-
ع
+

هل نحن صنيعة فايروسات الفضاء؟ (2-3): نظرية الكون الجرثومي

يحيى محمد

تطورات نشوء فكرة الكون الجرثومي

كانت الفكرة السائدة خلال القرن العشرين وحتى مطلع الستينات، أن الغبار الكوني المنتشر بين النجوم ليس سوى حقلٍ قاحل، يخلو من أي دلائل تستحقّ البحث أو الوقوف عندها. بل كان يُنظر إليه على أنه عائق بصري لا طائل من ورائه، إذ لم يكن يُرى له من أثر سوى ما يسببه من تشويش على رصد النجوم البعيدة، فاعتُبر في نظر علماء الفلك آنذاك مصدر إزعاج أكثر منه موضوعًا جديرًا بالدرس والاستقصاء.

مع هذا بدأت أهمية الغبار النجمي تتكشف شيئاً فشيئاً بالتدريج عبر نظرية الكون الجرثومي. وكانت الخطوة الأولى تعود إلى عام 1961 عندما قام ويكراماسينج بتحديد هوية هذا الغبار؛ فاعتقد انه يتكون من ماء جليدي مختلط ببعض الشوائب؛ مثل الامونيا والميثان والمعادن. وبعد ذلك بعام نفى ان تكون حبيبات الغبار مصنوعة من الماء الجليدي، بل من الكاربون على غرار جزيئات السخام المرتفعة من حريق الحطب إلى المدخنة. وهو ما يعني ضرورة ان تتكون هذه الحبيبات في درجات حرارة مرتفعة، وان لها القابلية على البقاء في المناطق الحارة جداً بين النجوم.

وفي مؤتمر عُقد عام 1965، دافع ويكراماسينج عن نموذج حبيبات الجرافيت الكربوني، الذي اقترحه بالاشتراك مع هويل، في مواجهة فرضية جزيئات الجليد التي بدأت تفقد رواجها في الأوساط العلمية آنذاك. وكان علماء الفلك الحاضرون على اطلاع بعمله المذكور، وقد أبدى كثير منهم تعاطفًا مع هذه الفكرة الجديدة التي بدت واعدة.

أما في عام 1974 فقد تطورت فكرة ويكراماسينج من غبار الجرافيت إلى حبيبات مصنوعة من مواد عضوية هي البوليمرات، ومن بعدها البوليمرات المعقدة الحيوية، كالسكريات المتعددة، وأشار إلى انها منتشرة في كل أرجاء مجرتنا، وتمتاز بمتوسط حجم يقارب حجم البكتيريا، كما لها متوسط معامل انكسار بصري مماثل لما تتصف به البكتيريا المجففة بالتجميد.

وقد نشر هذا العالِم مقالة بهذا الخصوص في مجلة الطبيعة  Natur ضمّنها أولى التنبؤات المتعلقة بانتشار البوليمرات العضوية في أرجاء المجرة. ولحسن الحظ، صادفت هذه الفرضية دعمًا مبكراً في ذات السنة التي تمّ نشرها، إذ سارع بعض الباحثين إلى مقارنة توهّج الأشعة تحت الحمراء - الصادرة عن بعض السُدم في المجرة - بانبعاث الغبار العضوي لمركب متعدد الفورمالديهيد عند تسخينه إلى (300 كلفن)، فوجدوا تقاربًا لافتًا في النتائج، مما منح الفرضية دفعة أولى نحو التثبيت والقبول.

ثم بعد ذلك بسنوات قليلة تطورت الفكرة إلى الاعتقاد بوجود الحبيبات البكتيرية المجففة بالتجميد بين النجوم. وهذا ما ظهر في كتاب (أصل الحياة في الكون) عام 1978، وهو أول عمل مشترك يجمع بين ويكراماسينج وهويل. كما انه العمل الأول الذي تأسست فيه نظرية الكون الجرثومي، وبقيت الفكرة راسخة ضمن الكثير من الأعمال الفردية والمشتركة بين الرجلين.

وفي ذلك الوقت كانت المؤسسة العلمية تعتبر فكرة "الغبار العضوي" ليست من العلم بشيء. لكن مع بداية القرن الواحد والعشرين لم ترد أدنى معارضة للرأي القائل بأن الجزء الأكبر من الغبار بين النجوم هو عضوي، كما أشار إليه ويكراماسينج[1].

لقد كان من بين الاكتشافات المتعلقة بالغبار بين النجوم هو تميز حبيباته بأحجام مماثلة لما في البكتيريا المجوفة والجافة بالتجميد، كما في مركز مجرتنا درب التبانة. فبحسب تحليل طيف الأشعة تحت الحمراء، تبين ان حوالي (25-30%) من كل الكاربون الموجود بين نجوم مجرتنا يبدو على شكل حبيبات الغبار الجرثومي، وهو ملحوظ في مرمى البصر عند النجم العملاق في المركز، والمسمى (GCIR 7). إذ لا يمكن تمييز هذه الحبيبات طيفياً عن البكتيريا المجوفة الجافة[2]. وسبق ان تم الابلاغ عن أول كشف مؤقت في هذه المنطقة يتعلق بالأحماض الأمينية بين النجوم، مثل الجلايسين، وهو أبسط الأحماض التي يتكون منها البروتين.

كما من بين النتائج المثيرة حول هذا الغبار الحيوي، اعتقاد هويل وويكراماسينج بأن بعض أنواع البكتيريا الموجودة داخل أغلفة محددة الطول ومنتشرة في الفضاء، على هيئة غبار ومستعمرات، قد تشكّل مصدراً حقيقياً لما يصلنا من إشعاع الخلفية المايكروي Microwave Background. إذ يُعتقد أن هذه البكتيريا تقوم بتحويل ضوء النجوم إلى موجات راديوية.

ومن حيث التفصيل، ان إشعاع الخلفية المايكروي يمثل الحصيلة النهائية للصيرورة الحرارية للطاقة الناتجة عن تحوّل الهيدروجين إلى هيليوم داخل النجوم. إذ تتحول طاقة ضوء النجوم أولاً إلى الأشعة تحت الحمراء بواسطة الغبار العادي أو الطبيعي في المجرات، ثم بعد ذلك تتحلل هذه الأشعة بدورها إلى موجات راديوية عبر ما تقوم به بعض أنواع البكتيريا - كشعيرات حديدية بطول مليمتر - من امتصاص الأشعة المذكورة وإعادة انبعاثها من جديد[3]. لذلك قال هويل: يبدو من الخيال أن نقترح أن الكائنات الحية الدقيقة هي المسؤولة عن إشعاع الخلفية[4].

ويُذكر أن الإشعاع المشار إليه يُعدّ من أهم الأدلة التي احتج بها أنصار نظرية الانفجار العظيم والتوسع الكوني[5]. لكن ما يعزز موقف فرضية الكون الجرثومي هو الاكتشاف الذي حصل عام 2014، والذي أشار إلى أن الإشعاع الذي نرصده من الخلفية الكونية يعود - في حقيقته - إلى تأثير الغبار الذي يصادفه الإشعاع أثناء مروره داخل مجرتنا[6].

وبحسب نظرية الكون الجرثومي، ان الغبار الحيوي قد تم نقله إلينا عبر المذنّبات. وتمتاز الأخيرة بأنها صغيرة الكتلة نسبياً مقارنة ببقية الأجسام الفلكية، وتتحرك في نظامنا الشمسي بمدارات إهليلجية حول الشمس، وبعضها قصيرة المدى، فيما البعض الآخر طويلة[7]، وهي تمتلك هياكل داخلية هشة نسبياً؛ ما يجعلها تتفكك بشكل متقطع إلى العديد من الشظايا[8].

ويُقدّر عدد الأجسام المذنّبة في نظامنا الشمسي بنحو مائة مليار مذنّب، وهي ما تزال تحيط بالكواكب كقشرة عملاقة، وتُعد من الأجسام المتبقية من عملية تكوين كوكبي أورانوس ونبتون[9]. وتبلغ كتلتها الإجمالية ما يقارب (2910 غراماً)، فيما يُحتمل أن تحتوي مجرتنا على كتلة من هذه الأجسام تصل إلى نحو (4010 غراماً). وعند تشكّل هذه المذنّبات، فإنها تشتمل على جزيئات بكتيرية منتشرة بين النجوم، وتحتوي على نوى سائلة ناتجة عن مصادر حرارية إشعاعية داخلية. وفي غضون فترة وجيزة، ستؤدي المضاعفات المتسلسلة للكائنات الحية الدقيقة القابلة للحياة إلى تحويل جزء كبير من قلب هذه المذنّبات إلى مادة حيوية، وتُصاب هذه المادة بحالة من التجمّد، ولا يبدأ إطلاقها إلا عندما تتعرض للتسخين، كما يحدث عند مرورها ضمن النظام الشمسي الداخلي[10].

المذنّبات هي مصدر الحياة

لقد اعتبرت نظرية الكون الجرثومي ان المذنّبات هي مصدر الكائنات المجهرية الحية كالبكتيريا والفطريات الدقيقة. وعادة ما تكون هذه الكائنات في المذنّبات مجمدة، وتصل حالة التجمد إلى أقل من خمسين درجة كلفن، فيما يحدث الانصهار عند الاقتراب من الشمس عند الحضيض[11]. وخلال هذه العملية يمكن للبكتيريا والكائنات الدقيقة ان تصل إلى الكواكب الداخلية، والتي قد تنبت فيها الحياة، فيما يتم طرد بعضها للعودة ثانية إلى الفضاء بين النجوم.

ويُقدّر حوالي مائة طن متري من حطام المذنّبات للغلاف الجوي يدخل إلى الأرض يومياً، وجزء كبير منه عضوي، وينجو منه القليل من البكتيريا والفايروسات، ويُقدّر الناجي منها بحوالي (0.1 طن) يومياً قابلاً للحياة. ولو كان الناجي عبارة عن بكتيريا فستعادل (2110) تقريباً، أما لو كان جميعها جزيئات فايروسية فستبلغ حوالي (2410)[12].

وبحسب هذه النظرية، شهدت الأرض قبل حوالي أربعة ونصف مليار سنة، قصفاً عنيفاً للمذنّبات والكويكبات الصغيرة، فتحولت المواد المتطايرة، مثل الماء وثاني اوكسيد الكاربون، لتشكيل المحيطات والغلاف الجوي، وهو ما جعلها مكاناً مناسباً للحياة. فأقدم دليل على الحياة الأرضية يتزامن تقريباً مع اللحظة التي تضاءل فيها القصف المذنّبي، وهو بحسب ويكراماسينج يقع بين (3.83 و4) مليار سنة[13]. وسبق له ان قدّر بداية الحياة منذ حوالي (4.3-3.8) مليار سنة، حيث شهدت الأرض خلالها قصفاً عنيفاً بالمذنّبات والكويكبات الصغيرة[14].

وعموماً ان المذنّبات وفق هذه النظرية هي من غذّت الأرض بالحياة منذ حوالي أربع مليارات سنة، أي قبل التحديد الرسمي لبدايتها على الأرض بأكثر من نصف مليار عام[15].

أدلة الفضاء الحيوي

بداية نتساءل: هل تمتلك نظرية الكون الجرثومي أدلة كافية على وجود كائنات مجهرية في الفضاء؟ وعلى فرض وجودها، كيف تمكنت من الوصول إلى الأرض رغم وجود مخاطر الأشعة المدمرة كالتي حذّر منها كريك، واستبدلها بفكرة النقل الموجّه من قبل أذكياء فضائيين عبر مركبات غير مأهولة؟ كذلك ما هو مبرر نقل معضلة نشأة الحياة من الأرض إلى الفضاء؟ وكيف تولدت هناك؟

ومن حيث التفصيل، أصبح من المؤكد انه لا يوجد خلاف بين العلماء على وجود مواد عضوية في الفضاء. فقد ثبت أن هذه المواد متوفرة في السحب المنتشرة، وفي أغلفة النجوم المتطورة، وفي مناطق تشكل النجوم الكثيفة، وفي أقراص الكواكب الأولية، وفي المذنّبات، وعلى أسطح الكواكب الصغيرة، وفي النيازك وجزيئات الغبار بين الكواكب[16]. ويكفي وجود مواد كيميائية تحتوي على روابط الكاربون والهايدروجين لتشكل هذه المواد، وقد تشتمل أيضاً على الأوكسجين والنايتروجين وعناصر أخرى.

لكن رغم أن هذه المواد العضوية شائعة في الحياة، لكن من الممكن إنتاجها بوسائل غير حيوية. فالعثور عليها شيء، واثبات وجود الحياة الجرثومية شيء آخر، ومن ثم فهي ليست مؤشراً لازماً للحياة. لهذا ما زال الخلاف حول الأخيرة قائماً.

ومنذ نهاية السبعينات وحتى يومنا هذا، سعت نظرية الكون الجرثومي إلى اثبات هذه الحياة الفضائية عبر الكثير من الأدلة المعتبرة، مثل دليل الحفريات الخاصة بالنيازك والغبار الكوني، والصور الفوتوغرافية للمذنّبات، وأجواء طبقة الستراتوسفير، والصور الملتقطة للمريخ، ومطر الدم الأحمر، وتفشي الفايروسات دفعة واحدة في أماكن متباعدة من العالم، وغير ذلك. وسنستعرض أغلب هذه الأدلة قبل الانتقال إلى الجواب عن سائر الأسئلة المقدمة أعلاه..

1- دليل الحفريات

بدأت الافتراضات العلمية حول وجود حفريات لجراثيم حية في الظهور منذ القرن التاسع عشر، كما في بعض النيازك التي سقطت في فرنسا عام 1864. وتكرر الاعتقاد بذلك عند لحاظ آثار مماثلة في نيازك أخرى خلال القرن العشرين. لكن لا يزال الخلاف قائمًا بين العلماء حول ما إذا كانت هذه الآثار تمثل دليلًا قاطعًا على وجود كائنات عضوية، أم أنها مجرد تشابهات غير حاسمة في البنية والشكل.

ويُعد نيزك مورشيسون، الذي سقط في أستراليا عام 1969، من أهم النيازك المعنية بهذا الصدد، وقد خضع لدراسات علمية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ففي تلك الفترة، قام عالم الكيمياء الفيزيائية هانز ديتر بفلوج Hans Dieter Pflug بتحليل هذا النيزك، وتوصّل إلى احتوائه على أحماض أمينية يغلب عليها الشكل الأعسر، على غرار ما يوجد في الكائنات الحية. كما اكتشف فيه بنيات تُشبه البكتيريا، وهياكل أخرى تشبه الفيروسات المسؤولة عن مرض الإنفلونزا[17].

وسبق لبفلوج أن نشر في عام 1979 ورقة علمية في مجلة الطبيعة Nature تتضمن أدلة على وجود حفريات مايكروبية في الصخور الرسوبية بجنوب غرب جرينلاند، يُقدّر عمرها بنحو (3800 مليون) سنة. فقد أشار إلى وجود هياكل خلوية متحجرة تظهر على شكل مستعمرات حلقية، أو بشكل فردي في مراحل مختلفة من التبرعم. وفي إحدى الحالات، تحدث عن خلية تحتوي على نواة، ما يعني أنها خلية حقيقية النواة تشبه خلايا الخميرة، وهو ما يتعارض مع النموذج السائد في علم الأحياء الذي يرى أن الخلايا ذات النوى ظهرت في مراحل متأخرة من التطور البيولوجي على الأرض.

ومع أن هذه النتائج أثارت اهتمامًا علميًا واسعًا، إلا أنها ظلت موضع جدل حاد، إذ ذهب بعض الباحثين إلى أن الهياكل التي رصدها بفلوج لا تمثل حفريات عضوية، بل هي مجرد آثار بلورية. ولا يزال الجدل حول مثل هذه التفسيرات قائمًا حتى اليوم.

وفي هذا المجال، أشار هويل وويكراماسينج إلى أنه لو صدق الاكتشاف السابق، لكان يعني تقديم عمر الحياة بشكل أبكر مما هو معروف وسائد بحوالي (500 مليون) سنة. وهذا من شأنه أن يُقَلص الفترة الزمنية المتاحة لنشوء "الحساء البدائي" وفق النظريات التقليدية. إذ كانت الأرض قبل هذه الفترة عرضة لصدمات عنيفة من المذنّبات، ولذلك رأى العالِمان أن أحافير بفلوج الدقيقة قد تمثّل أول فرصة حقيقية لظهور الحياة على سطح الأرض[18].

غير أن الألفية الثالثة كشفت عن حفريات يعود تاريخ بعضها إلى ما هو أقدم من تلك العائدة إلى بفلوج. فكما ذكر ويكراماسينج أنه تمّ اكتشاف دلائل على أقدم أشكال الحياة البكتيرية على الأرض خلال السنوات الأخيرة، وتمثّلت في كريات كاربونية محصورة داخل بلورات الزركون المعدني، والمترسبة في الصخور التي تشكّلت قبل نحو (4.1 إلى 4.2) مليار سنة، في وقتٍ كانت فيه الأرض تتعرض لقصف مستمر من المذنّبات، وهي المذنّبات ذاتها التي يُفترَض أنها جلبت تلك المواد[19].

كذلك تمّ الحصول على عينات من الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير، حاوية على كمٍّ وفير من غبار المذنّبات ذي الأصل الكاربوني. وقد كشفت دراسات المسح بالمجهر الإلكتروني، مقرونةً بتحديد العناصر الكيميائية، عن أحافير حيوية مفترضة، فهي عبارة عن كرات مجوّفة ذات جدران عضوية يبلغ قُطرها نحو 10 مايكرومتر.

أيضاً تم الكشف عن وجود حفريات نيزك جزيرة سريلانكا الذي سقط عام 2012. وبحسب ويكراماسينج أظهرت صور العينة نطاقاً واسعاً من الهياكل البايولوجية المميزة كحفريات.

وبلا شك ظلت هذه الاكتشافات محل جدل بين أخذ وردّ. فمن التفسيرات البديلة للبنى الشبيهة بالحفريات، افترض البعض أنها حبيبات معدنية اكتسبت طبقات من الجزيئات العضوية عبر بعض العمليات الكيميائية اللاحيوية. فمثلاً انتجت هذه العمليات غير العضوية هياكل خيطية شبيهة بخيوط البكتيريا الزرقاء فأوهمت الباحثين انها حفريات حقيقية[20].

وفي عام 2020 اعتقد عدد من العلماء أنهم عثروا على بروتين خارج كوكب الأرض، مدسوس داخل نيزك سقط في الجزائر منذ ثلاثين عاماً، أي في سنة 1990، حيث اُعيد النظر في فحص حجر هذا النيزك باستخدام تقنية تحليل جديدة، ورجحوا ان يكون حاملاً لنوع من البرويتن. وكتب الباحثون حول ذلك بالقول: ‹‹تصف هذه الورقة أول بروتين يتم اكتشافه في حجر نيزكي››، مع أخذهم بنظر الاعتبار احتمال ان يكون ليس بروتيناً، بل نوع من جزيئات البوليمرات[21].

وخلال شهر ابريل من عام 2022 تمّ العثور على جميع اللبنات الأساسية الأربعة للحامض النووي الدنا DNA في النيازك بعد عقود من البحث. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تمّ فيها اكتشاف جميع المكونات الأربعة الرئيسية للدنا في صخور النيازك من الفضاء الخارجي. فعلى الرغم من اكتشاف قاعدتي الأدينين والجوانين في النيازك منذ حوالي خمسين عاماً، إلا أن وجود السايتوسين والثايمين في هذه الأجسام ظل بعيد المنال. وتنتمي القاعدتان النوويتان اللتان تم اكتشافهما حديثاً إلى مجموعة تسمى البيريميدين pyrimidine، في حين يتم تصنيف الأدينين والجوانين تحت مجموعة تسمى البورين purine. وبالإضافة إلى اكتشاف المركبات المتبقية داخل الدنا وجد الباحثون أيضاً آثاراً لبيريميدين آخر هو قاعدة اليوراسيل (U) التي يستخدمها حامض الرنا RNA بدلاً من الثايمين. وعلى الرغم من تحديد اليوراسيل في النيازك من قبل، فإن اكتشاف البيريميدينات الثلاثة في الصخور الفضائية يلقي ضوءاً جديداً على الندرة المحيرة لهذه القواعد النووية في النيازك مقارنة بالبورينات الأدينين والجوانين[22].

2- دليل المذنّبات

يستند هذا الدليل إلى ما تنبأت به نظرية الكون الجرثومي من وجود غبار حيوي لدى المذنّبات، وكذلك الفضاء بين النجوم. وقد تم لحاظ وجود خصائص مطابقة لهذه التنبؤات.

فبحسب هذه النظرية انه عندما يقترب المذنّب من الشمس خلال مداره تبدأ الحرارة الشمسية في تبخير المادة السطحية، وسرعان ما تبدأ الغازات المحررة المحيطة بالنواة في التوهج، مما ينتج عنه ذؤابة ضبابية تمتد عادةً إلى نصف مليون كيلومتر، وهو بُعدٌ يتوافق مع حجم الشمس. ويعمل ضوء الأشعة فوق البنفسجية القادم من الشمس مع الغاز المتحرك إلى خارج سطحها، وكذلك الغبار المتواجد في ذؤابة المذنّب، على جعل الأخير يمتط إلى ذيل يتراوح طوله من (10 إلى 100) مليون كيلومتر. وغالباً ما ينقسم هذا الذيل إلى قسمين: رقيق ناعم مصنوع من الغاز، وآخر أوسع منحنٍ مصنوع من الغبار، وهو ما يغلب عليه الحياة[23]. وعندما تتبخر المذنّبات بفعل أشعة الشمس فإنها تُنتج، بالاضافة إلى الغاز، ذيلاً من الجزيئات الصغيرة ذات الأحجام المكافئة للأحجام البكتيرية، كالذي تم اكتشافه عام 1981 ضمن أجواء كوكب الزهرة والمشتري وزحل.

فالجسيمات الموجودة في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة تمتلك معامل انكسار يماثل ذلك الذي تتميّز به الجراثيم البايولوجية. وعلى نحو مشابه، تبيّن أن الجسيمات في الغلاف الجوي لكوكب المشتري تشترك في معامل الانكسار ذاته، وتتخذ شكلًا شبيهًا بالقضيب البكتيري.

أما في ما يخص المذنّبات، فثمة مؤشرات تدلّ على احتمال احتوائها على كائنات مجهرية؛ إذ لوحظ أن الأعداد النسيية للذرات الأربع التي تكوّن الكائنات الحيّة - وهي الهايدروجين والكاربون والنايتروجين والأوكسجين - موجودة تقريبًا بالتركيب ذاته في المذنّبات. كما أن هذه الأخيرة تحتوي على كميات كبيرة من الماء، تُضاهي ما هو موجود في المحيط الحيوي Biosphere[24].

مذنّب هالي

يعتبر هالي أول مذنّب يخضع لفحص دقيق عام 1986. وقبل ذلك لم ير أحد أنوية المذنّبات، فما يُرى ذيولها فقط.

وسبق لهويل وويكراماسينج أن اعتقدا بأن المذنّبات تُعَدُّ مصدرًا لوجود العضويات الحيوية، وهو ما دفعهما إلى تقديم تنبؤات محددة بشأن خصائص مذنّب هالي، قبل أن يتم تصويره وفحصه.

فقد كان الاعتقاد السائد خلال سبعينات القرن العشرين أن المذنّبات ليست سوى كتلٍ من الثلج الأبيض القذر غير مثيرة للاهتمام. وهذا ما كرّسه نموذج عالم الفلك الأمريكي فريد لورنس ويبل Fred Lawrence Whipple. في حين توقع هويل وويكراماسينج أن تكون أسطح المذنّبات شديدة السواد، شبيهةً بالفحم المظلم، نتيجة عمليات التجوية الطويلة الأمد مع التفحّم الفعّال للبوليمرات البايولوجية. واستنادًا إلى نموذجهما الخاص بالمذنّب العضوي، فإن الغبار البكتيري عندما يغلي؛ سيتحوّل إلى مادة سوداء شبيهة بالفحم[25].

وقد سجلا مثل هذه التوقعات في نسخة أولية بعنوان (بعض التنبؤات حول طبيعة مذنّب هالي) بتاريخ 1 مارس 1986، أي قبل اثني عشر يوماً من عرض صور كاميرات مركبة جيوتو للمذنّب عندما كانت على بعد حوالي (500 كيلومتر) من نواته. في حين توقع المراقبون ان يروا مشهداً ساطعاً لحقل ثلجي على النواة بما يتفق مع نموذج "كرة الثلج القذر".

وبعد فحص الصور الملتقطة، تبيّن ان نواة المذنّب كانت سوداء بشكل مذهل، حتى وُصفت بأنها ‹‹أكثر سواداً من الفحم الأسود››، إذ كانت نسبة البياض فيه أقل من (0.01).

وكما قال ويكراماسينج: لقد كنّا العالميْن الوحيديْن الذين أجريا تنبؤاً من هذا النوع، وهو توقع جاء نتيجة طبيعية لنموذجنا العضوي للمذنّبات[26]. ثم لوحظ فيما بعد وجود مذنّبات هي أكثر قتامة من هالي[27].

لقد كان من بين الملاحظات التي أيدت فرضية هويل وويكراماسينج حول مذنّب هالي ما قام به شقيق الأخير دايال ويكراماسينج وديفيد ألين من فحص البيانات المتعلقة بطيف الأشعة تحت الحمراء لغبار مذنّب هالي، وذلك ضمن عملهما في التلسكوب (الأنجلو-أسترالي) يوم 31 مارس من نفس السنة، حيث تبيّن ان هذا الغبار يتطابق تماماً مع الطيف المختبري للغبار البكتيري الساخن. فمن المفترض ان المذنّب كان يطرد الغبار من النوع البكتيري بمعدل مليون طن أو أكثر يومياً عندما تم إجراء هذه الملاحظة[28].

هكذا اعتبر هويل وويكراماسينج أن ملاحظات هالي قد دحضت نظرية "كرة الثلج القذر" التي وضعها ويبل Whipple، رغم ان النتائج كانت محل جدل ونقاش إن كان ما ظهر يدل على الأوساخ الجرثومية أم لا.

مع هذا فقد لفت مذنّب هالي انتباه الأنظار إلى التفسير العضوي. وظهرت على أثره أوراق مخصصة في مجلة الطبيعة تهنئ العديد من الباحثين على توقع مذنّب عضوي مظلم. فيما بدا الأمر بالنسبة للباحثيْن هويل وويكراماسينج محزناً، خاصة أن خصمهما القديم عالم الكيمياء الفلكية مايو جرينبيرج Mayo Greenberg قد تم تقديمه على أنه بطل اليوم، ونُسب إليه الفضل وحده في المذنّبات العضوية المظلمة، وكما صرحا بأن ‹‹الاستشهاد بمقال كتبه جرينبيرج يرجع تاريخه إلى عام 1979 لم يحل محل أولويتنا للعمل السابق حول هذا الموضوع››.

لذلك شعرا بالغضب والانزعاج وأصدرا نسخة أولية بعنوان (التضليل المتعمد كأداة لسياسة العلوم On Deliberate Misreferencing as a Tool of Science Policy). وأشارا إلى أنهما قد وضعا الأمور في نصابها الصحيح فيما يتعلق بأولوياتهما المحددة بوضوح، وبتعليقات ساخرة موجهة إلى مجلة الطبيعة[29].

3- دليل الستراتوسفير

إن المذنّبات وفق نظرية الكون الجرثومي، تُعدّ مصدر البث والنشر الجرثومي بين النجوم في كافة أرجاء الفضاء على الدوام من دون انقطاع. ففي كل عام تصل كميات ضخمة من الجراثيم إلى الأرض، على خلاف ما اعتقده أرينيوس من ان ما يصل إلى الأرض منها يعتبر شحيحاً، وذلك لتصوره ان الفضاء بين النجوم فارغ تقريباً، وهو ما جعله يستنتج بأن من غير الممكن تمييز الجراثيم القادمة من الفضاء عن تلك الموجودة في الأرض سلفاً.

وبحسب هويل وويكراماسينج، فإن الكائنات الحية الدقيقة التي تصل إلى الغلاف الجوي العلوي - على ارتفاع 100 كيلومتر مثلاً - تبدأ بالهبوط تحت تأثير الجاذبية، غير أنها تُغربل سريعًا بحسب حجمها. فبعضها، كالبكتيريا، يمكن أن يصل إلى سطح الأرض خلال عام أو عامين. أما الجسيمات ذات الحجم الفيروسي، فإنها تبقى عالقة على ارتفاع يتراوح بين (20 و30) كيلومترًا، ضمن ما يُعرف بمصيدة الستراتوسفير، حيث يتم التحكم في نزولها بواسطة التيارات الهوائية الخاصة بهذه الطبقة، والتي تتصف بطابع موسمي، وتُسهم في إنزال الفيروسات الشائعة وسحبها نحو سطح الأرض[30].

ومن المعروف أن وكالة ناسا قد موّلت، في ستينيات القرن العشرين، سلسلة من رحلات المناطيد إلى طبقة الستراتوسفير في الولايات المتحدة الامريكية، على ارتفاعات تجاوزت أربعين كيلومترًا. وقد أسفرت تلك الرحلات عن استعادة كائنات حية دقيقة قابلة للحياة، يمكن استزراعها باستخدام وسائل بسيطة نسبيًا. وأظهرت النتائج وجود ما بين (0.01 إلى 0.1) بكتيريا حية في كل متر مكعب من الهواء، مع ملاحظة أن الكثافة تزداد مع الارتفاع[31].

وفي أواخر السبعينات، نُفّذت تجارب روسية من نمط مماثل، سعيًا للحصول على عينات بكتيرية من ارتفاعات تتراوح بين (50 و75) كيلومترًا، وقد تكللت هذه المحاولات بالنجاح.

ومع ذلك ظل الاعتراض الرئيس الذي يطرحه المشككون يتمثّل في احتمال وجود تلوّث قد صاحب تلك الرحلات[32].

وفي عام 2001، تم الكشف عن وجود عينات من الخلايا الحية في طبقة الستراتوسفير. وتم تقدير ما يدخل من مواد بايولوجية يومياً بما يتراوح بين ثلث إلى طن واحد على الأرض، وعلى أقل تقدير مائة طن سنوياً، أي (810 غراماً)، وإذا كانت هذه المواد البايولوجية على شكل بكتيريا فإن النقل السنوي لها سيقارب (2110)[33].

وفي احصاء سابق قُدّرت الكتلة الإجمالية للجراثيم التي تدخل الغلاف الجوي للأرض بحوالي (1010 غراماً) سنوياً، وهو ما يعادل (2210) من البكتيريا تقريباً، ولو كانت جميعها جزيئات فايروسية فستبلغ حوالي (2410). ومع ان قسماً منها سيفقد القابلية على الحياة أثناء الرحلة إلى الأرض، لكن كمية كبيرة منها ستصل إليها بسلام.

لذلك اعتقد هويل وويكراماسينج ان من الممكن العثور عليها وتمييزها عن تلك الموجودة في الأرض سلفاً. فوصول الخلايا وشظايا المواد الجينية عملية مستمرة ومقصودة لتوجيه السمات الرئيسية للتطور[34]. ويمكن العثور عليها في طبقات الجو العليا.

وهذا ما دعا ويكراماسينج بإعداد ورقة نيابة عن فريق عمله بعنوان (اكتشاف الخلايا الحية في عينات الستراتوسفير). وكانت هذه الورقة الأخيرة التي يشارك فيها هذا العالم مع فريد هويل الذي توفي بعدها بوقت قصير عام 2001[35].

وبعد وفاة فريد هويل بسنوات قليلة، جرى جمع عينات من الهباء الجوي على ارتفاع (41 كيلومترًا) ضمن طبقة الستراتوسفير، حيث تم استعادة ثلاثة أنواع جديدة من البكتيريا، تميّزت بخصائص مقاومة استثنائية للأشعة فوق البنفسجية. وتمّ تسمية واحدة منها على شرف هذا العالم المميز بـ "Janibacter hoylei".

وتشير التقديرات إلى أن متوسط ما يدخل يوميًّا من المواد المذنّبية إلى الأرض يبلغ نحو مائة طن. وبناءً على ذلك، يمكن استنتاج أن ما يقارب (0.001 طن) من هذه الكمية قد يكون على شكل بكتيريا قابلة للحياة تصل إلى الستراتوسفير، ومن ثم تهبط إلى سطح الأرض[36].

4- دليل المريخ

لقد سبق لهويل وويكراماسينج ان احتملا ان تكون الأرض والمريخ قد أصبحتا مزروعتين بحياة بكتيرية في الوقت نفسه تقريباً، أي منذ حوالي أربعة مليارات سنة. كما احتملا ان تكون الحياة قد بدأت على المريخ قبل ان تنتقل إلى الأرض عبر بعض أنواع الصخور المقذوفة، وذلك منذ حوالي (3600 مليون) سنة[37].

لكن ما الدليل على وجود حياة في المريخ؟ فلحد الآن لا يُعرف بشكل قطعي وجود أي نمط من أنماط الحياة البدائية في هذا الكوكب.

لقد استعان ويكراماسينج بالباحث الرئيسي في تجربة علم الأحياء على كاميرات مركبة فايكنج Viking عام 1976، وهو المهندس الامريكي جيل ليفين Gilbert Levin الذي كشف عن أشياء كثيرة غير معروفة للجمهور بشكل عام. فمثلاً أظهرت دراساته المتتابعة لسلسلة من الصور التي التقطتها كاميرات فايكنج على مدار سنة مريخية؛ وجود ظلال خفيفة من اللون الأخضر على قمم الصخور في الربيع، ثم انحسرت في الشتاء، مما يشير إلى نمو الحياة الميكروبية من نوع الأشنة أو الحزازات lichen-type.

لكن هذه النتائج التي أدلى بها ليفين جعلته غير محبذ لدى ادارة وكالة ناسا، فانفصل عنها لمتابعة تحقيقاته بشكل مستقل. وبحسب ويكراماسينج انه بعد عدة عقود من التجارب اتضح أنه لا يوجد نموذج غير بايولوجي يمكنه تفسير النتائج الإيجابية لتلك التجربة.

ففي عام 2001 تم اطلاق مسبار المريخ اوديسي Odyssey للدوران حول الكوكب الأحمر ورسم خريطة سطحه بما يحمل من هايدروجين وماء ومعادن. وحصل المسبار على صور أظهرت أدلة واضحة على وجود صقيع كثيف أو ثلوج في العديد من المواقع بما في ذلك مواقع هبوط مركبة فايكنج. مع هذا رأت وكالة ناسا أن الحياة في هذا الكوكب مستبعدة إلى حد كبير، بفعل الظروف الجوية الصعبة، ومنها مناخه الجليدي. وقد ردّ ويكراماسينج على هذه الحجة بأن بعض مناطق الأرض تشابه ما لدى المريخ من ظروف صعبة رغم أنها تحظى بالحياة، كما في جليد القطب الجنوبي وعلى أعماق ثمانية كيلومترات تحت سطح الأرض.

كما في عام 2004 حصلت المركبة الفضائية مارس إكسبرس على آثار من الميثان والأوكسجين في الغلاف الجوي للمريخ، والتي يمكن ان توحي بنشاط بايولوجي[38].

وفي عام 2011، سقط نيزك مصدره كوكب المريخ بالقرب من قرية تيسينت في المغرب، وقد تم فحصه في عام 2012، فلوحظ أنه يحتوي على ما يُشبه هياكل جرثومية متحجّرة، إذ تم اكتشاف كُريات غنية بالكاربون والأوكسجين. وتبيّن لاحقًا أن كوكب المريخ كان عامرًا بالحياة المايكروبية في مراحله الجيولوجية المبكرة، كما ذهب إلى ذلك ويكراماسينج[39].

وفي عام 2018 عثر المسبار كيوريوسيتي التابع لوكالة ناسا على أدلة جديدة محفوظة في صخور المريخ تشير إلى أن الكوكب قد يدعم الحياة القديمة، إذ تظهر النتائج وجود جزيئات عضوية صلبة "tough" في الصخور الرسوبية التي يبلغ عمرها ثلاثة مليارات عام بالقرب من السطح، بالاضافة إلى التغيرات الموسمية في مستويات الميثان في الغلاف الجوي. كما توجد أدلة جديدة في غلافه الجوي تتعلق بالحياة الحالية على هذا الكوكب. ومع أن هذه النتائج ليست بالضرورة دليلاً على الحياة نفسها، إلا أنها تعد علامة جيدة للمهام المستقبلية لاستكشاف سطح الكوكب وتحته[40].

خلاصة الأدلة

لقد رأينا وجود العديد من الأدلة التي قدّمها هويل وويكراماسينج لاثبات الكائنات الحية الدقيقة التي مصدرها الفضاء الخارجي، كما في الآثار الموجودة في النيازك، وما تحويه المذنّبات من أشكال وعناصر ونسب وعلاقات شبيهة بتلك الموجودة في هذه الكائنات، ومثلها وجود كائنات مجهرية في طبقات الأرض العلوية، وغيرها من الأدلة المعروضة أعلاه. يضاف إلى أدلة أخرى، مثل ظاهرة مطر الدم الأحمر. كما لوحظ ان في المواسم الشتوية تنتشر الفايروسات بما يقترن مع الرياح القادمة من بعض طبقات الأرض العلوية، وهي في أحيان معينة تنتشر في الأرض بشكل من الصعب تفسير ذلك طبقاً للعدوى الانتقالية، كما سنعرف لاحقاً.

ومن وجهة نظرنا، ان كل دليل مقدم من قبل هذه النظرية لا يعتبر كافياً في حد ذاته، لكن بجمع الأدلة مع بعض تصبح متعاضدة قوية. وهو ما يجعلها مرجحة على غيرها.

مخاطر انتقال الحياة إلى الأرض

بقي علينا ان نعرف ما الذي تقوله نظرية الكون الجرثومي عن المخاطر التي تواجه الكائنات الدقيقة عند انتقالها من الفضاء إلى الأرض. إذ كيف يمكن لهذه الجراثيم ان تجتاز الفضاء لتصل إلى الأرض من دون ان تصاب بالدمار وسط الأشعة فوق البنفسجية والسينية القاتلة، بالاضافة إلى درجات الحرارة المرتفعة؟ إذ كانت هذه المعضلة حاضرة لدى تفكير كريك، الأمر الذي جعله يبحث عن وسيلة أخرى موجَّهة عبر كائنات ذكية تستخدم مركبات فضائية غير مأهولة لنقل الجراثيم.

لقد اعترف أصحاب هذه النظرية بأن الخطر الرئيسي على الكائنات الحية في الفضاء يأتي من التأثير المدمر للأشعة السينية منخفضة الطاقة من النجوم[41]. لكنهم أظهروا عدداً من الميزات التي تجعل من الممكن تجنب هذه الآثار القاتلة، ومن ذلك ان أعداد البكتيريا ضخمة للغاية، وهي ذات أنواع مختلفة، ومن بينها ما يطلق عليها "المتطرفة"، من حيث تحملها للأشعة الضارة ودرجات الحرارة المرتفعة فضلاً عن المنخفضة؛ حتى تلك التي تصل إلى أكثر من (300 درجة مئوية)[42]، كذلك الحموضة والقلوية العاليتين، وقدرتها للبقاء داخل المفاعل النووي، وان لها قابلية على اصلاح ما يتلف منها بفعل الأشعة فوق البنفسجية والمؤينة (السينية)، وان الجرعات المفاجئة هي المميتة كما تحصل في التجارب المختبرية، فيما ان الجرعات التدريجية تتقبل المقاومة[43].

كما لوحظ ان العديد من الكائنات الحية الدقيقة لا يتم قتلها بواسطة الأشعة فوق البنفسجية، بل تعطيلها، إذ تحول بعض الروابط الكيميائية الموجودة في البنى الوراثية لهذه الكائنات دون تدمير الترتيبات الجينية نفسها، وهذا ما يسمح باستعادة الخصائص الأصلية بمجرد إغلاق هذه الأشعة[44]

 ومن الناحية المختبرية، تم تعريض ثلاثة أنواع من الكائنات الحية الدقيقة لمدة خمسة أيام إلى فراغ شديد يقارب الفراغ بين الكواكب، ومع هذا لم يُلحظ أي تأثير مميت[45].

كما ثبت ان البكتيريا قد صمدت على القمر لمدة عامين، عندما وُجدت على آلة التصوير بعد العودة إلى الأرض (عام 1969)[46].

كذلك لوحظ وجود كتل ومستعمرات صغيرة من البكتيريا تنتقل معاً كوحدات متكاملة محمية ذاتياً، حيث تكون الكائنات الحية الداخلية محمية بشكل جيد من الأشعة فوق البنفسجية الضارة. وتتراوح أقطار الكتل البكتيرية من هذا النوع بين (1 إلى 10) مايكرومتر، وقد تم استعادتها من طبقة الستراتوسفير حتى ارتفاع (41 كم)، حيث تتواجد بشكل طبيعي لدى هذه الطبقة العلوية؛ مثلما تبين من رحلات المنطاد في الولايات المتحدة الامريكية خلال منتصف الستينات. ومثل ذلك حصل في عام 2001، حيث تم اثبات وجود كتل من الخلايا الحية في الهواء على مثل ذلك الارتفاع ضمن هذه الطبقة. وبحسب هويل وويكراماسينج ان من المرجح ان يكون مصدر هذه المستعمرات عائداً إلى المذنّبات[47].

كما لوحظ ان فحم الجرافيت graphitoid coal كمنتج طبيعي للتحلل البايولوجي والمنتشر في الفضاء بين النجوم، يمكنه امتصاص الأشعة فوق البنفسجية؛ مثلما تبين خلال منتصف الستينات من القرن العشرين. بمعنى ان هناك حماية ذاتية تلقائية ودرعاً كاربونياً رقيقاً يأتي من نفس مستعمرات الجراثيم الكونية عند تحلل جزء يسير منها فيعمل على حمايتها[48].

يضاف إلى ما سبق ثمة نوع من البكتيريا يُعرف باسم "Deinococcus"، وهو يُشكّل مستعمرات يتجاوز حجمها المليمتر الواحد، ويتميّز بمقاومته الشديدة للإشعاع وغيره من المخاطر البيئية. وقد تم اكتشاف هذا النوع عام 1956 على يد آرثر أندرسون Arthur Anderson، حيث وُصف حينها بقدرته الفائقة على مقاومة الجرعات العالية من الأشعة القاتلة، كأشعة جاما[49]. ونظرًا لقدراته غير العادية على تحمّل البرودة والجفاف والأحماض والإشعاع، أُطلق عليه لقب "فائق المقاومة Conan the Bacterium" في إشارة إلى صلابته الأسطورية. وتُعدّ هذه البكتيريا من أكثر أشكال الحياة مقاومة للإشعاع، كما ورد في كتاب جينيس للأرقام القياسية، إذ تستطيع تحمّل كمية من الإشعاع تفوق ما يقتل الإنسان بثلاثة آلاف ضعف.

وفي دراسة حديثة أجراها فريق بحثي ياباني صُممت لاختبار فرضية البانسبيرميا، قام الباحثون بتعريض نوع البكتيريا المشار إليه خارج محطة الفضاء الدولية لمدة ثلاث سنوات (2015 - 2018). ووفقًا للنتائج، تبيّن أن بقاء البكتيريا على قيد الحياة يعتمد على سُمك المستعمرة؛ حيث أظهرت الكتل التي يزيد سُمكها عن نصف مليمتر قدرة جزئية على البقاء، إذ تموت الكائنات الدقيقة الموجودة على السطح؛ مكوِّنة طبقة واقية تحمي الخلايا الداخلية وتحافظ على حياة المستعمرة.

ورأى الباحثون أن هذه النتائج تدعم إمكانية استخدام الجسيمات الدقيقة كمركبات طبيعية لنقل الميكروبات بين الكواكب خلال فترات زمنية تمتد لعدة سنوات. ووفقًا لتقديراتهم، فإن حبيبات البكتيريا التي يزيد سُمكها عن نصف مليمتر يمكن أن تبقى حيّة في مدار أرضي منخفض خارج المحطة الفضائية لمدة تتراوح بين (15 و45) عامًا. كما توقّع الفريق أن المستعمرات التي يتجاوز قطرها مليمترًا واحدًا قد تظلّ حيّة في الفضاء الخارجي لمدة تصل إلى ثماني سنوات[50].

هكذا يتبين ان ما يقال عن مخاطر الأشعة على الحياة الجرثومية في الفضاء مبالغ فيه، وان رأي كريك حول النقل عبر المركبات الفضائية يصبح تعقيداً بلا لزوم، كالذي يراه أصحاب نظرية الكون الجرثومي. والأهم من ذلك هو ان هؤلاء أضافوا شيئاً لم يرد على بال كريك وغيره من العلماء، وهو ان التطور البايولوجي، وليس فقط نشأة الحياة، هو الآخر ناشئ بدعم فضائي لا أرضي.



[1]    Look: Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 33-46 & 73 & 112-120.

[2]    Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 31-3.

[3]    Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 32 & 189.

[4]    Fred Hoyle, 1983, p. 182-3.

[5]    للتفصيل انظر: يحيى محمد: انكماش الكون، دار العارف، بيروت، 2019.

 [6] Jake Hebert, A Fuss Over Dust: Planck Satellite Fails to Confirm Big Bang 'Proof'. Look:http://www.icr.org/article/fuss-over-dust-planck-satellite-fails

[7]    Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 44.

[8]    Chandra Wickramasinghe.. Kamala Wickramasinghe and Gensuke Tokoro, Our Cosmic Ancestry in the Stars: The Panspermia Revolution and the Origins of Humanity Paperback, 2019, Chapter 9. Look:http://libgen.rs/book/index.php?md5=F8600BE3B412672FE610D7E700C1484A

[9]    Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 143.

[10]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 115.

[11]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 55.

[12]   Ibid, p. 70-1.

[13]   Ibid, p. 41.

[14]   Comets and the Origin of Life, 2009. p. 187.

[15]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 182.

[16]   Ewine van Dishoeck, Organic matter in space - An overview, 2008. Look:https://www.cambridge.org/core/services/aop-cambridge-core/content/view/S1743921308021078

[17]   Fred Hoyle, 1983, p. 61-3.

[18]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 136.

[19]   Chandra Wickramasinghe.. Kamala Wickramasinghe, and Gensuke Tokoro, 2019.

[20]   Look: Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 134-142.

 

[21]   Michelle Starr, Scientists Claim to Have Found The First Known Extraterrestrial Protein in a Meteorite, 2020. Look:

https://www.sciencealert.com/scientists-claim-to-have-found-the-first-known-extraterrestrial-protein-in-a-meteorite

 

 

[22]  

 

[23]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 45.

[24]   Fred Hoyle, 1983, p. 73 and 87-8.

[25]   Our Cosmic Ancestry in the Stars, 2019, Chapter 1.

[26]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 173-4. Also: Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 49.

[27]   Comets and the Origin of Life, 2009. p. 129.

[28]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 50.

[29]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 175-6.

[30]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 85-6.

[31]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 155. Also: Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 87.

[32]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 87.

[33]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 207.

[34]   Fred Hoyle and N.C. Wickramasinghe, 1981, p. 57-9.

[35]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 207.

[36]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 92.

[37]   Hoyle and Wickramasinghe, 1999, p. 6-12.

[38]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 81.

[39]   Chandra Wickramasinghe, 2015, p. 105.

 

[40]   NASA Finds Ancient Organic Material, Mysterious Methane on Mars, 2018. Look:

https://www.nasa.gov/press-release/nasa-finds-ancient-organic-material-mysterious-methane-on-mars

 

[41]   Fred Hoyle, 1983, p. 94.

[42]   Ibid, p. 89.

[43]   Fred Hoyle and N.C. Wickramasinghe, 1981, p. 58.

[44]   Chandra Wickramasinghe, 2005, p. 116.

[45]   Fred Hoyle and N.C. Wickramasinghe, 1981, p. 41-9.

[46]   Fred Hoyle, 1983, p. 98-100.

[47]   Comets and the Origin of Life, 2009. p. 143.

[48]   Fred Hoyle, 1983, p. 160.

[49]   Marika Armani, Conan the bacterium, 2014. Look:http://www.eniscuola.net/en/2014/11/03/conan-the-bacterium/

[50]   Ashley Strickland, Bacteria from Earth can survive in space and could endure the trip to Mars, according to new study, 2020. Look:https://edition.cnn.com/2020/08/26/world/earth-mars-bacteria-space-scn/index.html

comments powered by Disqus