-
ع
+

الكأس المقدسة في اكتشاف معيار التصميم (1)

يحيى محمد

الكشف عن منطقة الاحتمال النوعي

لقد اعتاد العلماء ان يردوا الظواهر الكونية والحياتية إلى القوانين الطبيعية، سواء كانت صارمة أو احصائية، كما لجأوا أحياناً إلى تفسير بعضها طبقاً للصدفة والعشوائية، وأخرى تبعاً لمبدأ اللاتحدد، يضاف إلى تقبلهم التفسير القائم على القصد والذكاء في حالة التصاميم والسلوكيات البشرية. وبذلك تصبح لدينا خمسة أصناف من العلاقات المختلفة للظواهر، وهي كالتالي:

صنف العلاقات الصارمة.

صنف العلاقات الاحصائية.

صنف العلاقات الصدفوية والعشوائية.

صنف علاقات اللاتحدد الجسيمية.

صنف العلاقات المتعمدة.

وباستثناء النمط الأخير، غالباً ما تحظى الأصناف الأربعة الأولى بالقبول والاتفاق. أما الأخير فقد اعتاد العلماء ان يحصروه في السلوك البشري القائم على القصد والذكاء، كما في الآثار الفنية والعلمية والصناعية وغيرها، فضلاً عن الممارسات السلوكية التي تتأسس عليها بعض الفنون والعلوم الفرعية، كعلم السياسة والاقتصاد والقضاء والجريمة والطب الجنائي وما إليها.

وهم بذلك لم يتقبلوا تعميم النمط الأخير على ظواهر أخرى يصعب ادراجها تحت أي من الأصناف الأربعة الأولى، مثل الظواهر الحيوية. بل يعترف بعضهم رغم تعصبه للإلحاد مثل ريتشارد دوكينز بأن هذه الظواهر تبدو وكأنها مصممة، لكنه مع أغلب العلماء لم يتقبلوا تفسيرها وفق التصميم والذكاء، إنما اعتُبرت نتاج التطور المادي وإنْ لم تُعْرف بشكل موثّق الآليات التفصيلية التي أسفرت عن وجودها وتطورها، سواء الجزيئية منها كالأحماض النووية والبروتينات، أو الخلوية والكائنات العضوية بشكل عام.

ومن الناحية المنطقية، إذا سلّمنا بأن التفسير العلمي محصور في الأصناف الخمسة التي أشرنا إليها سابقًا، ولم نجد مع ذلك تفسيرًا واضحًا يندرج ضمن أحد الأصناف الأربعة الأولى يفسّر الظواهر الحيوية تفسيرًا مُرضيًا، بل لاحظنا أن هذه الظواهر تُوحي بالتصميم، كما يقر بذلك بعض العلماء الميالين إلى الإلحاد؛ فإن من المنطقي حينئذ أن نعدّ أفضل تفسير لها هو أنها ناتجة عن تصميم ذكي.

هذا من الناحية المنطقية، لكن للعلماء أسبابهم التي تجعلهم يتحفظون من التفسير القائم على التصميم والذكاء ويبتعدون عنه، على أمل ان يجدوا في يوم ما حلاً لهذه المعضلة وفق ما اعتمدوه من توجيهات الموجّه الفلسفي - المتبنى حالياً - كما يتمثل في معيار "الطبيعانية".

مع هذا لسنا معنيين بالالتزام الصارم بالمعيار المشار اليه، كما ذهب إلى ذلك عدد قليل من العلماء والفلاسفة. فقد تجاوز العلم العديد من المعايير التي أعاقت تقدّمه، ونتوقع ان الحال سيشمل المعيار الآنف الذكر، مثلما حصلت أشياء غير متوقعة في النُظم والتفاسير المتبعة في الفيزياء.

وإذا كنا غير معنيين بالالتزام بهذا المعيار، فذلك لأن الظواهر الحيوية تمتلك دلالة علمية فائقة على التصميم، ولا تتقبل تفسيراً آخر يمكنه ان ينافس هذا المبدأ، خاصة بعد اكتشاف بنية الدنا المعقدة والتشفير الوظيفي والبروتينات العملاقة وغيرها.

فقد أصبح من الواضح ان الخلية الحية ممتلئة بالروبوتات (Robots) والحواسيب الحيوية ونُظم المعلومات المعقدة بما تتفوق على أي حاسوب الكتروني مخترع، كما تتفوق على نظام المعلومات لشانون لكونها تمتلك وظائف مخصوصة. لذلك ولّد هذا الحال بعض الاهتمام في البحث عن المعيار الذي يمكن ان يفسر مثل هذه الظواهر الغريبة، فهي لا تمتّ إلى أي من الأصناف الأربعة الأولى - التي مرت معنا - بصلة، بل يبدو عليها انضمامها إلى الصنف الأخير المعنيّ في إنتاج الوظائف والصناعات الدقيقة الهادفة.

وعليه كيف نضع معياراً يحدد لنا ما هو عائد إلى الصنف الأخير لتمييزه بشكل معقول عن بقية الأصناف الأخرى من التفاسير العائدة إلى معيار الطبيعانية؟

قانون الذكاء والاحتمال النوعي

من وجهة نظرنا، يتحدد معيار الكشف عن صنف العلاقات المتعمدة وتمييزه عن الأصناف الأربعة الأخرى؛ هو بأن تكون الحادثة أو الظاهرة المتحققة منتمية إلى منطقة ضيقة جداً من "الاحتمال النوعي"؛ في قبال أخرى واسعة للغاية. لذلك لا بد من افتراض وجود منطقتين متضادتين ومتباعدتين إلى أقصى حد من حيث الاحتمال النوعي، إلى درجة يكون توقع الحدوث تلقائياً هو من نصيب أحد أفراد المنطقة الواسعة لا الضيقة، وعند حدوث العكس فسيدل ذلك على الذكاء اعتماداً على مدى التفاوت بين المنطقتين؛ وسط بنية معقدة حقيقية، أو مصطنعة، أو مفترضة تخيلية، أو رياضية مجردة، كما أسلفنا.

وبعبارة ثانية، يقتضي الاحتمال النوعي وجود منطقتين احتماليتين مختلفتين نوعياً، إحداهما ضيقة لامتلاكها عدداً محدوداً من المصاديق المختلفة التي تمثلها، لهذا تكون إمكاناتها الاحتمالية قليلة، وأخرى واسعة لامتلاكها عدداً كبيراً من المصاديق التي تمثلها، ومن ثم فإن إمكاناتها الاحتمالية مرتفعة، أي ان توقع حدوثها تلقائياً يحظى بنسبة احتمالية عالية مقارنة بالأولى. لذا فالتقابل النوعي بين المنطقتين هو تقابل بين دائرتي الاحتمال الممكنة، كلما قويت إحداهما ضعفت الأخرى، والعكس صحيح.

فمثلاً، لو افترضنا أننا أردنا رمي عملة نقدية (128) مرة، فسنحصل على (1282) صورة توافيقية ممكنة. وإذا أردنا بعد ذلك التعرف على منطقتي الاحتمال النوعي وسط هذا الكم الهائل من الإمكانات، تبعًا لما يتيحه النظام التكراري أو الدوري، فيمكننا أولاً تحديد عدد الإمكانات المنتظمة ضمن هذا المجموع التوافيقي، وذلك استنادًا إلى "معامل الانتظام الدوري"، والذي تم تحديده في دراسة مستقلة وفق الصيغة التالية:

عدد الانتظامات = لوغاريتم N للأساس 2 + 1

وحيث لدينا (128) رمية، فهذا يعني أن لوغاريتم N للأساس (2) هو (7)، إذ عدد الرميات يعادل (72)، لذلك فإن الناتج وفقاً لهذا المعامل هو:

7 + 1 = 8

ويمثّل هذا العدد مجموع الإمكانات المنتظمة ضمن الحالات التوافيقية الممكنة، والبالغة (1282) حالة.

وتتمثّل الأشكال الثمانية المنتظمة في أن يظهر أحد وجهي العملة النقدية في جميع المرات، أو في التناوب مرة فمرة، أو مرتين مرتين، أو كل أربع مرات، أو كل ثماني مرات، أو كل (16) مرة، أو (32)، أو (64).

فهذه ثمانية أشكال منتظمة فقط، ولا يوجد غيرها ضمن هذا السياق، وهي تعادل (32) حالة توافيقية، فيما تشغل بقية الحالات الممكنة منطقة الاحتمال النوعي غير المنتظم. وبذلك نكون أمام منطقتين محددتين ومتعارضتين من حيث الاحتمال النوعي:

إحداهما ضيقة، وتمثّل عدد الحالات التوافيقية المنتظمة، وتساوي (32) حالة فقط. والأخرى واسعة، وتضمّ جميع الحالات التوافيقية غير المنتظمة، والتي يمكن استنتاج عددها عبر الطرح، كما يلي:

1282 - 32

ويعني ذلك أن جميع الإمكانات التوافيقية غير المنتظمة تعادل (1282) باستثناء ثمانية أشكال فقط باعتبارها منتظمة.

ولو قمنا بقسمة مجموع الإمكانات الثمانية المنتظمة (32) على كافة الإمكانات التوافيقية الممكنة (1282) فسنحصل على مقدار الاحتمال الذي يمكّننا من الوقوع على حالة توافيقية منتظمة خلال رميات العملة الـ (128). وهو احتمال بالغ الضآلة، ويُحسب كالتالي:

32 ÷ 1282 = 2-125

فهذا المقدار الضئيل يمثل احتمال إحدى الحالات الثمانية المنتظمة لا على التحديد. لذلك فإن التنافس بين الانتظام وعدمه هو تنافس نوعي لا شخصي. وان القابلية العشوائية الخالصة تميل إلى المنطقة الواسعة غير المنتظمة لكثرة إمكاناتها من الصور التوافيقية. فكلما زاد عدد الرميات العشوائية كلما توقعنا اصابة المنطقة غير المنتظمة أكثر فأكثر باضطراد، حيث مع زيادة الرميات تتسع هذه المنطقة على حساب نظيرتها المنتظمة من الاحتمال النوعي.

وعليه انه في الأعداد الكبيرة من الرميات يميل الاعتقاد إلى نفي اصابة المنطقة المنتظمة، ولو اُخبرنا بتحقق ذلك لما صدقنا، ولو أُجريت أمامنا تجارب تبدي هذا النوع لكنا على شك بأن ذلك مفتعل عن قصد دون ان يكون عشوائياً. ففي مليون رمية ليس من السهل ان نصدق من يخبرنا بأنها أصابت المنطقة المنتظمة عشوائياً، حيث تبقى الحالات المنتظمة ضئيلة للغاية وسط الحالات الممكنة الكلية، والتي تعادل (10000002).

صحيح ان أي صورة توافيقية منتظمة لا تختلف من حيث احتمالها عن أي صورة أخرى غير منتظمة. لكن هذا ما يصدق على الاحتمالات الشخصية، حيث تتساوى الإمكانات لدى جميع الصور من دون اختلاف نوعي. ولا يظهر التمايز إلا في حالة أخذ اعتبار المنطقتين المختلفتين نوعياً. ففي الأعداد الكبيرة، ان توقع اصابة المنطقة المنتظمة هو ضئيل جداً مقارنة بالمنطقة غير المنتظمة. ولو ان الناس خُيّروا للمراهنة على اصابة إحدى المنطقتين، لما اختلف اثنان في ان يختاروا الأخيرة لكثرة ما تمتلكه من الحالات التوافيقية على عكس المنطقة المنتظمة. وبالتالي كلما زاد عدد رميات قطعة النقد، ولنفترض انها أصبحت بالمليارات، كلما زاد يقيننا وثقتنا باصابة المنطقة غير المنتظمة.

وقد يقال كيف يمكن ان نفسر ما يحصل من الفوز بجائزة اليانصيب (اللوتري Lottery) أحياناً وفق هذا المعيار؟

والجواب هو ان الاحتمالات الواردة في هذه اللعبة هي من النمط الشخصي لا النوعي، فكل بطاقة لها قيمة احتمال الفوز بنفس القدر الذي تمتلكه بقية البطاقات، لهذا قد يفوز زيد أو عمر أو غيرهما، بل من الضروري ان تفوز واحدة من مجموع البطاقات الكلية، إذ دائرة الاحتمالات في هذه الحالة مغلقة خلافاً لما لو كانت مفتوحة. صحيح ان نسبة هذا الفوز إلى بطاقة محددة ضعيفة جداً، لكنها متساوية بالنسبة للجميع، ولو أننا شخّصنا إحدى البطاقات كرهان للفوز، لكان من المتوقع ان نخسر الرهان لصالح البقية، حيث الأولى لا تمتلك قيمة للاحتمال سوى واحد من مجموع البطاقات، في حين تمتلك البقية قيمة مقدارها مجموع الاحتمالات باستثثناء واحد فقط، وهي قيمة كبيرة.

لذا قد يقال: لِمَ لا يُعتمد على مثل هذا الفارق النوعي، حيث يوجد اختلاف بين إمكانات البطاقة الواحدة من جهة، وجميع البطاقات الأخرى باستثناء واحدة من جهة ثانية، وذلك عند تشخيص البطاقة كرهان للفوز سلفاً؟

وهو أمر صحيح، ويمكن ان يُستشف منه ما يشير إلى الذكاء (أو الاحتيال) في حالة كسب الرهان عندما يكون عدد البطاقات كبيراً. لكنه مع هذا لا ينطبق على ما نحن بصدده من تكوين نوع من النظام في المنطقة الضيقة في قبال غريمتها الواسعة، كما نراه في الكون والحياة.

كذلك لا يتحقق ما نحن بصدده عندما نريد ان نحدد قيمة احتمال فوز زيد من الناس في جميع دورات اليانصيب معاً. إذ ما يحصل في هذه الحالة هو مجرد تضييق منطقة احتمالات زيد، فيضعف الاحتمال أكثر فأكثر كلما زاد عدد الدورات المقامة. فمثلاً لو كانت لدينا مليون بطاقة لكل دورة يانصيب، وأجرينا عشر دورات، فسيصبح احتمال فوز زيد في جميع الدورات عبارة عن واحد من مليون مضروباً في عشر مرات، ويساوي (10-16)، وهو مستبعد جداً مقارنة باحتمال فوزه في الدورة الواحدة فقط.

لكن هذا الافتراض لا يلبي الشرط الذي ذكرناه حول الطبيعة النوعية للمنطقة الضيقة في قبال المنطقة الواسعة للإمكانات الاحتمالية.

وقد نغير من شروط المثال السابق لصنع منطقة نوعية منتظمة، فنفترض ان زيداً يقوم بتكرار المساهمة في اقتناء بطاقة اليانصيب في جميع الدورات المقامة، والمطلوب ان يفوز في واحدة منها على الأقل، فتصبح لدينا في هذه الحالة منطقة ضيقة للاحتمال في قبال أخرى واسعة. وان احتمالات فرص نجاح زيد في الدورات المتعددة يجعل من المنطقة الضيقة تزداد قليلاً بإمكانية واحدة في كل دورة جديدة، فكل فرصة نجاح تمثل مصداقاً من مصاديق المنطقة الضيقة المنتظمة. لكن السعة الحاصلة تبقى محدودة للغاية.

ويشابه هذا المثال ما قد تواجهه الكائنات الحية من فرص ضئيلة جداً للتطور كلما تعرضت للتغيرات المؤثرة باضطراد، كالطفرات الجينية وغيرها. لكنها مع ذلك غير كافية للتطور النوعي وفق العشوائية والانتخاب الطبيعي، ويعود السبب في ذلك إلى ضخامة الإمكانات المقابلة غير المفيدة، ومن ثم فهي بحاجة إلى الدعم والتوجيه الذكي. وعلى هذه الشاكلة ما يتعلق بنشأة الحياة.

أما في العالم الفيزيائي فالأمر مختلف، فمثلاً في العشوائية الفيزيائية المتعلقة برمي قطعة النقد، نلاحظ ان الانتظامات المتولدة فيها وان تزداد مع ارتفاع عدد الرميات - طبقاً لمعامل الانتظام الدوري كما سبق تحديده - لكنها تضعف كنسبة أمام غريمتها غير المنتظمة، وليس هو الحال في المثال الأخير المذكور حول فرص نجاح زيد، إذ تصبح المنطقة المتعلقة باحتمالات فوزه أكثر سعة وأقل انخفاضاً لدى مقارنتها بفوز البطاقات الأخرى.

وحقيقة ان أغلب الافتراضات السابقة حول بطاقات اليانصيب لا تشابه ما نجده في عالم الكون والحياة، أو مما يقع ضمن النُظم الأربعة التي سبق الحديث عنها.

على ان الأمثلة الرياضية السابقة هي في حالة افتراض أننا حددنا مجموعة الأعداد. في حين لا يمتنع ان نصادف في عالمنا الحقيقي - كما في الفضاء - أعداداً رياضية تظهر فجأة من دون علم مسبق بمجموعها ولا هويتها. ويمكننا في هذه الحالة الاستعانة بالعلم الاجمالي المسبق للأعداد، فطبيعتها قابلة للتقسيم الافتراضي إلى منطقتي الاحتمال النوعي، حيث إحداهما تكون منتظمة وهي ضيقة جداً، كما في تسلسل الأعداد من الواحد فصاعداً على التوالي، أو في تسلسل الأعداد الفردية أو الزوجية أو الأولية أو غير ذلك من الانتظامات المختلفة، فيما الثانية غير منتظمة وواسعة جداً. وبالتالي عندما تظهر لدينا مجموعة منها فجأة دون معرفة السبب، فذلك يعني إما انها تعبر عن حالة عشوائية، أو انها منبعثة عن ذكاء متعمد. فلو كانت هذه الأعداد غير منتظمة فسوف يترجح انها بفعل عشوائي ما لم يتبين انها مشفرة، في حين لو تبين انها منتظمة وكبيرة، فذلك لا يُفسَّر بغير الذكاء، ويزداد هذا التفسير تأييداً وقوة كلما ازدادت سعتها أو انبعاثها.

وهذا ما يمكن تفسيره وفق المعيار الذي تحدثنا عنه سابقاً، كما في فلم ورواية كارل ساجان (اتصال Contact )، حيث أننا أمام احتمالات متعلقة بمجاميع من الأعداد الممكنة، بعضها يتصف بالانتظام وهو الحد الضئيل، فيما يتصف البعض الآخر بعدم الانتظام وهو الغالب الأعظم منها، وبالتالي يصبح من الطبيعي ان نعتبر هذا الانتظام هو وليد الذكاء وفقاً للمنطق الحسابي للاحتمالات الممكنة.. إذ ان أي مجموعة من الأعداد الكبيرة عندما تكون منتظمة فسوف تدل على الذكاء، سواء تمثلت بالأعداد الأولية، أو الزوجية، أو التعداد التسلسلي الطبيعي، أو غير ذلك من الانتظامات النوعية الأخرى.

هذا فيما يتعلق بالأعداد الرياضية الخالصة. وعادة ما نواجه طرائق أخرى مختلفة، إذ من تطبيقات منطقة الاحتمال النوعي ما يتعلق بالنظام الوظيفي، وله عدد من الصور المختلفة، بعضها صور حقيقية كما في الظواهر الحيوية، وأخرى مصطنعة كما في اللغة. فالتعقيد الحاصل في الأحرف اللغوية يبعث على وجود منطقتي الاحتمال النوعي؛ الضيقة والواسعة، وتتميز المنطقة الواسعة بارتباطات لا تفيد المعنى، فأغلب ارتباطات اللغة تخلو من الأخير، فيما تبقى منطقة ضيقة لهذه الارتباطات هي ما تتميز به. وكلما زادت الأحرف؛ توسعت (منطقة عدم المعنى) لكثرة الصور التوافيقية المتعلقة بها، على عكس (منطقة المعنى) ذات الصور التوافيقية الضيقة.

وقريب مما سبق يحصل لدى الارتباطات البنيوية الحيوية، حيث تفتح المجال أمام منطقتين متعاكستين للاحتمال النوعي، إحداهما وظيفية ضيقة لقلة ما تمتلكه من خيارات توافيقية، وأخرى غير وظيفية، وهي واسعة لكثرة ما تحمله من خيارات، كما هو الحال مع تسلسلات الدنا والبروتينات وسائر الجزيئات الخلوية وما فوقها.

وعلى هذه الشاكلة فيما يخص الصناعات والفنون البشرية، حيث تتصف ارتباطاتها البنيوية المعقدة بأنها تمتلك منطقة ضيقة للاحتمال النوعي، في قبال منطقة واسعة تخلو من الفائدة. لذلك تحتاج الارتباطات البنيوية المفيدة إلى التصميم الذكي، وبدونه لا يمكن الحصول على بنية معقدة مفيدة لانتمائها إلى المنطقة الضيقة.

ومن حيث المنطق الاحتمالي ان الصناعات البشرية والوظائف الحيوية ومثلها المعاني اللغوية، كلها تُصنَّف ضمن المناطق الضيقة للاحتمال النوعي.

وتتميز الوظائف الحيوية بأنها تمتلك مناطق أكثر ضيقاً من غيرها. وهي لهذا تعتبر من أبرز تطبيقات التصميم التي يدل عليها معيار الاحتمال النوعي. إذ يمكن ان يصل الحال إلى عدم كفاية عمر الكون المقدر بـ (14) مليار عام لإنتاج أبسط وظيفة حيوية من دون تصميم أو ذكاء. لذلك فشلت كافة الطرق العلمية في تفسير كيف نشأت مثل هذه الوظائف المدهشة، كتلك التي تقوم بها الجزيئات العملاقة من الدنا والرنا والبروتينات.

كما ينطبق معيار الاحتمال النوعي على نظام الضبط العددي الدقيق في العالم الفيزيائي. فمن الناحية الافتراضية المتخيلة ان الأعداد الثابتة المكتشفة في الكون الفيزيائي تنتمي إلى منطقة احتمال نوعية ضيقة في قبال أخرى واسعة جداً من غير تحديد، لذلك لا يعقل ان تتحقق المنطقة الضيقة من دون دعم الذكاء والتصميم، مثلما هو حال ما يتعلق بتطبيقات النظام الوظيفي.

شروط معيار الذكاء

وفق المعلومات السابقة ننتهي إلى بيت القصيد من ان معيار التصميم والذكاء يحتاج إلى وجود بنية معقدة قابلة لأن تُقسم افتراضياً إلى منطقتين متضادتين من الاحتمال النوعي. إذ في حالات معينة نحصل على بنية عشوائية من دون قابلية على التقسيم المشار اليه، ومن ثم لا يتحقق النظام ولا الوظيفة، وليس لها أدنى دلالة على التصميم والذكاء. كذلك قد نحصل على بنية بسيطة قابلة لأن تتولد فيها المنطقتان المتضادتان، لكنها غير معقدة. لذلك ان الشرط الأساسي في هذا المعيار هو القابلية على التقسيم وتحقيق الاحتمال النوعي الثنائي المتباعد وسط البنية المعقدة، ومن ثم انتماء الحادثة أو الظاهرة المتحققة إلى المنطقة الضيقة.

وبهذا تكون لدينا ثلاثة شروط لتحقيق معيار الذكاء كالتالي:

الشرط الأول: تعقيد البنية العشوائية.

الشرط الثاني: توفرالاحتمال النوعي المتباعد ثنائياً بين منطقتين واسعة وضيقة.

الشرط الثالث: تحقق أحد أفراد المنطقة الضيقة.

ولايضاح هذه الشروط الثلاثة نستعين بالأمثلة اللغوية. حيث يمكن التمييز بين خمسة أنماط مختلفة من ارتباطات الأحرف، في كل منها باستثناء النمط الأول منطقتان متضادتان، إحداهما تفيد المعنى فيما لا تفيده الأخرى، كما في الارتبطات التالية:

نمط منتظم بسيط يخلو من المعنى، وهو بالتالي يخلو من الاحتمال النوعي أو المنطقتين المتضادتين، مثل تكرر أحد الأحرف بانتظام تام.

نمط منتظم نسبياً وذو قابليتين لأفادة المعنى وعدمها، وهو بسيط رغم تفاوت البساطة بين أطيافه المختلفة، حتى يبدو في بعض الحالات انه معقد، لكن تعقيده ضئيل للغاية مقارنة بالنمط المعقد العشوائي كما سنرى. فمثلاً يمكن ان تتشكل من الأحرف التالية (أ، ث، ح، د، ن) مع الفاصلة ارتباطات منتظمة نسبياً من دون معنى، مثل:

ثا جدن ثا جدن ثا جدن.. الخ.

كذلك يمكن ان تتشكل منها ارتباطات منتظمة نسبياً ذات معنى، مثل:

حدثنا حدثنا حدثنا.. الخ.

نمط عشوائي بسيط ذو قابليتين لأفادة المعنى وعدمها، وله أطياف متفاوتة في البساطة. فمثلاً يمكن ان تتشكل من الأحرف التالية (أ، ب، د، ع) ارتباطات عشوائية بلا معنى مثل كلمات: ادبع.. بادع.. الخ.

وفي القبال يمكن ان تتشكل منها كلمات لها معنى، مثل: أبدع.. ابداع.. عابد.. الخ.

نمط عشوائي معقد ذو قابليتين لأفادة المعنى وعدمها، وله أطياف متفاوتة في التعقيد. ويمتاز بأن له قابلية على التشكلات الضخمة مقارنة بالنمطين السابقين. وهو ما يعنينا، حيث يتميز بالاضافة إلى ما يشترك به مع النمطين السابقين من وجود منطقتين مختلفتين ومتضادتين للاحتمال النوعي، فإنه يختص بامتلاك عنصر التعقيد، وهو ما تفتقر إليه الأنماط السابقة. وبفضل التعقيد تتكثر الحالات الممكنة للارتباط، ومن ثم يعظم الفارق النوعي بين هذه الحالات لدى المنطقتين المتضادتين. وتتميز المنطقة ذات المعنى بإمكانات ضعيفة جداً مقارنة بالإمكانات الضخمة للمنطقة الخالية من المعنى.

وأعظم ما تكون عليه صورة هذا النمط هو عند استخدام جميع الأحرف اللغوية بحرّية، مثل تدويننا لمختلف الجمل والفقرات والمقالات والكتب والموسوعات، فرغم انها تعتمد على عدد محدود من الأحرف، ففي اللغة العربية تقدر مع الفاصلة بـ (29) حرفاً فقط، لكن إمكاناتها لاعطاء المعاني لا تحصى. ورغم هذه الإمكانية الهائلة إلا انها لا تُعدّ شيئاً أمام ضخامة الإمكانات الخالية من المعنى. ولهذا السبب بالذات نعزو الارتباطات اللغوية المعقدة ذات المعنى إلى الذكاء استناداً إلى الفارق الاحتمالي بين المنطقتين الآنفتي الذكر.

نمط يشوبه الاختلاط، ويعتمد على بعض الخلط لدى صور الأنماط السابقة، وله صور عديدة، فقد يتكون من بنية مختلطة عشوائية ومنتظمة، أو قد يكون بعضها ذا معنى، والبعض الآخر بلا معنى. وقد يزداد الاختلاط في هذا أو ذاك. وما يهمنا هو ما يتعلق بالنمط الرابع المعقد، إذ قد تكون الارتباطات خالية من المعنى، لكنها تتضمن القليل من الارتباطات ذات المعنى. وبالعكس، وهو الشائع، حيث يمكن ان تكون الارتباطات تفيد المعنى، لكنها تتضمن بعض الشذوذ من عدم المعنى أو تحريفه، مثل حدوث تحريف في كلمة أو جملة، أو فقد أو زيادة، أو نقل بعض الجمل والفقرات فيختل جزء من المعنى الوارد في النص، وقد يؤدي في أحيان قليلة إلى تحسين المعنى بشكل ضئيل. لكن هذا الاختلال لا يغير من الفارق النوعي بين المنطقتين المتضادتين للاحتمال النوعي، وان إحداهما تتصف بالضيق وتستأثر بإمكانات المعنى، على عكس الأخرى الواسعة. كما ان هذا الاختلال لا يغير من استنتاجنا بأن هذا النص هو أيضاً دال على الذكاء رغم النقص والتحريف.

وللحالة الأخيرة شَبَه بالظواهر الحيوية، فهي معقدة وذات ارتباطات بنيوية غير منتظمة وتؤدي وظائف دقيقة، لكنها معرضة للتحوير والتشويه، وأحياناً قليلة تبعث على شيء طفيف من التحسين، كما في حالة الطفرات الجينية والبقايا الأثرية الناتجة عن عمليات التطور المعقدة. مع هذا فإنها تند عن ان تفسر بغير الذكاء؛ على شاكلة ما رأيناه في الاختلال المعنوي للغة ذات الارتباطات البنيوية المعقدة.

وقد تُعتبر هذه التحريفات والتشويهات العرضية للظواهر الحيوية هي مما يدعم ان يكون الذكاء غير مفارق، كما في "أثير الذكاء الروحي" الذي اقترحناه وتحدثنا عنه في عدد من الدراسات المستقلة.

***

من هنا نجد في معيار الاحتمال النوعي الكأس المقدسة في اكتشاف التصميم، إذ ينقسم هذا الاحتمال إلى منطقتين متضادتين إحداهما واسعة وأخرى ضيقة، وكلما ازدادت الأولى سعة كلما ضاقت الثانية، والعكس صحيح، وهو ما يدعم فكرة المعيار الكاشف عن الذكاء. وقد يؤدي ضيق منطقة الاحتمال النوعي إلى الرفض التام لكل تفسير لا يستند إلى عامل الذكاء، وذلك عندما يبلغ مقدار هذا الاحتمال أقل من مقلوب مجموع عمليات الكون أو الموارد الكونية المتاحة.

صحيح انه في الحسابات الاحتمالية لا يمكننا التوقف عند حد صارم ونقول هذا هو الحد النهائي، وذلك لأن تسلسل الاحتمالات يتضاءل إلى ما لا نهاية له، لكن مع هذا توجد حدود لا يتوقع بعدها الاعتماد على شيء آخر، حتى نصل إلى درجة الصفر العملي أو اليقين الموضوعي كما تفسره المرحلة الذاتية من العملية الاستقرائية الصدرية (نسبة إلى المفكر محمد باقر الصدر) [1].

ومعلوم ان العلم يعتمد على معيار "منطقة الرفض" في العلوم الاحصائية لاستبعاد الصدفة، كما في منهج فيشر منتصف عشرينات القرن الماضي، حيث لا تقبل الفرضية التي لا تدعمها عوامل احصائية بأقل من (5%)، أو غير ذلك من النسب التي تمّ اقتراحها فيما بعد، ومنها تخفيض فيشر للنسبة إلى حدود (3%)، أو حتى أقل من ذلك لتصل إلى خمسة بالألف (0.005)؛ كالاقتراح الذي وقّعه مؤخراً اثنان وسبعون خبيراً في علم الإحصاء والأحياء والاجتماع[2].

لكن هذا ما يجري في العلوم الاحصائية، فالنسب المذكورة ليست بشيء أمام القيم الاحتمالية الضخمة في النُظم التي نتحدث عنها، لا سيما ما يتعلق بالوظائف الحيوية، إذ يتضح ان النماذج التي سبق ذكرها وفق المنطقة الضيقة للاحتمال يصعب تفسيرها تبعاً للعوامل الطبيعية المعروفة، خلافاً لحالة ما لو افترضنا تفسيرها تبعاً لعامل الذكاء. فمثلاً يتميز النظام الوظيفي بمنطقة ضيقة جداً من الاحتمال، وعادة ما يصل ضيقها إلى عدم كفاية عمر الكون لصنعها وفق العوامل الطبيعية. ومن الممكن وضع معيار للنفي التام بما هو أعظم من الرفض عندما يزداد ضيق منطقة الاحتمال النوعي فيصبح أقل من مقلوب مجموع عمليات الكون المتاحة.

ونشير إلى ان استنتاج التصميم في هذه الحالة يختلف عن استنتاج النظريات العلمية رغم الاعتماد على ذات الأساس المعول عليه في الاستقراء ومنطق الاحتمالات. إذ تمتاز حالة التصميم بكسبها ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها من دون منافس. كما تتصف الأطراف فيها بأنها مغلقة ومحدودة للغاية، فهي عبارة عن طرفين متنافسين، كما يتجسدان في منطقتين احتماليتين ضيقة وواسعة، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها بأخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. لذلك لا يبعث النظام العلمي المفتوح على القطع في القضايا غير المدركة مباشرة، خلافاً للنظام المغلق لوجود الحصر العقلي للأطراف القبلية، كما تتمثل بالمصادفات العشوائية والتصميم. فالقرائن الاحتمالية تتوزع بين هذين الطرفين من دون طرف ثالث منافس[3].

فرضية الخوارزمية التطورية

أمام مثل الحقائق السابقة، ادعى قليل من العلماء ان من الممكن الخروج من هذا المأزق عبر افتراض الخوارزمية التطورية Evolutionary algorithm، وهي تعتمد على تفاعل عاملين: الضرورة والصدفة. فعند ادخال عنصر الضرورة في المعادلة يصبح من المحتم التوصل إلى النتائج المرجوة، فهي عملية أشبه بلعبة اليانصيب، حيث تجمع بين العاملين المشار اليهما. فالضرورة تقتضي ان تفوز واحدة من البطاقات من دون تعيين، لكن من المصادفة ان يحظى زيد مثلاً بالبطاقة الفائزة. وعلى هذه الشاكلة ما يتعلق بالخوارزمية التطورية مع أخذ اعتبار حالة التطور التفاضلي المتدرج للوصول إلى النتيجة المطلوبة. لذا تُستخدم بشكل فعال في حل المشكلات الهندسية المعقدة.

وتُعزى أقدم عملية محاكاة حاسوبية للتطور - عبر استخدام الخوارزمية التطورية وتقنيات الحياة الاصطناعية - إلى عالم الرياضيات نيلز آل باريشيلي Nils Aall Barricelli عام 1953. ومن بعده بسنوات قليلة جاء أليكس فريزر Alex Fraser المبتكر الرئيسي في تطوير النمذجة الحاسوبية لعلم الوراثة السكانية، فقام بنشر سلسلة من الأوراق حول محاكاة الانتقاء الاصطناعي. ثم أصبحت مثل هذه الممارسات معروفة على نطاق واسع[4]. وقد استخدمها عدد من العلماء لحل معضلة الحياة، وتم التمثيل عليها ببعض العبارات اللغوية القصيرة.

لكن ما اشتهر منها في الوسط الثقافي العام هو ما طرحه ريتشارد دوكينز في كتابه (صانع الساعات الأعمى) الصادر عام 1986، حيث أنشأ تسلسلاً عشوائياً متطوراً لجملة قصيرة مستمدة من مسرحية هاملت لشكسبير (Methinks it is like a weasel)، وهي انه لو اتيح الزمن الكافي لجيش من القرود في ان تضرب على الآلات الحاسوبية لانتجت هذه الجملة مرة واحدة خلال (4010) محاولة، أي ان احتمال تكونها يبلغ (10-40)[5]، وهي تحتاج إلى زمن يقدر بمليارات المليارات من السنين. مع هذا فمن الممكن جعل العشوائية تتحسن بالتدريج من خلال البرمجة الحاسوبية في وقت قصير جداً.

وقد طبق دوكينز هذه البرمجة في عدد من الاختبارات، فجعل البرنامج يعمل على تدوير الأحرف الانجليزية عشوائياً وغربلتها لتثبيت كل حرف مناسب في محله عندما يظهر بالتدريج مع ترك بقية الأحرف الأخرى، وهكذا يستمر الحال حتى تتكون الجملة بالتفاضل المتدرج، كالذي يفعله الانتخاب الطبيعي ازاء التغيرات العشوائية للكائنات الحية أو جيناتها. ومن ثم لاحظ ان الجملة السابقة تتكون بعد (43) جيلاً خلال ما يقرب من نصف ساعة فقط. وفي تشغيلة ثانية للحاسوب تمّ تشكل الجملة بعد (64) جيلاً، كذلك في محاولة ثالثة بعد (41) جيلاً[6]. بمعنى ان احتمال النجاح يصل إلى حوالي واحد من (40) محاولة، بدل الاختبارات العشوائية الخالصة التي يبلغ احتمال النجاح فيها (10-40) محاولة.

لكن هذه الطريقة من الخوارزمية التطورية واجهت اعتراضين، أحدهما انها تعيّن مسبقاً الهدف الذي تريد الوصول اليه، وهو تحديد غائي بعيد المدى ومبرمج سلفاً من دون ان يتلائم مع ما يراد اثباته في الطبيعة عبر مبدأ الانتخاب الطبيعي، سواء ما قبل الحياة أو ما بعدها.

والثاني ان هذه الخوارزمية محملة بمعلومات معقدة تتفق مع مبدأ التصميم دون سواه.

وقد جرت محاولة أخرى تبتعد عن تعيين الهدف المطلوب سلفاً وفق برنامج حاسوبي أكثر تطوراً، وهو معنيّ ببرمجة الحياة الاصطناعية المسماة بالاسبانية أفيدا Avida، وقد تمّ اصدار التصميم الأول منها في عام 1993، ومن ثم أُعيد تصميمه مرات عديدة، وهو برنامج مستوحى في الأصل من نظام تيرا Tera System كمحاكاة حاسوبية قابلة للتطور والتحول والتكاثر ذاتياً[7].

والى هذا اليوم تستخدم هذه الطريقة كبرنامج تعليمي حول كيفية نشوء التطور. مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المحاكاة لا تحمل الكثير من المعلومات مقارنة بما تحمله الظواهر الحيوية.

وطبقاً لتصاميم أفيدا ظهرت مقالة تكشف عن نتائج هذه العمليات من المحاكاة الرقمية، مع تلافي مشكلة التحديد المسبق للسمة أو الوظيفة المعقدة. وشارك فيها أربعة باحثين؛ اثنان منهم سبق ان ساهما في اصدار التصميم الأول المشار اليه، وتم نشرها في مجلة الطبيعة بعنوان (الأصل التطوري للسمات المعقدة) عام 2003.

وقد استهدفت المقالة اثبات إمكانية تفسير ظهور الوظائف والسمات المعقدة للكائنات الرقمية عبر وظائف وسمات أقل تعقيداً وموجودة سلفاً، وذلك من خلال التطور القائم على الطفرات العشوائية والانتقاء التفضيلي. إذ تضمنت منصة أفيدا كائنات رقمية محملة بالتعليمات التي تجعلها قابلة على التناسخ والتكاثر ومن ثم التحول والتطور بالطفرات الجينية الرقمية المختلفة.

وكشفت المقالة عن عدم وجود مرحلة وسيطة معينة ضرورية لتطوير وظائف معقدة. كما أظهرت ان معظم الطفرات كانت محايدة أو ضارة، وان القليل منها مفيد وقابل للاحتفاظ به. كذلك قارنت هذه المقالة بين الكائنات الرقمية المعتمدة والفايروسات الحاسوبية، فرغم ان كلاهما يتكاثران ذاتياً؛ لكن الفايروسات الحاسوبية تحتاج إلى التدخل المباشر للتحوير والتطوير، خلافاً لما هو الحال في الكائنات الرقمية، حيث تتحول بشكل عشوائي وتتطور تلقائياً.

وأشار الباحثون في المقالة إلى ان بعض القراء قد يرى العملية لا تخرج عن ‹‹تكديس سطح السفينة››، حيث انها تجعل من الوظائف المعقدة مبنية على وظائف مفيدة أبسط. وكان الجواب هو ان هذا بالضبط ما تتطلبه نظرية التطور البايولوجي، حيث انها لا تبحث عن نشأة أصل الصفات والوظائف، بل تبحث عن تطورها.

كما أشاروا إلى ان الكائنات الرقمية تختلف عن التكوين الجيني والأنشطة الأيضية والبيئة الفيزيائية، لكنها تخضع لنفس آليات التكاثر والطفرة والتوارث والتنافس التي تسمح بجريان التطور والتكيف عن طريق الانتخاب الطبيعي في الأشكال العضوية.

ومن أوجه التشابه بين هذين العالمين أيضاً؛ هو ان الطفرة الواحدة يمكن ان تؤثر على عدد من السمات، ومثل ذلك تتفاعل عدة طفرات لتحديد الصفة ذاتها.

أخيراً نبّه الباحثون إلى أهمية هذه التجارب الرقمية لحل المشاكل التي تصعب دراستها باستخدام الأشكال العضوية؛ لأسباب تتعلق بعدم اكتمال المعلومات، والوقت غير الكافي، وعدم جدوى التجارب[8].

لكن رغم أهمية هذه المقالة في الكشف عن جملة من التشابهات في العالمين الرقمي والحقيقي، إلا انها ليست مفاجئة. فقد أظهرت المقالة ان التطور في العالم الرقمي قائم على الطفرات العشوائية والانتقاء التفاضلي، في حين ان الأساس المحرك لعملية التطور ليس الطفرات ولا الانتقاء، بل وجود التعليمات المعقدة لدى الجينوم الرقمي، ولولاها ما كان من الممكن ان يتحقق أي مجال من مجالات هذا التطور. وهو الحال الحاصل في العالم الحيوي الحقيقي. وبالتالي فثمة نوع من التوجيه الذي يصنع آلية التكاثر والاستنساخ ويجعلها غير متماثلة؛ مسخرة بذلك الطفرات العشوائية، فسميت بأخطاء النسخ، وهي ضرورية لحدوث التطور عبر الاستعانة بالانتخاب الطبيعي. ولولا وجود التعليمات والأوامر المصممة والمعقدة لدى سلسلة الجينوم لما كان من الممكن صنع التكاثر والاستنساخ المتباين الأطياف.

وهذا يعني ان النتائج التي انتهت إليها تصاميم أفيدا هي المتوقعة من الناحية الاجمالية، ولا تختلف كثيراً عن الخوارزميات السابقة لها، وتمتاز بأنها تُخفي الهدف المطلوب، خلافاً لما سبقها من خوارزميات تعلن الهدف المطلوب صراحة. لكن النتيجة واحدة، فبقدر ما يُضخ من معلومات مدخلة؛ بقدر ما تناسبها النتائج المخرجة.. وليس في البين غذاء مجاني.

ويمكن تصوير الحالة بمثال من الواقع يتعلق بحادثة قتل لم يُعرف فيها القاتل، والمطلوب هو الكشف عن هذه المعلومة، لكن الأخيرة لا تُعرف بضربة حظ، فالقاتل ينتمي إلى فئة كبيرة من الناس، ولنفترض ان لدينا مليون رجل وامرأة، لذا فالاحتمال الأولي لمعرفة هوية القاتل تعادل واحداً من مليون، وهو احتمال لا ينفعنا في تحديد هذه الهوية من دون معلومات مسبقة مستقلة. وهنا بيت القصيد!

فالتوصل إلى معلومة محددة كما تتمثل في الكشف عن هوية القاتل يتطلب عدداً من المعلومات المستقلة، مثل معرفة إن كان المقتول قد اُصيب بأورام وكدمات قوية في الوجه توحي ان القاتل رجل لا امرأة. فهذه المعلومة ان تمّ التأكد منها تصبح كافية لخفض نسبة احتمال الكشف عن هوية الجاني إلى النصف.

كذلك يمكن تخفيض هذه النسبة بشكل كبير عبر معلومات مستقلة أخرى، كالكشف عن بعض الآثار التي خلّفها الجاني، والتعرف على مجمل حياة المقتول وما كان يعانيه من مشاكل، اضافة إلى المعلومات المتعلقة ببيانات الأقرباء والجيران وغيرهم ممن تربطهم علاقة به، بما في ذلك معرفة من كان يرتاد منزله يوم الجريمة وقبله.. إلى غير ذلك من المعلومات. فكلما كثرت هذه المعلومات كلما ساهمت في خفض عدد أطراف الاحتمال مما كان واسعاً إلى دائرة ضيقة؛ قد لا تتجاوز أعضاؤها عدد أصابع اليد الواحدة، ومن ثم تنخفض أكثر فتزداد القيمة الاحتمالية بالتبع، وقد يتعين الاحتمال المرجح أو المؤكد حول تحديد هوية الجاني.

وكل ذلك له علاقة بالكشف عن معلومة واحدة هي معرفة هوية الجاني. وقد تلعب بعض المصادفات في المساعدة، لكنها ليست هي الأساس في الكشف عن المعلومة المعقدة.

ومثل هذه الحالة تجري في المحاكاة الرقمية، فكل ما يراد التوصل إليه انما يأتي عبر الضخ المعلوماتي، فلولا هذا الضخ ما كان من الممكن جَنْيَ المحاكاة، مع تأثيرات طفيفة للعشوائية لا تغير من الصورة العامة التي يراد تحقيقها.

والشيء ذاته حاصل في الحياة الحقيقية، فكل صفة أو وظيفة للكائن الحي انما هي نتاج ضخ التعليمات التي تفرضها الجينات وغيرها لتوليد هذه الصفة أو الوظيفة، مع تأثيرات هامشية جداً تتعلق بالعشوائية. وكل ذلك يصعب تفسيره بغير فرضية التصميم والذكاء.

لذا ان من ضمن ما يُسأل عنه، هو كيف نشأت هذه المعلومات أساساً؟ وهذا ما لم تجب عليه الخوارزمية التطورية.

بل ان بعض الباحثين مثل سين ديفين يعترف بأنه بمجرد ظهور النظام في الكون، فإن الحالات اللاحقة ستظهر حتماً بعض النظام، وبالتالي يرى ان السؤال المفضّل هو من أين جاء النظام الأولي في الكون بدلاً من البحث في حقن النظام في كون متطور؟ وذلك كردّ على ديمبسكي ومجمل ما يقوم به أنصار حركة التصميم الذكي[9].

وحقيقة الحال ان العلم ما زال لا يعرف كيف نشأت الحياة والتفاصيل الخاصة بتطورها استناداً إلى العوامل المتعلقة بالتطورات الكونية، أو ما يفترض من الخوارزمية المجهولة. ومن ثم فالمشكلة ليس فقط في أصل النظام الأولي للكون، بل حتى في بعض من تطوراته الجذرية وعلى رأسها معضلة نشأة الحياة.

مع هذا لا يمتنع وجود خوارزمية تطورية مجهولة في أعماق بنية النسيج الكوني، لكن ذلك لا يغير من حاجة المعلومات المعقدة إلى المصمم والذكاء، كما يتجلى أثر ذلك في مظاهر النظام الوظيفي، سواء تلك العائدة إلى الكون، أو الحياة، أو الكائنات الذكية.


[1]    لاحظ كتابه: الأسس المنطقية للاستقراء.

[2]    Stuart Vyse, Moving Science’s Statistical Goalposts, 2017. Look:https://skepticalinquirer.org/2017/11/moving-sciences-statistical-goal-posts/

[3]    للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي.

[4]https://en.wikipedia.org/wiki/Evolutionary_computation

[5]    الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص198.

[6]    المصدر السابق، ص77ـ80.

[7]    https://en.wikipedia.org/wiki/Avida

[8]    Lenski, Ofria, Pennock & Adami, Evolutionary Origin of Complex Features, 2003. Look:https://www.researchgate.net/publication/10768555_The_Evolutionary_Origin_of_Complex_Features/link/0fcfd51099d9fb368a000000/download

[9]    Sean Devine, An algorithmic information theory challenge to intelligent design, 2014. Look:https://onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/zygo.12059

comments powered by Disqus