يحيى محمد
المصدر الفضائي لنشأة الحياة وتطورها
لقد ارتكزت نظرية الكون الجرثومي على الكثرة الشائعة للحياة في الكون لتفسير ما عجزت عنه النظريات الأرضية. فعمر الأرض قصير، وبركها الدافئة ضيقة لا تكفي لنشأة نظام معقد للغاية كالحياة.
وكما تبيّن، فإن الحياة لا تنشأ إلا من حياة سابقة، كما أثبتت تجارب باستور. وبناءً على ذلك، فإن الحياة على الأرض تُعدّ مدينة في أصلها إلى حياة فضائية سبقتها. ومن هنا، كان لا بد من اعتماد النهج الإحصائي، لا لتفسير نشأة الحياة على الأرض فحسب، بل وتطوّرها أيضًا؛ فكلا الأمرين يُعزى إلى مصدر فضائي.
ويُعدّ هذا المنظور مبرَّرًا، إذ إن المعضلة التي نواجهها في مسألة نشأة الحياة لا تختلف في جوهرها عن تلك المتعلقة بتطورها، ومن المفارقة الفصلُ بينهما كما يفعل معظم علماء التطور.
كما من المبرر له امكانية تعدد تطور الحياة، فضلاً عن نشأتها، استناداً إلى تواصل الزخ الجرثومي الهابط إلى الأرض من دون انقطاع.
لقد استنجدت نظرية الكون الجرثومي بالمذنّبات التي تملأ الكون كبديل للفرضيات الأرضية التقليدية. فقبل أن تتولد الحياة في أي مكان من مجرتنا كان بوسع المذنّبات ان توفر تريليونات “البرك الصغيرة الدافئة” المسخنة بطاقة الانحلال الإشعاعي والمليئة بالمياه والمغذيات العضوية. وبحسب ويكراماسينج ان أعدادها الضخمة قد تقلص العقبة الاحتمالية للحياة.
وكما أظهرت الدراسات الحديثة بأن مذنّباً بدائياً مثل تمبل1 (Tempel 1) من عائلة مذنّبات المشتري يمكنه ان يوفر بيئة مثالية تدعم "نظرية الطين" في تفسير أصل الحياة. فهو يحتوي على الماء السائل والطين وجزيئات عضوية بما فيها الهايدروكاربونات العطرية متعددة الحلقات.
ويُعدّ مذنب واحد من هذا النوع أكثر ملاءمة لنشأة الحياة من جميع البرك الضحلة وحواف المحيطات الأرضية، بمعامل قدره (410)، وذلك عند الأخذ في الاعتبار المساحة الكلية لسطح الطين المتاحة للتفاعلات التحفيزية، والنطاق الزمني لاستمرار كل موقع مناسب منها.
ومع وجود نحو (1110) مذنّباً في سحابة أورت Oort cloud المحيطة بالشمس، يصبح عامل التفضيل لصالح البيئات المذنّبة على مجمل البرك الدافئة الأرضية في حدود (1510). وإذا أضفنا إلى ذلك وجود نحو (1010) نجماً شبيهاً بالشمس المليئة بالمذنّبات في المجرة بأكملها، سيصبح مقدار العامل لصالح أصل الحياة المذنّبة يساوي (2510).
وبلا شك ان بمجرد أن تبدأ الحياة في مذنّب ما ضمن المجرة يجعل انتشارها أمراً لا مفر منه. حيث سيتم إطلاق الكائنات الحية الدقيقة الخاملة في ذيول الأغبرة المذنّبة، ويتم دفعها بضغط ضوء النجوم حتى تصل إلى السحب بين هذه الأجرام[1].
وإذا كان هذا التصور يجعل الحياة واسعة الانتشار في الكون؛ فإنه يتطلب الحاجة إلى كميات كبيرة من العناصر الأساسية التي تتألف منها، وعلى رأسها الكاربون. فإذا كانت الكتلة المتاحة للحياة لدى المؤسسة العلمية الرسمية، وفق نظرية الانفجار العظيم، تقدر بحوالي (10 40 غراماً) فقط خلال (15-18) مليار سنة، فإن الكتلة في نموذج الكون شبه المستقر كما يراه هويل سيجعل الحال مختلفاً، إذ فيه يتوسع الكون أضعافاً مضاعفة على مقياس زمني يبلغ مقداره ألف مليار سنة، وهو يمر بذبذبات ينشأ في كل منها مادة جديدة، وتستمر العملية إلى الأبد على مقياس قدره خمسون مليار سنة لكل ذبذبة[2].
كذلك ان ارتباط الحياة بالكاربون يضيف حاجة أساسية أخرى تتعلق بنواته، وتُعرف برنين الكاربون، حيث لا يمكن ان تنشأ الحياة من دون ان تكون هذه النواة في حالة مستثارة قصيرة العمر بطاقة محددة دقيقة هي (7.75 ميجا الكترون فولت)، كالذي تنبأ بها هويل في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وأقنع الفيزيائي النووي وليام الفريد فاولر William Alfred Fowler ان يبحث عنها في مختبره الإشعاعي لدى معهد كالفورنيا للتكنولوجيا. وفعلاً وجد الكاربون ضمن ذات التحديدات التي قدّمها هويل بدقة، وبعد حوالي ثلاثة عقود حصل فاولر على جائزة نوبل (عام 1983)[3].
أما هويل، المستحق الآخر للجائزة، فلم يرد ذكره لاعتبارات ربما تتعلق بمزاج هيئة تحكيم الاكاديمية السويدية النافر من نظرية البانسبيرميا التي دافع عنها هويل بضراوة، كالذي تكهّن به محرر مجلة الطبيعة والكيميائي البريطاني جون مادوكس John Maddox[4].
عموماً هذا هو النهج الشمولي للحياة كالذي اقترحته نظرية الكون الجرثومي. أما البديل الذي يستعان به قبالها فهو فرضية الأكوان المتعددة. فمع العدد الضخم من الأكوان يمكن ان يحظى أحدها على الأقل بالحياة صدفة. ورغم ان ويكراماسينج رأى ان هذه الفرضية جائزة، لكنه فضّل عليها اطروحته المعهودة لجاذبيتها من الناحية الفلسفية، حيث الاقتصار على كون واحد منفتح ودائم بشكل لا نهائي وفقاً للحالة شبه المستقرة التي اقترحها هويل. وقد اعترف الأول بتأثير الغريزة الثقافية التي تتضمن افتراض ان تكون الحياة دائمة من دون انقطاع، كما هو رأي البوذية مثلاً[5].
ويُؤسَف أن التحليل الذي قدّمه ويكراماسينج في هذا السياق يُعدّ ارتدادًا عمّا كان قد توصّل إليه سابقًا مع فريد هويل؛ من أن نشأة الحياة تواجه عقبة احتمالية لا يمكن تجاوزها ضمن المعايير الطبيعانية. فمهما بلغ عدد الأكوان، أو طال عمر الكون، فإن ذلك لا يكفي لتفسير نشوء الحياة من منظور احتمالي صرف، كما سبق أن بيّنا.
كذلك فإن التعويل على "الغريزة الثقافية" ليس حلاً مشروعًا لهذا الإشكال، لا من الزاوية العلمية ولا من الوجهة المنطقية.
ومن حيث التحليل، فإن ما قدّمه ويكراماسينج من اعتبارات حول شيوع الظروف المثالية لنشأة الحياة، لا يكفي لتفسير هذه النشأة، نظراً لأن تلك الكثرة لا تتجاوز "العقبة الاحتمالية". فكل ما تفسّره هذه الظروف هو الشروط المادية اللازمة لوجود الحياة وانتشارها، مما قد يبرر وجودها على الأرض، لكنها لا تفسر كيف نشأت الحياة ابتداءً.
فثمة فرق جوهري بين شرط الحياة، وسبب وجودها الحقيقي. وهذا التمييز لم يكن واضحًا في تحليل ويكراماسينج، وإلا لما كان هناك داعٍ للاستنجاد بذكاء فوق طبيعي لتفسير نشأة الجينات والخلية الحية وتجاوز العقبة الاحتمالية. إذ لو كان شيوع الظروف الملائمة كافيًا، لاكتفى به دون الحاجة إلى فرضية الذكاء، وهو عين منطق نظرية "الأكوان المتعددة".
وبعبارة أخرى، إن نشأة الحياة تتطلب عاملين متكاملين لا يُستغنى عن أي منهما، حيث يمتاز أحدهما بالشرطية، والآخر بالتوليد، وبدون أي منهما من المحال تكونها، وذلك كالتالي:
العامل الشرطي: ويتمثل في توفّر العناصر الأساسية المكونة للحياة، كالاكربون والهيدروجين ونظائرهما، إلى جانب البيئة المناسبة، كالماء والطين وبعض أنواع الإشعاع وغير ذلك.
العامل المولّد: وينص على ضرورة وجود سبب يعمل على تفعيل العامل الشرطي الآنف الذكر لتنشأ الحياة.
فوجود العامل الشرطي بمفرده لا يفضي إلى نشأة الحياة، كما أن العامل المُولِّد وحده، دون وجود المادة والظروف المناسبة، لا يُنتج شيئًا. فكلاهما بحاجة إلى الآخر، كحاجة المادة للصورة وبالعكس وفق التصور الأرسطي.
ولا خلاف بين العلماء حول العامل الشرطي، إذ إن توفر العناصر والظروف المناسبة أمر متفق عليه، إنما الإشكال يكمن في تحديد العامل المُولِّد. وفي هذا الصدد يمكن تصور اتجاهين لتفسير هذا العامل:
الاتجاه الأول: أن يتمثل العامل المُولِّد في الكثرة المستفيضة من الشروط المناسبة، كما افترض ويكراماسينج مؤخراً، أو كما تفترض نظرية الأكوان المتعددة. وفي كلا الحالين يُعوَّل على التفاعل العشوائي بين العناصر في ظل فرص صدفوية واسعة. غير أن الحسابات الرياضية الدقيقة تؤكد أن هذه الكثرة لا تكفي لتجاوز العقبة الاحتمالية. ومع ذلك، فإنها تُفيد في تبرير شيوع الحياة في مواضع متعددة من الكون، مما يسمح بتفسير وجودها على الأرض، في حين تعجز الفرضيات الأخرى عن تقديم تفسير معقول، وهو المنطق الذي اعتمدته نظرية الكون الجرثومي.
الاتجاه الثاني: أن يتمثل العامل المُولِّد في فاعلية الذكاء، كما هو الحال في الصناعات البشرية، إذ يُحضّر الإنسان المواد الأولية، ثم يُفعّلها عبر التدبير والغاية ليُنتج منها شيئًا منظّمًا.
وإذا ما عدنا إلى أصل النظرية التي طرحها هويل وويكراماسينج، فسنجد أنهما قد أكدا بأن نشأة الحياة على الأرض غير قابلة للتفسير الطبيعي العشوائي. فبناءً على حساباتهما الرياضية، فإن أبسط أشكال الحياة - أي الخلية الحية - تتطلب تركيبة غاية في التعقيد. وكي تنشأ عشوائيًا في "بركة الحساء الكيميائي" ما قبل الحيوي، فإن ذلك سيتطلب تصادفًا باحتمال ضئيل جداً، يقدّر بـ (10-40000)، وهو احتمال يفوق قدرة العقل البشري على التصور.
وقد ذهب الباحثان إلى أنه ليس في متسع الأرض ان تولّد مثل هذا التعقيد البايولوجي بالشكل الساذج الذي يطرحه العلماء[6]. واعتبرا أنه لو حصل ذلك لكان ضربًا من المعجزة الخارقة التي لا تُضاهيها أية معجزة أخرى، وهو ما يفنّد إمكان حدوثه ضمن قوانين الصدفة أو الضرورة الطبيعية.
وسبق ان عرفنا بأن هويل قد شبّه حصول ذلك باعصار يمر في ميدان من الخردة فتؤدي الفوضى فيه إلى خلق طائرة بوينج 747 جاهزة للطيران. ووصف العلماء الذين يفكرون بأن نشأة الحياة قد حدثت على الأرض وسط حساء يتفاعل عشوائياً بأنهم يمتلكون عقلية الخردة[7]. أو يمكن نعتهم بـ "علماء الخردة".
إن هذا المبرر لنشأة الحياة يصلح في حد ذاته ان يكون مبرراً للتطور وفق ما عرضته نظرية مايكل بيهي في قاعدة عدم الاختزال، خاصة وان هويل وويكراماسينج اعتبرا تطور الحياة، وليس نشأتها فقط، مديناً للمصنع الفضائي، ومن ثم من المحال ان يخضع التطور للتدرج الدارويني والانتخاب الطبيعي، فلأن الجينات بالغة التعقيد فإنها تندّ عن ان تكون نتاج الأرض، وهي بالتالي تتنزل من الفضاء باستمرار، ومع تراكمها في الكائنات الحية يحدث التطور القفزي. لذلك تم التمييز بين ما يعود إلى الفضاء، وما له علاقة بالأرض، فالفضاء هو مصدر الجينات دون ان يكون للانتخاب الطبيعي سلطة على تكوينها وتطويرها، فهو يعمل كالمنخل لكنه لا يقرر ما هي الأنواع التي يجب غربلتها في المقام الأول، إذ ذلك يعود إلى الفضاء لا الأرض[8].
ومعلوم ان الداروينية تدعي بأن تراكم أخطاء النَسْخ، كما يحافظ عليه الانتخاب الطبيعي، يمكنه تفسير التنوع الغني للحياة والتقدم المستمر في التعقيد من البكتيريا إلى الانسان. وهو أمر غير معقول عند أخذ اعتبار ان العملية التطورية تتطلب جينات مترابطة معقدة، وهي ذات معلومات غنية وجديدة قد تعمل على التطور دفعة واحدة بلا تدرج، فيما ليس بمقدور الداروينية تبيان الكيفية التي تتولد فيها هذه المعلومات.
بل هنا نواجه ذات الصعوبة المتعلقة بأصل الحياة، إذ في كلا الحالين نواجه وجود الجينات الناشئة والغنية بالمعلومات، سواء من حيث النشأة الأولى للحياة، أو تطورها.
الفايروس كيان ذو وجهين
وفقًا لنظرية "الكون الجرثومي"، ثمة حاجة دائمة إلى جينات وافدة من خارج الأرض لدفع عجلة التطور[9]. ويُلقى هذا الدور على عاتق الفيروسات والبكتيريا، إذ تتحمّل هذه الكائنات الدقيقة مسؤولية مزدوجة: إحداهما تتمثّل في كونها مصدرًا للأوبئة والأمراض التي تصيب الإنسان، والأخرى في كونها القوة الرئيسة المحرّكة لمسار التطور، ولا سيما الفيروسات القادمة من الفضاء، التي يُعزى إليها هذا الدور المزدوج والمترابط في آليته.
ومعلوم أنه عندما عرض هويل وويكراماسينج هذه الفكرة خلال الربع الأخير من القرن المنصرم تعرضا لانتقادات قوية تتهمهما بالميل إلى الخرافات البدائية[10].
مهما يكن سوف نسلط الضوء على هذه العملية المزدوجة للوباء والتطور كما في الفقرتين التاليتين:
1ـ الوجه الوبائي للفايروس
في ورقة بحثية نُشرت في مجلة الطبيعة Nature عام 1956، أبدى الفيزيائي ادوارد جورج بوين Edward George Bowen وجود صلة بين تواتر نوى التجمد في السحب التروبوسفيرية وزخات النيازك، وان هذه الزخات تحدث في أوقات منتظمة من العام عندما تعبر الأرض في مدارها البيضوي حول الشمس، حيث يواجه مسارها الغبار المتبخر من المذنّبات، ومن ثم يهبط هذا الغبار من دوامات النيازك ويصل إلى طبقة التروبوسفير خلال ثلاثين إلى أربعين يوماً، وعندها يمكن توقع تساقط أمطار غزيرة[11].
وقد اعتمد هويل وويكراماسينج على هذه المعلومة، فاعتبرا ان البكتيريا والفايروسات، التي تحملها النيازك الهابطة إلى طبقة التروبوسفير، تكون بمثابة نوى تجميد للمطر، وان قطراته الساقطة تصبح مليئة بهذه الجراثيم[12].
وِفقًا لهذين الباحثين، فإنّ جميع الأوبئة الجديدة تعود في منشئها إلى الفيروسات الفضائية وبعض أنواع البكتيريا. فعندما تمرّ الأرض عبر مسارات الجزيئات المذنّبية الملوّثة، تنشأ الأوبئة فجأة. وتشير التقديرات إلى أن نحو مئة طن من المواد القادمة من المذنّبات تصل إلى الأرض يوميًا، حاملةً معها كميات كبيرة من الفيروسات والبكتيريا المسببة للأوبئة. وتُعدّ العدوى الأوّلية الناتجة عن غبار هذه المذنّبات أشدّ فتكًا من العدوى التي تنتقل بين الأشخاص؛ إذ إن هذه الأخيرة تفقد ضراوتها مع الانتقال بالتدريج، حتى تضمحل فاعليتها تمامًا.
إن الفايروس هو جسيم صغير يشكل قطعة من الحامض النووي الدنا DNA، أو الرناRNA ، وفي معظم الحالات يكون محاطاً بغلاف من مادة بروتينية مزدوجة الطبقات. وله أشكال هندسية منتظمة، الشائع منها يمتاز بمادة صلبة لها عشرون وجهاً مثلثياً، وتبرز من زوايا هذه المادة مسامير هي امتدادات لقشرة البروتين التي تساعد الفايروس على التشبث بالخلايا المناسبة لأنواع محددة ضمن علاقة شبه تآمرية. إذ يعلّق الفايروس نفسه بمواقع محددة على سطح الخلية المضيفة، ثم يتم غمره وامتصاصه داخل الخلية. وبعد ذلك تشرع الخلية المضيفة في تجريد الفايروس الغازي من غلافه البروتيني الخارجي، ثم تأخذ تعليماتها منه كما في الشكل التالي: “أوقفي ما تفعلينه وأنتجي المزيد من الفايروسات مثلي!”. وتنصاع الخلية لهذه التعليمات على الفور. وأخيراً، تنفجر الجسيمات الفايروسية فتدمر الخلية ويتسبب الحال باصابة الخلايا المضيفة الأخرى بالجزيئات الفايروسية التي يتم إطلاقها[13].
ويُعدّ عالِم الفايروسات البريطاني كريستوفر أندروز Christopher Andrews المكتشف الأول لفايروس الانفلاونزا البشري في عام 1933. وفي عام 1965 وصف سلوك الفايروس عندما يصيب خلية المضيف، كما في كتابه (نزلات البرد The Common Cold) بما يلي:
ما يحدث عندما يصيب الفايروس خلية هو ان جزءاً من بروتين الفايروس يقوم بإجراء اتصال محدد مع شيء ما على سطح الخلية. ثم تبتلع الخلية الفايروس أو تحمله داخلها. وقد يتم ابتلاع الفايروس بالكامل، كما قد تحافظ على الحامض النووي الأساسي مع ترك الغلاف البروتيني خارج الخلية. وفي كلتا الحالتين يكون جزء البروتين من الفايروس قابلاً للاستهلاك ولا يلعب أي دور آخر. في حين يعمل الحامض النووي الفايروسي على ارشاد الخلية بطريقة شريرة. فمثلاً لو أن الفايروس مختص باصابة خلية بطانة الأنف؛ فسوف يحدد تعليماته على النحو التالي: “توقفي عن تجهيز المكونات اللازمة لصنع المزيد من خلايا الأنف. من الآن فصاعداً، استخدمي أدواتك الكيميائية لصنع المزيد من نسخ الأحماض النووية الخاصة بي”. وحينها ليس بمقدور الخلية ان تفعل شيئاً سوى الانصياع لهذه التعليمات والأوامر المستحدثة. وتؤدي العملية إلى إنتاج الكثير من الفايروسات مع استنفاد الخلية تماماً حتى الموت. وبعدها تنطلق الفايروسات لتصيب المزيد من خلايا المضيف؛ فيحدث الالتهاب وسكب السوائل والعطاس حتى يحين وقت آليات الدفاع ان تقوم برد فعل معاكس[14].
وتتصف الفايروسات بالانتقائية بشأن نوع الخلايا التي تهاجمها، وهو ما جعل المؤسسة العلمية ترى ان هذه الميزة دالة على أنها ذات منشأ ارضي. وإلا كيف يُتاح للفايروس ان ينتقي ما يراه مناسباً من الأنواع والخلايا دون غيرها إذا ما كان خارجي المنشأ؟!.
في حين طبقاً للتفسير التآمري الذي تتبناه نظرية الكون الجرثومي، فإنّ ما يحدث بين الفيروس والخلية ليس مجرد عدوى عشوائية، بل توافق حميم وتفاعل موجّه. إذ يختار فيروس معين - كفيروس الإنفلونزا مثلاً - مهاجمة عدد محدود من أنواع الكائنات الحية، فضلاً عن استهدافه مجموعة فرعية من الخلايا ضمن النوع الواحد. ويجري هذا التعرف المتبادل، ليس فقط من قِبل الفيروس، بل أيضًا من جانب الخلايا المضيفة التي يستهدفها. فإذا كانت جيناتنا تضم فيروسات من النوع ذاته، فإن ذلك يدلّ على تفاعل طويل الأمد بيننا وبين هذه الفيروسات، يعود إلى أعماق التاريخ التطوري الممتد لمليارات السنين. فعلى سبيل المثال، يبحث فيروس الإنفلونزا عن الأنواع التي سبق لسلالات أجدادها أن دمجت أجزاءً معينة من نفس الفايروس منذ ملايين السنين. في حين تُعدّ هذه الظاهرة محيّرة وصعبة التفسير ضمن النظريات التقليدية التي تفسر النشوء على أساس أرضي صرف[15].
لكن ما الذي يجعل جهاز المناعة يسمح بدخول الفايروسات إلى أعماق الكائن الحي رغم أنها مضرة؟
هذا ما أجاب عنه ويكراماسينج من حيث اعتبار ذلك مطلباً تطورياً، فجهاز المناعة يقوم بالمسح الدائم للوافدين الجدد وفقاً للاحتياجات الخاصة لغرض استيلاء الجينوم على أي شيء قد يكون ذا قيمة تطورية، فإذا كان الفايروس يحمل وعداً بأنه مفيد للمضيف فسوف يُسمح له بالولوج داخلاً، في حين يتم استبعاد ما لا تبدو فيه فائدة[16].
لقد أولى هويل وويكراماسينج اهتماماً خاصاً بمرضٍ بعينه، هو الإنفلاونزا، لما يرتبط به من ظواهر محيرة استعصى تفسيرها على العلماء ضمن الأطر التقليدية. ومن وجهة نظرهما، فإن ثمة ما يدلّ على أن هذا المرض لا ينتقل أساساً عن طريق العدوى المباشرة، وإنما بفعل غزو فيروسي مصدره الفضاء، يصل إلى الأرض عبر الرياح والضباب الشتوي. وقد استشهدا في هذا السياق برأي عالم الأوبئة البريطاني تشارلس كريتون Charles Creighton، الذي أكّد في كتابه (تاريخ الأوبئة في بريطانيا A History of Epidemics in Britain) عام 1891، بأن الإنفلونزا ليست مرضاً ينتقل من شخص لآخر، بل هي أشبه بـ "ضباب خانق miasma" يهبط من السماء، مستدلًّا على ذلك بظهور الإصابات المتزامنة في جماعات بشرية متباعدة جغرافياً. وعلّق ويكراماسينج بأن استبدال مصطلح "الضباب الخانق" بعبارة "الغزو الفيروسي الفضائي" يجعل الصورة منسجمة تماماً مع ما توصّل إليه مع هويل عام 1977. غير أن الرؤية السائدة لدى المؤسسات العلمية الرسمية ظلّت تفسّر الإنفلونزا - وسائر الأمراض المعدية - باعتبارها حوادث محلية أرضية، لا علاقة لها بالفضاء[17].
إن ما يؤيد الفكرة السابقة لنظرية الكون الجرثومي اجتياح الانفلاونزا لمناطق شاسعة من العالم خلال فترة وجيزة قبل حدوث السفر بالطيران الجوي، كالذي حدث خلال عامي (1889-1890) والتي استقطبت اهتمام عالم الأوبئة كريتون، ومثل ذلك جائحة الانفلاونزا الاسبانية خلال عامي (1918-1919)، وهي من أقوى الحوادث الدالة على قدوم الفايروسات المرضية من الفضاء، وقد علّق عليها الكاتب لويس وينشتاين Louis Weinstein قائلاً: على الرغم من انتشارها من شخص لآخر في المناطق المحلية، فإن ظهور المرض برز في أجزاء متفرقة من العالم في نفس اليوم، وتم اكتشافه في بوسطن وبومباي في الوقت ذاته. في حين استغرق انتشاره بين أيام إلى أسابيع في مسافات قصيرة نسبياً، ومن ذلك انه استغرق ثلاثة أسابيع قبل أن يصل إلى مدينة نيويورك[18].
كذلك الحال مع "فايروس وباء الجدري"، الذي استُدلّ على احتمالية قدومه من الفضاء نظراً لطبيعته الغامضة، حيث يختفي لفترات طويلة ثم يعاود الظهور مرّة أخرى. وليس من تفسير معقول لهذه الظاهرة سوى فرضية تكرار دخوله إلى الأرض من الفضاء، إذ يصعب قبول فكرة أنه ينقرض كليّاً ثم يُعاد تشكيله بدقّة من أصول وراثية غامضة بعد قرون من الغياب. وينطبق الأمر نفسه على وباء "الطاعون الدبلي Bubonic Plague" الذي تسببه بعض أنواع البكتيريا، فضلاً عن غيره من الأوبئة التقليدية المرتبطة بهذه الجراثيم[19].
كما وجد هويل وويكراماسينج أن هذه الحالة تنطبق على مرض "جنون البقر" الذي انتشر خلال التسعينات من القرن العشرين في بريطانيا، ومن ثم تحول إلى سائر الدول الاوروبية وغيرها. وفي عام 2000 كانت هناك أزمة تتعلق باستفحاله، فكتب الباحثان المشار إليهما رسالة إلى صحيفة الاندبندنت، كشفا فيها كيف تظهر الأمراض الجرثومية الجديدة غير المفسرة، ومنها هذا المرض، وأشارا إلى ان ذلك هو نتاج الضخ المتواصل لكائنات دقيقة بفعل المواد المذنّبة التي تصلنا بعشرات الأطنان يومياً عبر طبقة الستراتوسفير[20].
وكان أول ظهور لهذا المرض في بريطانيا عام 1986، قبل ان يظهر في بقية الدول الاوروبية بسنوات عبر العدوى - كما يبدو - من غير أن يتوافر ما يشير إلى أن مصدره قادم من الفضاء الخارجي.
علماً بأن بعض الأمراض، ومنها "جنون البقر"، لا تعود إلى الفايروسات ولا البكتيريا، بل إلى شرائح بروتينية قادرة على التكاثر والعدوى[21].
وعادة ما تكون أمراض الجهاز التنفسي، ومنها الانفلاونزا، ذات طابع موسمي. وبحسب نظرية الكون الجرثومي فإن فايروسات هذه الأمراض تظل معلقة عالياً في طبقة الستراتوسفير لفترات طويلة ما لم يتم سحبها إلى أسفل الغلاف الجوي. وفي بلدان خطوط العرض المرتفعة يحصل هذا الاختراق بشكل موسمي، حيث يختلط الهواء العلوي والسفلي خلال أشهر الشتاء. لذلك فإن موسم الإنفلاونزا النموذجي في البلدان الاوروبية يحدث بين ديسمبر ومارس، ويكون للرياح العاتية والثلوج والأمطار فعالية لمسببات الأمراض الفايروسية بالقرب من سطح الأرض. وأن الضباب المستمر في فصل الشتاء ينذر بموجة من هذه الأمراض، نظراً لأن الطقس الضبابي يوفر للفايروس القادم أفضل فرصة للتشتت في شكل هباء جوي يمكن استنشاقه بسهولة بالقرب من سطح الأرض. في حين لا تتوفر مثل هذه الفرصة عندما تكون البكتيريا والفايروسات نواة مكثفة ضمن قطرات المطر الساقطة[22].
وحيث تتعلق الفعالية الأقوى لهذه الأمراض بالمناطق المرتفعة، لذا يكون لجبال الهملايا دور استثنائي في استقبال مثل هذه الجراثيم والأمراض. وان أكثر بلد معرض لها هي الصين وجنوب شرق اسيا، فهي أسرع وأسوء المناطق تضرراً في العالم بسبب الارتفاع، وبسبب وقوعها في اتجاه الرياح. وهذا ما قد يفسر ظهور فايروسات الجهاز التنفسي الجديدة، مثل متلازمة التنفس الحاد المسمى بالسارس (SARS-CoV-2) عام 2002[23]، فضلاً عن فايروسات الإنفلاونزا التي تظهر لأول مرة في الصين[24].
إن السارس هو أحد الفايروسات التاجية المعروفة بـ "كورونا"، ويشترك مع كوفيد-19 (Covid-19)، الذي عانى منه العالم مؤخرًا، في قدر كبير من التشابه. ويُصنَّف كوفيد-19، وفقًا لنظرية "الكون الجرثومي"، ضمن الفايروسات ذات المنشأ الفضائي، لا تلك التي يُعتقد أنها نشأت في أسواق مدينة ووهان أو مختبراتها في الصين. وقد يكون منشأ حدوثه متعدداً لدى مناطق كثيرة من الأرض كما يشير البعض إلى ذلك رغم أن اكتشافه لأول مرة كان في ووهان.
ومؤخراً، حاجج ويكراماسينج مع مجموعة من الباحثين، بعدد من الأدلة التي تشير إلى أن مصدر هذا الفايروس هو الفضاء الخارجي، مؤكدين أن إصابة بعض مناطق الصين به لأول مرة لا علاقة لها بما شاع من انتقال الفيروس من الخفافيش إلى الإنسان عبر وساطة الثعابين التي يتغذى عليها بعض الصينيين، بل يعود الأمر - بحسب رأيهم - إلى أن الصين أكثر عرضة من غيرها للفايروسات الجديدة نظرًا لموقعها الجغرافي المرتفع، وهو ما سبق التنبيه إليه قبل الحادثة بسنوات طويلة.
وكان من أبرز الأدلة التي ذكرها هؤلاء الباحثون على فرضية المصدر الفضائي لجائحة كوفيد-19، ما نشره الصحفي الفلكي طارق مالك Tariq Malik، حيث رصد نيزكًا على هيئة كرة نارية ساطعة في سماء مدينة سونجيوان شمال شرق الصين، يوم 11 أكتوبر 2019، أي قبل اكتشاف أولى الإصابات بنحو شهر. وقد سجلت كاميرات المراقبة هذا الحدث، وقام طارق بنشر تسجيل الفيديو بعد يومين[25].
مع ذلك، فقد تم نفي وجود أي دليل علمي يُثبت أن لمرض كوفيد-19، أو لأي وباء آخر، مصدرًا فضائيًا. فالعلماء يستبعدون إمكانية نجاة الفايروس من الإشعاع الكوني أثناء رحلته الطويلة عبر الفضاء. ووفقًا لعالم الأحياء الفلكية غراهام لاو Graham Lau، الذي يقدّم سلسلة "اسأل عالم فلكي" التابعة لوكالة ناسا، فإن هذه الحالة هي “واحدة من تلك الحالات التي تتطلب فيها الادعاءات غير العادية أدلة غير عادية.. وأنه سيكون اكتشافاً فريداً ورائداً بشكل لا يصدق إذا كان ما يقوله ويكراماسينج بهذا الصدد صحيحاً، لكنه ببساطة ليس لديه دليل يدعم ادعاءاته”.
بل إن البعض ذهب إلى أن أفكار ويكراماسينج في هذا المجال تمثل شكلًا من أشكال العلم الزائف أو السيء[26].
2ـ الوجه التطوري للفايروس
يتخذ التطور، الذي تتحدث عنه نظرية الكون الجرثومي، طابعًا قفزيًّا، على خلاف التصور الدارويني القائم على التراكم التدريجي. وهو ما تنبأ به هويل وويكراماسينج منذ عام 1982[27]. فالجينات الجديدة لا تتطور عن سابقاتها كالذي تدعيه الداروينية، إذ إن الجينات الجديدة لا تنشأ عن سابقاتها بالتطور البطيء، كما تفترض الداروينية، بل يتحدد مصدرها في الفضاء الخارجي، وعند تراكمها تحدث قفزة تطورية كبرى[28].
لذلك تم الاستعانة جزئياً بنظرية "التوازن المتقطع" التي صاغها عالما التاريخ الطبيعي ستيفن جاي جولد Stephen Jay Gould ونيلز ألدريدج Niles Eldredge، حيث تمر فترات طويلة من الركود أو التغير البطيء المفسّر تبعاً للتصور الدارويني والموصوف بـ (الصندوق المغلق). إذ تخضع العملية للتوارث الطويل الأمد عبر الأجيال من دون توارد جينات خارجية، ثم بعد ذلك يتبعها تطور سريع مفاجئ لا يفسره نظام هذا الصندوق، فهو قائم على ادخال مجموعات جديدة من جينات الفايروسات والبكتيريا الفضائية المفضية إلى الطفرات المولّدة لأنواع جديدة وانقراض أنواع أخرى.
ويُعزى الدور الرئيس في قيادة هذه التحولات الكبرى إلى الفايروسات، بوصفها القوة الدافعة لآلية التغيير الجيني في الكائنات الحية الأرضية[29].
ومن حيث التفصيل، تجري عملية التطور عبر النقل الناجح للمعلومات الجينية من كائن حي إلى آخر، وهو لا يتحقق ما لم يحصل تعايش بين الدخيل والمضيف. وقد يكون الدخيل عبارة عن بلازميدات كقطع حلقية جينية من الأحماض النووية المنفصلة عن الكروموسوم البكتيري، كما قد يكون فايروسات أو بكتيريا.
ومن أبرز الأمثلة المفترضة على هذا التعايش ما تمتاز به حقيقيات النوى الممتلكة للمايتوكوندريا أو البلاستيدات الخضراء، إذ افتُرض أن هذين العضوين كانا في الأصل كائنين بدائيين قبل أن يحدث اندماج تعايشي مع الخلية المضيفة. كذلك إن للجينات الفايروسية قابلية على الاندماج في المادة الوراثية للكائنات حقيقيات النوى، وقد أفضت هذه العملية إلى تسلسل تطوري طويل، تُوِّج في نهاية المطاف بنشأة الإنسان[30].
وبهذا المعنى، تُعدّ الفايروسات القادمة من الفضاء الخارجي مصدرًا رئيسًا لديناميات التطور الحيوي، مثلما تُعد السبب الرئيسي في نشوء الأوبئة الجديدة. فهي مسؤولة عن الحالتين معًا، وتمثل مفتاحًا لفهمهما، لما بينهما من تشابه في الآلية، إذ هما وجهان لعملة واحدة، كما عبّر عن ذلك فريد هويل في تعريف كتابه (الكون الذكي The Intelligent Universe) الصادر عام 1983.
ورغم أن الغالب في اندماج الفايروسات مع الكائنات هو أن يُفضي إلى المرض أو عدم التأثير، إلا أن هذا الاندماج قد يُسهم - في حالات نادرة - في تطوير الأنواع، عبر إدخال إضافات جينية ذات معنى، مستمدة مما تختزنه الفايروسات من معلومات لا تنضب.
فالفضاء يعج بالفايروسات، وهي تغزو كل مكان فيه، وقد يحدث أن تندمج بعض جيناتها بجينات خلايا حية، فتُحدِث طفرة تدفع - في حالات نادرة جداً - نحو نوع جديد. لكن على الرغم من كثرة المحاولات، فإن أغلبها ينتهي إلى الفشل، وهو ما يُفسّر لماذا ظل التطور الحيوي راكدًا طوال نحو أربعة مليار سنة، ولم يشهد طفرة واضحة إلا في النصف الأخير من المليار الرابع[31].
وكمثال نموذجي على العملية التطورية عبر الفايروسات الفضائية، ما قدّمه هويل من تفسير لتحول الزواحف إلى الثديات، كما في كتابه (الكون الذكي) عام 1983. فقد استعان بالمعلومة التي تفيد بأن الحامض النووي الدنا DNA في الزواحف مجزّء إلى قطع صغيرة أكثر بكثير من تلك الموجودة في الثديات، لذلك إذا تطورت الأخيرة من الأولى، فهذا يعني انه قد حدث تنظيف كبير للحامض النووي وتحويله إلى قطع أكبر أثناء هذا الانتقال، وهو تحول من الممكن أن يحدث بفعل التعليمات الواردة في جينات الفايروسات القادمة من الفضاء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العملية قد اقترنت بالكثير من الكدح والاحباط.
صحيح ان أغلب الفايروسات ليس بوسعها تأدية مهام التطور، وان الكثير منها ممرض، لكن منها ما يمكن ان يؤدي إلى مثل ذلك التغيير الكبير عند التحام الفايروسات بجينات الزواحف، وتعمل العدوى الفايروسية على المساعدة في هذا التحول[32].
وثمة ما يدعم هذه المقالة في التطور المستند إلى الفايروسات الفضائية. ففي عام 2000، اكتشف فريق من العلماء جيناً غير مألوف في الجينوم البشري. وهو الجين المشفر لبروتين خاص اسمه سينسيتين syncytin، والذي يتم تصنيعه بواسطة بعض الخلايا في مشيمة الثديات، وضمن منطقة محددة هي المكان الذي تتصل فيه المشيمة بالرحم، حيث يندمجان معاً لتشكيل غشاء حيوي لنمو الجنين. والأمر اللافت للنظر هو ان هذا الجين ليس جيناً بشرياً نموذجياً، فهو يحمل كل السمات المميزة للجين الفايروسي. ومن ثم أظهرت دراسات حديثة أنه موجود في جميع الرئيسيات وليس البشر فقط. الأمر الذي جعل ويكراماسينج يستنتج بأن الفايروس الناقل لهذا الجين قد أدى إلى ظهور الثديات المشيمية على كوكبنا[33].
وفي عام 2001، تمّ فك شفرة الجينوم البشري بأكمله، ومن ثم أُكتشف العديد من آثار الأقدام الفايروسية القديمة في الجينوم. وقد يكون حوالي (5%) من الجينوم مرتبط بطريقة ما بالتسلسلات الفايروسية. وترتبط مجموعة فرعية من هذه النسبة بالفايروسات القهقرية retroviruses الخاصة بالأنواع[34].
وبحسب ويكراماسينج، فإن الإيدز يُعدّ أحد نماذج هذه الفايروسات، حيث يُظهر خط أجدادنا الذي قاد - من خلال الرئيسيات والثديات وصولاً إلى الإنسان العاقل على مدى مئات الملايين من السنين - بقايا الهجمات الفايروسية المتكررة التي يُفترض أنها مشابهة للإيدز. وبقيت مجموعة صغيرة منها على قيد الحياة مخبأة في الجينوم البشري، فيما تكوّن لدى الجسم جهاز مناعة أكثر قدرة على تحمل هذا النمط من بقايا الفايروس[35].
***
إذاً، نحن بحسب نظرية الكون الجرثومي، نكون صنيعة فايروسات المذنّبات، فلولاها لما وُجدنا. وقد عرض ويكراماسينج مفاجأتين لافتتين في هذا السياق:
الأولى: أن عدد الجينات المشفِّرة للبروتينات في حامضنا النووي قليل جداً، لا يتجاوز (20000-25000). والأعجب أن أكثر من (90%) من هذا الحامض خامل لا يُستخدم في تخليق البروتينات وتشفيرها[36]، ومع ذلك يُستنسخ من جيل إلى آخر ومن خلية إلى أخرى. وكان الاعتقاد السائد منذ بداية السبعينات ولمدة أربعة عقود أن هذه النسبة الكبيرة لا وظيفة ولا فائدة لها، لذلك شاع وصفها منذ عام 1972 بـ "جينات الخردة junk genes"، إلى أن تبينت أهميتها ووظائفها المختلفة عام 2012، حيث كشف مشروع انكود ENCODE (موسوعة عناصر الدنا DNA) عن وجود (80%) من الجينوم يضطلع بوظائف حيوية متنوعة.
الثانية: أن جزءاً كبيراً من الجينوم غير المشفّر للبروتينات يتألف من مصفوفات واسعة ومتواليات تنتمي إلى فايروسات قهقرية داخلية المنشأ (Endogenous Retroviruses)، وهي فيروسات الرنا RNA التي تعكس نسخ حامضها الرايبي في الدنا DNA الخاص بالخلية المضيفة[37]. لذلك تُعد الفايروسات بمثابة خزان هائل للإمكانات التطورية طويلة الأمد[38].
وعلى ضوء هذا التصوّر، نتساءل: إذا كانت الفايروسات، ومثلها البكتيريا، قادرة على السفر عبر الفضاء والوصول إلى الأرض، بل وتُعدّ المحرّك الأساسي للتطور البيولوجي، فلِمَ لا نفترض أن بعض الكائنات التي تتحمل الظروف الجوية القاسية هي الأخرى جاءت من الفضاء، ولم تنشأ على الأرض؟
وأبرز مثال يُطرح في هذا الصدد هو حيوان بطيء المشية المعروف بـ "دب الماء Tardigrade"، ويُصنّف كشعبة تضم أكثر من ألف نوع. ويعود تاريخه الجيولوجي إلى العصر الكامبري قبل أكثر من (550 مليون) سنة. وهو كائن شبه مجهري تصل عدد خلايا بعض أنواعه إلى أربعين ألف خلية، ومقسّم إلى رأس وثلاثة أجزاء جسدية، كما له أربعة أزواج من الأرجل. ويقال انه الحيوان الوحيد الذي يتحمل الظروف المتطرفة، إذ يتميّز بقدرته الخارقة على البقاء في أقسى الظروف. فقد تم العثور عليه في كل مكان في المحيط الحيوي للأرض، من قمم الجبال إلى أعماق البحار والبراكين الطينية، ومن الغابات الاستوائية المطيرة إلى القطب الجنوبي. كما انه قادر على البقاء في الظروف القاسية، مثل التعرض لدرجات الحرارة القصوى، والضغوط الشديدة (العالية والمنخفضة)، والحرمان من الهواء، والإشعاع والجفاف والمجاعة، كما انه يتحمل التعرض للفضاء الخارجي[39].
وربما تُسهم دراسة هذا الحيوان، وأمثاله من الكائنات المتطرفة، في حلّ لغز "الانفجار الكامبري"، دون الحاجة إلى ربطه بالحقب السابقة عبر تدرج دارويني تقليدي. فلو تبيّن مستقبلاً أن هناك حيوانات عديدة تتحمّل ظروف الفضاء القاسية، لوفّرت دعماً ملموساً لفرضية الأصل الفضائي لتطور الحياة.
ومن ذلك، لو تبيّن للباحثين مستقبلاً ما يُثبت قدرة طائفة من الحشرات والمفصليات على العيش في الفضاء، لكان ذلك قرينةً تدعم تفسير ظهورها الموسمي واختفائها المتكرر، على نحوٍ يحاكي دورة الوصول والانقطاع. ومعلوم أن التفسير السائد يعزو هذا النمط إلى الهجرة عبر الرياح أو الدخول في حالة سبات، ولا شك أن بعض هذه الكائنات يمتلك بالفعل قدرة مثبتة على السبات.
ويؤيّد هذا المعنى ما كشفته بعض الدراسات من قدرة بعض الحيوانات الصغيرة على حماية نفسها بما يشبه "بدلة نانوية"، تعمل كدرع واقٍ في الفراغ التام لبعض الوقت. ويتجلى هذا الأمر فيما لوحظ عند تعرّض حشرات البق bugs للإلكترونات المنبعثة من المجهر الإلكتروني وأشعة البلازما. إذ عادة ما تفرض ظروف التصوير بهذا المجهر بيئة مميتة للكائنات الحية، كارتفاع الفراغ وشدة الإشعاع. غير أن الإلكترونات المستخدمة في تشكيل الصور قد تؤدي دورًا وقائيًّا. فقد أظهرت الأبحاث أن شعاع المجهر الإلكتروني الماسح قادر على تحويل طبقة رقيقة تتكوّن طبيعيًّا على سطح يرقات بعض الحشرات إلى ما يشبه "بدلة فضاء مصغّرة" يمكن أن تبقيها حيّة داخل الفراغ لما يقرب من ساعة كاملة، كذبابة الفاكهة والذبابة الزرقاء (Protophormia terraenovae) ونحل العسل الياباني (Apis cerana japonica)، وحتى يرقات الخنفساء والقراد[40].
لذلك ما يدرينا! فلعلّ يومًا ما يكشف العلم عن أن لكثير من الحيوانات سُبُلاً آمنة للانتقال من الفضاء إلى الأرض، عبر دروع واقية شبيهة بتلك التي ألمحنا إليها، فتغدو فكرة "الوافد الكوني" أكثر واقعية من مجرد فرضية مستبعدة.
ويعزز هذه الفكرة، أنه في عام 2013 اعتقد فريق من الباحثين البريطانيين من جامعة شفيلد أنهم وجدوا أول دليل على وصول الحياة إلى الأرض من الفضاء، فقد ارسلوا منطاداً إلى طبقة الستراتوسفير وعند العودة شاهدوا كائنات حية كانت أكبر من أن يمكن نقلها من الأرض إلى تلك الطبقة. وقال البروفسور ميلتون وينرايت Milton Wainwright، الذي قاد الفريق، إن نتائج هذه التجربة يمكن أن تكون ثورية، بحيث تغير نظرتنا إلى علم الأحياء والتطور تماماً. إذ يمكن استنتاج أن الكيانات البايولوجية نشأت من الفضاء، ومن ثم فالحياة تصل باستمرار إلى الأرض من الفضاء دون ان تقتصر على هذا الكوكب[41].
ونظرًا لكون معظم الحيوانات غير قادرة على تحمل الظروف المتطرفة، فقد يكون من المبكر الاعتقاد بأن فرضية قدومها من الفضاء تُفسّر الظواهر الغريبة المعروفة بمطر الحيوانات، كصغار الأسماك أو الضفادع. فالفرضية الأقرب للتبني حاليًا هي أن الأعاصير المائية تقوم برفع هذه الكائنات إلى الأعلى لتُسقطها لاحقًا في أماكن بعيدة. غير أن هذه الفرضية قوبلت بنقد وجيه، إذ لا تفسّر لماذا يقتصر المطر في كل مرة على نوع واحد فقط، رغم أن ذات البيئة تحتوي على أنواع متعددة من الحيوانات المائية التي تماثله في الحجم والخفّة؟ فقد ينحصر المطر على أسماك صغيرة فقط، أو على ضفادع صغيرة فقط. أضف إلى ذلك أن الأعاصير، وفق ما هو معروف، لا ترفع الأشياء عموديًا لتُسقطها من علٍ، بل تقذفها غالبًا إلى الجوانب المختلفة[42].
من هنا، فإن الظاهرة لا تزال تستدعي مزيدًا من التأمل والدراسة، ولا يمكن استبعاد احتمالات أخرى قد تكشف عنها الأبحاث المستقبلية. فقد يكون هناك دور لعوامل مجهولة، أو لآليات لم تُكتشف بعد، تتعلق بقدرة بعض الكائنات على التنقل أو الانتقال عبر وسائط غير تقليدية، وربما من خارج الأرض. ومع التقدّم العلمي، قد تظهر معطيات جديدة تعيد رسم حدود ما نعدّه ممكنًا في هذا السياق الغامض.
وعلى الرغم من غرابة هذه الظاهرة وتعدد تفسيراتها، فإنها تضعنا أمام سؤال أعمق يتعلق بجذور الحياة وتاريخها الطويل على الأرض: هل نحن فعلاً نتاج بيئة مغلقة ومكتفية بذاتها، أم أن أصل الحياة - بل واستمرار تطورها - يرتبط بمنظومة كونية أوسع تتجاوز حدود الأرض؟
في هذا السياق، تبرز أهمية التساؤل عن "الانفجار الكامبري"، بوصفه محطة مفصلية في تاريخ التطور، لا تزال غامضة رغم كثرة الفرضيات المفسّرة لها.
الجمع بين الخلق والتطور
يحمل كلٌّ من هويل وويكراماسينج رؤية مزدوجة، تجمع على نحو غير معتاد بين نزعتين طالما اعتُبرتا متضادتين: الخلق والتطوّر. فخلافاً لما عليه أنصار التطوّر الدارويني من جهة، والمذهب الخلقوي من جهة أخرى، يذهب هذان العالمان إلى أنّ وحدة الخلق لا تتجلّى في صور الحياة كما نراها على الأرض، بل في المصدر الجيني الكوني الذي تنحدر منه هذه الحياة. فالحياة ـ بحسب تصورهما ـ تمثل مزيجاً من إمكانات فضائية وجدت طريقها إلى الأرض، لتحقّق تطورها عبر قفزات كبرى، لا سيراً تراكميّاً بطيئاً كما يفترضه التطور الكلاسيكي[43].
فمن حيث الإمكان، الحياة ذات طبيعة كونية تتجاوز الأرض والزمان والمكان؛ أما من حيث التحقّق، فهي مشروع أرضيّ يتموضع في ظروف محلية مخصوصة. وهنا يُعاد تعريف الحياة، لا كحالة بيولوجية مادية محصورة في جيوب من الكواكب النائية، بل كظاهرة شمولية عضوية مترابطة، منشؤها جينيّ كونيّ واحد، تنتشر بذورها المايكروبية، كبكتيريا وفايروسات وغيرها، في أرجاء الفضاء الرحب، حاملة معها إمكانات الحياة حيثما وُجدت البيئة الصالحة.
وهذا التصوّر يختلف اختلافاً جوهرياً عن التصوّر السائد لدى مشاريع البحث عن الذكاء خارج الأرض (SETI). إذ يعتقد أصحاب هذه المشاريع أن الحياة التي اعتدنا عليها هنا هي ذات منشأ أرضي، وانها تتشابه مع أي حياة غيرها تتحقق في كواكب أخرى من الكون، وهي عملية مستقلة ضمن جيوب معزولة بين النجوم. في حين تعبّر الحياة لدى نظرية الكون الجرثومي عن كلٍ متماسك تم تطويره من مجموعة واحدة من الجينات الكونية[44].
فالحياة ظاهرة شمولية قد تكون أكثر جوهرية من الكون نفسه، فهي منتشرة بكائناتها الدقيقة من البكتيريا وما شاكلها في كل مكان. أما أصلها فلا يفسر طبيعياً من خلال البداية العشوائية والقوانين المادية المألوفة، بل لا بد من وجود ذكاء خارق. ومن المحتمل - كما يرى هويل - إلى أن هذا الذكاء ليس غريباً عن الإنسان، بل هو ما تستبطنه الغريزة الدينية المسكونة في كياننا جميعاً[45].
إن أصل الحياة لدى هويل معني غالباً بمسألة الترتيب الدقيق للذرات في هياكل وتسلسلات معقدة ومحكمة. فهذا الترتيب، بما ينطوي عليه من دقة لا تُفسّر بالصدفة أو التراكم العشوائي، يُعدّ في نظره قرينة دامغة على تدخّل الذكاء، ذلك لأن الذكاء هو القدرة على توليد النظام من الفوضى، في حين أنّ العمليات الفيزيائية المعروفة تتجه في الاتجاه المعاكس، وفقاً للقانون الثاني في الديناميكا الحرارية (الثرموداينمك)، الذي يُفضي إلى انتقال النظام نحو التبدد والاضمحلال[46].
لذلك لم يقدّم هذا الفلكي أي آلية تفصح عن تكوين الجينات ونشأة الحياة الفضائية، والأمر مبرر إذ أوعز العملية إلى عنصر الذكاء والتخطيط الغائي. ومعلوم انه عند استنفاد البحث في الآلية يبدأ الفكر بالتطلع نحو المقصد والمعنى، أو الغائية، كما أشار إلى ذلك عمانوئيل كانت، حيث تبدأ الغائية حين تنتهي الآلية.
وانطلاقاً من هذا التصوّر، فإنّ الحياة ليست مجرد تفاعلات كيميائية، بل إنها تتطلب كميات من المعلومات الضخمة، ولا يمكن تفسير مصدرها إلا بالذكاء. فالفيزياء والكيمياء لا تنتجان المعنى أو المحتوى المعلوماتي من تلقاء نفسيهما، ما لم تكن موجّهة من قبل العقل أو الذكاء. لذلك لا يُستبعد أن يكون هذا المحتوى، أي جوهر الحياة ومعلوماتها الأصلية، مدفوناً بعمق في بنية المادة الجسيمية دون أن تُكتشف مفاتيحه بعد[47].
وسبقت الإشارة إلى أن هويل قد تنبّأ ـ بدقة حسابية مدهشة ـ بـ "رنين الكربون" خلال خمسينيات القرن العشرين، وهو مستوى طاقي خاص لا غنى عنه لتكوّن العناصر العضوية المعقدة. ولولاه لما أمكن لنوى الكربون أن تتشكل داخل النجوم، ما يعني استحالة ظهور الحياة كما نعرفها. وقد وُظّف هذا الاكتشاف لاحقاً ضمن ما يُعرف بـ "المبدأ الأنثروبي الضعيف"، الذي يرى أن معايير الفيزياء الأساسية في الكون تبدو كما لو أنها مُعدّة خصيصاً لظهور الحياة والوعي.
لقد ميّز هويل بين نوعين من الذكاء: خارق ومفارق. واعتبر الأخير هو ما تتبناه الأديان التوحيدية المعروفة كاليهودية والمسيحية والاسلام، والتي تجعل الإله متعاليًا عن الكون وخارجًا عن نطاقه. أما الذكاء الخارق، فقد تبنّته أديان ومذاهب أخرى مختلفة، قديماً وحديثاً، حيث لا ترى الإله مفارقاً للكون والطبيعة، مثل إله براهما في الهندوسية الحديثة، وينطبق هذا الحال على آلهة اليونان وغيرهم منذ قرون طويلة.
وكان موقف هويل مؤيداً للفكرة الأخيرة التي ترى ان الإله يقع داخل الكون لا خارجه، بل واتهم العلماء المناهضين لهذه الفكرة بأنهم متأثرون بالتقاليد اليهودية والمسيحية في جعل الإله مفارقاً، الأمر الذي يفسر اقبالهم على تبني نظرية الانفجار العظيم[48]. لذلك شاع عنه قوله:
لطالما اعتقدت ان من الغريب، في الوقت الذي يطالب فيه معظم العلماء بتجنب الدين، أن يكون الدين مهيمنًا على أفكارهم أكثر من هيمنته على أفكار رجال الدين أنفسهم [49].
أما ويكراماسينج، فقد ذهب إلى ما هو أبعد، إذ ساوى بين الإله والكون ذاته، وذلك على شاكلة ما سبق للفيزيائي جيمس جينز James Jeans ان أكد هذا المعنى المغلق[50]. وهو موقف يتناسب مع اعتقاده بأزلية الكون وعدم تناهيه[51].
ويمتاز الإله وفق الأطروحة الأصلية لهويل وويكراماسينج بخصلتين جوهريتين: عدم المفارقة واللاطبيعانية. وهما من خصائص "أثير الذكاء الروحي". فهو كيان محايث للكون لا مفارق له، لكنه في الوقت ذاته يتجاوز الوجود المادي وحدوده الفيزيائية، فلا يُختزل ضمن قوانين الطبيعة أو صورها المألوفة.
وسواء في الأديان التوحيدية أو في غيرها؛ نجد كلا المعنيين للإله المحايث والمفارق وفق ثلاثة معان مختلفة، حيث تارة تقتصر الرؤية على الإله المحايث، وأخرى على الإله المفارق، وثالثة من خلال الجمع بين المفارق والمحايث. ولتوضيح هذه الأشكال المختلفة نتبع ما يلي:
1ـ تتضمن الأديان التوحيدية بعض الأفهام المشيرة إلى الإله المحايث، حيث تصف الإله بأوصاف تجعله لا يخرج عن المجال الكوني العام. ففي الاسلام مثلاً يوصف بأنه جالس على العرش وفوق السماوات السبع، وهو ينزل إلى السماء الدنيا، كما له صفات كالوجه والعينين واليدين اليمينين والأصابع والمجيء والإقتراب، لكنها بلا تكييف ولا تمثيل، حيث ليس كمثله شيء، وهو من هذه الناحية لا طبيعاني. ويشيع هذا الاعتقاد لدى الاتجاهات البيانية في الأديان التوحيدية.
كذلك تتضمن هذه الأديان أفهاماً مضادة تجعل من الإله خارج الكون بما يتجاوز المكان والزمان؛ بحيث لا يوصف بأي شيء مما توصف به الأجسام، وبالتالي فهو مفارق غير محايث، كالذي تراه الاتجاهات العقلية.
وأحياناً نجد في الأديان التوحيدية ما يجمع بين الإلهين المفارق والمحايث، كالذي تتبناه الرؤية الرسمية للمسيحية، حيث يمثل الأب الإله المفارق، فيما يمثل الابن (عيسى) الإله المحايث. ومثل ذلك النزعات الصوفية والفلسفية في هذه الأديان، والأمر واضح لدى فلاسفة وعرفاء الاسلام.
2ـ كما نجد ذات المعاني الثلاثة للإله حاضرة لدى الأديان الأخرى والفلسفات القديمة. فالأديان القديمة غالباً ما تعتقد بالآلهة المحايثة المتعددة الأشكال، وتُجسدها في الكثير من الكيانات والظواهر الطبيعية، وعلى رأسها الأجرام السماوية، وقلّما تجعل من الإله مفارقاً.
ويمكن ان نجد صورة الإله المفارق لدى عدد من الفلاسفة اليونانيين، لكن الغالب فيهم هو الجمع بين المفارق والمحايث، أو بين الذات المتعالية والفعل الصادر عنها. ورغم ان الفلاسفة يجعلون من الأخير مفارقاً، لكن بعض الشروحات المتأخرة جعلت منه ما يحمل الازدواج، فهو مفارق ومحايث، كالذي نقله ابن رشد عن القدماء اثباتهم للفعل المطلق الواحد الساري في سلسلة الوجودات، فهو قوة روحية تمسك بأجزاء الموجودات الممكنة كلها والتي بفعل هذه القوة ظهر وجود هذه الممكنات. وان هذه القوة تسري في الكل سرياناً واحداً، وانها على وحدتها تتنوع بحسب ما عليه طبائع الموجودات، فتكون في القديم قديماً وفي الحادث حادثاً وفي العقل عقلاً وفي الجسم جسماً، وأنها مفارقة مع كل مفارق، وملابسة للمادة مع كل مادة، فهي مفارقة وملابسة؛ كل بحسب رتبته الخاصة في سلسلة الوجود، ولولا حضورها فيها بنحو ما من الأنحاء ما كان لها من أثر ولا وجود[52]. وهي ذاتها التي تحدّث عنها صدر المتألهين الشيرازي كوجود منبسط يُطلق عليه "العقل الأول"، حيث انه فائض عن المبدأ الحق بإعتبارين مختلفين، إذ يمثل هذا العقل من جهة صدارة وكمال ذلك الفعل أو الوجود وتمامه، كما يعتبر من جهة أخرى سارياً في جميع أرجاء ما دونه[53].