-
ع
+

ششسذدذ أوث فقفب.. دوكينز أنت مخطئ

(العشوائية المنتجة للنظام)

يحيى محمد

كل من يعرف اللغة العربية سوف يفرّق بين صيغتي الكلام الواردتين في العنوان الثانوي (ششسذدذ أوث فقفب) و (دوكينز أنت مخطئ)، ويدرك ان الأخيرة تمتاز بالمعنى بخلاف الأولى. لكن الصيغتين بالنسبة لمن لا يعرف اللغة العربية غير قابلتين للتمييز. وبالتأكيد ان القارئ غير العارف بهذه اللغة حينما يجد الصيغتين في مقال أو كتاب سيتوقع انهما يحملان المعنى سوية وإن جهله.. ليس لأنه وجد فرقاً بينهما، بل لاعتقاده ان من غير المعقول ان يضع الكاتب جملة في مثل هذه الأماكن من دون معنى.

لكن حين توجد مثل هذه الأحرف للصيغتين السابقتي الذكر في آثار ترابية على القمر مثلاً، فإنها ستعامل لمن لا يعرف اللغة بالمعاملة ذاتها، فهي إما ان تكون موضوعة بفعل الذكاء ويكون لها معنى، أو انها نتاج العوامل الفيزيائية الخالصة فلا يكون لها معنى.

فمن الناحية البنيوية لا تختلف اللغة ذات المعنى عن تلك التي لا معنى لها في كونها تميل إلى العشوائية ذاتياً، وكلما زاد عدد أحرفها كلما زادت عشوائيتها وأصبحت أكثر تعقيداً. فصفة الميل للتعقيد والعشوائية البنيوية هي من صميم اللغة؛ سواء حملت المعنى أم كانت بلا معنى. لذلك يتعسر التمييز بينهما لمن لا يعرف اللغة.

وبالنسبة لكائن غير بشري لم يسبق له ان التقى بكائنات أخرى مختلفة، قد يجد هذه الرموز عشوائية دون ان تعني شيئاً، فهي بالنسبة له مجرد آثار لمسببات فيزيائية لا غير، بدلالة حملها لميزة واضحة للعيان، وهي العشوائية وعدم الانتظام. في حين لو صادف ان رأى أشكالاً متكررة بانتظام، فقد يحتمل ان لها شيئاً من الرمزية أو المعنى الموجّه وإن جهل ذلك، مثل الأشكال المنتظمة التالية على طول الخط:

MRCMRCMRCMRCMRCMRCMRCMRC

إن انتظام أحرف اللغة ليس بوسعه إنتاج الغنى المعنوي، وهو في جميع الأحوال يأتي على خلاف ميلها الذاتي نحو العشوائية، لذلك قد يوحي هذا الحال بالتوجيه القصدي، فهو لا يختلف عن حال التشفير اللغوي الفائض المعنى. والفارق بين التشفير القائم على انتظام الأحرف وعلى عشوائيتها، هو فارق يتعلق بفائض المعنى. فهذا الأخير يتناسب عكساً مع الانتظام البنيوي، فكلما زاد الانتظام قلّ المعنى، والعكس صحيح.

فالفرق بين الانتظام والعشوائية في البنية اللغوية، هو ان الانتظام يبقى بسيطاً، وإنْ بدرجات متفاوتة، لكن من دون تعقيد معتد به، وهو لذلك ليس بوسعه ان يولّد فائض المعنى، ويمتاز بأن له القابلية على الانضغاط الخوارزمي، لذا يستفاد منه في الحواسيب الالكترونية.

فمثلاً في الأحرف المنتظمة السابقة قد لا يحتاج البرنامج الحاسوبي ان يكررها كما هي، بل يكفي ان يسجل الأحرف الثلاثة الأولى ومن ثم يأمر بتكرارها عدد من المرات المطلوبة. فهذه الخوارزمية البسيطة تتألف من عدد قليل من المعلومات أو البتات. وهو ما لا يحصل مع العشوائية اللغوية، فتعقيدها البنيوي يجعلها عسيرة الانضغاط.

فمثلاً ليس بوسع الحاسوب ان يفعل شيئاً من الانضغاط الخوارزمي لصيغتي الكلام في العنوان الثانوي، طالما يفتقران للنظام في البنية تماماً. فأبسط انضغاط لهما هو اجراء التتابع المعقد ذاته.

وكما اقترح عالم الحاسوب جريجوري شايتن Gregory Chaitin تعريفاً للتتابع العشوائي بأنه ذلك الذي لا يمكن ضغطه حسابياً، فأقصر وصف لتتابع عشوائي هو ببساطة التتابع ذاته[1]. وهو التعقيد في حد ذاته. لذلك تستخدم في البرامج الحاسوبية التتابعات العشوائية للغنى المعلوماتي، من حيث تحويل معلومات الادخال إلى معلومات الاخراج اعتماداً على وحدة شانون البت (0،1).

وما تفيده الدلالة السابقة حول بنية اللغة - وغيرها من البنى المعقدة - هو ان للمعنى علاقة طردية بالعشوائية. فهذه الأخيرة هي الوحيدة القابلة لإنتاج فائض المعنى أو المعلومات. وينطبق هذا الحال على مختلف اللغات، بما فيها لغة شانون والحاسوب المبنية على ثنائية البت، ومثلها لغة الحياة والجينات المبنية على القواعد الأربع المعروفة.

مع هذا لا تمتلك العشوائية البنيوية إلزاماً لتوليد المعنى اللغوي. فهي لا تحمل صفة القانون الحتمي، ولا حتى سمة الميل الاحتمالي لإنتاج المعنى، بل على العكس، تميل ذاتياً إلى إنتاج عدم المعنى. وهي على شاكلة ما يحدث من الميل إلى الفوضى والانتروبيا في عالم الظواهر الفيزيائية.

ومن الناحية المبدئية، تميل بنية اللغة العشوائية لتوليد الغالب الأعظم من عدم المعنى وفق التشكلات الممكنة لأحرفها الرمزية. أما المعنى فيحظى بحيز متناثر ضئيل وسط بحر هذه التشكلات من اللامعنى.

***

عموماً تحمل البنية اللغوية ثلاثة مستويات مختلفة من حيث علاقتها بالمعنى، كما يلي:

إن للبنية اللغوية ميلاً ذاتياً نحو إنتاج عدم المعنى بفعل العشوائية غير الموجهة. وبتعبير فيزيائي انها تميل إلى الانتروبيا.

يمكن للبنية اللغوية ان تنتظم، مثلما يتيسر ذلك بالتوجيه، لكن لا يسعها في هذه الحالة سوى توليد المعنى البسيط بلا فائض. فالانتظام يتناسب عكسياً مع فائض المعنى.

إن لإنتاج المعنى الفائض ثلاثة شروط أساسية تتعلق بالبنية، هي العشوائية والتعقيد وضعف الاحتمال من الناحية النوعية لا الشخصية. لذا يقع هذا المستوى على خلاف المستوى الأول، فهو بحاجة إلى التوجيه القسري لجعل البنية اللغوية تنجر إلى خلاف ميلها الذاتي.

شروط إنتاج الوظيفة في النُظم المعقدة

ما يعنينا من المستويات الثلاثة الآنفة الذكر، المستوى الأخير، حيث يتوقف إنتاج المعنى الفائض على الشروط الثلاثة التي أجملناها، ويمكن تحديدها كالتالي:

أن تكون البنية اللغوية عشوائية غير منتظمة أو تكرارية.

أن تكون معقدة غير بسيطة. وكلما زاد التعقيد؛ كلما زاد فائض المعنى.

أن تتصف العشوائية بضآلة الاحتمال من الناحية النوعية، وذلك على خلاف الميل الذاتي لها في توليد عدم المعنى.

وتحتاج النقطة الأخيرة إلى توضيح، استناداً إلى الفارق في الضآلة بين الاحتمالين النوعي والشخصي.

وللتبسيط يمكن التمثيل على هذا الفارق من خلال مجال آخر يتعلق بالرمي العشوائي لقطعة نقد متماثلة الوجهين. فاحتمال ظهور أحد الوجهين لرمية واحدة هو النصف، لكن احتمال ظهوره في جميع المرات من دون استثناء سيساوي (2-n)، حيث ان (n) تمثل عدد الرميات. فلو كان مجموع الرميات عبارة عن عشر فسيكون احتمال ظهور الوجه في جميعها مساوياً لـ (2-10)، أي واحد من (1024) حالة توافيقية. ويعبّر هذا الظهور التام عن (الانتظام التكراري). لكن قيمة هذا الاحتمال لا تختلف عن أي حالة توافيقية من الحالات الـ (1024). والغالب الأعظم من هذه الحالات هو غير منتظم التكرار، كما لو ظهر الوجه في المرة الثانية والخامسة والثامنة فقط، أو في المرات الثلاث الأولى فقط... الخ.

لذا فالمقارنة بين الحالة التوافيقية المنتظمة لظهور الوجه في جميع المرات، وبين أي حالة توافيقية أخرى، هي مقارنة عديمة الفائدة؛ مادامت القيمة الاحتمالية متكافئة بين هذه الأطراف.

فهذه هي المقارنة الشخصية بين الحالات التوافيقية الضئيلة للاحتمال.

في حين نجد فائدة في المقارنة النوعية للحالات التوافيقية بين الانتظام وعدمه. فكم هي الأشكال المنتظمة الممكنة في قبال غيرها من الأشكال الأخرى؟ ففي الرميات العشر لا نحصل على الانتظام إلا في ثلاثة أشكال فقط، وهي فيما لو تمّ ظهور أحد الوجهين في جميع المرات، أو بالتناوب الفردي مرة فمرة، أو بالتناوب خمس مرات.

أي توجد ثلاث حالات توافيقية منتظمة وسط الغالب الأعظم من الحالات غير المنتظمة، والتي بعملية الطرح ستساوي (1021) حالة توافيقية غير منتظمة.

لذلك يمكن تقدير احتمال حصول انتظام واحد من الانتظامات الممكنة الثلاثة عبر قسمة هذا العدد على المجموع الكلي للحالات التوافيقية، أي: (3\1024)، ويساوي ما يقارب (0.003)، وهو احتمال ضئيل.

هذا هو مقدار الانتظام النوعي في الرميات العشر عشوائياً. ومثل ذلك الحال ما يحصل في اللغة، حيث لها القابلية على امتلاك الاحتمالين الشخصي والنوعي للمعنى الفائض، ففي مجموعة محددة من الأحرف يمكننا توليد عدد ضيق جداً من الجمل المفيدة مقارنة بعدد الأشكال الممكنة لعدم المعنى، وان أي زيادة أو نقصان في بعض أحرف الجملة المفيدة، أو تغيير مواضعها، قد يشوّه معناها تماماً. لذلك ان الحصول العشوائي على المعنى النوعي، فضلاً عن الشخصي، يعتبر ضعيفاً للغاية، بل أضعف بكثير مما يجري في الرميات الثنائية الأوجه، أو السداسية كما في زهرة النرد.

فمثلاً ان احتمال الحصول على جملة العنوان (دوكينز أنت مخطئ) عشوائياً يبلغ حوالي (10-22). وهي جملة مؤلفة من (15) حرفاً مع الفاصلة. ويمكن تشكيل جُمل مفيدة من هذه الأحرف الخمسة عشر فيتحقق "الاحتمال النوعي"، لكن دائرة امكانات هذا الاحتمال ضيقة جداً مقارنة بدائرة الجُمل غير المفيدة، لذلك فإن تولده عشوائياً ضئيل جداً، ولا يقارن بمقدار الاحتمال النوعي المقابل لخمس عشرة رمية لعملة النقد، أو لزهرة النرد. ويعود سبب ذلك إلى ان الأساس في اللغة العربية - وكذا سائر اللغات البشرية - أكبر من الأساس في العملة والنرد، إ يتمثل في (29) حرفاً مع الفاصلة.

***

إن ما سبق ذكره ينطبق على الآلات التي يصنعها البشر. فلكل آلة وظيفة، وبعض الآلات تحمل وظائف بسيطة غير معقدة، مثل المطرقة التي هي آلة بسيطة تُستخدم في الطرق اليدوي. وفي قبالها توجد آلات معقدة ذات وظائف فرعية منسجمة فيما بينها لتحقيق وظيفة رئيسة، مثل الماكنات المستعملة للنقل السريع، كما في السيارة والقاطرة والطائرة. فهي كاللغة تمتاز بنيتها بخصائص العشوائية والتعقيد وضآلة الاحتمال النوعي.

فرغم ان هذه الماكنات تؤدي وظائف ذات نُظم محددة، لكن ارتباطاتها البنيوية تمتاز بالعشوائية المعقدة، أو انها ضعيفة الانتظام، لذا عندما تكون ساكنة ومنزوعة عن الهيكل العام للمَرْكبة؛ فإنها تبدو لكائن غريب - لم يرَ في حياته آلة معقدة - مجرد خردة مهملة من حدائد وأسلاك. في حين يختلف الأمر فيما لو كانت ذات انتظامات محددة، إذ يمكن ان توحي بأن لها بعض الوظائف، على شاكلة ما رأيناه في اللغة.

كذلك لكي تؤدي هذه الماكنات وظائفها الرئيسة؛ لا بد أن تتميز بنيتها العشوائية المعقدة بضآلة الاحتمال النوعي. أي يجب ان تكون منطقة الارتباطات العشوائية المولدة للوظائف، ضيقة للغاية مقارنة بالمساحة الواسعة لامكانات الارتباط العشوائي غير الوظيفي. وبالتالي فأي تغيير في الارتباطات الوظيفية للآلة قد يجعلها لا تعمل أو يشوّه وظيفتها.

فالحال أشبه بأن يُعطى لك كمية أحجار كافية لبناء منزل صالح للسكن، لكنك على علم بأنه ليس كل ارتباط بين الأحجار يمكنه ان يولد منزلاً، انما لديك خيارات ضئيلة لانتخاب نوع المنزل الذي يمكن بناؤه وسط خيارات ضخمة جداً من الارتباطات غير المفيدة.

وقد واجه الفيزيائيون النظريون مشكلة من هذا النوع، إذ كيف تسنى للنظام الكوني ان يتأسس وسط امكانية ضخمة للانتروبيا عند النفخة الكونية الأولى؟ وهي مشكلة ما زالت عالقة لدى التفسيرات الطبيعانية.

هكذا ان الوظائف المعقدة، سواء في اللغة أو في الآلات التي يصنعها البشر، لا بد ان تكون مرتبطة بعشوائية البنى، أو ذات انتظامات هامشية ضئيلة ضمن حيثياتها العشوائية الواسعة، بحيث من المحال على البنى المنتظمة ان تنتج مثل هذه الوظائف المعقدة.

لكن للعشوائية حالتان متخالفتان: الوظيفة وعدمها. مع الأخذ بعين الاعتبار ان الوظيفة المعقدة لا تتحقق إلا في حالات مخصوصة وضيقة، بحيث ان أي تغيير في ارتباطاتها البنيوية يمكن ان يؤدي إلى تعطيل الوظيفة أو تشويهها، لذلك فإنها تقع ضمن دائرة ضيقة جداً من الحالات الممكنة للبنية العشوائية. فالغالبية العظمى من هذه الحالات عاجزة عن توليد الوظائف. وبالتالي عندما نصادف وظيفة معقدة سنتوقع انها موجهة بفعل الذكاء، حيث لا تنشأ إلا ضمن منطقة الاحتمالات النوعية الضيقة جداً والتي لا تتولد بفعل العوامل الطبيعية. فهي على شاكلة ما سماها عالم الوراثة الاحصائي رونالد فيشر بـ "منطقة الرفض rejection region" في الفروض الاحصائية.

وتعتمد دائرة الاحتمالات النوعية الضيقة لتوليد الوظائف على حجم عشوائية البنية أو تعقيدها، حيث يتناسب التعقيد مع الاحتمال المطلوب عكسياً، فكلما زاد التعقيد قلّ الاحتمال المطلوب. لذلك فإن الاحتمالات النوعية الضيقة لتوليد الوظائف تتعاظم ضآلة كلما زاد التعقيد في عشوائية البنية، على شاكلة ما سبق ذكره حول رمي قطعة النقد.

ويصدق ما سبق ذكره على علاقة البنية بالوظيفة في عالم الحياة. فسواء في الجزيئات الخلوية أو في المستويات الأعلى منها ترتبط الوظيفة الحيوية بالعشوائية البنيوية. فلكي تنتج البنى الحيوية وظائف معقدة لا بد من ان تتصف ارتباطاتها بالعشوائية الضخمة، أو ان انتظاماتها ضعيفة جداً.

فمثلاً تمتاز البروتينات ببنية ثلاثية الأبعاد مؤلفة من أحماض أمينية ذات تتابعات عشوائية الارتباط. وبعضها ذو مظهر خارجي غير منتظم بالمرة، فيما يبدو على البعض الآخر شيء من الانتظامات الطفيفة، كالشكل الكروي والقضيبي الملفوف وما إلى ذلك. لكن هذه المظاهر ليست هي من ينتج الوظائف المعقدة للبروتينات، بل التتابعات العشوائية المحددة لبنيتها الخاصة.

كذلك تمتاز جزيئة الحلزون المزدوج (الدنا DNA) ببنية ثنائية ذات مظهر خارجي يبدو عليه الانتظام، فهو أشبه بسلّم لولبي متناسق. بل ويتضمن انتظاماً من حيث الارتباط الثابت بين القاعدتين (الثايمين والأدنين)، ومثل ذلك الارتباط بين القاعدتين الأُخريين (السايتوسين والجوانين). لكن هذه المظاهر المنتظمة لا تعتبر شيئاً أمام التسلسل الطويل من التتابعات العشوائية للقواعد المزدوجة، وهو ما يجعل البنية العامة للجزيئة تمتلك تعقيداً عشوائياً محدداً للغاية.

فمن الناحية البنيوية، ليس لهذا التعقيد أدنى ميزة عن غيره من التتابعات غير المنتِجة أو غير المفيدة، ومع ذلك، فأقل تغيير في سلسلة القواعد المزدوجة للدنا قد يفضي إلى تشويه وظيفتها أو تعطيلها.. فحالها أشبه بجملة ذات معنى لا تتقبل التغيير في استبدال أحرفها أو نقل بعضها أو اضافة شيء إليها أو حذف شيء منها، حيث في جميع هذه الحالات قد يفضي الأمر إلى تشويه المعنى أو غيابه كلياً. ومن ثم فالعشوائية في مثل هذه النُظم المعقدة هي ذات خصوصية محددة لا تتعداها. وبذلك ينطبق عليها "الاحتمال النوعي"، إذ إن البنية العشوائية لا تمتلك قابلية على توليد أشكال حيوية وظيفية، إلا في حالات نادرة ومحدودة للغاية. وهذا ما يفسر لماذا تكون الغالبية العظمى من الطفرات الجينية هي إما ضارة ومشوِّهة، أو عديمة الجدوى.

والمثير للدهشة ان هذه العشوائية الخاصة ببنية التتابعات الجينية في الدنا هي من تعمل على صنع التتابعات العشوائية الخاصة بالأحماض الأمينية العشرين، ومن ثم طيّها على هيئة بروتين وظيفي بعملية تعرف بـ "الشفرة الجينية".

لقد أدرك علماء الأحياء الجزيئية ان التتابعات الحيوية في الدنا شبيهة بالتتابعات اللغوية. فكلاهما يعبّران عن تتابعات عشوائية بنيوياً، كما كلاهما يحملان المعلومات ويتقبلان الرسائل المزدوجة التشفير المتضمنة لأكثر من معنى مرمّز، كتلك المستخدمة في التجسس. وسبق لعالم الفيزياء والكيمياء الحيوية والحائز على جائزة نوبل مانفريد إيجن ان اعتبر الدنا أشبه بنص لغوي يتضمن: كلمات (كودونات Codons)، وجُمل (جينات)، وفقرات (مشغلات Operons)، ومجلدات كاملة (كروموسومات).

كما تبين في مجال التشابهات بين الدنا واللغة؛ ان العناصر الجزئية في الجينوم تعتمد على السياق الحيوي في تحديد الوظيفة، مثلما هو حال ما يفعله سياق النص في تحديد معنى الكلمة. ففي ذبابة الفاكهة مثلاً، ثمة جين يدعى "distal-less"، وهو ينظّم نماء الأطراف المركبة مع الهيكل الخارجي والمفاصل، وله مثيل ينظّم نماء الأشواك في قنفذ البحر، وكذا الشيء ذاته في تنظيم الأطراف في الفقريات. فرغم تناظر الجينات المسؤولة عن الأطراف في الفقريات والحشرات؛ لكنها لا تتشابه فيما بينها كثيراً من الناحية التشريحية، كالذي نوّه إليه عالم الخلية والتشريح ستيوارت نيومان Stuart Newman.

وعلى هذه الشاكلة ما يتعلق بالجين المكوِّن للأعين، فكما لوحظ انه عندما يوضع الجين المكوِّن لأعين الفأر في مكان ما على ذبابة الفاكهة، فإنه يُنتج في ذلك الموقع عينين للذبابة لا للفأر. لذلك فإن الجين ونظائره تعمل كمفاتيح تشغيل تؤدي إلى خصائص تشريحية مختلفة؛ اعتماداً على السياق المعلوماتي الأوسع الذي يجد الجين نفسه فيه، مثلما تجد الكلمة معناها ضمن سياق النص.

***

ومبدئياً، للعشوائية قابلية على انتاج نوعين من النظم المختلفة، هما النظام التكراري والوظيفي، لكن ثمة نظام ثالث يشترك مع الاخير بعنصر الوظيفة، كما ثمة نظام رابع رياضي بحت، وجميعها لها علاقة بالعشوائية والذكاء، ذاتاً وعرضاً، لذا فتحديدها سيكون موضوع المقالة المقبلة..

comments powered by Disqus