الأحماض الأمينية المطرزة والمخيطة مع بعضها؛ لكن لا يوجد فيها ما يبين كيف ظهرت الآلات الجزيئية المعقدة اعتماداً على نظرية داروين في الاختزال، كالهدب والسوط الذين هما نتاج البروتينات[37]، كذلك نظام المناعة وتخثر الدم. بل وحتى الرؤية العينية البسيطة مثل التفاعلات التي تحدث بفعل اصطدام فوتون بشبكية العين، حيث أن هذه الرؤية تشير إلى تفاعلات معقدة جداً من الصعب على نظرية التطور ان تشرحها وفق الخطوات البسيطة، وقد كلفت بيهي حوالي خمس صفحات لاستعراضها في (صندوق داروين الأسود)[38].

وقد استشهد بيهي بعدد من العلماء الذين قاموا بمراجعة كتابه بما يدل على صدق ما يقول[39]. ومن ذلك ان عالم الكيمياء الحيوية جيمس شابيرو اعترف في مراجعته لـ (صندوق داروين الأسود) في نفس السنة التي صدر فيها الكتاب بأنه لا توجد تفسيرات داروينية مفصلة لتطور أي أساس كيميائي حيوي أو نظام خلوي. فما يوجد فقط هو أصناف من التخمينات الحالمة[40].

وتكاد تكون ذات هذه العبارة قد كررها عالم الخلية فرانكلين هارولد Franklin Harold في كتابه (طريق الخلية Way of the Cell) عام 2001، حيث صرح بأنه يجب الاعتراف بأنه لا توجد حالياً روايات داروينية مفصلة عن تطور أي نظام كيميائي حيوي، فما يوجد هو مجرد مجموعة متنوعة من التخمينات الحالمة[41].

كذلك صرح عالم الأحياء التطوري جيري كوين في مراجعته لكتاب بيهي في سنة الصدور ذاتها بقوله: ‹‹لا شك أن الممرات التي وصفها بيهي معقدة بشكل مروّع، وسيكون من الصعب كشف تطورها››[42].

أيضاً في السنة ذاتها كتب عالم الأحياء التطوري بوميانكوفسكي Pomiankowski ضمن مراجعته لكتاب بيهي فقال: ‹‹معظم علماء الكيمياء الحيوية ليس لديهم سوى فهم ضئيل للتطور أو الاهتمام به. وكما أشار بيهي فإنه بالنسبة إلى أكثر من ألف مقالة علمية حول الكيمياء الحيوية للأهداب، لم يجد سوى حفنة قليلة تتناول التطور بجدية. وهذه اللامبالاة عالمية. ويمكنك ان تختار أي كتاب في الكيمياء الحيوية، وستجد ربما كتابين أو ثلاثة تشير إلى التطور. انتقل إلى واحدة من هذه المراجع وستكون محظوظاً للعثور على أي شيء أفضل من العبارة القائلة: (التطور يختار الجزيئات الأصلح لوظائفها البايولوجية)››[43].

وفي عام 1997 أكد عالم الأحياء الجزيئية روبرت دوريت Robert Dorit ‹‹ان بيهي محق بالمعنى الضيق عندما يجادل بأننا لم نفهم تماماً حتى الآن تطور المحرك السوطي أو سلسلة تجلط الدم››[44].

كما في هذه السنة أيضاً كتب عالم الأحياء التطوري توم كافالير سمث Tom Cavalier-Smith مقالة لاذعة بعنوان (عالم الكيمياء الحيوية الأعمى) قائلاً: ‹‹بالنسبة للحالات التي ذكرها بيهي، لا يوجد حتى الآن شرح شامل ومفصل للخطوات المحتملة في تطور التعقيد الملحوظ. لقد تمّ بالفعل إهمال المشكلات المتعلقة بذلك إلى حد بعيد، على الرغم من أن بيهي يبالغ مراراً وتكراراً في أمر هذا الإهمال››[45].

وبعيداً عن نظرية بيهي، اعترف عالم الحفريات ستيفن جاي جولد بأن العلم الكلاسيكي غير قادر على تفسير النُظم المعقدة في علم الأحياء والمجتمع البشري والتاريخ تبعاً لمنهج الاختزال، مؤكداً بذلك على حاجتنا لأنماط جديدة من التفكير في طرح الأسئلة والأجابة المناسبة عنها[46].

الآلات البروتينية وقاعدة عدم الاختزال

أصبح من المعلوم لدى الكثير من علماء الأحياء ان ما يقوله بيهي صحيح حول عدم وجود تفاصيل داروينية توضح حالة التسلسل في النُظم المعقدة من الآلات البروتينية وما فوقها، لكنهم في الغالب لا يتقبلون تفسير هذا العالِم لتجاوزه معيار الطبيعانية.

فمثلاً ناقش بيهي كيف انه لا توجد أوراق علمية سددت مشكلة تفسير هدب الخلية الجرثومي، وما زالت التخمينات جارية. وعلّق على أحد الأبحاث التي حاولت تخمين كيف نشأ الهدب، فأشار إلى انه لا يظهر في البحث أي كلمة انتخاب فضلاً عن انتخاب طبيعي، وكذا لا توجد كلمة طفرة فضلاً عن طفرة عشوائية، ولا أي طفرة محددة. ثم انتهى إلى القول: ‹‹كل العلوم تبدأ من التخمين، أما الداروينية بالذات فتنتهي عنده عادة››[47].

وهدب الخلية، هو كما وصفه بيهي، عبارة عن شعيرات دقيقة وقصيرة على السطح الخارجي لبعض أنواع الخلايا، وبسببها تتمكن الخلية من الذهاب والاياب كمجداف. وهو يتكون أساساً من تسع انيبيبات مزدوجة، وكل انيبيبة تتكون من حلقتين مكونتين من ثلاث عشرة ضفيرة من بروتين خاص هو التوبولين، وهناك في منتصف الهدب انيبيبتان منفردتان، وكل الانيبيات مرتبطة ببعضها بأنواع مختلفة من الروابط التي تقوم بها بعض أنواع البروتينات. ويوجد في كل انيبيب مزدوج ذيلان، عبارة عن جسرين داينين خارجي وداخلي.. لذلك فلو لم تكن هناك انيبيبات فلا شيء ينزلق، ولو فُقد الداينين، وهو نوع من البروتين، فالنظام بأكمله سيصبح جثة هامدة، وكذا لو فُقدت المادة الرابطة مثل بروتين النيكسين فسينهار النظام بأكمله..

هذا مجرد تلخيص شديد لبنية هدب الخلية، الذي يُعدّ نموذجاً للتعقيد غير القابل للاختزال، إذ يتكوّن من حوالي مائتي نوع من البروتين، وقد تحتوي الخلية الواحدة على المئات من الأهداب[48].

نموذج معضلة سوط البكتيريا:

إن سوط البكتيريا يشبه الهدب، ويوصف بأنه موتور صغير يحوي على محرك ومجداف ودوار وغير ذلك، فله محرك خارجي يمكّن بعض أنواع البكتيريا من السباحة عبر بعض الحوامض الخاصة. ففي السوط جزء يقوم بالدفع يشبه الذيل الطويل ويتكون من بروتين يسمى فلاجيلين، ويتصل هذا الدافع بمحور الحركة عن طريق رابط بروتيني هو بروتين الخطاف الذي يعمل كرابط عام مما يسهل حرية الدوران للدافع ومحور الحركة، وهو يتصل بمحرك دوار..

هذه مكونات السوط البكتيري باختصار شديد. وقد أظهرت الدراسات الجينية ان السوط يتألف من ثلاثين إلى أربعين بروتين مختلف، أغلبها تعتبر متطلبات أساسية للقيام بوظيفته، ففي غياب معظم هذه البروتينات سوف لا تتحقق حركة السوط بأي شكل من الأشكال. فلكي يقوم بعمله يحتاج إلى عدة أجزاء، مثلما هو الحال مع الهدب وغيره[49].

ومن وجهة نظر تطورية، فإن الجهاز السوطي مرن، وله قابلية على اكتساب البروتينات وفقدانها. فرغم هذا الفقدان فإنه يعمل وإن بكفاءة أقل أحياناً، لذلك تمتاز بعض الأسواط بكثرة البروتينات خلافاً لغيرها. لكن مع هذا يُعتقد انه يتكون من عشرين بروتين رئيسي، بحيث تظهر تجارب الحذف ان السوط لن يتجمع أو يعمل إذا تمّ ازالة أي واحد من هذه المكونات، مع بعض الاستثناءات.

لذا طرح الداروينيون سؤالاً: كيف يمكن ان يظهر هذا النظام بطريقة تدرجية إذا ما كانت وظيفته لا تتحقق إلا عندما يتم جمع الأجزاء المطلوبة كاملة؟

وعليه يُعتقد ان النظام المعقد للسوط هو أحد الألغاز التي تقف عقبة أمام التطور الدارويني[50].

وفي الحياة توجد الآلاف وربما ملايين الأنواع المختلفة للسوط البكتيري. وأغرب ما فيه هو انه يتألف من مروحة تعمل بمحرك نانوي، ويُشبّه بقارب كهربائي ذي عجلة محركة تدير مروحة حلزونية صلبة[51]، وهي آلية وظيفية دقيقة ما زالت غامضة.

ومن المدهش ان السوط قد يدور بعشرات الآلاف من الدورات في الدقيقة باتجاه عقارب الساعة وعكسها، وقابل لتغيير الاتجاه في أي لحظة[52]. وفي بعض التقديرات ان هذا الدوران قد يصل إلى أكثر من مائة ألف دورة في الدقيقة[53].

وكان أول من اكتشف المحرك الدوار للسوط هما بيرج واندرسون (Berg and Anderson) عام 1973[54].

ومن وجهة نظر علماء الأحياء، أنه لا مفر من مقارنة السوط البكتيري بالتصاميم البشرية. وكما لاحظ ديفيد ديروسير DeRosier David عام 1998 بأن هذا السوط هو أكثر البنى الحيوية شبهاً للآلات البشرية المصممة[55].

وبحسب وايتيسيدس Whitesides وغيره من العلماء، أن هذا السوط يشابه المحركات التي صممها البشر مثل التوربينات، كالذي صرح به عام 2001[56].

كما اعتبر ريتشارد دوكينز جهاز الدوران المروحي لهذا السوط اعجوبة طبيعية، فهو المثال الوحيد الذي يقع خارج نطاق التكنلوجيا البشرية[57]. كما ان بعض العلماء اعتبره ‹‹الجهاز الأكثر كفاءة في الكون››[58].

وقبل هؤلاء جميعاً، صرح مايكل دنتون عام 1985 بأن السوط البكتيري هو البنية الوحيدة في كامل المملكة الحية يبدي حركة دائرية[59].

هذا مجرد سوط مجهري في غاية الصغر. وبحسب عالم الحيوان النمساوي روبرت ريدل Robert Riddell، فإن مملكة الحياة تحتوي على مائة ألف من الصفات المستجدة بانتظار الاختزال الدارويني[60].

وعلى مدى عدة عقود ظهرت آلاف الأوراق التي تبحث حول بنية السوط وطريقة عمله بالتفصيل، لكن الاقتراحات المنشورة حول تطوره كانت محدودة للغاية. ويعترف عالم الأحياء التطوري نيكولاس مازكي بداية القرن الواحد والعشرين بوجود محاولات عديدة نُشرت لشرح أصوله، لكن لا توجد أي محاولة جادة لبناء نموذج تطوري مفصل عنه، إذ كانت هذه المحاولات تعاني من الغموض، ولا تتوافق مع الاكتشافات الحديثة والقيود التي فرضتها الحركة البراونية. ومع ذلك رأى ان التحليل الدقيق يبين انه لا توجد عقبات رئيسية أمام تطوره التدريجي. لذلك قدّم محاولة مفترضة لهذا التطور وفق النموذج الدارويني خطوة بخطوة، واعتبرها معقولة وقابلة للاختبار، وردّ على الزعم القائل بأن النماذج التطورية المطروحة لا تتجاوز السرد المجرد للقصص، وهي المقالة التي كان يرددها كل من ستيفن جاي جولد وليونتن (1979)، معتبراً انهما هاجما فقط السيناريوهات التي لا تقبل الاختبار أو تلك التي لم تختبر قط، خاصة بالنسبة للظواهر التي لا تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي، وهو ما لا ينطبق على محاولة تفسير الأصل التطوري للسوط.

ورغم أن مازكي قدّم بالفعل محاولة مفترضة لخطوات تطور السوط وفق النموذج الدارويني، كما في دراسته القيمة (التطور في الفضاء البراوني) عام 2003، لكنه رفض المطالبة بتحديد المراحل الانتقالية لهذا النموذج بشكل مفصل، معتذراً بأن ذلك مستحيل تحقيقه طالما ان العملية قد حدثت منذ مليارات السنين، وبالتالي فما يمكن فعله هو تقليل النموذج التطوري المفصل إلى أحداث تتحقق عبر عمليات مفهومة جيداً. لذلك افترض ان تطور السوط مرّ بست مراحل رئيسية تتخللها وسائط مفتاحية[61]، وكلها تبدو معقدة. ولو لم تكن كذلك لكان من الممكن إنتاجها عبر الطفرات في المختبر.

وبعد ثلاثة أعوام من نشر تلك الدراسة أصدر مازكي مع مارك جون بالين ورقة بحث مشتركة حول تطور السوط البكتيري بعنوان مثير (من أصل الأنواع إلى أصل الأسواط البكتيرية) عام 2006، وهي تتضمن إبراز التشابهات المتعلقة بتسلسلات بروتينات السياط المختلفة الأنواع، وكذا بعض التشابه مع تسلسلات بروتينات تعود إلى أنواع أخرى من البكتيريا غير السوطية.

وتستهدف الدراسة حسم الجدل الذي حصل في محكمة دوفر قبل عام من نشرها. إذ أصر بيهي - كأحد الشهود المدعويين - على عدم قابلية اختزال نظام البروتينات في سوط البكتيريا وفق الآلية الداروينية، فيما خالفت المحكمة هذه الفرضية. وقد أحصى الباحثان مصطلح السوط الوارد ذكره خلال ستة أسابيع لمحاضر المحكمة بحوالي (385) مرة. وأشارا إلى ان ما قدماه يمثل حججاً أخرى تضاف إلى ما تمّ تداوله في المحكمة ضد فكرة التصميم الخلقوية واسطورة نظام التعقيد غير القابل للاختزال[62].

وتعتبر دراسة الباحثين مازكي وبالين فريدة من نوعها. وقد لقيت استحساناً واشادة من قبل بيهي، واعتبرها أول محاولة جادة جرت حول تطور السوط البكتيري، لكنها مع هذا انتهت إلى نتيجة تتضمن خلطاً بين فكرتين مختلفتين واردتين ضمن نظرية داروين، إحداهما متأصلة في هذه النظرية، وهي موضع النزاع وتتعلق بآلية الانتخاب الطبيعي. أما الثانية فتتمثل باطروحة السلف المشترك، وهي فكرة يسلم بها مايكل بيهي ولا يعارضها. كما تسلم بها نظريات التطور المختلفة، تارة باطلاق، أي انحدار جميع الكائنات الحية إلى أصل واحد مثلما ترى الداروينية، وأخرى مقيدة ضمن حدود معينة. وهذا ما جعل بيهي يستعيد ما ذكره زعيم الداروينية الجديدة ارنست ماير حول وجود خمس أفكار مختلفة تتضمنها النظرية الداروينية[63]، وكثيراً ما يقع الالتباس فيما بينها حتى لدى بعض المفكرين البارزين. ومن ذلك ان الباحثين خلطا بين فكرتي السلف المشترك وآلية داروين في الانتخاب الطبيعي المعتمدة على الطفرات العشوائية، وهو الخلط الذي وقع فيه العديد من الباحثين؛ قبلهما وبعدهما.

عموماً إن ما انتهت إليه ورقة الباحثين، هي دعم فكرة الانحدار والأصل المشترك طبقاً للتشابهات الكبيرة التي كشفا عنها في تسلسلات البروتينات لمختلف أنواع السياط البكتيرية مع أنواع أخرى من البكتيريا. وسبق لمازكي ان أظهر مثل هذا النوع من التشابه في مقالته السابقة عام 2003. وهي فكرة لقيت ترحيباً من قبل بيهي، لكنها تختلف عن آلية الانتخاب الطبيعي وتدرّج الطفرات العشوائية[64].

كما بعد مرور عام على نشر ورقة مازكي وبالين، صدرت مقالة في إحدى المجلات المرموقة بعنوان مثير: (تكون تدريجي لنظام السوط البكتيري) عام 2007 للباحثين ليو Liu واوشمان Ochman.

وملخص هذه المقالة، هو انه يمكن لمجموعات الجينات التي تشفّر مكونات السوط ان تشتمل على خمسين جيناً، لكنها تختلف اختلافاً كبيراً في أعدادها ومحتوياتها بين الشُعب البكتيرية. ولاستكشاف كيفية نشوء هذا التنوع، فقد حدد الباحثان جميع المتماثلات للبروتينات السوطية المشفّرة في تسلسل الجينوم الكامل لمجموعة من السياط البالغة (41) نوعاً والتي تنتمي إلى (11) شعبة بكتيرية. وتتضمن هذه الجينات (24) جيناً أساسياً كان لها وجود سابق لدى السلف المشترك لجميع أنواع البكتيريا، ويظهر العديد من هذه الجينات الأساسية تشابهاً في التسلسل مع الجينات الأساسية الأخرى، مما يشير إلى أنها مشتقة من بعضها البعض، وتشير العلاقات فيما بينها إلى الترتيب المحتمل الذي نشأت به المكونات البنيوية للسوط البكتيري.

وتُظهِر نتائج هذه المقالة أن المكونات الأساسية للسوط البكتيري نشأت من خلال التكرار والتعديل المتتاليين لعدد قليل، أو ربما حتى جين واحد يمثل السلف المشترك للجميع. بمعنى ان جميع البروتينات الأساسية لكافة أنواع البكتيريا السوطية قد نشأت من بروتين سلفي أو أكثر قليلاً عن طريق مضاعفة وتنويع جين بدائي[65].

وقد أيّد عدد من العلماء هذه النتيجة وحُظيت بدعاية كبيرة، واعتُبرت انتصاراً للداروينية مع سقوط ساحق لحجة التعقيد غير القابل للاختزال، ومن ثم مذهب التصميم الذكي. لكن لم تمضِ فترة طويلة حتى تبين خللها لدى أحد الخبراء في هذا المجال، وهو مازكي الذي أبدى سخريته من النتائج التي أفضت إليه ورقة البحث، وردّ عليها بعنوان ساخر (بحث تطور السوط يعرض الصفات الكلبية).

فقد تعجب مازكي كيف تمّ نشر هذه المقالة في مجلة مرموقة مع ان فيها ادعاءات وأخطاء أساسية لا يمكن السكوت عنها. وفي البداية أشار إلى أنه كان متحمساً لقراءتها، لكن عندما اطلع عليها تحولت سعادته إلى قلق وفزع، مؤكداً على أن الورقة تقدم بعض النقاط المفيدة المحتملة وتستكشف مناطق جديدة قليلة، لكن يبقى الكثير منها يتراوح بين المشكوك فيه والخطأ الذي لا يمكن اصلاحه. وفي النتيجة انتهى مازكي إلى انه ينفي تماماً وجود طريقة تبين ان جميع بروتينات السوط تنشأ من خلال تكرار جين واحد[66].

وهذا ما يتفق مع وجهة نظر بيهي الذي يرى استحالة حدوث عمليات متسلسلة للتدرج الدارويني، فهناك عقبة ما سماه بنظام التعقيد غير القابل للاختزال، وهي عقبة تزداد ضخامة حين الأخذ بعين الاعتبار ترابط البروتينات وعدم كفاية الاحتمالات الممكنة لبناء هذا الترابط عشوائياً مقارنة بالزمن الواقعي، كما سنعرف.

وسبق لبيهي في مقالة (اعتراضات فلسفية على التصميم الذكي) عام 2000 ان تحدى قدرة الانتخاب الطبيعي على إنتاج السوط البكتيري من خلال العمل على الطفرة العشوائية تجريبياً، ودعا العلماء للذهاب إلى المختبر وفحص هذه القضية بوضع بعض الأنواع البكتيرية التي تفتقر إلى السوط تحت الضغط الانتقائي (التنقل مثلاً) والقيام بزراعتها لعشرة آلاف جيل، ومن ثم معرفة ما إذا كان بالإمكان إنتاج سوط أو أي نظام معقد مماثل. وكما قال انه إذا ما حدث ذلك فسيتم دحض ادعاءاتي بدقة[67]. وكرر هذا المعنى عام 2001[68].

وفي هامش له على مقالته الصادرة عام 2000 نقل ما استسهله كينيث ميلر من عملية صنع الجينات عبر الانتخاب الطبيعي في كتابه (العثور على إله داروين) عام 1999، حيث قال الأخير ضمن اعتراضاته على فيليب جونسون: ‹‹إن من السهل رؤية أن الاختلافات بين الأنواع ليست أكثر من مجموع الاختلافات بين جيناتها. فإذا كان التطور الجزئي قادراً على إعادة تصميم جين واحد في أقل من مائتي جيل (والذي استغرق في هذه الحالة ثلاثة عشر يوماً فقط!)، فما هي مبادئ الكيمياء الحيوية أو البايولوجيا الجزيئية التي ستمنعها من إعادة تصميم عشرات أو مئات الجينات خلال بضعة أسابيع أو أشهر لإنتاج نوع جديد واضح؟ لا توجد مثل هذه المبادئ بالطبع››[69].

وقد ردّ بيهي عليه بالقول: ‹‹حسناً، لماذا لا يأخذ فقط أنواعاً بكتيرية مناسبة، ويقضي على جينات سوطها، ويضع البكتيريا تحت ضغط انتقائي (التنقل مثلاً) لكي تنتج تجريبياً سوطاً - أو أي نظام معقد مماثل - في المختبر؟ ففي النهاية يحتوي السوط على (30-40) جيناً فقط، وليس المئات التي ادعى ميلر أن من السهل إعادة تصميمها وفق الانتخاب الطبيعي››. كما أكد على أنه لو تحقق لميلر نجاح هذا الاختبار ‹‹فسيتم دحض ادعاءاتي تماماً، لكنه لن يجرب ذلك لأنه يبالغ بشكل كبير في احتمالات النجاح››[70].

لكن بعد خمسة عشر عاماً قامت مجموعة من الباحثين بتجربة حول سوط البكتيريا ونشروا نتائجها في بحث عنوانه (إحياء تطور القدرة على الحركة السوطية من خلال إعادة الأسلاك). وقد هلل الكثير من أنصار الداروينية للنتيجة التي أسفرت عنها هذه التجربة، واعتبروا ذلك ايفاءاً بما طالبه بيهي في تحديه لميلر مع دحض نظريته حول قاعدة التعقيد غير القابل للاختزال، فيما استهزأ بيهي من نتيجة التجربة باعتبارها بسيطة لا تفي بالشروط التي ذكرها لدحض نظريته.

وخلاصة هذه التجربة، انه تمّ حذف جين خاص ببروتين يدعى "FleQ"، وهو يعمل كمنشط ومفتاح منظم رئيسي للجينات السوطية المسؤولة عن تكوين السوط البكتيري المستخدم للسباحة، وعلى أثر هذا الحذف تلاشى السوط تماماً، لكن بسبب ضغوط تعريض البكتيريا للجوع عاد السوط بعد أربعة أيام (96 ساعة) من جديد بفعل الانتخاب الطبيعي.

وقد تخللت هذه العملية طفرتان نمطيتان، ففي الأولى انه عند فقدان جين البروتين FleQ حصلت زيادة في مستوى إنتاج بروتين آخر هو البروتين التنظيمي للنايتروجين NtrC الفسفوري، ويتصف بأنه منشط متعدد الأغراض، وله وظيفة رئيسية تتعلق بامتصاص النايتروجين والتمثيل الغذائي، ويرتبط مباشرة بالحامض النووي لأجل التحفيز. ومعروف ان هذا البروتين يشابه في تركيبه بروتينFleQ ، لذلك تولى السيطرة على التنظيم الجيني على حساب وظيفته الرئيسة في امتصاص النايتروجين. أما الطفرة الثانية فقد عملت على استعادة السوط بفعالية أكبر في السباحة، لكن مع اضطراب واختلال الوظيفة الخاصة بامتصاص النايتروجين والتمثيل الغذائي[71].

وحقيقة ان هذه التجربة لم تسفر عن نتائج كبيرة، وهي لا تشكل أدنى تحدي لبيهي، فهي لم تقضِ على جميع الجينات المسؤولة عن تكوين السوط، وما فعلته هو الكشف عن بدائل المنشطات في التنظيم الجيني، أو ما سماه القائمون عليها بقِطَع الغيار. لذلك كان من السهل على بيهي ان يرد على قيمة ما قدمته من نتائج. فبعد أقل من اسبوع على نشر تفاصيل هذه التجربة ردّ بيهي على تفسيرها في مقالة له بعنوان ساخر (تم أحياء السوط من جديد)، موضحاً انها عادية ولا تدل على شيء يتعلق بتطور البنى المعقدة[72].

نقد قاعدة عدم الاختزال

لقد تمّ توجيه العديد من الانتقادات إلى قاعدة بيهي في عدم الاختزال، ويمكن تقسيمها إلى أربعة محاور من النقد، أحدها يتعلق بانكار بيهي وجود منشورات علمية تكشف عن تفاصيل العملية الاختزالية للتطور الدارويني، مثل المنشورات الخاصة بعلم الجهاز المناعي. والثاني يتعلق بالاطار النظري العام للقاعدة. أما الثالث فيختص بمثال بيهي المفضل "مصيدة الفئران". في حين يتناول النقد الرابع النماذج التطبيقية التي اختارها بيهي حول الجزيئات الخلوية المعقدة، وأبرزها ما يخص سوط البكتيريا.

لذلك سوف نستعرض أهم ما جاء في هذه المحاور الأربعة من نقد مع جواب بيهي عليها كالتالي:

1ـ تجاهل المنشورات العلمية

لقد تركز النقد المتعلق بالمنشورات العلمية على موضوع علم المناعة، حيث تمّ توجيه الاتهام لبيهي في محكمة دوفر (يوم 20 ديسمبر من عام 2005) بأنه تجاهل كثرة البحوث التي كتبت حول جهاز المناعة بادعائه عام 1996 ان العلم لم يجد تفسيراً تطورياً لهذا الجهاز مطلقاً.

وقد عُرضت عليه ثمانية وخمسون منشوراً خضعت لمراجعة الأقران، مع تسعة كتب وعدد من فصول الكتب المدرسية المتعلقة بعلم المناعة، وجميعها معني بحسب المحكمة بتطور الجهاز المناعي. ومع ذلك أصرّ بيهي على القول ببساطة - كما تروي المحكمة - ‹‹إن ذلك ليس دليلاً جيداً بما فيه الكفاية››، أو انه لا يدل بشكل كاف على التطور[73].

وقد اعتبر بيهي العبارة الأخيرة المنسوبة إليه انما تعود إلى محامي الاستجواب. وهو قد اعترف بأنه لم يكن مطلعاً على الدراسات التي قُدّمت له حول المناعة، وقال في شهادته: إن هذه الدراسات قد تكون جيدة، لكنها قطعاً لم تقدم تفسيرات مفصلة وصارمة لتطور الجهاز المناعي بواسطة الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، ولو كان لديهم هذا العلم؛ لانعكس لزاماً في المزيد من الدراسات الحديثة التي حظيت بفرصة قراءتها. لهذا اتهم المحكمة بالانحياز في تقبلها دون تمحيص، والحجج الضعيفة سهلة التفنيد، ومن ذلك تقبلها تعريف ميلر المختلق للتعقيد غير القابل للاختزال، وانها تتساهل ببساطة مع مزاعم المدعين حول حالة العلم، في الوقت الذي تتجاهل آراء خبراء المتهمين.

ثم انه شكك في اطلاع المحكمة على المنشورات والكتب المعروضة حول الجهاز المناعي. وقال بهذا الصدد: ‹‹كيف يمكن للمحكمة أن تعلن أن تلك الكومة من المنشورات، تظهر أي شيء بالمرة، إذا كان خبير الدفاع ينازعها والمحكمة نفسها لم تقرأها ولم تستوعبها؟ وفي أثناء شهادتي المباشرة؛ مررت على أوراق أحال عليها البروفيسور ميلر في شهادته، وتبين أنها لا تحتوي حتى على عبارة (طفرة عشوائية)، لذلك اعتبر أن العديد من الأوراق البحثية الحديثة جداً في علم المناعة، والتي أشار إليها ميلر، كانت للمتاجرة. وبعبارة أخرى، لا يوجد حالياً تفسير دارويني دقيق لجهاز المناعة. والمحكمة لم تذكر هذه الشهادة››[74].

وإلى آخر ما كتبه بيهي أصرّ على عدم وجود منشورات علمية مفصلة توضح التدرجات التطورية للبنى الجزيئية الحيوية، ومن ذلك ما جاء في كتابه الأخير (تراجع داروين) الذي صرح فيه بالقول: منذ أكثر من عشرين سنة كرّستُ فصلاً في (صندوق داروين الأسود) لمسح الأدب التطوري، لكني لم أجد اطلاقاً أي منشورات تصف التفاصيل القابلة للاختبار حول قدرة الطفرة العشوائية والانتخاب الطبيعي ان يفسرا آلية جزيئية متطورة في الخلية، ناهيك عن التجارب التي تُظهر ذلك. وبعد أكثر من عقدين، وعلى الرغم من الضجة التي أحدثها الكتاب المشار إليه وكذلك الصخب والضجيج الاعلامي، فإن الوضع لم يتغير، فما زالت الأدبيات العلمية تخلو تماماً من مثل تلك التفسيرات[75].

2ـ تهافت قاعدة عدم الاختزال

حول الاطار العام لقاعدة بيهي في عدم الاختزال، تمّ توجيه اعتراض أساس، وهو ان هذه القاعدة لا يمكنها دحض التفسير الدارويني، وكان من أبرز المعترضين كينث ميلر، فقد كرر نقده لعدد من المرات ولسنوات طويلة ان من الممكن لأجزاء النظام المعقد ان تقوم ببعض الوظائف، وبالمساندة مع أجزاء أخرى يمكن ان يتحول الحال إلى وظيفة جديدة. فهذا ما ذكره في بعض مناظراته عام 2002. ثم كرر ذات النقد في مقالته (تفكك السوط: انهيار التعقيد غير القابل للاختزال) عام 2004، وبعد ذلك بأربع سنوات فعل الشيء ذاته في كتابه (فقط نظرية Only A Theory) الصادر عام 2008.

لكن كما هو معلوم ان هذا النقد قد تخلص منه بيهي منذ عام 2001، كما في ردّه على منتقديه في مقالته (الرد على منتقدي صندوق داروين الأسود) والتي اعترف فيها ان قاعدته التي قدمها عام 1996 كان ينتابها بعض الخلل، وقام باصلاح ذلك كما عرفنا، وبقيت المشكلة التي ركز عليها هي كيف يمكن تجميع الوظائف الثانوية والبنى الجزئية لتكوين النظام الأساس وفق المنظور الدارويني. صحيح انه في اصلاحه لم يعد بالإمكان القضاء التام على التفسير الدارويني مثلما تصور عام 1996، لكن مع هذا فإن المشكلة التي يواجهها هذا التفسير بقيت مستعصية عن الحل إلى هذه اللحظة.

وظلت هذه الفكرة لدى بيهي ثابتة حتى بعد ردوده على الاعتراضات الموجهة نحو قاعدته والتي جاءت بعد عشر سنوات من صدور (صندوق داروين الأسود). فقد صرح بأنه لا ينكر إمكانية ان تكون للأجزاء وظائف مختلفة، وان بإمكان علماء الأحياء عزل نُظم فرعية يمكنها ان تؤدي وظائف أخرى، إلا انها لا يمكن ان تعمل بذات النظام الأصلي. فقد يمكن الكشف عن وجود وظائف ثانوية مختلفة لبعض النُظم المعقدة الفرعية المنتزعة من النُظم الأصلية مع فقد الوظيفة الأساسية، لكن لا يوجد ايضاح كيف يمكن تحويل النُظم الفرعية وجمعها بشكل مفصل لتكوين نظام معقد أصلي[76].

3ـ ضعف مثال مصيدة الفئران

أما مثال مصيدة الفئران كما استخدمه بيهي في بيان مفهوم "النظام غير القابل للاختزال"، فقد تعرّض لعدد من الانتقادات، منها ما أورده أور من ان هذا النموذج لا يُعدّ صالحاً للتمثيل؛ لكونه نتاجاً بشرياً نعلم مسبقاً أنه مُصمَّم، إذ سبق لنا أن شهدنا البشر وهم يصنعونه، ولولا هذه المعرفة المُسبقة، لَكان تمثيله قد شكّل مشكلة علمية مشروعة. في حين لم نشهد تصميم نُظم كيميائية حيوية معقدة بشكل غير قابل للاختزال، لهذا لا يمكن ـ على حد زعمه ـ استنتاج أنها مصمّمة مثلما هو الحال في المصيدة وسائر المنتجات البشرية[77].

لكن هذا الاعتراض لا يصمد أمام التحليل المنطقي، إذ إن الحكم على وجود التصميم لا يتوقف على الخبرة الحسية، بل يتضمن بُعداً استدلالياً يستند إلى مبدأ الاحتمالات، الذي يمكن تطبيقه على القضايا الخارجية لتحديد ما إذا كانت مصممة أو غير مصممة. لذلك فإن البحث عن الذكاء خارج الأرض يُعدّ مشروعاً من الناحية العلمية، مع أنه لا يتعلق بأي منتج بشري، بل يخضع للمنطق الاحتمالي ذاته، دون الحاجة إلى مشاهدة مباشرة لعملية التصميم.

أيضاً ثمّة نقد آخر وُجّه إلى مثال المصيدة، وهو مستمد من الاعتراض العام على نظام "التعقيد غير القابل للاختزال". ففي كتابه (فقط نظرية)، رأى كينيث ميلر أن الأجزاء الخمسة للمصيدة يمكن إعادة توظيفها، كلٌّ على حدة، لأغراض مفيدة تختلف عن وظيفة صيد الفئران، وقد قدّم أمثلة على وظائف ممكنة لمكونات المصيدة عند تفكيكها، حتى أن العنصر الواحد منها يمكن أن يؤدي دوراً معيناً[78].

غير أن هذا النقد لا يُقوِّض جوهر نظرية بيهي بعد تعديلها، كما سبقت الإشارة. فبيهي لا ينكر إمكانية أن تكون الأجزاء المفككة ذات وظائف مستقلة، لكنه يؤكد أن النظام المتكامل لا يؤدي وظيفته الأصلية ـ كأداة صيد ـ إلا إذا كانت مكوناته مجتمعة تعمل في توافق تام.

والغريب ما أورده مايكل روز، من إمكانية أن تعمل المصيدة حتى بجزء واحد، وإن لم يكن ذلك بكفاءة عالية، مشبِّهاً هذا الجزء بالأعور الذي يُعد سلطاناً في مملكة العميان[79]! وهو اعتراض أراد به تقويض منطق بيهي، الذي يرى أن غياب أي جزء أساسي يجعل المصيدة غير قادرة على أداء وظيفتها، لا بنصف الكفاءة ولا ربعها. وقد ردّ بيهي على هذا الاعتراض في أكثر من موضع[80].

وبلا شك أن الأجهزة المعقدة تحتاج إلى حد أدنى من الأجزاء لتقوم بوظيفتها، وأي خلل أو نقص فيها يجعلها عاجزة عن أداء تلك الوظيفة. ولهذا يصفها ديمبسكي بأنها تجسيد لجوهر مفهوم "التعقيد غير القابل للاختزال"، كما بيّن ذلك في كتابه (لا غذاء مجاني No Free Lunch) الصادر عام 2002[81].

4ـ نقد النماذج التطبيقية

تبقى النماذج التطبيقية للقاعدة، حيث هي الأخرى تمّ نقدها، وأبرز هذه النماذج التي كثر الجدل حولها هو ما يتعلق بسوط البكتيريا، خاصة الاعتراضات التي قدمها كينث ميلر، ومن ذلك انه في مقاله (تفكك السوط: انهيار التعقيد غير القابل للاختزال) عام 2004 كشف عن ان ازالة بعض قطع من السوط لا تلغي مطلق الوظيفة، ومنها الوظائف الفرعية، مستشهداً بوجود جهاز صغير يشابه قطعة من قطع السوط لكنه يعمل بشكل مستقل لدى بعض أنواع البكتيريا فيسمح لها بحقن بعض السموم لمضيفيها، مما لا علاقة له بالسوط، ويدعى بالنظام الافرازي من الصنف الثالث ttss III، وهو نوع من المضخات؛ له ما يشابهه كجزء من محرك السياط من دون تطابق، وهو يعمل باستقلالية لدى كائنات مجهرية أخرى ليس لها سياط، وعدد بروتيناته تقدر بحوالي ثلث ما لدى السوط، أي حوالي عشرة بروتينات. لذلك اعتبر ان لهذا الجزء وظيفة مثلما للسوط وظيفة؛ كردّ على قاعدة بيهي في التعقيد غير القابل للاختزال[82]. بمعنى ان أي نظام معقد سيكون قابلاً للاختزال والتبسيط وفق المعيار الطبيعاني.

وحقيقة سبق ان نقد مازكي فكرة ماكناب المتعلقة بهذه النقطة بالخصوص. ففي عام 1978 صرح ماكناب بأن أياً من مكونات السوط سوف لا تعمل، بل وتكون من دون فائدة. لكن مازكي دلل على خطأ هذه الفكرة بعد الكشف عن نموذج النظام الافرازي الثلاثي[83].

وقد وظف دوكينز مقالة ميلر لأهميتها كدليل على فشل محاولة بيهي، مؤكداً بأنه لاثبات التعقيد غير القابل للاختزال يجب اثبات عدم فائدة أي جزء من النظام بمفرده كالذي أكّد عليه ميلر. لكن دوكينز زاد بما لم يتجرأ عليه الأخير، فاعتبر النظام الافرازي من النوع الثالث كان مع قطع أخرى تعمل قبل ان تتطور جميعها إلى المحرك المروحي للسوط[84]. وهو خطأ فادح لم يتورط به ميلر ولا غيره من علماء الأحياء المعتبرين.

وأصبح من المعلوم ان النظام الافرازي لم يسبق وجود السوط البكتيري من حيث النشأة التاريخية. ومن ثم لا يمكن ان يكون الأصل في تطور السوط. فتاريخياً ان الأخير ربما نشأ عنذ بداية الحياة قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة مضت، فيما لم يكن بالإمكان ان يظهر النظام الافرازي إلا بعدما ظهرت الكائنات الحية ذات الخلايا المتعددة، قبل العصر الكامبري بقليل، وبالتحديد منذ العصر الايدياكاري (الفندي)، أي قبل أقل من (600) مليون سنة، كما تدل على ذلك وظيفته الطفيلية المعتمدة على وجود الكائنات الحية ذات الخلايا المتعددة من الحيوانات والنباتات التي يحقن فيها السم، في حين لم يكن لها وجود قبل تلك الفترة. لذلك لا يوجد أدنى احتمال بعدم إمكانية اختزال أصل السوط إلى النظام الافرازي الثلاثي، وإن كان البعض يحتمل العكس، بمعنى ان النظام الافرازي هو ما نتج عن السوط بعد ان فقد جزءاً منه.

وسبق لماكناب وآخرين ان احتملوا أواخر تسعينات القرن الماضي ان يكون السوط متقدماً تاريخياً على النظام الافرازي الثلاثي، وان الأخير مشتق منه.

كما ذهب بعض الباحثين إلى احتمال أن يكون للسوط البكتيري والنظام الإفرازي من النوع الثالث أصل تطوّري مشترك، أدّى إلى تَشكُّلهما بشكلٍ متوازٍ، كما اقترح ذلك عالم البكتيريا أيزاوا Aizawa في عام 2001، والذي أشار إليه مازكي[85].

ومن وجهة نظر خلقوية قد لا تكون العلاقة بين السوط والنظام الافرازي الثلاثي علاقة تطورية أو علاقة سلف بخلف، بل قد تعبّر عن وجود أدوات مشتركة في الأصل لبنائهما، مثل أدوات البراغي التي تصلح للعمل في كل من السيارة والطائرة والدراجة النارية وغيرها. ومثل الترانزسستور الذي يصلح للعمل في عدة أجهزة كهربائية والكترونية كالراديو والتلفاز والحاسوب وغيرها..

وعموماً ان السوط والنظام الافرازي الثلاثي كلاهما معقدان ويحتاجان إلى تبسيط وفقاً للمنهج الاختزالي الطبيعاني. كذلك لا ينجح هذا المنهج ما لم يوضح كيف يمكن ملأ فراغات البروتينات الواقعة بين السوط وهذا النظام.

وبحسب النموذج الدارويني فإنه لو تقدمنا خطوات بسيطة مثل ان تتكون البروتينات واحدة تلو الأخرى، ففي كل خطوة سوف نحصل على وظيفة ما للجزء الحيوي حتى نصل في النهاية إلى الوظيفة المعروفة للسوط. لكن ما الذي يضمن ان تكون الاضافة البروتينية تؤدي دائماً إلى وظيفة معينة دون انحراف أو تشويه أو تدمير الجزء الحيوي كلياً؛ شبيه بما هو حاصل في حالة التضخم السرطاني؟ وستتبين صعوبة هذا المسلك للتراكم الكمي الوظيفي عند تناولنا عمل بيهي الجديد ضمن معيار حساب عدد خطوات الترابط.

ما الذي استهدفه بيهي في الصندوق؟

لقد استهدف بيهي في (صندوق داروين الأسود) أمرين هامين كالتالي:

أولاً:

تفنيد بيهي للأسس التي قامت عليها الداروينية بصيغتها المعروفة، رغم اعتقاده بنظرية التطور عموماً، بل ورأى ان الدليل العلمي يدعم بقوة فكرة السلف المشترك[86]، كما تقبّل ما تقوم به الطفرات والانتخاب الطبيعي من تغييرات بسيطة مثلما يحصل في مقاومة الفايروسات والبكتيريا وغيرها للمضادات الحيوية، بل واعترف في دراسات لاحقة ان الطفرة العشوائية والانتخاب الطبيعي يمكنهما تفسير العديد من التغيرات الصغيرة في الحياة، وليس فقط التغيرات في المسالك الاستقلابية غير المرئية مثل مقاومة المضادات في الجرذان أو الملاريا، انما أيضاً التغيرات في شكل الحيوانات كالأحجام المختلفة للكلاب وطرز تلون أجنحة الحشرات وغيرها من العمليات التي تؤثر على المفاتيح الجينية. فالطفرة العشوائية لا تعطل هذه المفاتيح فقط؛ بل وتصنع مفاتيح جديدة[87].

ومع ذلك تبقى هذه التغيرات جزئية صغيرة، في حين ان النُظم المعقدة شيء آخر مختلف، حيث لا يمكن للطفرات الوراثية والانتخاب الطبيعي ان تصنعها بشكل تدريجي، إذ انها لا تعمل إلا عندما تجتمع أجزاؤها الضرورية معاً[88]. لذلك تعجز الداروينية الجديدة عن تفسير النُظم الخلوية المعقدة مثل النماذج المعروضة حول هدب الخلية وسوط البكتيريا ونظام المناعة وغيرها، بل وتعجز حتى عن تفسير أصل الآلات الجزيئية المعقدة في النُظم الحية.

وبعبارة ثانية لا يمانع بيهي من تقبل الأفكار الداروينية حول السلف المشترك وما تقوم به الطفرات والانتخاب الطبيعي في بعض الحالات، لكنه يمنع الحدوث العشوائي للطفرات التراكمية الأوسع من تلك التي تتضمن طفرتين، حيث يعتبر انها بحاجة إلى تدخلات من المصمم.

فمثلاً ان طفرتين منفصلتين في جينين مختلفين ويعملان سوية هما ما يجعلان الخلية تنمو، وان عمل إحداهما بمفردها لا يفعل شيئاً. وهذه الطفرات المتكيفة لا تحدث عشوائياً، وهي مخالفة للانتخاب الطبيعي. وهذا ما جعل عالم الأحياء التطوري باري هال Barry Hall يندهش ويعتبر ذلك انتهاكاً لأغلب افتراضات العلماء عن عشوائية الطفرات من حيث تأثيرها في الخلية. ومن ذلك ان طفرتين فقط محددتين يمنحان القدرة على تحليل سكر اللاكتوز في الخلية وليس غيرهما يمكنه فعل ذلك، فأي بديل لهما يسبب أضراراً شديدة جداً[89].

وما ينتهي إليه بيهي في هذا الصدد هو ان عمل الانتخاب الطبيعي لا بد من ان يأتي متأخراً عن وجود النظام الحيوي المعقد، وان دوره يتحقق في الحفاظ على وظيفة هذا النظام الناشئ. أما النظام ذاته فلا يفسره سوى التصميم الذكي.

وفي الطرف المقابل، رأى البعض ان فشل الداروينية في التفسير لا يعني انتصاراً للتصميم، إذ تبقى قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال حجة سلبية ضد التطور (الدارويني) دون ان تتمكن من اثبات التصميم، إذ ليس بالضرورة ان تكون الحجج ضد التطور صالحة لهذا الاثبات، ومن ثم فهي اختبار للتطور لا للتصميم.

وعادة ما يُتهم أنصار التصميم الذكي بأنهم لا يقدمون حالة علمية ايجابية لهذا التصميم. وقد اعترف بذلك خبير الدفاع عالم الأحياء الدقيقة سكوت مينيتش Scott Minnich في محكمة دوفر رغم انه من دعاة التصميم الذكي ويدعم قاعدة بيهي في نظام التعقيد غير القابل للاختزال.

بل ان البعض اعتبر انه إذا لم يتمكن العلماء من تفسير كيف تطورت النُظم الحيوية، فذلك لا يعني انهم سوف لا يتمكنون من شرحها مستقبلاً، كالذي أشار إليه كينيث ميلر. أو كما قال باديان Padian بأن عدم العثور على دليل ليس دليلاً على غيابه[90].

وكل ذلك جاء على خلاف ما رآه بيهي حول دلالة ما تفضي إليه قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال كرد على فشل النظرية الداروينية في تفسير النُظم الحيوية المعقدة. لكنه مع هذا لا يستبعد احتمال ان يفسر العمل المستقبلي نُظماً كيميائية حيوية معقدة بشكل غير قابل للاختزال دون الحاجة إلى استدعاء فكرة التصميم[91].

ثانياً:

يرى مايكل بيهي في "نظام التعقيد غير القابل للاختزال" دليلاً جوهرياً على صحة أطروحة التصميم الذكي، إذ يعدّه نموذجاً يجسّد الفكرة الأساسية لهذا الطرح، كما لو كان هذا النظام يمثل حالة من حالات "التعقيد المخصص Specified Complexity" بالمعنى الذي أكّد عليه ويليام ديمبسكي في كتابه (دليل التصميم The Design Inference) الصادر عام 1998، والمستند إلى أطروحته للدكتوراه.

ومن وجهة نظر بيهي، أنه قد كثرت في أواخر القرن العشرين الأبحاث الخلوية التي أصبح من الواضح جداً انها دالة على التصميم، مشيراً إلى انه ‹‹بدل ان نجد أفواه آلاف الباحثين يقولون (لقد وجدتها)، نلاحظ ان هناك صمتاً خجولاً، وان المجتمع العلمي لم يحتضن مثل هذا الاكتشاف الرائع، بل وتعامل معه باشمئزاز››. لذا حاول ان يفسر هذه الحالة ويعدد الأسباب التي أدت اليها[92].

فقد كان يدرك تماماً بأن استنتاج التصميم الذكي هو أمر تجريبي لاعتماده على الدليل المادي دون ان يكون له علاقة بالفكرة الدينية[93]، خاصة وانه يعترف بنظرية التطور، لكن ليس بمضمونها الدارويني، وانه مع آخرين لا يحددون من الناحية العلمية هوية المصمم وصفاته؛ إن كان خارقاً وخارجاً عن الطبيعة أم انه داخل في صميمها. فكما رأى ان من الممكن ان نتعرف علمياً على التصميم بشكل مستقل عن معرفة المصمم[94]. وأوضح في تعليقاته على محكمة دوفر انه ‹‹بداية من (صندوق داروين الأسود) ومروراً بشهادتي في المحكمة (دوفر)، لقد أكدت مراراً وتكراراً أنني أعتقد أن المصمم أو الصانع هو الإله. أيضاً أشرت مراراً وتكراراً إلى أن ذلك الإقرار الشخصي يتجاوز الدليل العلمي وليس جزءاً من برنامجي العلمي››[95].

وسبق لثاكستون عام 1986 ان أبدى مثل هذا المعنى في ورقة بحث بعنوان (علم النشأة: قواعد جديدة، وأدوات جديدة لمناقشة التطور)، فقد اعتبر ان العلم وإن كان بمقدوره اثبات التصميم، لكنه ليس كفيلاً بتحديد هوية المصمم، فهو يترك السؤال (إن كان هناك سبب خارجي ذكي أو داخلي) مفتوحاً من الناحية العلمية، انما تحديد ذلك يعود إلى التفكير الفلسفي أو الديني[96].

ثم قام بتطوير الفكرة في ورقة أخرى لذات العام بعنوان (الحامض النووي الدنا والتصميم وأصل الحياة)، فاعتقد بإمكانية اثبات وجود مسبب ذكي بالدليل العلمي لأصل الحياة اعتماداً على البايولوجيا الجزيئية ونظرية المعلومات، في الوقت الذي اعترف ان هذا العلم القائم على جزيئة الحامض النووي الدنا لا يرشدنا بشيء حول ما إذا كان عامل الذكاء داخل الكون أو خارجه، ويبقى تحديد ذلك يعود إلى الحجج التاريخية أو الفلسفية أو اللاهوتية، أو من خلال النظر في خطوط الأدلة ذات الصلة بمجالات العلوم الأخرى غير المتعلقة بالحامض النووي[97].

وبلا شك ان هذا التفكير هو على خلاف التعميم الذي يشاع حول أفكار أنصار حركة التصميم الذكي واتهامهم الدائم بالخلقوية وانهم يريدون احلال الدين محل العلم، وانهم اعتبروا سمات؛ مثل نظام التعقيد غير القابل للاختزال، وكذا التعقيد المخصص Specified Complexity، تتطلب معجزة مباشرة متكررة من قبل المصمم، تضاف إلى وجود القوانين الطبيعية المصممة، خصوصاً بعد قرار القاضي جونز في محكمة دوفر[98].

ومن ذلك ان دوكينز وصف بيهي بالخلقوي من دون دليل[99]. وكان بيهي يشكو من انه لسوء الحظ ان محكمة دوفر قد تجاهلت في عدد من المواقف التفرقة بين التطور والداروينية[100]، مؤكداً على ان اعتراضاته قد انصبت على الداروينية لا التطور. وهو من هذه الناحية لا يعتبر خلقوياً.

وهو في آخر ما كتبه عام 2019، أشار إلى ان مفهوم التصميم الذكي منفصل من الناحية المنطقية تماماً عن مبدأ السلف المشترك. ففكرة ان جميع الكائنات الحية الموجودة حالياً تنحدر من كائنات أخرى عاشت في الماضي السحيق؛ لا تتقبلها بعض الطوائف الدينية، وهو قد نفى ان يكون مؤيداً لها؛ لا في السابق ولا في اللاحق، إذ اعتقد بأن الأدلة الداعمة للأصل المشترك قوية، وليس لديه شك في هذا.

كما أشار إلى ان مفهوم التصميم الذكي لا يتضمن المعارضة مع ما سبق، فهو ليس مفهوماً حديثاً مرتبطاً بالمعتقدات المذهبية، بل هو فكرة قديمة يمكن ارجاعها إلى الوثنيين من أقدم الفلاسفة اليونانيين، لذا لا علاقة لهذا المفهوم بالسلف المشترك، ولا بالحفريات، أو بغيرها[101].

مع هذا اعتُبرت حجة بيهي مجرد إعادة لحجة وليام بيلي القديمة، والتي نقضها داروين عبر الانتخاب الطبيعي، سوى ان بيلي كان يحدد هوية المصمم خلافاً لبيهي والكثير من أنصار التصميم الذكي الذين رفضوا تحديد هذه الهوية من الناحية العلمية. وقد وُجّهت إلى حجة بيهي انتقادات شديدة، إذ وُصفت بأنها حجة لاهوتية مثيرة للاهتمام لكنها لا ترتقي إلى مستوى الطرح العلمي، بل عُدّت طرحاً شعبوياً يتداول بين أنصار التصميم، وقد تمّ دحضها في أوراق بحثية خضعت لمراجعة الأقران، مما أدى إلى رفضها من قبل المجتمع العلمي بأسره، كما ورد في قرار محكمة دوفر الشهيرة[102].

غير أن بيهي لم يسكت على تلك الاتهامات، بل بادر بالردّ عليها عقب صدور قرار المحكمة، كما سبقت الإشارة.

معيار عدد خطوات الترابط

منذ عام 2004 وحتى عام 2007 قام بيهي بتطوير قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال إلى معيار ضمني أدق، أطلق عليه "عدد خطوات الترابط"، في مقابل مبدأ التطور التدريجي عبر خطوات وسيطة بسيطة كما تفترضه النظرية الداروينية..

وتُعدّ فكرة "عدد خطوات الترابط" قريبة من مفهوم التعقيد غير القابل للاختزال، إذ يشتركان في التأكيد على ضرورة توافر عناصر متعددة لإنتاج نظام معيّن. غير أنّ معيار الخطوات لا يقتصر على عدّ الأجزاء، بل يركّز على عدد الأفعال المنفصلة المطلوبة لبناء ذلك النظام. وهذا التمييز بالغ الأهمية، لا سيما عندما تكون هناك حاجة لأفعال أقل لترتيب الأجزاء من خلال الترابط، مما يسمح بتحديد "حافّة التطور" بدقة أكبر مما تتيحه قاعدة التعقيد غير القابل للاختزال.

وبذلك تصبح لدينا ثلاثة معايير مختلفة، فبالاضافة إلى ما تفترضه الداروينية من التطور بخطوات توسطية بسيطة، ثمة التعقيد غير القابل للاختزال، كما ثمة معيار عدد خطوات الترابط. وإذا كان التعقيد غير القابل للاختزال يتعلق بأداة قياس غير دقيقة، فإن المعيار الجديد لعدد خطوات الترابط يتميز بالدقة الرياضية، فهو كمسطرة مقسمة إلى خطوط لقياس المليمترات.

فخلال الربع الأخير من القرن العشرين تمّ التوصل إلى ان معظم البروتينات في الخلية تعمل كفِرَقٍ يتألف كل منها من ستة بروتينات أو أكثر. ولمعظم هذه البروتينات صفة الخصوصية البالغة في اختيارها للشريك، رغم ان بعضها متعدد الخصوصية، فيكون لديها شركاء ارتباط متعددون ومتنافسون على سطوح مطابقة أو متداخلة.. ولا يجب ان يتطابق شكلا البروتين فحسب، بل ويجب أيضاً ان تكون الخصائص الكيميائية لسطحيهما متكاملة كي يتجاذبا[103].

ومن الناحية التطبيقية، يمكن المقارنة بين قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال ومعيار خطوات الترابط، فمثلاً لنفترض ان السوط البكتيري يتألف من ثلاثين بروتين، ويمكن تجزئته وفق معيار عدم الاختزال إلى قطع من البروتينات المتحدة، ولنفترض انها خمسة، وان كل قطعة يمثل فريقاً متحداً بستة بروتينات مختلفة. لذا فكل ما تبحث فيه قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال هو كيفية اتحاد هذه القطع الخمس لتكوين السوط، فهل تساعد الطريقة الداروينية على التدرج في الاتحاد قطعة فقطعة ليتم صنع السوط؟

وبحسب قاعدة نظام التعقيد غير القابل للاختزال ان التآلف بين هذه القطع الخمس معقد جداً، ولا يمكن للنهج الدارويني ان يتمكن من إنتاج سوط باتحاد القطع واحدة تلو الأخرى بالتدريج. لكن هذه القاعدة لا تبحث عن كيفية تشكل القطعة الواحدة المؤلفة من فريق البروتينات، فما هو احتمال ان تتحد ستة بروتينات مختلفة لتكوين فريق متكامل للعمل الوظيفي؟ وهذا ما يحدده معيار "عدد خطوات الترابط"، رغم أنه لا يتعدى قاعدة عدم الاختزال. كل ما في الأمر انه أصبح من الممكن قياس هذا الترابط من الناحية الاحتمالية وفقاً لمبدأ رولاند فيشر Ronald Fisher في احتمالات الوراثة السكانية (الجمهرية) Population genetics.

فكما لوحظ في تجارب فضاء الأشكال الخاصة بربط البروتينات انه لكي يرتبط بروتين ببروتين آخر علينا ان نتوقع ضرورة البحث في عشرات ملايين التسلسلات الطافرة قبل ان نصادف بحسن الحظ تسلسلاً طافراً يلتصق ولو بقوة معتدلة، وحيث ان معدل الطفرة منخفض جداً لذا لا بد من البحث في عدد ضخم من الكائنات الحية قبل ان نقع على ذلك الكائن[104].

ويعود الأصل في اكتشاف هذه الحقيقة إلى أعمال كل من عالم فسيولوجيا النبات فرانك سالزبوري وعالم الوراثة جون ماينارد سمث John Maynard Smith. ففي عام 1969 كتب سالزبوري مقالاً في مجلة الطبيعة Natur بعنوان (الانتخاب الطبيعي وتعقيد الجين)، وأظهر في المقال ان التعقيدات الحيوية لا يمكن ان تأتي بفعل غير موجه كالانتخاب الطبيعي، ثم أعقبه بعد سنتين بمقال آخر عنوانه (شكوك حول النظرية التركيبية الجديدة للتطور).

وبدءاً من المقال الأخير إلى آخر ما صدر عنه من كتب ودراسات، أخذ سالزبوري يصرح بوجود مصمم إلهي وراء التعقيدات الحيوية باعتبارها تندّ عن أن تفسر بأي آلية مادية أو طبيعية.

وعلى أثر المقال الأول لسالزبوري، كتب ماينارد سمث عام 1970 خطاباً بعنوان (الانتخاب الطبيعي ومفهوم فضاء البروتين)، وقد تضمن الرد على محاولة سالزبوري في علاج مشكلة البروتين باعتماد مبدأ فيشر في احتمالات الوراثة السكانية دون اللجوء إلى فكرة التوجيه بمختلف أشكالها. فقد بدأ خطابه في جملته الافتتاحية حول ما أشار إليه سالزبوري من وجود تناقض واضح بين مفهومين أساسيين في البايولوجيا؛ هما الانتخاب الطبيعي وفضاء البروتين Protein Space. في حين لم يجد ماينارد سمث أي تناقض بين المفهومين، بل كانت مقالته تدعم الانتخاب الطبيعي مع تطويره لفكرة فضاء البروتين التي أبدعها سالزبوري.

وبحسب منهج ماينارد سمث انه يمكن للانتخاب الطبيعي ان يصنع بروتينات وظيفية عبر الطفرات اعتماداً على المنطق الاحتمالي لمبدأ فيشر في الوراثة السكانية. فوجود فضاء منظم لتسلسلات بروتينات وظيفية متجاورة يسمح بأن تعمل بعض الطفرات على تغييرها، ومن ثم يرشح الانتخاب الطبيعي البروتينات عالية التخصص والصالحة للتلائم مع البيئة. ورغم ان معظم تسلسلات الأحماض الأمينية لا تشفّر بروتينات وظيفية؛ لكن مع هذا فإن بإمكان التطور ان يصنع هذه الأخيرة ولو بكميات قليلة جداً. فمع ان احتمال صنعها منخفض للغاية؛ إلا أننا نعلم بأن العديد منها اليوم هي في الغالب نتاج للتغيرات التدريجية خلال بضعة مليارات من السنين.

وقد اقترح ماينارد سمث مثالاً يتعلق بلعبة الكلمات، لتبسيط ما يحدث من تحول تدريجي في البروتينات الوظيفية، وذلك بتحويل كلمة ذات معنى إلى أخرى مثلها عن طريق تغير حرف واحد فواحد بالتدريج، حتى يتم تغيير الكلمة إلى أخرى ذات معنى. والمثال الذي استخدمه هو تحويل كلمة (WORD) إلى كلمة (GENE). واقترح تحقيق ذلك من خلال الخطوات الخوارزمية الأربع التالية[105]:

WORD → WORE → GORE → GONE → GENE

واستهدف من هذا التشبيه، الذي طوّره دوكينز فيما بعد، ان يدحض المقالة القائلة ان الانتخاب الطبيعي غير كاف لتطوير جزيئات بروتينية عالية التخصص ومتكيفة وظيفياً. فيما رأى أن الجزيئات الوظيفية ليست متموضعة عشوائياً، بل انها متصلة داخل شبكة (مثل الكلمات في اللعبة)، مما يجعل التنقل بين المتغيرات الوظيفية المختلفة أكثر ملائمة. فعلى الرغم من العدد الفلكي لاحتمالات تركيب الأحماض الأمينية؛ إلا انه توجد بنية ناشئة (مشفرة في فضاء البروتين) كافية للتطور التكيفي عن طريق الانتخاب الطبيعي[106].

هذا ما يراه ماينارد سمث دون ان يبين من الناحية الاحتمالية إن كان ما يقوله يتناسب مع الزمن البايولوجي، فهل يمكن للطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي ان يخلقا بروتينات وظيفية جديدة خلال زمن معقول من الحياة، رغم ان الجينات والبروتينات الوظيفية هي في غاية الندرة وتقاس نسبتها بالأرقام الفلكية مقارنة بالارتباطات الأخرى؟

وتعبيراً عن هذه الندرة تمكّن دوكلس أكس Douglas Axe عام 2002 من تحديد احتمال ان يتشكل البروتين الوظيفي من تسلسلات الأحماض الأمينية بمعيار قدره (10-74)، وهو يزيد على معيار مايكل دنتون الذي قدره بحوالي (10-40) منتصف ثمانينات القرن العشرين[107]. لذلك فالأمر معقد للغاية وليس سهلاً.

ويلاحظ أيضاً ان ماينارد سمث لم يتطرق إلى مشكلة أصل المعلومات التي تضطلع باصطناع البروتينات، وهي الناحية التي تضمنتها مقالة سالزبوري. فقد قدّر الأخير أن الحساء البدائي الافتراضي يحتوي على (1085) من جزيئات الدنا (DNA) المكررة، ولكي تحصل فرصة للانتخاب الطبيعي ان ينتج جزيء (DNA) افتراضي قابلاً لأن يشفر إنزيماً أساسياً في مسار التمثيل الغذائي فسيحتاج إلى احتمال قدره (10-415). ورغم ان سالزبوري يعترف بأن هذه النتيجة هي مجرد تخمينات تقديرية، لكن أساس حجته قائمة على عبثية قدرة الانتخاب الطبيعي على ان يفعل شيئاً مع مثل هذه الاحتمالات المنخفضة[108].

لم ينتهِ الجدل الذي بدأ مع ماينارد وسالزبوري، وامتد لاحقاً إلى ساحة السجال بين أنصار الداروينية وخصومها، حول ما إذا كانت الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي كافيين لتفسير نشأة وتطور التعقيدات الحيوية، أم أنّ الأمر يقتضي اللجوء إلى فرضية التطوّر المُوجّه.

فقد أبدى ماينارد وآخرون من دعاة التطور تفاؤلهم بإمكانات الطفرات الوراثية والانتخاب الطبيعي في توليد البُنى البروتينية المعقّدة، مستندين إلى شواهد كظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، حيث تمكّن علماء الوراثة السكانية من استخدام تقنيات جزيئية لهندسة إنزيم بكتيري مع توليفات منتخبة من طفرات تمنح مقاومة لتلك المضادات[109].

في المقابل، يذهب المعترضون إلى أن هذه الطفرات لا تمثّل سوى تحولات بسيطة، يمكن تفسيرها ضمن حدود التغييرات الدقيقة التي يُحدثها الانتخاب الطبيعي في بعض البروتينات، بما يجعلها أقل قابلية للارتباط بالمضاد الحيوي، ومن ثم تُفقده فعاليته. وهذا، بحسبهم، لا يُقارن بما تتطلبه البنى البروتينية المعقدة، التي تنشأ من تضافر عدد كبير من الجينات الوظيفية ذات العلاقات البنائية المعقدة.

وكما أشار عالم الخلية أمبروز عام 1982 إلى أنّه لا ينبغي النظر إلى الطفرات الجينية كأحداث عشوائية بالكامل تعمل دون ضابط متحكم، مؤكداً أن من المستبعد للغاية أن تتمكن أقل من خمس جينات من إنشاء أبسط بنية حيوية جديدة غير مسبوقة. وإذا علمنا أن احتمال أن تكون الطفرة العشوائية الواحدة غير مضرّة لا يتجاوز واحداً في الألف، فإنّ احتمال حدوث خمس طفرات مؤاتية معاً يعادل هذا الرقم مضروباً في نفسه خمس مرات، أي احتمالاً ضئيلاً للغاية.

وهذا يعني ان احتمال تشكيل هذا الجناح عشوائياً سيحظى بما لا يقل عن قيمة قدرها (10-150). وهو مقدار لا يسعه جميع حوادث الكون منذ نشأته قبل حوالي (14) مليار سنة.

وقد كشفت دراسات على ذبابة الفاكهة أن عدداً كبيراً من الجينات المتكاملة يُسهم في تكوين بنى عضوية مستقلة. فعلى سبيل المثال يشارك ما بين (30 إلى 40) جيناً في بناء جناح واحد فقط لهذه الذبابة[110]. وهذا يعني أن احتمال نشوء هذه البنية المعقدة عشوائياً لا يقل عن قيمة قدرها (10-150)، وهو رقم يتجاوز بكثير ما يسمح به الزمن الفيزيائي المتاح منذ نشأة الكون قبل نحو (14) مليار سنة.

وهذه هي ذات الحجة التي تمسك بها مايكل بيهي، والتي انحاز فيها إلى نهج سالزبوري في عدم إمكانية الطفرات والانتخاب الطبيعي ان يفسرا التعقيدات الحيوية استناداً إلى ذات المبادئ التي اعتمدها ماينارد سمث ومن بعده امبروز ومن قبلهما سالزبوري في احتمالات الوراثة الجمهرية.

ففي عام 2004 قدّم بيهي والفيزيائي ديفيد سنوك ورقة مشتركة بعنوان (محاكاة التطور عن طريق النسخ الجيني لخصائص البروتين التي تتطلب العديد من بقايا الأحماض الأمينية)، وقد أبدى الباحثان تشككهما في افتراض ان تكون العمليات الداروينية هي المسؤولة عن تطور النُظم الكيميائية الحيوية المعقدة، مستعينين في ذلك بما يمكن ان تفعله الطفرة العشوائية والانتخاب الطبيعي في بنية البروتين وفقاً لمنهج فيشر في احتمالات الوراثة الجمهرية، وقد توصلا إلى أن تقدير احتمال أن تُنتج الطفرات المتعددة بروتيناً وظيفياً، ومن ثم معلومات وراثية جديدة، هو في غاية الضعف ولا يتناسب مع المقادير الزمنية المعقولة للتطور البايولوجي[111].

ثم بعد ثلاث سنوات قام بيهي بتطوير الفكرة في كتابه (حافة التطور) استناداً إلى المنهج ذاته. وجاء فيه أن تقدير احتمال الحصول على مقر رابط لبروتينين عشوائياً هو حوالي (10-20)، وعلى مقرين رابطين لثلاثة بروتينات مختلفة هو (10-40) كائن. والعدد الأخير هو أعظم من ولادة جميع الخلايا منذ نشأة الأرض إلى يومنا هذا.

ومن وجهة نظر بيهي، فإن ترابط ثلاثة بروتينات مختلفة نوعياً أو أكثر هو مما يتجاوز تماماً حدود ما يمكن أن تفسّره العمليات الداروينية. في حين ان أغلبية بروتينات الخلية تعمل في سلاسل معقدة مكوّنة عادة من ستة إلى سبعة بروتينات مترابطة، مما يجعل التفسير الدارويني ـ في مثل هذه الحالات ـ مستحيلاً[112].

هذا ناهيك عن وجود تراكيب حيوية أعقد بكثير، كما هو الحال مع أهداب الخلية والسوط البكتيري. ففي السوط عشرات الأجزاء البرويتينة المترابطة، وفي الأهداب مئات الأجزاء[113].

ورغم أن هذه الحقائق باتت جلية لدى علماء الأحياء، فإن كثيراً من دعاة الداروينية لا يزالون يهوّنون من وطأة الإشكال، رافعين شعار: إن التعقيد ـ في حدّ ذاته ـ ليس عقبة بالضرورة أمام النظرية. فمن هؤلاء من اختلف مع الحسابات الرياضية التي قدّمها بيهي، لكن تبقى الأعداد كبيرة جداً لا يطالها الزمن وحجم الجمهرة السكانية للكائنات الحية، ومن ذلك الاعتراض الذي طرحه الرياضي وعالم الوراثة السكانية مايكل لينش Michael Lynch على ورقة بيهي مع سنوك عام 2004، مستعيناً بفكرة "الطفرات المحايدة" كمنقذ، وأيده في ذلك الكاتب يوجين كونين Eugene Koonin.

ومعلوم ان الطفرة المحايدة تحصل - بحسب الاصطلاح العلمي - عندما يكون تأثير الطفرة النافعة أو الضارة ضئيلاً جداً بحيث يساوي أقل من واحد على حجم الجمهرة السكانية، لهذا لا يعمل عليها الانتخاب الطبيعي، ولا يكون لها تأثير على مبدأ البقاء.

 

 

وقد استندت إلى هذا المفهوم نظرية التطور المحايد Neutral Theory نهاية الستينات من القرن العشرين، حيث افترضت أن غالبية الطفرات في الكائنات الحية ليست ضارة ولا نافعة، بل محايدة. وكان من أبرز من دافع عن هذه الفرضية عالم الوراثة الياباني موتو كيمورا Moto Kimura عام 1968، ومن بعده عالم الوراثة السكانية مايكل لينش، كما في كتابه (أصول هندسة الجينوم The Origins of Genome Architecture) عام 2007، إذ اعتبر التطور عملية جينية سكانية كالذي يسعى علم الوراثة السكانية لفهمها من خلال ترددات النمط الجيني[114]. ولهذا السبب عنون بعض فقرات كتابه بعبارة لافتة: ‹‹ لا شيء في التطور منطقي إلا في ضوء علم الوراثة السكانية››[115].

والمهم في نقد مايكل لينش أنه سعى إلى تقليص الحساب الرياضي، بتحويله من حالة تفترض غلبة الطفرات الضارة ـ كما يرى بيهي ـ إلى حالة تُرجّح كفة الطفرات المحايدة.

لكن ردّ بيهي كان واضحاً، إذ اعتبر أن الحصيلة النهائية في الحالتين تبقى على حالها، فالحساب يظلّ ضخماً ولا يمكن تعويضه بحجم الجمهرة السكانية، ولا بالزمن الجيولوجي المتاح. واستند في ذلك إلى حجة مفادها أن الحاجة إلى مجرد طفرتين لتوليد مزية جديدة ونافعة، تكفي لإحداث قفزة نوعية لا تقوى عليها الآلية الداروينية؛ سواء قوربت بمنطق الطفرات الضارة، أو بمنطق الطفرات المحايدة. فكيف يكون الحال إذا اقتضى الأمر أكثر من طفرتين؟!

بل أضاف ناحية أخرى، هي انه كلما زادت التغييرات المطلوبة، ازداد الأمر سوءاً بشكل كبير. وهي مشكلة لا يمكن التغلب عليها من قبل التطور غير الموجّه.

وأضاف بيهي جانباً آخر للجدل، وهو أن تعاظم التغييرات المطلوبة يؤدي إلى تفاقم المشكلة بوتيرة متسارعة، تجعل من المستحيل تجاوزها ضمن إطار التطور غير الموجّه. فإتلاف الجين ـ على سبيل المثال ـ لا يتطلب سوى ضربة واحدة قاتلة. ولأن الطفرات الفردية ستظهر بشكل أسرع، فهذا يعني أن نوع الطفرات الضارة والمفيدة التي كشفت عنها الأبحاث الحديثة سوف تظهر وتنتشر بسرعة خاطفة أشبه بوميض البرق قبل اكتمال أي ميزة تطورية مفيدة[116].

كما رأى الباحثان كيرشنر وجيهارت في كتابهما (معقولية الحياة: حل معضلة داروين) عام 2005 ان أي مدخل يشغّل الجينة المنظمة الرئيسية لنماء العين في ذبابة الفاكهة - مثلاً - سيشغّل النظام ويبني العين. وهو ما جعل بيهي يرد عليهما وعلى غيرهما من حيث ان الأسئلة التطورية العميقة والأساسية ظلت حتى الآن بلا حل من قبل الداروينيين. فظهور الحيوانات متعددة الخلايا وعمليات البنى المستجدة لم يتم شرحها حتى الآن[117]. هذا بالاضافة إلى عجز فهم كيف نشأت الأجهزة الدقيقة في النظام الخلوي، فالشفرة الوراثية وترجمتها ومفاتيح الجينات المشغلة، مع صناعة البروتينات ومركباتها المعقدة في تكوين البنى الخلوية المختلفة، ما زالت غير مفهومة تماماً، ولا يوجد جواب يحل لغز نشأتها وفهم آليات تشكلها، خاصة وانها منفردة دون ان يكون لها نظير في المادة غير الحية للكون كله.

ويمكن تعميم هذا الرد على رأي العالمين الداروينيين بول ارلش وريتشارد هولم الذين صرحا بعدم الحاجة إلى معرفة تفاصيل تطور جناح الطائر وعنق الزرافة وعين الفقاريات وبناء أعشاش بعض الأسماك وما إلى ذلك، حيث كل البنى المعقدة وغيرها من الأنماط السلوكية يمكن ان تتكون بمثل ما يحدث في حالة الأسوداد الصناعي Industrial melanism [118].

ولا شك في بطلان هذا التصوّر، إذ ثمّة فارق جوهري بين ما ينجزه الانتخاب الطبيعي من تحوّلات بسيطة، وبين ما تتطلّبه التكوينات الوظيفية المعقّدة من تآزرٍ دقيق بين الجينات والبروتينات، لخلق أنماط جديدة لم تكن موجودة من قبل.

ومن ثم ما زالت هذه الإشكالية قائمة، إذ لا توجد آلية تطورية محكمة يمكنها تفسير النظم الحيوية المعقدة، لما تتضمنه من معلومات دقيقة على شاكلة تلك المقاسة بمقياس "البت bit" كوحدة شانون. مع اعتبارات مضافة تتعلق بالوظيفة الحيوية، مما يجعلها أشد تعقيداً. فكل جزء حيوي فاعل ينطوي على رسالة وظيفية محددة. فعلى سبيل المثال، يُعدّ السوط البكتيري بنية صغيرة تحمل رسائل مبرمجة ترتبط بوظائف دقيقة تخص البروتينات المترابطة وذات العلاقة بحركة السوط الدورانية. وبالتالي فالمسألة لا تتعلق بزيادة البروتينات أو نقصانها. فقد تفضي مثل هذه الزيادة أو النقصان إلى تشويه الجزء الحيوي أو تدميره، وربما تهدد الكائن الحي بأكمله. فهذه الرسائل الحيوية بالغة الدقة، لا تحتمل التلاعب والعبث إلا في حدود ضيقة للغاية.

ويمكن التمثيل على ما يمكن ان تفعله الطفرة العشوائية بما يحدث من تحريف للغة التي نتعامل بها - كنصوص لها معان محددة - عند أي زيادة أو نقصان أو تغيير عشوائي في أحرفها، حيث يؤدي إلى تشويهها، وقد يفقدها المعنى بالكامل. فكيف إذا ما كانت رسائل اللغة مزدوجة التشفير كما يستخدمها الجواسيس لإخفاء المعنى السري المطلوب؟! وهذه هي سمة الرسائل المزدوجة كما تستخدمها الجينات لدى وظائفها الحيوية.

ووفق هذه الرسائل الدقيقة، تجري في الخلية آلاف التفاعلات في الوقت نفسه دون تأخير أو اختناق، ويعود ذلك إلى الدور الفعّال للإنزيمات المتخصصة التي تُسهم في تسريع هذه التفاعلات ومزامنتها وضبطها[119]. وفي بنية البروتين، يتأثر موضع كل ذرة بآلاف الذرات الأخرى ضمن الجزيء البروتيني نفسه، مما يسهم في تحديد شكله ووظيفته الكلية. وهذه التداخلات المعقدة لا يبدو أنها قابلة للاختزال التدريجي. لذلك، لجأ بعض الباحثين في هندسة البروتينات إلى تغيير هيئة بروتينية واحدة إلى أخرى مختلفة كلياً، فتطلب ذلك تغيير (28) حمضاً أمينياً في البروتين الأولي دفعة واحدة، مستخدمين خوارزميات التنبؤ بالبنية والنمذجة، دون اتباع خطوات تدريجية كما تفترض الداروينية، بل جرت وفق نمط قفزي على غرار ما ذهب إليه كوفييه[120].

من هنا كان منطق الاعتماد على الذكاء هو الفرضية الأنسب لتفسير مثل هذه الظواهر، استناداً إلى مبدأ الاحتمالات والاعتبارات العلمية. فالأجزاء الأساسية في التراكيب الحيوية تميل بطبيعتها نحو الاضطراب أو "الانتروبيا"، وتقاوم الانتظام الذي يقود إلى الوظيفة الحيوية. لذا فإن تنظيمها على هذا النحو الدقيق يستعصي من دون تدخل ذكاء خارق، إذ إنها تشبه الأقفال المعقدة ذات التشفير المتقن.


[1]    أصل الأنواع، ص299.
[2]    ريتشارد دوكينز: وهم الإله، ص131.
[3]    الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص131ـ132.
[4]    توقيع في الخلية، ص15.
[5]    مايكل بيهي: التدليل على التصميم في أصل الحياة: ضمن العلم ودليل التصميم في الكون، مصدر سابق، ص125. وصندوق داروين الأسود، ص21
[6]    صندوق داروين الأسود، ص268.
[7]    Nick Matzke, God of the Gaps, 2009. Look:http://pandasthumb.org/archives/2009/01/god-of-the-gapsin-your-own-knowledge-luskin-behe-blood-clotting.html
[8]    Michael J. Behe, Darwin Devolves, 2019, p. 6-7. Look:https://b-ok.africa/book/3701154/a58178
[9]    يمكن مشاهدة الفيديو في اليوتوب عبر هذا الرابط:https://www.youtube.com/watch?v=4sIomLV2Pqc
[10]   Nicolas Malebranche, The Search after Truth, translated by Thomas M. Lennon and Paul J. Olscamp, 1997, p. 465. Look:https://b-ok.africa/book/1313783/f7729f?regionChanged=&redirect=2404972
[11]   Baron G. Cuvier, A discourse on the revolutions of the surface of the globe, 1831, P. 59-61. Look:https://ia800306.us.archive.org/11/items/60741090R.nlm.nih.gov/60741090R.pdf
[12]Herbert Spencer, The Principles of Biology, 1910,P. 692, 632 AND 674. Look:https://www.gutenberg.org/files/54612/54612-h/54612-h.htm
[13]   George Jackson Mivart, On the genesis of species, 1871, p. 52. Look:https://ia800207.us.archive.org/29/items/Mivart1871gk14P/Mivart1871gk14P.pdf
[14]   أصل الأنواع، ص373.
[15]   http://www.veritas-ucsb.org/library/origins/quotes/irreducible.html
[16]   Matt Young and Paul K. Strode, Why Evolution Works (and Creationism Fails), 2009, p. 73. Look:https://b-ok.africa/book/984160/21e97d
[17]   Frank B. Salisbury, Doubts about the Modern Synthetic Theory of Evolution, 1971. Look:https://online.ucpress.edu/abt/article/33/6/335/9107/Doubts-about-the-Modern-Synthetic-Theory-of
[18]   Eldredge, N. & Gould, S.J. Punctuated equilibria: an alternative to phyletic gradualism (1972) pp 82-115 in "Models in paleobiology", edited by Schopf, TJM Freeman, Cooper & Co, San Francisco. Look:https://archive.org/details/B-001-004-118/page/n3/mode/2up
[19]   D'Arcy Wentworth Thompson, On Growth and Form, 1942, p. 1056. Look:https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.19130/page/n1055/mode/2up
[20]   Henry M. Morris, 1974, p. 59.
[21]   انظر الفصل الأول من:Thomas Frazzetta, Complex Adaptations in Evolving Populations, 1975. Look:https://archive.org/details/complexadaptatio00fraz
[22]   N. J. Matzke, Evolution in (Brownian) space: a model for the origin of the bacterial flagellum, 2003. Look:https://www.researchgate.net/publication/242594653_Evolution_in_Brownian_space_a_model_for_the_origin_of_the_bacterial_flagellum

[23]   Edmund Jack Ambrose, The nature and origin of the biological world, 1982. p.120-121. L00k:

https://archive.org/details/natureoriginofbi0000ambr
[24]   Barbara Forrest, Still creationism after all these years: understanding and counteracting intelligent design, 2008. Look:https://academic.oup.com/icb/article/48/2/189/1021721
[25]   A. G. Cairns-Smith, Seven clues to the origin of life, 1985, p. 70. Look:https://archive.org/details/sevencluestoorig00agca
[26]   Richard D. Lumsden, “Not So Blind a Watchmaker, 1994. Look:http://www.public.asu.edu/~jmlynch/origins/documents/lumsden1994.pdf
[27]   صندوق داروين الأسود، ص61ـ66. كذلك: التدليل على التصميم في أصل الحياة، ص128. وأجابة الانتقادات العلمية على التصميم الذكي، ضمن العلم ودليل التصميم في الكون، ص142.
[28]   Michael J. Behe, Reply to My Critics: A Response to Reviews of Darwin’s Black Box, 2001. Look:https://www.researchgate.net/publication/225871825_Reply_to_My_Critics_A_Response_to_Reviews_of_Darwin's_Black_Box_The_Biochemical_Challenge_to_Evolution
[29]   Michael J. Behe, Irreducible Complexity Obstacle to Darwinian Evolution, in: Debating Design From Darwin to DNA, Edited by William A. Dembski & Michael Ruse, 2004, p. 358-9. Look:https://ia600409.us.archive.org/7/items/Debating.Design.From.Darwin.To.DNA/William%20Dembski%20-%20Debating%20Design%20-%20From%20Darwin%20to%20DNA.pdf
[30]   H. Allen Orr, Darwin v. Intelligent Design (Again), 1996. Look:https://bostonreview.net/archives/BR21.6/orr.html
[31]   Michael J. Behe, 2001.
[32]   Douglas J. Futuyma, Miracles and Molecules, 1997. Look:http://bostonreview.net/archives/BR22.1/futuyma.html
[33]   Michael J. Behe, 2000.
[34]   انظر مثلاً: صندوق داروين الأسود، ص232ـ233 و244.
[35]   المصدر السابق، الملحق، ص350.
[36]   صندوق داروين الأسود، ص218.
[37]   مايكل بيهي: التدليل على التصميم في أصل الحياة، مصدر سابق، ص134ـ135.
[38]   انظر التفاصيل في: صندوق داروين الأسود، ص35ـ40.
[39]   Michael J. Behe, 2004, p.368.
[40]   James A. Shapiro, In the details...What?. Look:https://shapiro.bsd.uchicago.edu/Shapiro.1996.Nat%27lReview.pdf
[41]   Michael J. Behe, 2004, p. 356.
[42]   Jerry A. Coyne, God in the details, 1996. Look:https://www.nature.com/articles/383227a0
[43]   Andrew Pomiankowski, The God of the tiny gaps, 1996. Look:https://www.newscientist.com/article/mg15120474-100-review-the-god-of-the-tiny-gaps/
[44]   Michael J. Behe, 2004, p.368.
[45]   Ibid., p.368.

[46]   Noelle Lemoine, Mark Taylor Explores Complexity and the Future in New Book. Look:

https://communications.williams.edu/news-releases/mark-taylor-explores-complexity-and-the-future-in-new-book/
[47]   صندوق داروين الأسود، الملحق، ص346ـ347.
[48]   مايكل بيهي: التدليل على التصميم في أصل الحياة، ص129ـ131.
[49]   مايكل بيهي: حافة التطور، مصدر سابق، ص134 وما بعدها. وصندوق داروين الأسود، ص99-103. كذلك: التدليل على التصميم في أصل الحياة، ص132 وما بعدها. أيضاً:Michael J. Behe, 2004, p. 354.
[50]   N. J. Matzke, 2003.
[51]   David J. DeRosier, The Turn of the Screw: Minireview The Bacterial Flagellar Motor, 1998. Look:https://www.cell.com/action/showPdf?pii=S0092-8674%2800%2981141-1
[52]   Alan L. Gillen,The Genesis of Germs: The Origin of Diseasesand the Coming Plagues, 2007. Look:https://www.nlpg.com/mwdownloads/download/link/id/171/
[53]   David J. DeRosier, 1998. Also: Steven Devowe, The Amazing Motorized Germ, 2004. Look:https://answersingenesis.org/biology/microbiology/the-amazing-motorized-germ/
[54]   N. J. Matzke, 2003.
[55]   David J. DeRosier, 1998.
[56]   N. J. Matzke, 2003.
[57]   وهم الإله، ص132.
[58]   Alan L. Gillen,The Genesis of Germs: The Origin of Diseasesand the Coming Plagues, 2007.
[59]   التطور: نظرية في ازمة، ص276.
[60]   التطور: نظرية ما يزال في ازمة، ص265.
[61]   N. J. Matzke, 2003.
[62]   Mark John Pallen and Nicholas Matzke, From The Origin of Species to the origin of bacterial flagella, 2006. Look:https://www.researchgate.net/publication/6837294_From_The_Origin_of_Species_to_the_origin_of_bacterial_flagella/link/004635140571b441ce000000/download
[63]   الأفكار الخمسة التي تتضمنها الداروينية كما ذكرها ارنست ماير في (ما هو التطور) هي:1. عدم ثبات الأنواع (النظرية الأساسية للتطور).2. انحدار جميع الكائنات الحية من أسلاف مشتركة.3. تدرج التطور من دون قفزات.4. تكاثر الأنواع (أصل التنوع).5. الانتخاب الطبيعي.انظر:Ernst Mayr, What Evolution Is, 2001, p. 94. Look:http://library.lol/main/A086B17532D3AACF82F526841D860D52
[64]   Michael J. Behe, 2019, p. 236-238.
[65]   Renyi Liu and Howard Ochman, Stepwise Formation of the Bacterial Flagellar System, 2007. Look:https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1852327/
[66]   Nick Matzke, Flagellum evolution paper exhibits canine qualities, 2007. Look:https://pandasthumb.org/archives/2007/04/flagellum-evolu-1.html
[67]   Michael J. Behe, 2000.
[68]   Michael J. Behe, 2001.
[69]   Kenneth R. Miller, Finding Darwin's God, 1999. Look: https://b-ok.africa/book/3726074/224b4f
[70]   Michael J. Behe, 2000.
[71]   Taylor and Others, Evolutionary resurrection of flagellar motility via rewiring of the nitrogen regulation system, 2015. Look:https://science.sciencemag.org/content/347/6225/1014.full?utm_campaign=email-sci-toc&utm_src=email
[72]   Michael Behe, "Resurrected" Flagella Were Just Unplugged, 2015. Look:https://evolutionnews.org/2015/03/resurrected_fla/
[73]   In the United States District Court for the Middle District of Pennsylvania, p. 78.
[74]   إعادة المحاكمة، 2017، ص86ـ89.
[75]   Michael J. Behe, 2019, p. 174.
[76]   صندوق داروين الأسود، الملحق، ص348ـ349.
[77]   H. Allen Orr Responds, 1997. Look:https://bostonreview.net/archives/BR22.1/orr.html
[78]   Kenneth R. Miller, Only a Theory: Evolution and the Battle for America's Soul, 2008, p. 60-1. Look:https://b-ok.cc/book/11919835/488e94
[79]   مايكل ريوس: تشارلس داروين، ص295.
[80]   Michael J. Behe, 2004, p. 353 & 366.
[81]   William A. Dembski, No Free Lunch: Why Specified Complexity Cannot Be Purchased Without Intelligence, 2002, p. 470. Look:https://b-ok.cc/book/16754858/d7a320
[82]   Kenneth R. Miller, The Flagellum Unspun: The Collapse of Irreducible Complexity, 2004. Look:https://chem.tufts.edu/AnswersInScience/MillerID-Collapse.htm
[83]   N. J. Matzke, 2003.
[84]   وهم الإله، ص133ـ134.
[85]   N. J. Matzke, 2003.
[86]   صندوق داروين الأسود، ص231ـ232.
[87]   حافة التطور، ص259.
[88]   صندوق داروين الأسود، ص231ـ232 ، والملحق: ص351.
[89]   مايكل بيهي: اجابة الانتقادات العلمية على التصميم الذكي: ضمن العلم ودليل التصميم في الكون (مؤتمر 1999)، ص145ـ151.
[90]   In the United States District Court for the Middle District of Pennsylvania, p. 72.
[91]   Michael J. Behe, 2000.
[92]   صندوق داروين الأسود، الملحق، ص306.
[93]   مايكل بيهي: التدليل على التصميم في أصل الحياة، ص136.
[94]   صندوق داروين الأسود، ص260.
[95]   مايكل بيهي: هل التصميم الذكي علم أم لا؟، ضمن: اعادة المحاكمة، ص93.
[96]   إعادة المحاكمة، ص25 وما بعدها.
[97]   Charles B. Thaxton, 1986.
[98]   https://en.wikipedia.org/wiki/Intelligent_design
[99]   ريتشارد دوكينز: وهم الإله، ص131.
[100] إعادة المحاكمة، 2017، ص89.
[101] MICHAEL J. BEHE, 2019, p. 125.
[102] In the United States District Court for the Middle District of Pennsylvania, p. 78-89.
[103] حافة التطور، ص161ـ169.
[104] المصدر السابق، ص178.

[105] C. Brandon Ogbunugafor, A Reflection on 50 Years of John Maynard Smith’s “Protein Space”, 2020, vol. 214 no. 4, p. 749-754. Look:

https://doi.org/10.1534/genetics.119.302764 

[106] C. Brandon Ogbunugafor and Daniel L. Hartl, A New Take on John Maynard Smith's Concept of Protein Space for Understanding Molecular Evolution. Look:

https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5063322/
[107] Douglas Axe, 2016, p. 44.
[108] Frank B. Salisbury, 1971. Also: C. Brandon Ogbunugafor, 2020.
[109] C. Brandon Ogbunugafor, 2020.

[110] Edmund Jack Ambrose, 1982. p.120-121.

[111] Michael J. Behe and David W. Snoke, Simulating evolution by gene duplication of protein features that require multiple amino acid residues, 2004. Look:https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2286568/
[112] حافة التطور، ص179ـ180.
[113] المصدر السابق، ص194.
[114] Michael Lynch, The Origins of Genome Architecture, 2007, p. 371. Look:https://b-ok.cc/book/1312414/c4b0ad
[115] Ibid., p. 370.
[116] MICHAEL J. BEHE, 2019, p. 196-197.
[117] حافة التطور، ص243ـ244.
[118] Paul R. Ehrlich and Richard W. Holm, The Process of Evolution, 1963, p. 157. Look:https://ia800200.us.archive.org/10/items/processofevoluti00ehrl/processofevoluti00ehrl.pdf
[119] جويل دو روزناي: مغامرة الكائن الحي، ترجمة احمد ذياب، المنظمة العربية للترجمة، 2003، ص169.
[120] قدر الطبيعة، ص503ـ504.
comments powered by Disqus