يحيى محمد
ذكرنا خلال الحلقة الاولى من هذا البحث وجود اربعة مستويات لتطبيق معيار الطبيعانية في العلوم الطبيعية، وغرضها ابعاد الافتراضات الميتافيزيقية، واغلبها معني بابعاد فكرة الذكاء الميتافيزيقي تحديداً، اثنان منها يخصان علم الاحياء، واخران يتعلقان بالفيزياء. وقد استعرضنا الحديث عن واحد من هذه التطبيقات الاربعة، ويتعلق بالانتخاب الطبيعي كتفسير للتطور البايولوجي في قبال التفسير الغائي. وسنواصل في هذه الحلقة استعراض التطبيق المتعلق بنشأة الحياة.
أصل الحياة
تكاد تكون مسألة أصل الحياة الوحيدة التي كلما اشتدّ البحث فيها؛ ازدادت حيرة العلماء وتعقدت رؤاهم بشأنها، وذلك عقب اكتشاف التشفير الدقيق الذي ينظّم بنيتها، كما يتجلى في الحامضين النوويين الدنا (DNA) والرنا (RNA) وكيفية تعاونهما في صناعة البروتينات المعقدة، ضمن ما يُعرف بـ "نظام الترجمة".
وما زالت النظريات تتردد بين ان تكون الحياة ناشئة عن طريق الصدفة، أو القانون الحتمي، أو التنظيم الاحصائي الذاتي، أو الجمع ما بين الصدفة والقانون الطبيعي؛ حتمياً كان أو احصائياً، أو انها نتاج حدث أو مسار غير طبيعاني؟.
لكن ما الذي يجعل العلماء عاجزين عن معرفة هذه النشأة الخفية؟ هل يمكن ان تكون نتاج قوانين مدفونة في أعماق البنية الكونية مما يجعلها عصية على الاكتشاف؟ أو انها تعبّر عن حدث عرضي استثنائي من دون ان تمتّ إلى قانون محدد، وهذا ما يجعل نشأتها غير مفهومة؟
ولا شك أنه لو كانت الحياة نِتاجَ بعض القوانين - حتمية أو إحصائية - لكانت ظاهرةً شائعة في أرجاء الكون، إذ من المتوقع أن تكون الظروف الملائمة لنشأتها متوافرة بكثرة، وسط هذا البحر الزاخر من الكواكب المنتشرة ضمن مليارات المليارات من النجوم. أما لو كانت الحياة حادثاً عرضياً محضاً، نتج عن صدفة عمياء، لكان من المنتظر أن تظلّ حادثة فريدة، قاصرة على الأرض من دون شيوع.
ومن حيث النظر القبلي، قد يميل العقل إلى التصديق بشيوع الحياة في أرجاء الكون، إذ لا يستساغ أن تنفرد حبةُ رمل صغيرة، كالأرض، بالحياة وسط هذا الفضاء الفسيح المترامي بأجرامه ومجرّاته ونجومه العظيمة. ومن الطبيعي أن يستتبع هذا الميل العقلي افتراضَ انتشار الذكاء الكوني، إما للعلة نفسها، أو لأن الحياة على الأرض قد أفرزت الذكاء عبر مسار التطور، فيُتوقّع أن يقع مثيله في مواطن أخرى من هذا الوجود.
لكن مع ذلك، تظلّ هذه التصورات في حيّز الظنون العقلية، ولا ترقى إلى مرتبة الوثوق إلا إذا عضدتها شواهد علمية أو دلائل طبيعية محسوسة.
ومن الناحية العلمية، لا يزال التفكير في مسألة نشأة الحياة يدور ضمن إطار التفسير الطبيعاني، وذلك من خلال خمسة خيارات رئيسة، يضاف إليها خيار سادس يخرج عن هذا الإطار إلى أفق غير طبيعاني. أما الخيارات الطبيعانية الخمسة فهي كالتالي:
1ـ أن الحياة نشأت بمحض الصدفة، كحادث عارض أصاب الأرض من غير أن يكون ظاهرة شائعة في أرجاء الكون.
2ـ أنها انبثقت نتيجةً لقوانين كونية محتمة تنبع من معايير فيزيائية وكيميائية.
3ـ أن نشأتها كانت ثمرة تفاعل بين عامل الصدفة والقوانين الطبيعية.
4ـ أنها وليدة تنظيمات ذاتية، نشأت من تفاعلات إحصائية واحتمالات توافقية، وفقاً لنظام معقد من التوليفات.
5ـ أنها نشأت بسبب قوانين خفية كامنة في أعماق نسيج المادة الكونية، وربما تُعزى هذه القوانين الدفينة إلى شكل من أشكال التطور الخوارزمي.
وفي مقابل هذه التفسيرات الطبيعانية، يظهر خيار مغاير يرى أن الحياة لم تكن حصيلة آليات طبيعية صرفة، بل نتاج مسارات أو قوانين غير طبيعانية، وقد يدلّ عليه بعض أنماط التعقيد.
وتقوم الرؤية الأخيرة على فكرة وجود تخطيط غائي سابق، يقف خلف نشأة الحياة ويضبط مساراتها. وعند موازنة هذا التصور بخيارات التفسير الطبيعاني الخمسة، نجد أن خيار الصدفة - سواء أكانت منفردة أم ممتزجة بالقوانين - يقف في الطرف المضاد لمبدأ الغائية والتصميم على طول الخط. في حين تظلّ الخيارات الأخرى محتملة الانحياز إلى أحد الطرفين، إما إلى منطق التخطيط الغائي، أو إلى غيابه، بحسب تفسير تفاصيلها ونتائجها.
تجارب البحث في نشأة الحياة
تعود بداية الحديث عن نشأة الحياة علمياً إلى تجارب الكيميائي الالماني فريدريك فولر Friedrich Wöhler عام 1828، إذ تعبّر عن أول إمكانية تحويل مادة غير عضوية إلى عضوية هي اليوريا. ووقتها أوحت هذه التجارب بأن المادة الحية لا يفصلها شيء عن المادة الجامدة، ومن ثم ان من السهل إنتاجها عبر عدد من التفاعلات الكيميائية. وقد تطورت الفكرة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وترسّخ الاعتقاد بوجود مادة هلامية مؤلفة من مركبات كيميائية عديمة الشكل هي ما تمثل أساس الحياة، وتدعى البروتوبلازما، كالذي اعتقده العالمان توماس هكسلي Thomas Huxley وارنست هيگل Ernst Haeckel.
ثم تطور الحال مع أفكار عالم الكيمياء الحيوية السوفيتي الكسندر اوبارين Alexander Oparin منذ عام 1922. ويُعدّ أول من طرح نظرية مفصلة حول التولد التلقائي التطوري استناداً إلى الظروف البدائية التي أتاحت فرصة نشأة الحياة عبر التفاعلات الكيميائية والفيزيائية، ومن ثم قام بتطويرها عام 1938.
وفي ذلك الوقت، كان المعتقد ان الحياة هي نتاج تركيبة كيميائية بسيطة في محلول زلالي، وذلك قبل ان تتكشف التعقيدات المذهلة في بنى الجزيئات الخلوية، كالحامضين النوويين الدنا والرنا والبروتينات وغيرها. فبعد اكتشاف هذه المواد المعقدة وما تحمله من آليات دقيقة للتشفير والترجمة، بات من الضروري إعادة النظر في نظرية اوبارين بما يتوافق مع هذه المكتشفات، فقدّم نسخةً مُطوّرة من نظريته في عام 1968.
وكان اوبارين أول من اقترح فكرة الغلاف الجوي المختزل ليسهل من خلاله ان تتخلق المركبات العضوية، مثلما تتصف به عدد من كواكب المجموعة الشمسية، فافترض وجود مجموعة محددة من المركبات والعناصر الكيميائية، وهي الماء والميثان والأمونيا والهايدروجين. ومعلوم ان المواد العضوية في الكائنات الحية تتألف من ستة عناصر أساسية هي: الكاربون (C) والهايدرجين (H) والنايتروجين (N) والاوكسجين (O) والفسفور (P) والكبريت (S)، وتختصر بهذه الصيغة (CHNOPS).
وفي جميع الأحوال أصبح الباحثون بعد اكتشاف بنيتي الدنا والرنا وتشفيرهما معنيين بعدة أمور تتعلق بكيفية تخليق الحياة؛ كما تتمثل في الخلية التي هي مصنع لآلات ضخمة تقوم بوظائف متخصصة مختلفة، كالتكاثر ونقل الغذاء وتصريفه والتخلص من الفضلات وصنع الطاقة والبروتينات والقيام بالحركة وحفظ البقاء وما إلى ذلك.
لهذا فلأجل ان تتولد الحياة لأول مرة لا بد من ايضاح جملة قضايا تتعلق بها، كما في النقاط التالية:
1ـ لا بد من ايضاح كيف يمكن تحويل جزء من عالم مفتوح ومشتت إلى نوع من الالتئام والاستقلالية الفردية، كما هو حال الخلية، حيث انها محاطة بغشاء يحافظ على انفصالها واستقلالها النسبي عن العالم الخارجي.
2ـ لا بد من ايضاح كيف يمكن ان تتحول التفاعلات الكيميائية والفيزيائية لعدد من العناصر والمركبات غير العضوية إلى مركبات عضوية أساسية للحياة.
3ـ لا بد من ايضاح كيف يمكن تحويل المركبات العضوية إلى نُظم متماسكة تشكل أساس بناء الخلية الحية.
4ـ لا بد من ايضاح كيف يمكن جعل هذه النُظم متعايشة ومتعاونة مع بعض ضمن نسيج عضوي موحد، كما في الخلية القادرة على القيام بوظائفها بيسر وسلاسة.
5ـ لا بد من ايضاح كيف يمكن جعل هذا النسيج المتماسك ان يحافظ على ديمومته عبر القابلية على الاستنساخ والتوارث.
6ـ لا بد من ايضاح كيف ينتج هذا الاستنساخ والتوارث القابلية على الاختلاف والتغاير والتطور كما نلاحظه في العالم الحي.
***
هذه جملة من النقاط التي تواجهها كل نظرية معنية بنشأة الحياة، ومن بينها فرضية اوبارين. إذ كان يتصور ان ذلك يمكن ان يحدث عبر تفاعلات في حساء بدائي مؤلف من عناصر ومركبات كيميائية؛ تهيء التدرج إلى نُظم بسيطة جداً ومعزولة بغشاء واق عن العالم الخارجي، فتُشكّل ما يُعرف بالقوصرة، ومع تعريضها لملايين السنين للانتخاب الطبيعي يمكن ان تنتخب نفسها بنفسها[1].
لكن تبين ان نظرية اوبارين تحمل في طياتها عنصراً مرفوضاً، وهو الانتخاب الطبيعي الذي جعله يعمل في عالم ما قبل التضاعف والاستنساخ الحيوي، مع ان هذا الانتخاب مشروط بالتضاعف ليقوم بوظيفته.
مع هذا قام طالب الدراسات العليا الكيميائي الحيوي الامريكي ستانلي ميلر Stanley Miller باختبار الأساس الذي تقوم عليه نظرية اوبارين عام 1952؛ تحت اشراف الكيميائي الامريكي هارولد يوري Harold Urey الذي اقترح تحضير فكرة الجو المختزل كما جاء بها اوبارين لأول مرة. وكما أشار ميلر - بعد أكثر من أربعين عاماً - إلى ان الحال بين أمرين: إما ان يكون للأرض جو مختزل من الغازات والمركبات، أو من المحال صنع المركبات العضوية المطلوبة للحياة، وبالتالي لا بد من البحث عن نشأتها في الفضاء الخارجي، ومن ثم الكشف عنها في المذنّبات أو النيازك أو الغبار الكوني[2].
وفي الوقت الراهن، تبيّن ضعف النظرية الشائعة حول نشأة الحياة على الأرض، كما اتضح في أواخر عام 2020، وذلك بالنظر إلى الشروط المفترضة التي قامت عليها، كما في نظرية أوبارين وتجربة ميلر، إذ تبيّن أن الغازات الأساسية التي افترضتها النظرية، والتي بُنيت عليها التجربة، لم تكن متوفرة بالقدر الكافي في البيئة الأرضية المبكرة[3].
ومعلوم ان ميلر حاول ان يجعل تجربته تحاكي ما كانت عليه ظروف الأرض البدائية قبيل نشأة الحياة، طبقاً لافتراض الجو المختزل غير المؤكسد، فاستحضر دورقاً فيه مزيج لجملة من الغازات والعناصر الخاصة بهذا الجو، وهي الميثان والامونيا والماء والهايدروجين، ثم قام بتسخينه، وبعد ذلك مرر في المزيج شرارات كهربائية مستمرة شبيهاً بما يحدث في حالة البرق، وقد كُللت التجربة بالنجاح في تحضير عدد من المركبات العضوية والأحماض الأمينية، حيث بعضها يندرج ضمن اللبنات الأساسية لتكوين البروتينات الحيوية.
وفي مقابلة اُجريت معه عام 1996، أشار إلى ان هذه التجربة كانت مفاجئة لكل المعنيين بها، حيث الحصول على عدد كبير من الأحماض الأمينية، في حين ان الجميع كان يمكن ان يُسعد فيما لو تمّ الحصول على مجرد آثار للأحماض الأمينية، لكن التجربة أسفرت عن توليد (4%) من مجمل هذه الأحماض، واحتمل ان يكون هذا العدد هو أكبر عائد لأي تجربة لها علاقة بما قبل الحيوي.
وبلا شك ان هذه النسبة لها علاقة بمجمل ما موجود من أحماض أمينية في الطبيعة بحسب التقديرات آنذاك، وكانت تقدّر بحوالي ثمانين حامضاً أمينياً، وبعدها قُدّرت بأكثر من مائتي حامض، كالذي أشار إليه مايكل دنتون في عام 1999 ضمن كتابه الموسوم (قدر الطبيعة)[4]. واليوم تُقدر بحوالي خمسمائة حامض، لكن أغلبها ليس معنياً بالبروتينات الحيوية، فالقدر المتعلق بهذه البروتينات لا يتجاوز عشرين حامضاً من نوع محدد. أما البقية فلا علاقة لها بتركيبة البروتين الحيوي، بل يمكن ان يتشكل منها ما يسمى بأشباه البروتينات، أو البروتينات الكاذبة، باعتبارها ليست بايولوجية، ولها قدرة على التنظيم الذاتي لتكوين مثل هذه الأشباه.
مع هذا، صرّح ميلر في ذات المقابلة قائلاً: ‹‹بمجرد تشغيل الشرارة في تجربة أساسية لما قبل الحيوي سيؤدي إلى توليد أحد عشر من أصل عشرين حامضاً أمينياً››[5].
ويؤيد ما صرّح به، أن ستانلي ميلر ومعاونيه أعادوا عام 1972 تنفيذ تجربته الشهيرة لعام 1952، لكن باستخدام محللات كيميائية آلية أكثر تطوراً، فتمكنوا من تصنيع ثلاثة وثلاثين حمضاً أمينياً، من ضمنها عشرة أحماض تدخل في تركيب البروتينات الحيوية. ثم في عام 2008، وبعد سنة من وفاة ميلر، أعاد طلابه تحليل عينات التجربة الأصلية باستخدام تقنيات حديثة أكثر حساسية، فكشفت النتائج عن توليد اثنين وعشرين حمضاً أمينياً، وأظهرت أن التجربة الأولى قد أسفرت عن إنتاج مركّبات تفوق بكثير ما تمّ الإعلان عنه في بحثه المنشور بعد سنة من هذه التجربة[6].
لقد استطاعت تجارب ميلر ان تحضّر عدداً من الأحماض الأمينية التي لها علاقة بالبروتينات الحيوية، لكنها لم تكن معزولة عن التدخل البشري، بما فيها تجربته الأصلية، حيث أُزيلت الشوائب المثبطة والغازات السامة عن عمد خلال عمليات التفاعل للحفاظ على النتائج المرجوة.
وقيل ان الأحماض الأمينية التي تمّ توليدها اتصفت ببساطة التركيب الكاربوني، فأبسط الأحماض الأمينية التي يتألف منها البروتين يحمل ذرتين من الكاربون، وما احتوته تجربة ميلر كانت ما بين الذرتين والثلاث[7]، وليس بين الأحماض الأمينية من تحمل ذرتين وثلاث سوى أربعة أحماض، أما البقية فأكثر من ذلك، وأغلبها تحمل ست ذرات[8]. لهذا كانت تجربة ميلر سهلة التحضير بشكل تلقائي من دون غرابة، فيما ان البروتين الحيوي يتضمن أحماضاً كثيرة تتصف بالتعقيد.
لقد كانت التجربة الأصلية لميلر واعدة في وقتها، وظن العلماء – حينها - ان استحضار الحياة من المادة اللاعضوية أمراً هيناً عند محاكاة هذه التجربة الرائدة، بل واعتبروا ان الأخيرة تثبت ان الحياة ليست وليدة الصدفة كما كان يعتقد في السابق، بل هي نتاج القوانين الحتمية.
إن كل ما أحرزته تجربة ميلر الأصلية لم يتجاوز تحضير عدد محدود من الأحماض الأمينية البسيطة التي تساهم في تكوين أجزاء من البروتين. ومع ذلك، اعتُبرت التجربة مشجعة، وعلى ضوئها أُجريت تجارب محاكاة أخرى مع نهاية القرن العشرين. وبعد جهد مضنٍ، أمكن الوصول إلى العدد الكامل من الأحماض الأمينية اللازمة لتكوين البروتينات، كما تمّ تصنيع عدد كبير من البروتينات القصيرة التي تتألف من سلاسل أمينية محدودة الطول. أما البروتينات الطويلة، فكان من العسير تصنيعها بسبب التكلفة الباهظة المرتبطة بتخليق سلاسل الحامض النووي اللازمة لتشفيرها وترجمتها. وقد يستغرق إنتاج بروتين طويل واحد عدة سنوات. وغالباً ما تُستخدم البروتينات القصيرة في صناعة الأدوية الطبية المتعارف عليها، بوصفها مضادات حيوية.
لكن هذه التجارب نُقدت باعتبارها لا تبين كيف ينشأ البروتين عفوياً، فضلاً عن نشأة الحياة ذاتها، إذ كانت محكومة بتدخل الذكاء البشري دون ان تُترك تلقائياً، سواء كان ذلك بفعل القوانين الحتمية، أو بفعل الجواذب الذاتية، أو المصادفات العشوائية.
وكان ديدن عمل القائمين على هذه التجارب هو الاحتفاظ بالمواد المطلوبة والتخلص من الشوائب المفككة لها، وكذا السامة المثبطة للتفاعلات المرغوب فيها، مثل مادة القطران التي ترافق التحضيرات التجريبية، ومثل الاحتفاظ بالأشعة فوق البنفسجية القصيرة الموجة، وازاحة الطويلة منها لكونها تساهم في تفكيك الأحماض الأمينية.
مسالك تفسير نشوء الحياة
على صعيد البحث النظري، ظهرت عدة فرضيات حاولت تفسير نشأة الحياة بعد انكشاف التعقيد الحاصل في الأحماض النووية والبروتينات. فبعض العلماء اقترح ان تكون البداية مع البروتينات لارتباطها بعمليات الأيض أو التمثيل الغذائي، فيما افترض آخرون ان تكون الأحماض النووية هي ما تشكل البداية الفعلية لارتباطها بالتكاثر. كذلك ذهب جماعة إلى ان نشأة الحياة مرتبطة بالفضاء لا الأرض، تبعاً لعدد من الكيفيات. وفي الحياة الطبيعية نجد ان عمليات الأيض البروتيني والتكاثر كلاهما ضروريان ومندمجان معاً. لكن المشكلة هي أيهما كان الأساس في نشأة الآخر؟ مع استبعاد ان تكون النشأة متضمنة لكلا النوعين من العمليات في الوقت ذاته، باعتبار ان هذا الافتراض يتنافى مع مبدأ البساطة العلمية.
1ـ فرضية التنظيم الذاتي
تعتبر أطروحة التنظيم الذاتي أهم النظريات التي عولت على البداية البروتينية قبل الأحماض النووية. فمع نهاية الستينات ظهرت فكرة الائتلاف الذاتي بين الأحماض الأمينية في بناء البروتينات ضمن التفاعلات الكيميائية، كالتي بشّر بها دين كينيون Dean Kenyon وجيري ستاينمان Gary Steinman في كتابهما المشترك (القدر الكيميائي الحيوي) عام 1969. ومن ثم تبناها العديد من العلماء أمثال ستيوارت كوفمان Stuart Kauffman وبريان جودوين Brian Goodwin ودوين فارمر Doyne Farmer ونورمان باكارد Norman Packard وغيرهم.
وبداية أبدى الباحثان كينيون وستاينمان مديونيتهما لعدد من العلماء الذين لعبوا دوراً في تطوير البحث المتعلق بنشأة الحياة البدائية، وخصوا بالذكر كلاً من كالفين Calvin وباتي Pattee وليليفيك Lillevik، بالاضافة إلى اوبارين[9].
وقد اقترحت نظريتهما أن الحياة لم تنشأ بمحض الصدفة والعشوائية كما كان يُعتقد سابقاً، ولا بفعل قانون حتمي صارم، بل كانت ثمرةً لعمليات الجذب الذاتي بين مكونات الحياة الكيميائية، بالاستناد إلى مبدأ التفضيل وقوة الاحتمال. فبعض الأحماض الأمينية يتمتع بقابلية أعلى للارتباط بأحماض معينة دون غيرها، أي أن هناك تفضيلاً لتسلسلات محددة على حساب أخرى. وهي قوى جذب وتنظيم تؤدي إلى ارتباط مجموعة من الأحماض بشكل مخصوص، ومنها تشكّلت البروتينات[10]، دون تدخل من الأحماض النووية كالدنا (DNA). ومن هنا، كانت العملية في بداياتها كيميائية خالصة، لا علاقة لها بالتشفير والمعلومات الوراثية التي يختزنها الدنا، كما تطوّر لاحقاً.
وبعبارة ثانية، ركزت هذه النظرية على بناء البروتينات كخطوة أساسية واعتبار الحامض النووي الدنا DNA يعتمد عليها، مع ان الحاصل في الحياة الفعلية هو العكس، حيث ان بناء البروتينات يعتمد على تخطيط الدنا للمعلومات التي يمتلكها، وبدونه لا يمكن للبروتينات فعل شيء.. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدنا ليس بوسعه فعل شيء دون مساعدة بعض البروتينات، فليس بإمكانه ان يضاعف نفسه ولا ان يصنع شيئاً بدونها، لذا فالعلاقة بينهما دورية محيرة، كعلاقة البيضة بالدجاجة.
وقد اعتبر الباحثان ان هذه العملية جرت بالطريقة نفسها التي تحصل في تفاعل وحدات بلورة غير عضوية لتوليد بلورة منتظمة ثلاثية الأبعاد[11].
مع هذا تخلى أحد الباحثين عن نظريته منذ حوالي منتصف السبعينات، وهو دين كينيون الذي ناصر في البداية حركة الخلقويين، ومن ثم التحق بركب أنصار التصميم الذكي.
نظرية كوفمان
يعتبر الطبيب وعالم الأحياء النظرية ستيوارت كوفمان أشد المتمسكين بنظرية التنظيم الذاتي وأكثرهم ابداعاً واشباعاً لبحثها. فقد جعل من هذه الفكرة حجر الزاوية، لا في تفسير النُظم البايولوجية فحسب، بل في فهم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية أيضاً، فضلاً عن تطبيقها في النُظم الفيزيائية والكيميائية وغيرها، كالذي فصّل الحديث عنها ضمن كتابه الشهير (في بيتنا في الكون) الصادر عام 1995، وفي عدد من دراساته الأخرى.
وفي اطروحته العامة اعترض كوفمان على نظرية داروين وحسبها عاجزة عن تفسير تطور الكائنات الحية، منكراً ان يكون للانتخاب الطبيعي قدرة كافية على تفسير النُظم الحيوية كما نراها في عالم الطبيعة. فمن وجهة نظره ان هذه الفكرة غير معقولة وتبعث على الذهول، حيث نجد نظاماً رائعاً جداً؛ سواء في نشأة الحياة أو تطورها، فكيف يمكن ان يكون الانتخاب الطبيعي مصدره الأساس؟ لذلك صرح بالقول: ‹‹من حدسي، من أحاسيسي dreams، من عملي ثلاثة عقود، من عمل الكثير من العلماء الآخرين، لا أعتقد ذلك››[12].
وقدّم في هذا المجال بعض النماذج الدالة على عجز الانتخاب الطبيعي في ان تكون له قدرة على تفسير ما يجري في نُظم الحياة، من بينها الصيرورة التي تتحول فيها بيضة مخصبة إلى طفل حديث الولادة. وأضاف إلى ان من الممكن ان ينشأ النظام المذهل من دون الاعتماد على الانتخاب الطبيعي، كما يلاحظ في عالم الكون من ظواهر فيزيائية، مثل تناسق ندفة الثلج السداسية الشكل[13].
وعادة ما يُنظر إلى التطور في علم الأحياء، بأنه أحداث عرضية، في حين رأى كوفمان أنه على العكس من ذلك يمثل انعكاساً للنظام العميق. وهذا ما جعله يتفاءل في ان يعثر على قوانين جميلة تفضي إلى نشأة الحياة والتطور، رغم تعذر إمكانية التنبؤ بالتفاصيل الدقيقة، معتبراً ان سمة هذه القوانين هي التزاوج بين التنظيم الذاتي والانتخاب الطبيعي الذي يعمل عليه[14].
ووفقاً لهذه القوانين، فإن معظم الترتيب الجميل في مرحلة التطور الحيوي يتسم بأنه طبيعي عفوي التنظيم. وهو من هذه الناحية يعتبر مجانياً، وأبرز مثال عليه شبكات التنظيم الذاتي للجينوم[15].
وبحسب كوفمان فإن العلماء يدركون لاشعوراً وجود مثل هذه النُظم التلقائية، لكنهم يتجاهلونها، ويكتفون بالتركيز على الانتخاب الطبيعي. وأصبح الحال أشبه بما يحدث في الصور الجشطالتية، حيث التركيز على صورة معينة يخفي الثانية، وما لفت انتباه علماء الأحياء هو صورة الانتخاب الطبيعي، فيما ظلت الصورة الأخرى للتنظيم الذاتي خفية. مع انه من وجهة نظره ان كلا الصورتين يعبران عن الحقيقة بتمامها، بل وان التنظيم الذاتي المجاني هو الأساس في نشأة الحياة وتطورها[16].
وتتأسس القوانين العميقة، التي سعى كوفمان لاستحضارها، على الجواذب الذاتية التي تجعلها متوقعة الحدوث وفق الاحتمالات وتوافيقها المنطقية، وهو المعنى الذي أراده من عنوان كتابه (في بيتنا في الكون). حيث من الطبيعي ان نكون في هذا الموطن، فهو المتوقع بفعل هذه الجواذب، ولسنا نتاج أحداث عرضية كما يتصورها أغلب العلماء، خاصة أتباع الداروينية الذين يؤكدون المعنى العرضي للحياة والتطور[17].
ولا شك ان كوفمان لم يلمّح في عنوان كتابه المشار إليه، ولا في اطروحته الضمنية، إلى وجود مخطط أو علة غائية تقف خلف الظواهر الكونية والحيوية، وذلك على خلاف ما ذهب إليه مايكل دنتون الذي رأى في كلامه تلميحاً للعلة الغائية، استناداً إلى عبارته القائلة: “علينا ان نرى أننا باجمعنا تجليات طبيعية لنظام أعمق، وسنكتشف ختاماً في قصة خلقنا ان المشهد ينتظرنا في كل الأحوال”[18].
غير أن هذا النص، وسائر ما ورد في الكتاب، لا يعكس في الحقيقة سوى إيمان كوفمان بفاعلية جواذب الائتلاف الذاتي التي تتحكم في كل ما يحدث ضمن الحياة، من دون الحاجة إلى علل إضافية، سوى ما يتيحه الانتخاب الطبيعي، حيث أكّد مراراً أن للذرات والجزيئات ميلاً ذاتياً نحو تشكّل الحياة وتطورها.
كما ان كوفمان وغيره من أصحاب نُظم الائتلاف الذاتي، لم يكونوا من اتباع المذهب الحتمي، خلافاً لما اعتقده ستيفن ماير، حيث اعتبرهم يحملون توجهاً حتمياً في قبال المذهب القائم على الصدفة[19]. وحقيقة ان نظريات الجذب والائتلاف الذاتي هي احصائية قائمة على التوافيق الاحتمالية، وإن كانت النتيجة التي تنتهي إليها لا تختلف عن القوانين الحتمية الصارمة. وهو ما يذكّر بالخلاف الذي حدث بين ماكس بلانك وبولتزمان.
لقد استعاد كوفمان المفاهيم الاحصائية لدى الفيزياء الحديثة، كما في علم الديناميكا الحرارية والميكانيكا الاحصائية لكل من كارنو وبولتزمان وجوزيه جيبس Josiah Gibbs، مضيفاً إليها ما قدّمه داروين حول الانتخاب الطبيعي. وأشار إلى انه اشتغل طيلة 30 عاماً على إظهار الظروف التي تُنتج الديناميكيات المنظمة[20]. واعتمد بشكل أخص على الفهم الدقيق الذي قدّمه بولتزمان للقانون الثاني للثرموداينمك، فعندما يكون لدينا صندوق مليء بالجزيئات سنتوقع انها تتوحد في الاتجاهات المختلفة للصندوق دون ان تتجمع في زاوية محددة، ليس لأن الأمر ناجم عن حتمية معينة، انما هو نتيجة الاحتمالات الاحصائية التي يمكن ان يتوجه إليها كل جزيء من الغاز. ما يعني ان تجمع هذه الجزيئات في زاوية معينة هو أمر محتمل، لكنه في غاية الضآلة[21].
فهذا النوع من النظام البسيط قائم على قوانين العشوائية الخالصة. وعادة ان النُظم الفيزيائية البسيطة تُظهر ترتيباً تلقائياً، مثل كرة الزيت الطافية على الماء وندف الثلج السداسية الشكل. وهو ما يميز الفيزياء الاحصائية عن الفيزياء الحتمية وفيزياء الكوانتم.
ومعلوم ان أبرز من اشتغل على الديناميكا الحرارية التي تُظهر الانتظام عفوياً حتى في المجال الحيوي هو الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ايليا بريغوجين Ilya Prigogine، حيث حدد نشوء هذا الانتظام عندما يكون النظام مفتوحاً غير متوازن تبعاً للطاقة المتدفقة، مثلما يحصل في الأعاصير الدوامة وتيارات الحمل الحراري وتشكل هياكل البلورات وسائر أشكال التكرار المتغير المعروف بهندسة الفراكتال Fractal Geometry؛ كما حددها عالم الرياضيات المتميز ماندلبورت Mandelbrot عام 1975، وهي التي استقطبت اهتمام نظرية الشواش Chaos theory، ومن نتائجها ان النظام يستتر تحت الاضطراب بنسبة محددة ثابتة؛ هي ما تعرف بمعادلة الشواش أو الجاذب الغريب، ومقدارها يساوي (4.6692016090)[22].
ويسمى النظام الديناميكي في الفيزياء الاحصائية بالأرجودي ergodicity كما صاغه بولتزمان. ويُقصد به أن نقطة نظام متحرك عشوائياً، ديناميكي أو تقلبات متنافية، ستزور في النهاية جميع أجزاء الفضاء الذي يتحرك فيه النظام بشكل موحد. وهذا ما يهيء لنا استنتاج متوسط سلوك النظام لدى العينات العشوائية الكبيرة؛ سواء في حالة العشوائية الديناميكية المحافظة على النظام وفقاً لما يسمى بمقياس سيجما، أو في حالة التقلبات المتنافية، كوجهي العملة في الرميات الكبيرة التي تحافظ على النظام الثابت، وفقاً لما يسمى بمقياس برنولي. وتعتبر النُظم الفيزيائية بهذا المعنى أرجودية[23].
لقد اعتبر كوفمان ان النظام العفوي (الأرجودي) للعشوائية الديناميكية ينبسط على الحياة أيضاً، وبذلك تكون مساحته أكبر بكثير مما كان متوقعاً[24]. وهو في عام 2003 رشّح وجود قانون رابع للديناميكا الحرارية يُعنى بالنُظم الديناميكية المفتوحة لكنها ذاتية البناء، مثل المحيطات الحيوية[25].
فمن وجهة نظره ان النُظم الحياتية هي أيضاً متولدة عفوياً من العشوائية وفقاً لبعض الشروط المتعلقة بالجواذب، شبيه بما يحصل عند انتشار جزيئات الغاز، حيث توجد جواذب صغيرة تعتبر مصدر النظام الحاصل بين مجموعة واسعة من السلوكيات المختلفة، فيستقر النظام في عدد قليل منها. فالنظم الحية هي نُظم ديناميكية حرارية مفتوحة يتم إزاحتها باستمرار عن التوازن الكيميائي بفعل تدفق الطاقة والمادة، وبذلك تُبنى الجزيئات المعقدة التي تمثل الرموز المميزة في لعبة الحياة[26].
فعوامل الجذب الصغيرة لا تُنشئ النظام مجانياً فحسب، بل هي أيضاً مصدر التوازن الذي يشكل ضمان استقرار النظام، وذلك من خلال مقاومة الاضطرابات الصغيرة[27]. فالحال أشبه ما يكون بتحول بخار الماء إلى جليد، حيث يمر بمرحلتين انقلابيتين كحدٍّ للعتبة، هما السيولة والتجمد. وتمثل المرحلة الأولى وسطاً بين العشوائية والنظام.
وأقرب مثال فيزيائي ركز عليه كوفمان بهذا الصدد هو ما يحصل من نظام عند اضاءة واطفاء مجموعة واسعة من المصابيح عشوائياً، فعند حد حرج يتحقق النظام، واعتبر ذلك شبيهاً بما حدث في نشأة الحياة[28].
هكذا أسقط كوفمان نُظم الجواذب المعمول بها في الفيزياء الاحصائية على الحياة مع اضافة الانتخاب الطبيعي. وهو اختزال شبه تام لعلم الأحياء في الفيزياء، الأمر الذي تداركه عام 2019.
ففي المجال الحيوي صرح بوجود نظام جماعي يمتلك خاصية مذهلة لا يمتلكها أي جزء من أجزائه، فهو قادر على إعادة إنتاج نفسه ويتطور. ومن ثم فالنظام الجماعي حي، في حين ان أجزاءه مجرد مواد كيميائية لا أكثر[29]. وينطبق هذا الحال على علاقة أجزاء الخلية بالخلية ككل. وهو المعنى الذي كرره بعد حوالي ربع قرن، حيث اعتبر الحياة ليست بسيطة ولا عارية كما في الرنا العاري، فهي شبكة تامة التعقيد لتضمنها ردود الفعل المتبادلة التحفيز دون ان تمثل خاصية جزيء منفرد، بل خاصية نُظم الجزيئات المتفاعلة بأجمعها. فالحياة ظهرت كاملة، وما زالت كاملة، كخاصية جماعية ناشئة عن الكل الجماعي. وهي من هذه الناحية لا تحتاج إلى قوة مستقلة كالقوة الحيوية، وان النظام الخلوي هو آلة لا يتألف من المادة وحدها، أو الطاقة وحدها، أو الانتروبيا وحدها، أو الظروف المحيطة بها وحدها، بل انه تنظيم لها جميعاً في وحدة متكاملة[30].
وطبقاً لما سبق اعتقد أن الخلطات المعقدة بما فيه الكفاية من المواد الكيميائية يمكن أن تتبلور تلقائياً في نُظم لها القدرة على تحفيز شبكة التفاعلات الكيميائية بشكل جماعي، وتحافظ مجموعات التحفيز الذاتي هذه على نفسها وتتكاثر، كما هو حال "الببتيدات"، وهي انزيمات بروتينية صغيرة، كما في بعض جزيئات الطعام[31].
وعادة ما يتم الاعتماد في تفسير نشوء الحياة على إمكانية صنع الببتيدات، وبعضها يعتبر من المحفزات الانزيمية المستخدمة في الأدوية، وتحتوي عادة على ستة أحماض أمينية، ويمكن في هذه الحالة إنتاج (64) مليون بروتين مختلف منها[32]؛ وفقاً لعدد التوافيق، ضمن قائمة العشرين حامض أميني، أي ان احتمال نشوء أي واحد منها عشوائياً هو واحد من ذلك المقدار (20-6).
وبهذا المعنى اعتبر كوفمان ظهور الحياة ليس غامضاً، وقد يكون أسهل بكثير مما كان متوقعاً. فتبعاً للاعتبارات الفيزيائية والكيميائية انه إذا تراكم مزيج متنوع بدرجة كافية من الجزيئات في مكان ما، فإن احتمالية ظهور نظام التحفيز الذاتي والتكاثر الذاتي يصبح أقرب لليقين[33].
لقد راهن هذا العالم على إمكانية ظهور الحياة كنُظم تحفيز ذاتي جماعي تدور في بعض الحساء من دون جينوم. إذ انكر وجود أحماض نووية عارية تتضاعف بذاتها[34]، واعتمد عوضاً عنها على البروتينات المحفزة، معتقداً بأن التحفيز الذاتي الذي يمنح التكاثر ومعظم التحفيز الخلوي انما يكون بواسطة انزيمات البروتين لا الأحماض النووية[35]. واعتمد في ذلك على تجارب البروفسور الايراني والأمريكي رضا غديري Reza Ghadiri وفريقه من معهد سكريبس للأبحاث في كاليفورنيا، والتي أثبتت صنع بروتين صغير جداً يتكاثر ذاتياً في عام 1996.
وقبل هذا الوقت كان الاعتقاد السائد ان البروتينات لا تمتلك القدرة الكافية على التكاثر لغياب الحلزون المزدوج للدنا. وعلى هذا الأساس اعتبر كوفمان ان تكوين الببتيدات الصغيرة وظهورها العفوي ما قبل الحيوي ينبغي ان يؤخذ بمحمل الجد[36].
وحول تجربة رضا غديري، فقد وجد فريقه أن النُظم البيئية الجزيئية، التي تتكون من عدد قليل من البروتينات، يمكنها التكاثر الذاتي وتصحيح أخطاء النسخ المتماثل. ففي التجربة كان المضاعف عبارة عن ببتيد مكون من 32 حامض أميني شكّل السقالة التي ترسو عليها قطعتان أصغر، ودُمجت لتكوين ببتيد متطابق مكون من هذا العدد من الأحماض الأمينية.
وعبّر غديري عن هذه النتيجة قائلاً: ‹‹لقد فوجئنا بأن مثل هذه البروتينات البسيطة يمكن أن تتصرف وكأن لها عقلاً خاصاً بها››[37].
مع هذا فإن الأصل في التجربة هو تحضير بروتين صغير مُجهّز سلفاً دون ان يتكون تلقائياً. كما ان التضاعف الحاصل يتسم بالبساطة ولا يمكن مقارنته بالنسخ المعقد للدنا، ولا يمكن اعتباره الأصل في عملية الترجمة التي يقوم بها هذا الحامض كما في تخليق البروتينات العملاقة.
***
يبقى أن كوفمان قد أقرّ، في عام 2019، بوجود خلل أو شيء مفقود في كتاباته السابقة، وهو ما جعله منزعجاً كما أبدى ذلك في مقدمة كتابه (عالم ما وراء الفيزياء). فقد اعترف بأن عالم الحياة ينفرد بمعنى أصيل وعميق يتمثل في الوظائفية، وهي سمة لا نجد لها نظيراً في العوالم الأخرى، كالعالم الفيزيائي. وأشار إلى خطأ الاعتقاد القائل بأنه كلما زاد البحث؛ كلما تأكدنا بأن الكون بلا معنى، كما ذهب إلى ذلك الفيزيائي المعروف ستيفن واينبرغ، انطلاقاً من الأفق الفيزيائي البحت. في المقابل، توصّل كوفمان إلى نتيجة مغايرة، مستنداً إلى غزارة الوظائفية في الحياة وتطوراتها، فرأى أن للكائن الحي وجوداً وظيفياً في كون غير أرجودي nonergodic universe، فوق مستوى الذرات[38].
لذلك لا ينفع في هذه الحالة اسقاط النُظم الفيزيائية على الحياة، ولا استعارة قوانينها واعتبار ما يحصل متوقعاً نتيجة قوانين الجذب العفوي. ففي الكون غير الأرجودي لا يمكن استنتاج وتوقع ما حصل من تطور منذ بداية الكون؛ لعدم وجود قوانين تستلزم ظهور التنوعات ومجمل المحيط الحيوي[39].
وبلا شك ان هذا المعنى جاء مخالفاً للتأسيس القائم على التحفيز الديناميكي الذاتي وفق اُطر الكون الأرجودي.
ولعلّ أبرز نقد يمكن توجيهه إلى نظرية كوفمان وسائر نظريات الجذب والتنظيم الذاتي، هو أنه لو صحّت هذه الأطروحات، لكان من المتوقع أن تنشأ الحياة تلقائياً بمجرد مزج مكوناتها وأجزائها ضمن ظروف ملائمة، أو على الأقل أن تتشكل جزيئاتها الكبرى، كالأحماض النووية والبروتينات، بصورة عفوية. غير أن شيئاً من هذا لم يتحقق، رغم ما بُذل من جهود حثيثة وتجارب مدعومة بأعلى مستويات الذكاء البشري وتقنياته المتقدمة، إذ لم يفلح العلماء حتى اليوم في تخليق أبسط خلية حية بقصد وتصميم.
وما هو أعجب من ذلك أن الحياة - في مظهرها العملي - تبدو غير عكوسية، فالكائن الحي إذا مات، أو إذا تلفت خلية من خلاياه، تعذّر إحياءها من جديد، حتى وإن بقيت مكوناتها كاملة وسليمة لم يمسّها التحلل.
وعلى وجه العموم، فإن هذه النظريات تعجز عن تفسير كيفية نشوء الحياة تلقائياً، كما تعجز عن بيان الكيفية التي تخصصت بها الخلايا الحية ضمن سياق عشوائي تلقائي. ففي النمو الجنيني مثلاً، لماذا يتوقف بناء أحد الأعضاء في لحظة معينة ليبدأ في الوقت نفسه بناء عضو آخر، ضمن توقيت دقيق ومناسب؟ فأي قانون طبيعي - سواء أكان فيزيائياً أم كيميائياً - يمكنه تفسير مثل هذه العمليات البالغة التعقيد؟
ونشير أخيراً إلى ان قوانين التنظيم الذاتي للعلوم الطبيعية على شاكلة الفيزياء والكيمياء مختلفة جذراً عما يحدث في اطار التنظيم الحيوي. فقوانين التنظيم في العلوم الطبيعية بنيوية تكرارية بسيطة عادة، فيما ان نظيرتها في المجال الحيوي وظيفية معقدة دون ان تكون تكرارية، وان العوامل المسببة للأولى مختلفة تماماً عن العوامل المسببة للثانية. وهذا ما سنفصل الحديث عنه فيما بعد.
ونشير أخيراً إلى أن قوانين التنظيم الذاتي في العلوم الطبيعية، كعلمي الفيزياء والكيمياء، تختلف جذراً عن مثيلاتها في مجال التنظيم الحيوي. فالأولى بنيوية تكرارية بسيطة في الغالب، أما الثانية فهي وظيفية معقدة لا تتصف بالتكرار النمطي، والعوامل المحركة في كل منهما مختلفة تماماً. وهذا ما سنفصل الحديث عنه فيما بعد.
2ـ فرضية عالم الرنا
لقد واصل العلماء طرح فرضياتهم واقامة تجاربهم المتعلقة بنشأة الحياة، وفي الأخير سيطرت فكرة ان تكون هذه النشأة مرتبطة بسيناريو الحامض النووي الرايبي (الرنا RNA). ومعلوم انه تمّ اكتشاف الرنا عام 1956، أي بعد ثلاث سنوات من اكتشاف بنية الدنا.
وأهم وظيفة طبيعية يقوم بها حامض الرنا هو انه يستمد معلوماته من الدنا لأجل بناء البروتينات من سلاسل الأحماض الأمينية الطويلة[40].
فقد بدأت التجارب المتعلقة بالحامض النووي الرايبي (الرنا) منذ ثمانينيات القرن العشرين، وذلك بعد فشل التفسير القائم على كل من البروتينات والحامض النووي الدنا. وكان أول من اقترح فكرة وجود رنا عار من دون غشاء يمثل أساس خلق الحياة هو الفيزيائي وعالم الأحياء الكسندر ريتش Alexander Rich عام 1962، ومن بعده عالم الأحياء الدقيقة كارل ووس Carl Woese، كما في كتابه (الشفرة الجينية The Genetic Code) الصادر عام 1967، كذلك الكيميائي الحيوي ليسلي اورجيل Leslie Orgel عام 1968، ومثله فرانسيس كريك الذي اقترح في ذات هذا العام ان يكون الرنا قد صنع الرايبوسوم ribosome البدائي بالكامل. وقد شكّلت هذه الطروحات أساساً مشجعاً للاعتماد على سيناريو الرنا باعتباره تمهيداً لنشأة الحياة الأولى.
وبحسب هذه الفرضية يكون الرنا العاري أساس نشأة الحياة بفعل تجمع وارتباط لبناته الأساسية المتمثلة بجزيئات النيوكليوتيدات nucleotides. وفي الحالة الطبيعية أظهرت التجارب ان هذه الجزيئات لا تتكون من غير مساعدة الرنا نفسه. وبذلك تكون علاقة الأخير مع أجزائه كعلاقة البيضة بالدجاجة.
ومن حيث الأساس يتكون الرنا من امتدادات لسلسلة طويلة من نيوكليوتيدات معينة يتصف ارتباطها بنوعية محددة دقيقة لحمل المعلومات الوظيفية.
ومعلوم ان النيوكليوتيد هو جزيئة تتكون من قاعدة نايتروجينية مرتبطة بعمود فقري من السكر والفوسفات، والتي يتألف منها حامض الرنا، ومثله الدنا، ليشكل جزيئة ضخمة عبر سلسلة طويلة منها. ويوجد لكل من هذين الحامضين النوويين أربع قواعد نايتروجينية، تتماثل ثلاث منها في كل منهما، وهي (الجوانين G والثايمين T والسايتوسين C) مع اختلاف الرابعة، ففي حامض الرنا توجد قاعدة اليوراسيل U، فيما توجد لدى حامض الدنا قاعدة الأدنين A. وفي كلا الحامضين ترتبط القواعد النايتروجينية بكل من سكر الرايبوز ومجموعة الفوسفات. ويكون الرايبوز في الرنا حاوياً على الاوكسجين بخلاف الدنا الذي يخلو منه.
وتعتبر عملية تكوين جزيئة واحدة من النيوكليوتيدات معقدة للغاية. وفي الحالة العادية أوضحت التجارب فشل تخلّق هذه الجزيئة عبر تفاعل وارتباط عناصرها الأساسية من القواعد النايتروجينية والسكر والفوسفات. أما تولّدها ذاتياً وفق ظروف الأرض البدائية فهو أقرب للاستحالة.
مع هذا اعتبرت تجارب الرنا خلال الثمانينات واعدة مثل تجارب ميلر الأصلية بداية الخمسينات. فالرنا يحمل عدداً من الخصائص الهامة التي تجذب الباحثين للتعويل عليه. فمن جانب انه أبسط من الدنا لاحتوائه على طوق واحد بدل الطوقين، وهو مشابه له بدرجة كبيرة، مع وجود بعض الاختلافات التي أشرنا إليها سلفاً. وفي بعض الحالات يمكنه تخزين المعلومات واستنساخها بطريقة مشابهة لما يحصل في الدنا، مثل ان بعض الفايروسات تستخدم الرنا كمادة وراثية حاملة للمعلومات بدلاً عن الدنا. كما يمكنه القيام بالتنظيمات الجينية مثلما يقوم بها الأخير، بما في ذلك قدرته على صنع نفسه بنفسه من دون مساعدة الانزيمات البروتينية، فله القدرة على التكاثر الذاتي بتصنيع جزيئات أخرى له، وهذا ما تعجز البروتينات عن القيام به، باستثناء ان بعض الأجزاء الصغيرة من سلاسل الببتيدات يمكنها التكاثر ذاتياً مع تصحيح أخطاء النسخ على شاكلة ما يفعله الحامض النووي الدنا، كالذي تمّ اكتشافه على يد رضا غديري كما عرفنا[42].
وفي بعض الكائنات المجهرية تكون للرنا قدرة على التجزء ليلعب دور البروتين المحفز، ومن ثم التجمع والعودة كحامض نووي كما كان. وكما ثبت في عام 1986 ان بوسعه ان يكون في الوقت ذاته جيناً حاملاً للمعلومات وانزيماً يتداخل في تحوله الذاتي، وهو من شأن البروتينات[43]. وبذلك يمكنه تحفيز التفاعلات الكيميائية الضرورية للحياة، خلافاً للدنا الذي يتميز بالخمول ومقاومة التحفيز.
لكن تبقى مشكلة الرنا انه هش وغير مستقر وثابت نسبياً على خلاف الدنا، سواء من حيث درجة الحرارة؛ حيث يتفكك عند المستويات المعتدلة والعالية، أو من حيث التحلل المائي بسبب وجود مجموعة المركب العضوي الهايدروكسيل2 (2'-hydroxyl group) من سكر الرايبوز. لذلك افترض البعض احتمال ان تكون نشأته الأولى قد حدثت وسط ظروف جليدية[44].
ورغم إشكالية هشاشة الرنا وشدة تعقيده، رجّح الكثير من العلماء ان يكون هذا الحامض مقبولاً ليلعب دوراً مركزياً لحياة بدائية جداً، كالحياة الأولية، ومن ثم تحوّل هذا الدور إلى الدنا كما نشاهده في الخلايا الحية[45].
واستناداً إلى هذه الأطروحة تمّ افتراض وجود حساء بدائي تشكلت فيه جزيئات النيوكليوتيدات كأشكال طافية حرة، رغم ان هذا السيناريو يواجه عدداً من المشاكل، منها ان قواعد هذه الجزيئات لم تكن متاحة بسهولة في وقت مبكر للأرض. وكما أثبتت التجارب أنها تخفق في ان تتشكل بهيئة مستقرة، لا سيما الصعوبة التي تلوح السايتوسين (C) لهشاشته وقابليته الكبيرة على التحلل. وكما صرح الكيميائي الحيوي الأمريكي روبرت شابيرو Robert Shapiro بالقول: إن تخلّق هذه القاعدة في وقت مبكر للأرض هو شيء غير قابل للتصديق. يضاف إلى ان لتخليق السايتوسين علاقة بإبعاد الأحماض الأمينية[46].
كما افترض بعض آخر بأنه قد لا يكون السايتوسين أول جزيء جيني، وهو ما يثير التساؤل عن ان يكون الجوانين (G) غائباً أيضاً[47]؛ لارتباطهما الثابت في الحامض النووي.
كذلك ان سكر الرايبوز هو الآخر يتصف بالتحلل وعدم الاستقرار، كالذي أظهره ستانلي ميلر، لذا انكر ان تكون السكريات بكافة أنواعها ممثلة لأساس المادة الجينية الأولى[48].
ومعلوم ان مثل هذه الإشكاليات بررت للقول بفكرة الجراثيم الفضائية. ومع التغاضي عنها، توقعت فرضية الرنا ان تكون جزيئات النيوكليوتيدات الطافية قد ارتبطت فيما بينها بانتظام في سلاسل قصيرة قبل ان تتحول إلى سلاسل أطول لتفتح بذلك الطريق إلى تشكيل جزيئة بدائية من الحامض النووي الرايبوزي. في حين أثبتت التجارب ان هذه العملية لا تتحقق من دون دعم بشري متعمد قائم على الذكاء المكثف.
***
لقد كانت الإشكاليات السابقة وما على شاكلتها مدعاة للعديد من السيناريوهات التي تبرر حدوث تخلّق الرنا.
فبداية تمّ افتراض وجود نوعين لهذا الحامض، أحدهما بدائي عاري يُفترض تكوّنه في الحساء ما قبل الحيوي، ويتضمن نيوكليوتيدات قصيرة، وآخر حقيقي يمتلك سلاسل طويلة من النيوكليوتيدات، كما نشاهده في الخلايا الحية. اضافة إلى وجود نوع ثالث هو الرنا المصنع بشرياً. فإذا كان من المحال تخلق الرنا الحقيقي؛ فإن من الممكن الاستعاضة عنه بنوع بدائي.
فمثلاً في دراسة حديثة حدد باحثون من معهد جورجيا للتكنولوجيا ثلاث جزيئات مرشحة للقواعد التي ربما شكلت نسخة أولية من الرنا البدائي، هي حامض الباربيتوريك والميلامين و(2،4،6- ثُلاثي أمينو بيريميدين). وتعتبر هذه الجزيئات الثلاث نُسخاً أبسط من القواعد النايتروجينية الأربع في الرنا الطبيعي، والتي كان من الممكن أن تكون موجودة بكميات أكبر[49]. لكن لم توضح هذه الفرضية كيف تمّ استبدال هذه الجزيئات بالقواعد المألوفة للرنا الأكثر مثالية؟ ومثل ذلك كيف نشأت النيوكليوتيدات الأكثر تعقيداً؟ وبعدها كيف نشأت سلسلة الرنا من هذه الجزيئات بنوعية محددة وسط عدد ضخم من إمكانات الارتباطات التي لا تنفع؟ فالتعقيد الحاصل في الرنا هائل، لذا يصعب تقبّل ان تكون جزيئته هي الأساس البدائي للحياة.
ومع التغاضي عن هذه المشاكل تمّ افتراض ان جزيئات النيوكليوتيدات قد ارتبطت فيما بينها بانتظام ومن ثم تخلّقت جزيئة رنا قادرة على التكاثر والتضاعف الذاتي، وعندها ظهر دور الانتخاب الطبيعي في قيامه بوظيفة التحسين والتعقيد، فانتجت جزيئة الرنا مجموعة من الانزيمات الرايبوزية القادرة على صنع البروتينات بربط سلاسل الأحماض الأمينية التي صادف وجودها في الحساء البدائي.
هذا على الرغم من ان التحفيز في الرنا يعتبر خاصية نادرة في قبال آلاف الوظائف التي تنجزها البروتينات، كما انه محدود للغاية. فهو يعادل ما يقارب الواحد من مليون مرة أضعف من التحفيز البروتيني[50].
لذلك تمّ اقتراح أن الأحماض الأمينية قد تكون متورطة منذ البداية مع جزيئات الرنا كعوامل مساعدة تعزز وتنوع قدراتها الأنزيمية، قبل أن تتطور إلى ببتيدات أكثر تعقيداً[51]. لكن الدراسات العلمية أظهرت بأن وجود الأحماض الأمينية يمنع تشكل السكر الذي يعتمد عليه الرنا، كالذي بينته دراسة روبرت شابيرو عام 1998. وهذا يعني انه لأجل ان يكون الرنا جاهزاً ومكتملاً ينبغي ان لا تتوفر حينها هذه الأحماض. لكن عدم توفرها يمنعه من القيام في تخليق البروتينات.
غير أن مثل هذه المحاولة من الجمع والتعايش بين الأحماض الأمينية والرنا قد تكررت حالياً ووُصفت بأنها معقولة، كما في مقال نُشر في مجلة الطبيعة لفريق من الباحثين من جامعة LMU الالمانية بعنوان (سيناريو معقول سابق لنشاة الحياة لعالم الرنا الببتيدي) يوم 11 ماي 2022. فقد لاحظ الباحثون ان جزيئة الرنا عندما تصادف وجود الأحماض الأمينية أو الببتيدات في محلول في وقت واحد فسيتم التفاعل بينهما لتشكيل ببتيدات أكبر وأكثر تعقيداً، ومن ثم تمّ انشاء جزيئات ببتيد الرنا في المختبر والتي يمكن أن تشفّر المعلومات الجينية، بل وتشكّل ببتيدات مطولة[52].
كما تفترض فرضية الرنا العاري انه بعد اكتمال تخلق جزيئة الرنا قامت الأخيرة باحاطة نفسها بغلاف دهني بدائي، أو اصطناعه بهيئة حويصلة مزدوجة تتصف بالنفاذية والتكاثر والحماية بعد ان مرّت بعدد من التطورات والآليات المجهولة، فتشكلت بذلك خلية أولية، وأصبح الرنا قادراً على التضاعف الخلاق.
مع هذا اعتُبرت الخلية الأولية الحاوية على نسخة منفردة من جينات الرنا عرضة للتلف، فإصابة واحدة في أي جزء منها يقتلها ويدمر الخلية، وهو ما يعني ضرورة افتراض نسختين أو أكثر من الرنا ليمكن اصلاح التلف في جينات أي واحد منها عبر نظيراتها المماثلة في الرنا الأخرى، لهذا اُقترح نشوء خليتين أوليتين اندمجتا ليكوّنا خلية واحدة بنسختين من الحامض الرايبوزي. وقد اعتبرت هذه العملية هي أصل التكاثر الجنسي الذي تطور لدى الكائنات الحية[53].
وبعد نجاح الرنا في الخلية الأولية، تمّ فتح الطريق أمام نشأة عدد من النُظم البايولوجية المحمية من الشوائب والمواد الضارة. وتتصف هذه الخلية بنظام التكاثر والتمثيل الغذائي. ومعلوم انه في الخلايا الطبيعية يتصف الغلاف الخلوي بغاية التعقيد، فهو مؤلف من طبقتين معقدتين من البروتينات الخارجية والداخلية، اضافة إلى طبقة الدهون الفوسفاتية، وله وظائف حيوية هامة في ادخال المواد المغذية والنافعة مع تصدير الفضلات الضارة، كما يتخذ دور المستقبل للرسائل الكيميائية ومعالجة المعلومات. لكن في الحساء البدائي لا يوجد مثل هذا النوع من الغلاف الساحر.
ثم تطوّرت الخلية لتحتوي على الحامض النووي الدنا الأكثر ثباتاً واستقراراً من خلال البروتينات المحفزة؛ فحلّ محل الرنا في التنظيم وتخزين المعلومات الوراثية. لكن هذه العملية ما زالت غامضة وغير مفهومة تماماً. إذ يثور التساؤل: ما الذي دعا إلى هذا التحوّل؟ فإذا كان الرنا يؤدي وظيفته بنجاح في البداية، فما الذي استدعى تغييره إلى حدٍّ أصبح فيه من المتعذر الاستغناء عن الدنا والاكتفاء بالرنا وحده؟ وقيل إن الفيروسات كانت هي العامل المحرّك في هذا التحوّل[54]. غير أن هذا التفسير يجعل الطريق نحو فرضية الجراثيم الفضائية مفتوحاً.
وفي جميع الأحوال، ان أبرز إشكالية تواجهها هذه الفرضية، وغيرها من النظريات الطبيعانية، هي معضلة المعلومات أو الرسائل المشفرة. فمعلوم ان جزيئة الرنا - في هذه الفرضية - هي من تقوم بتخزين المعلومات ومن ثم الاستنساخ وتكوين البروتينات. لكن كيف نشأت المعلومات؟ فإذا كانت المعرفة العلمية لم تستطع ان تكتشف آلية تكوّنها؛ سواء عبر قانون محدد، أو من خلال التنظيم الذاتي العفوي، فإن ما يتبقى من الافتراضات اثنان، فإما الاعتماد على الصدفة العمياء، أو افتراض الذكاء الخلاق. وعادةً ما يميل العلماء إلى ترجيح الصدفة تفادياً للوقوع في مغالطة "إله الفجوات". غير أن المشكلة في هذا الخيار تكمن في أنه يضعنا أمام احتمالات ضئيلة إلى حدٍّ يستحيل معه تحققها ضمن العمر الزمني المتاح للكون.
هذا ناهيك عن ان فرضية عالم الرنا تتضمن العديد من المصادفات المفترضة التي تقبّلها العلماء رغم وضوح تهافتها. فنُظم الرنا والدنا والبروتينات ومصانع الرايبوسوم والغلاف الخلوي وغيرها؛ تعبّر عن كيانات معقدة تعجز التجارب العلمية عن تحضير أي منها بشكل طبيعي. ومع هذا افترض العلماء انها نشأت تحت وطأة عدد من المصادفات الناجحة بمساعدة الانتخاب الطبيعي. في حين لو كانت الصدفة - ومثلها القوانين والتنظيمات الذاتية - قادرة على بناء الكيانات المعقدة؛ لكان من المحتم ان يسهل صنعها في المختبر تحت الظروف الملائمة. والعكس بالعكس، إذ العجز عن صنعها رغم توفر مختلف الظروف المناسبة؛ ينبئ باستحالة ان يكون للصدفة والقوانين والتنظيمات الذاتية قدرة على تخليقها.
وسبق للفلكي البريطاني الشهير فريد هويل ان صرح بأنه إذا كان ثمة مبدأ أساسي في المادة دفعت بطريقة ما النُظم العضوية إلى الحياة؛ فينبغي ان يكون من السهل اثبات وجودها في المختبر[55].
كذلك نقول: لو ان الصدفة - والقوانين الطبيعية - يمكنها تخليق نظام معقد، كالحياة، لكان من السهل تحضيره في المختبر، ولو نظرياً إن كانت مواده أو ظروفه غير متوفرة.
وتعكس هذه النتيجة ما نعتقده من قاعدة عقلية هامة مفادها: لا يمكن للصدفة ان تتفوق على الذكاء مطلقاً. وهي نقطة سنتحدث عنها فيما بعد.
اعتراضات العلماء
يضاف إلى ما سبق، وجّه عدد من العلماء جملة من الاعتراضات على فرضية الرنا، ومن أبرزها ما قدّمه ستيوارت كوفمان من نقد في أربع نقاط رئيسية كالتالي:
أولاً: تمكن العلماء من العثور على جزيء واحد من الرايبوزيمات ribozymes في المختبر قادر على نسخ جزء صغير من نفسه بحدود (10%). ومن خلال عمليات النسخ تمّ انتقاء بعض التحسينات الطفيفة في القدرة على التكاثر الذاتي عبر العديد من الدورات المتكررة. إلا أن الإشكال يكمن في أن هذه التجارب كانت مدعومة بالذكاء البشري دون ان تكون تلقائية. يضاف إلى ذلك أن هذا الجزيء يُعد نادراً وسط تريليونات من جزيئات الرنا التي تفتقر إلى القدرة على نسخ ذاتها في الطبيعة[56].
ثانياً: ما زال من غير الممكن حتى الآن الحصول على جزيء رنا واحد - أو حتى سلاسل بوليمرية طويلة منه - ضمن ظروف كيميائية وطبيعية بحتة، حيث يفترض أنها كانت سائدة على الأرض البدائية وسببت حدوث ذلك. وهو ما يجعل هذا السيناريو بعيد الاحتمال[57].
ثالثاً: لوحظ ان تسلسل الرنا لا يستقر على حاله ويحتفظ بثباته أثناء عملية الاستنساخ. وتسمى هذه المشكلة بـ "كارثة خطأ إيجن - شوستر" (Eigen–Schuster error catastrophe). فمنذ سنوات أظهرت دراسات هذين العالمين أنه مع ازدياد معدل الطفرات في تسلسل الرنا الخاضع للانتخاب - كما في أنابيب الاختبار مثلاً - تظل الأجيال الجديدة قريبة من التسلسل الأصلي في البداية، لكن بعد تجاوز حدٍّ معين تبدأ بالانحراف عنه بشكل متزايد، حتى تُفقد المعلومات الوراثية في هذا التسلسل تماماً[58]. وتنبعث هذه المشكلة من قاعدة عامة تقول: كلما كان الجينوم كبيراً، كما في الخلايا البشرية، كلما قلّت نسبة الأخطاء النسخية فيه مقارنة بجينوم آخر أصغر، كما في البكتيريا والفايروسات[59].
رابعاً: إن إنزيم بوليميراز الرنا RNA polymerase القادر على إعادة إنتاج نفسه هو "جين" مكرر عارٍ. فهو مجرد تسلسل رنا يطفو بلا حماية. وتكمن المعضلة في كيفية استقطابه لمتطلبات عملية أيض كاملة تحفّز تصنيع الدهون اللازمة لتكوين حويصلة دهنية تحيط به وتُهيّئ بذلك نشأة خلية بدائية. ولا شك أنه لا يوجد حتى الآن أي مسار كيميائي واضح يربط بين بوليميراز الرايبوزيم وهذه العمليات المعقدة[60].
***
كما أبرز ستيفن ماير الكثير من النقاط النقدية حول فرضية عالم الرنا، وجمعها ضمن خمس معضلات رئيسية مفصلة[61]، وكان من بينها النقاط التالية:
1ـ استحالة تشكّل الأسس النيوكليوتيدية، ومثل ذلك استحالة تكون الرايبوز كالذي أظهرته دراسة شابيرو.
2ـ إن وجود الأحماض الأمينية التي يتكون منها البروتين يمنع تشكل السكر الذي يعتمد عليه الرنا.
3ـ إن الجزيئات التي يتكون منها الرنا، وكذا الرنا العاري بأكمله، قابلة للتفاعل مع الشوائب الكيميائية التي تعمل على منع تكوينها بسلامة.
4ـ إن الانزيمات الرايبوزية نادرة ورديئة التحفيز ولا تقارن بانزيمات البروتينات. فالأولى لا تنجز إلا عدداً قليلاً جداً من آلاف الوظائف التي تنجزها البروتينات العادية. لذلك لن تتحقق من خلالها الترجمة، والتي هي بناء تسلسل محدد من الأحماض الأمينية انطلاقاً من نسخة رنا محددة.
5ـ إن وجود نظام ترجمة لتكوين البروتينات وتشفيرها يعتبر أمراً غير معقول. فالرنا لا يمكنه القيام بالترجمة من دون مساعدة البروتينات المحفزة.
6ـ إن كل فرد في عالم الرنا لا يُحسن إلا صنعة واحدة فقط. فحتى لو وُجدت كل الأجزاء معاً فسينجز كل واحد تفاعله الخاص به على حدة. في حين أن الترجمة معقدة وتتطلب ربط مهام متعددة محورية باسلوب متكامل ومتزامن تقريباً، وهي بذلك تحتاج إلى الانزيمات الحقيقية المحفزة، أما الرنا فليس بوسعه فعل ذلك.
7ـ إن تسلسل الرنا نوعي جداً، فليس كل تسلسل يصلح لتكوين الرنا القادر على التكاثر الذاتي أو الاستنساخ. فمثلاً تمكّن بعض الباحثين من هندسة جزيئة رنا يمكنها ان تنسخ جزءاً من نفسها بقدر (10%) فقط، وقد اختار العلماء هذا المتضاعف الذاتي جزئياً من بين مجموعة مهندسة مكوّنة من (1510) جزيئة رنا؛ كلها تقريباً لا تمتلك هذه القدرة المحدودة على التضاعف الذاتي، لذا فالتسلسلات التي تتمتع بهذه القدرة نادرة جداً. وستكون أندر من ذلك في عينة عشوائية غير مهندسة. علماً بأن الانزيم الرايبوزي القادر على نسخ نفسه جزئياً يتطلب (189) أساساً نيوكليوتيدياً.
وعلى العموم، نجد ان فرضية الرنا ليست جديرة بالاعتبار، رغم ان أغلب العلماء يعولون عليها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وقد عبّر عنها البعض في مقالة بعنوان: (فرضية عالم RNA: أسوأ نظرية للتطور المبكر للحياة باستثناء جميع النظريات الأخرى). فهي كالديمقراطية أسوأ أشكال الحكم باستثناء البقية[62].
عود على بدء
كان طرحنا السابق عرضاً إجمالياً لأهم الفرضيات والتجارب التي سعت إلى حلّ لغز نشأة الحياة، سواء من خلال فرضية الأيض البروتيني أو عبر تكاثر الحامض النووي. وقد تنوّعت هذه الفرضيات في منطلقاتها؛ فاعتمد بعضها على عامل الصدفة كمفتاح للحل، وبعضها الآخر على القوانين الحتمية، أو على مزيجٍ من الاثنين معاً، فيما ذهب اتجاه ثالث إلى فكرة الجواذب الائتلافية القائمة على الميل الاحتمالي لتشكّل عناصر الحياة ذاتياً، ورابعٌ إلى افتراض وجود قوانين مجهولة وعميقة دفينة في نسيج المادة الكونية. غير أن جميع هذه الفرضيات والتجارب التي أُقيمت لتأييدها باءت بالفشل.
فمنذ ما يقارب قرنين من الزمن وحتى يومنا هذا، أُجريت تجارب متنوعة وطرحت فرضيات عديدة حول نشأة الحياة، إلا أنها لم تفلح في حل هذا اللغز العظيم. بل كلما تعمّق البحث في محاولة كشف سر الحياة، ازدادت المشاكل تعقيداً وظهرت إشكالات أعظم مما كانت عليه من قبل، خاصة مع الالتزام الصارم بالمنهج الطبيعاني بوصفه المعيار المعتمد في البحث.
فمنذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين سادت أطروحة مفادها أن الحياة وليدة المصادفات العشوائية. ثم ظهر لاحقاً تفسير آخر يقوم على القوانين الطبيعية الحتمية. وبعد ذلك جرى التوفيق بين الطرحين، عبر القول بتضافر القوانين مع بعض المصادفات الناجحة. فيما ذهب قلّة من العلماء إلى تبنّي فكرة الجواذب الذاتية في نشأة الحياة. كما ذهب فريق آخر إلى الإيمان بوجود قوانين خفية مجهولة في أعماق المادة الكونية. ومع ذلك فإن السائد اليوم بين هذه الفرضيات هو أطروحة المصادفة العشوائية، ولو بإقرانها بشيء من القوانين، فهي ما تزال تهيمن على عقول معظم علماء الأحياء.
وأغرب ما في الأمر، هو أن العلم الذي طالما سعى جاهداً إلى التخلص من الفكر الأسطوري والخرافي، وجدناه اليوم ساقطاً في مستنقع المصادفات الأسطورية. وقد وصف الفلكي فريد هويل هذا المسلك بـ "عقلية الخردة junkyard mentality"؛ في إشارة إلى أولئك العلماء الذين يعتقدون بأن منشأ الحياة قائم على تفاعلات كيميائية عشوائية محضة، متجاهلين بذلك التعقيد الهائل الذي تتسم به الحياة، وهو تعقيد يفوق كل تصور وخيال.
لقد أقرّ بعض العلماء بحقيقة المعضلة التي تعترضهم في تفسير نشأة الحياة، إذ إن تعقيدها يتفاقم كلما تعمّقوا في البحث وتوغّلوا في تفاصيله. وكما صرّح الكيميائي الحيوي كلاوس دوس عام 1988، فإن أكثر من ثلاثين عاماً من البحث في أصل الحياة لم تُثمر عن حلٍّ حاسم، بل قادته إلى “فهمٍ أعمق لضخامة مشكلة أصل الحياة على الأرض، أكثر مما ساعد في حلّها. ففي الوقت الحاضر، تنتهي كل المناقشات المتعلقة بالنظريات والتجارب الكبرى في هذا المجال إما إلى طريق مسدود، أو إلى اعترافٍ صريحٍ بالجهل”.
وسبق ان عبّر عالم الأحياء الجزيئية الشهير فرانسيس كريك عن حسرته في حل هذه الإشكالية، كما في كتابه (الحياة ذاتها Life Itself) عام 1981، قائلاً: “بعد كل مرة أكتب فيها بحثاً في موضوع نشأة الحياة أُقْسِمُ بأنني لن أعود للكتابة فيه مرة أخرى، ذلك ان فيه الكثير من التأمل يجري خلف القليل جداً من الحقائق، لكني لا بد من ان اعترف بأن للموضوع، بالرغم من كل شيء، سحره حتى ليبدو أنني لم أُخلص لقسمي أبداً”[63].
وكان كريك قد صرح عام 1966 في (الجزيئات والبشر) بأن الحياة ولدت بفعل الصدفة عن طريق تخلّق بعض البروتينات والأحماض النووية البدائية في الأرض[64]، وذلك قبل ان تتطور فكرته إلى نظرية "البذور الكونية الموجهة Directed Panspermia" منذ عام 1972 حتى وفاته. وهو في جميع الأحوال لم يتخلّ عن ذات المنهج المادي الاختزالي، ومن ذلك انه نصح علماء الأحياء بلزوم “أن يضعوا دائماً في اعتبارهم أن ما يرونه لم يتم تصميمه، بل هو تطور”[65].
وكريك في هذه العبارة جعل التصميم في قبال التطور، وهو خطأ طالما سقط فيه الكثير من العلماء.
الحياة ومعضلة المعلومات
نتساءل هنا: ما هي المعضلة التي تواجه العلماء في بحثهم عن نشأة الحياة، والتي تجعلهم يعترفون بعجزهم عن حلها؟
والجواب يكمن في أن الحياة لا تنفصل عن المعلومات المعقدة. فالبحث في نشأتها يعني بالضرورة البحث في نشأة المعلومات نفسها؛ تخزينها، برمجتها، استنساخها، تصحيحها، ترجمتها، وما إلى ذلك من الوظائف التي يقوم بها الحامض النووي الدنا (DNA) بالدقة الفائقة. فهذا الأخير هو الذي يُخطط لبناء الحياة وتطويرها عبر تصنيع البروتينات.
فعلى سبيل المثال، هناك بروتينات بسيطة تتألف من سلاسل قصيرة الطول لا تتجاوز مائة حامض أميني، ولكي تتكون عشوائياً وسط عشرين نوعاً من الأحماض الأمينية الحيوية، فإن الاحتمالات اللازمة تصل إلى رقم هائل مقداره (10-130). ناهيك عن عقدة تخلّق الحامض النووي نفسه، كالدنا مثلاً. فهذه هي العقبة الكبرى التي لم يتمكن العلماء من معرفة كيف ومن أين نشأت هذه المعلومات بتعقيداتها الضخمة؟
لقد أدّت مثل هذه الاكتشافات إلى الإقرار بوجود هوة عظيمة تفصل عالم الحياة عن العالم اللاعضوي، لا سيما بعد فك الشفرة الجينية لتسلسلات النيوكليوتيدات على يد عالم الوراثة نيرينبرج Nirenberg خلال ستينات القرن العشرين.
وأصبح من المسلّم به أخيراً أن مشكلة الحياة هي في جوهرها مشكلة المعلومات. وقد سبق لعالم الخلية الحائز على جائزة نوبل، كريستيان دي دوف de Duve Christian، أن صنّف تاريخ الحياة إلى سبعة عصور في كتابه (الغبار الحيوي)، وهي بحسب الترتيب: عصر الكيمياء، ثم المعلومات، ثم الخلايا البدائية، ثم الخلايا المفردة، ثم عصر الكائنات متعددة الخلايا، وبعده عصر العقل، وأخيراً العصر المجهول الذي يتضمن مستقبل التطور.
ويُعد عصر المعلومات هو النقطة الحاسمة في هذه المراحل، وبالتالي يُطرح السؤال التالي: كيف تكونت المعلومات التي أنتجت لنا خلية بدائية، وهي الأساس لتطور كل العصور التالية. ومن وجهة نظر دي دوف، فإن عصر الكيمياء يقودنا مباشرة إلى جوهر الحياة عبر امتلاكها للمعلومات، إذ تصور أن الحياة هي عملية كيميائية بدأت بالتكوين والتفاعل التلقائي للجزيئات العضوية الصغيرة المنتشرة في أرجاء الكون. ومن خلال هذه التفاعلات التنظيمية الذاتية تعقدت الأمور تدريجياً حتى أدى ذلك إلى ظهور الحامضين النوويين (الدنا والرنا) والبروتينات وغيرها من الجزيئات المعقدة[66].
ومنذ نشأة الحياة قبل أكثر من ثلاثة ونصف مليار سنة، كانت الخلية تقوم بأعمال شديدة التعقيد، مثل ظاهرة التمثيل الضوئي كما تمارسه الكثير من أنواع الخلايا اليوم. ويأتي تعقيد الخلية من الغموض الحاصل حول كيفية عملها وتركيبها وعلاقتها بالعناصر الأساسية الثلاثة: البروتينات والحامضين النووين الدنا والرنا.
وكما صرح ميلر وزميله ليفين بالقول: ان “كل الخلايا الحية محكومة بالمعلومات المختزنة في الدنا الذي يتحول إلى الرنا ثم يتحول إلى بروتين. وهو نظام في غاية التعقيد، وكل من هذه الجزيئات الثلاثة يحتاج إلى الاثنين الآخرين؛ إما ليحفظ له تماسكه، أو ليساعده على العمل. فالدنا مثلاً يحمل المعلومات لكنه لا يستطيع ان يفعّل استخدامها ولا حتى يستنسخ نفسه من دون مساعدة الرنا والبروتين”.
وإذا كانت هذه الجزيئات الثلاث (البروتين والدنا والرنا) بعضها يحتاج إلى البعض الآخر، فذلك يوحي بحاجتها جميعاً إلى الحياة لا العكس كما يعوّل عليه العلماء. فالحياة هي من صنعت هذه المكونات، بمعنى انها تحتاج إلى افتراض شيء خارج حدود العناصر الطبيعية لتفسير نشأة هذه المكونات الثلاثة وغيرها من النُظم المعقدة. وسبق لنا ان افترضنا بأن هذا الشيء يتمثل في أثير الذكاء اللاطبيعاني.
وهنا نلتقي مع النموذج المتعلق بالتطور البايولوجي. فالنظم المعقدة التي حاول العلماء تفسيرها من خلال منهج داروين الاختزالي، القائم على تراكم التغييرات الطفيفة، هي ذاتها عبارة عن نظم معلوماتية تحتاج الى ايضاح كيف تشكلت على ما هي عليه وفق النهج المادي الطبيعاني. واذا ما عجزت عن تفسير ذلك فلا غنى من البحث عن معيار اخر يختلف جذراً عما يسلّم به العلم حالياً، واقصد بذلك معيار اللاطبيعانية، كما يتمثل باثير الذكاء الذي سبق ان تعرضنا للحديث عنه ضمن الدراسات السابقة.
[1] مغامرة الكائن الحي، ص153.
[2] Sean Henahan, From Primordial Soup to the Prebiotic Beach: An interview with exobiology pioneer, Dr. Stanley L. Miller, University of California San Diego, 1996. Look:https://web.archive.org/web/20080518054852/http://www.accessexcellence.org/WN/NM/miller.php
[3] Eth Zurich, Uncovering Mysteries of Earth’s Primeval Atmosphere 4.5 Billion Years Ago and the Emergence of Life, 2020. Look:https://scitechdaily.com/uncovering-mysteries-of-earths-primeval-atmosphere-4-5-billion-years-ago-and-the-emergence-of-life/
[4] قدر الطبيعة، ص277.
[5] Sean Henahan, 1996.
[6] https://en.wikipedia.org/wiki/Stanley_Miller
[7] Robert Shapiro, Small molecule interactions were central to the origin of life, in: The Nature of Life, Edited by Mark A. Bedau and Carol E. Cleland, p. 130. Look:https://b-ok.africa/book/905866/402ed6
[8]لاحظ سلاسل الأحماض الأمينية العشرين في:http://www.imgt.org/IMGTeducation/Aide-memoire/_UK/aminoacids/formuleAA/
[9] Dean Kenyon and Gary Steinman, Biochemical Predestination, 1969, p. 12. Look:https://archive.org/details/biochemicalprede00keny/page/221/mode/2up
[10] Ibid., p. 288.
[11] Ibid., p. 225.
[12] Stuart Kauffman, At Home in the Universe: The Search for the Laws of Self-Organization and Complexity, 1995, p. 52. Look:http://library.lol/main/194373E85A1911D0F80FA697708E9428
[13] Stuart Kauffman, The Emergence of Autonomous Agents, in: From Complexity to Life, Edited by Niels Henrik Gregersen, 2003, p. 47. Look:https://b-ok.cc/book/550354/c38056
[14] Stuart Kauffman, 1995, p. 13-5. Also: Stuart Kauffman, The Origins of Order: Self-Organization and Selection in Evolution, 1993. Look:http://library.lol/main/24673BE6EE777D13C06FAA31827CAC11
[15] Stuart Kauffman, 1995, p. 15.
[16] Ibid., p. 6.
[17] Ibid., p. 13.
[18] قدر الطبيعة، ص30.
[19] ستيفن ماير: التدليل على التصميم، مصدر سابق، ص96.
[20] Stuart Kauffman, 1995, p. 43.
[21] Ibid., p. 6-7.
[22] انظر مثلاً: جايمس غليك: نظرية الفوضى، مصدر سابق.
[23] https://en.wikipedia.org/wiki/Ergodicity
[24] Stuart Kauffman, 1995, p. 14.
[25] Stuart Kauffman, 2003, p. 48.
[26] Stuart Kauffman, 1995, p. 28.
[27] Ibid., p. 42.
[28] Ibid., p. 39-42.
[29] Ibid., 1995, p. 14.
[30] Stuart Kauffman, A World Beyond Physics: The Emergence and Evolution of Life, 2019, p. 52-3. Look:http://library.lol/main/CCC127F7AD60BFFA7B6A7A9F15053D32
[31] Stuart Kauffman, 1995, p. 14.
[32] Stuart Kauffman, 2003, p. 58.
[33] Stuart Kauffman, 1995, p. 27.
[34] Ibid., p. 27.
[35] Stuart Kauffman, 2003, p. 62. And: Stuart Kauffman, 1995, p. 38-9.
[36] Stuart Kauffman, 2019, p. 48.
[37]Philip Cohen, Science : Can protein spring into life?, 1997. Look:https://www.newscientist.com/article/mg15420792-300-science-can-protein-spring-into-life/
[38] Stuart Kauffman, 2019, p 10 and 94.
[39] Ibid., p 125-7.
[40] انظر الكيفية العجيبة لصنع البروتينات في مصانع الرايبوسومات، في: بول ديفيز: أصل الحياة، ترجمة منير شريف، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2010م، ص152ـ154.
[41] Walter Gilbert, The RNA World, 1986. Look:https://www.nature.com/articles/319618a0.pdf
[42]Philip Cohen, Science : Can protein spring into life?, 1997. Look:https://www.newscientist.com/article/mg15420792-300-science-can-protein-spring-into-life/
[43] مغامرة الكائن الحي، ص178
[44] hypothesis: The worst theory of the early evolution of life (except for all the others), 2012. Look:https://www.researchgate.net/publication/229089462_The_RNA_world_hypothesis_The_worst_theory_of_the_early_evolution_of_life_except_for_all_the_others
[45] https://en.wikipedia.org/wiki/RNA_world
[46] Robert Shapiro, Prebiotic cytosine synthesis: A critical analysis and implications for the origin of life, 1998. Look:https://www.pnas.org/content/pnas/96/8/4396.full.pdf
[47] Matthew Levy and Stanley L. Miller, The stability of the RNA bases: Implications for the origin of life (nucleobase hydrolysisyRNA worldychemical evolution), 1998. Look:https://www.pnas.org/content/pnas/95/14/7933.full.pdf
[48] Steven A. Benner, Hyo-Joong Kim, and Zunyi Yang, Setting the Stage: The History, Chemistry, and Geobiology behind RNA, in: RNA Worlds: From Life's Origins to Diversity in Gene Regulation, 2010, p. 15. Look:http://libgen.rs/book/index.php?md5=00D3EA9580E0A10B12F4C5165B2BC972
[49] Joelle Renstrom, New Study Identifies Possible Ancestors of RNA, 2018. Look:https://www.astrobio.net/news-exclusive/new-study-identifies-possible-ancestors-of-rna/
[50]Harold Bernhardt, The RNA world hypothesis: the worst theory of the early evolution of life (except for all the others), 2012. Look:https://www.researchgate.net/publication/229089462_The_RNA_world_hypothesis_The_worst_theory_of_the_early_evolution_of_life_except_for_all_the_others
[51] https://en.wikipedia.org/wiki/RNA_world
[52] Thomas Carell and others, A prebiotically plausible scenario of an RNA-peptide world, 11-05-2022. Look:https://www.nature.com/articles/s41586-022-04676-3
[53] Henry C.Byerly and Others, Origin of Sex, 1984. Look:https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0022519384801782?via%3Dihub#!
[54] https://en.wikipedia.org/wiki/RNA_world
[55] Fred Hoyle, 1983, p. 19.
[56] Stuart Kauffman, 2019, p 37.
[57] Ibid., p 37.
[58] Ibid., p 37.
[59] بول ديفيز: أصل الحياة، مصدر سابق، ص84
[60] Stuart Kauffman, 2019, p 38.
[61] توقيع في الخلية، الفصل الرابع عشر، ص399 وما بعدها.
[62]Harold Bernhardt, 2012.
[63] فرانسيس كريك: طبيعة الحياة، ترجمة احمد مستجير، سلسلة عالم المعرفة (125)، الكويت، 1988م، ص139
[64] Francis Crick, 1966, p. 68.
[65] Francis Crick, What Mad Pursuit, 1988, p. 138. Look:http://library.lol/main/5F16533A49647DB97C2411B84DE50055
[66] Christian de Duve, Vital Dust, 1995, preface. Look:http://library.lol/main/08F5D0CD493F9E7454A136A498D8A131