يحيى محمد
منذ عام 1998، قدَّم فيلسوف العلم والرياضي ويليام ديمبسكي معيارًا دقيقاً لاقتناص ظواهر التصميم الذكي، يدعى بـ "التعقيد المخصص specified complexity"، كما في كتابه (دليل التصميم)، وغيره من الكتب والمقالات التي تلته حتى يومنا هذا.
ويجمع هذا المصطلح بين عنصرين مفاهيميين رئيسيين، هما: التعقيد والتخصيص specification أو التحديد، حيث لا يكفي وجود التعقيد وحده للدلالة على التصميم، بل لا بد من اقترانه بميزة أخرى هي التخصيص أو التحديد.
وسبق لعلماء الأحياء ان أدركوا مدى التعقيد الحاصل في الظواهر الحيوية وتمييزه عن تعقيد الظواهر الكونية، لا سيما بعد اكتشاف بنية الدنا. أما ارتباطه بالتخصيص فلم يظهر بشكل جلي إلا مع الكيميائي الحيوي ليسلي اورجيل عام 1973، حيث صرح في (أصول الحياة) بأن كائنات اليقطين تتميز بتعقيدها المخصص، فيما تفشل البلورات مثل الجرانيت في التأهل للحياة لافتقارها إلى التعقيد، كذلك تفشل مخاليط من البوليمرات العشوائية في التأهل للحياة لافتقارها إلى التخصيص.
وفي عام 1984 قام الكيميائي تشارلس ثاكستون واثنان من زملائه بتطوير هذا المفهوم في كتابهم المشترك (لغز أصل الحياة) بعد ان نقلوه عن اورجيل، فميّزوا بين ثلاثة أنماط من الظواهر، ومثّلوا عليها باستخدامات لغوية، حيث بعضها تكرارية دورية مخصصة غير معقدة، وبعضها معقدة غير مخصصة، فيما ان بعضها معقدة ومخصصة مثل جزيئة حامض الدنا، وهي التي تحمل فائض المعلومات، خلافاً للأولى الحاملة لمعلومات قليلة، والثانية الخالية من المعلومات[1].
وبعد عامين، قام ثاكستون بتطوير هذه الفكرة الجوهرية وتفصيلها، إذ اعتبر أن البنية المعقدة، كقصيدة شعرية مثلاً، تحمل قدرًا عاليًا من المعلومات، لأنها تتطلب تعليمات دقيقة لتخصيص كل حرف، بخلاف البنى البسيطة المحددة كتشكّل ندفة الثلج، التي تحتوي على معلومات منخفضة نسبيًا.
لذلك ميّز بين نوعين من النظام: نظام بسيط ذو معلومات فقيرة، ونظام معقد غني بالمعلومات. ورأى أن قوانين الطبيعة قادرة على إنتاج النمط الأول، لكنها عاجزة عن توليد النمط الثاني، أي النظام المعقد عالي التخصيص.
وقد حاجج ثاكستون بأننا لم نرَ في الطبيعة ما يمكنه توليد "التعقيد المخصص" سوى الذكاء. ولهذا اعترف بمشروعية القياس بين ما يصنعه الذكاء البشري من نظم معقدة - كاللغة والفنون والآلات - وما تتطلبه النظم الحيوية المعقدة من مصدر ذكي مماثل، إذ لا يمكن تفسير نشأة هذه الأخيرة بمعزل عن فاعل ذكي، تمامًا كما لا يمكن تفسير ظهور اللغة المكتوبة أو المنحوتات أو البرامج الحاسوبية إلا بردّها إلى صانع عاقل كما نلاحظه عند البشر.
ولتبرير هذا الاستنتاج، استند ثاكستون إلى ما يُعرف بـ "مبدأ التوحيد"، الذي ينصّ على أن تفسيراتنا للماضي يجب أن تعتمد على الأسباب الفاعلة المعروفة في الحاضر. وهو المبدأ نفسه الذي اعتمده الجيولوجي تشارلس لايل في كتابه (مبادئ الجيولوجيا Principles of Geology)، وقد استعان به داروين بدوره في صياغة نظريته في (أصل الأنواع).
وانطلاقًا من هذا المبدأ، فإن تجربتنا الموحدة تشير إلى أن توليد المعلومات والرموز والرسائل يقتضي فاعلًا ذكيًا. ومن ثمّ، فمن المعقول استنتاج وجود سبب ذكي وراء الشفرة الأصلية في الحامض النووي DNA. إذ تتجلى خاصية "التعقيد المخصص" بوضوح في كل من الحامض النووي واللغة المكتوبة، وبما أننا نعلم بأن اللغة لا تتولّد إلا بفعل ذكي، لذا إن من المشروع استنتاج أن الدنا - بما يحويه من خصائص مشابهة - يعود إلى فاعل ذكي كذلك. فالتجربة الموحدة تكشف بوضوح أن الذكاء هو السبب الوحيد المعروف القادر على توليد "التعقيد المخصص" بشكل منتظم.
ويمكن التعبير عما طرحه ثاكستون من معيار القياس والتجربة الموحدة من خلال هذا المبدأ: كلما كانت النتائج متماثلة فإنها تقتضي أسباباً متماثلة.
ويمثل هذا المبدأ الجانب المعكوس من قاعدة الانسجام الارسطية القائلة: ان الحالات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متماثلة.
وأشار ثاكستون إلى انه لفترة طويلة أغفل علماء الأحياء التمييز بين النوعين من النظام: الدوري البسيط، والتعقيد المخصص أو المحدد. ولم يدركوا هذا الفارق إلا مؤخراً[2].
هذا فيما يخص أطروحة ثاكستون حول مفهوم التعقيد المخصص.
كما استخدم الفيزيائي بول ديفيز هذا المفهوم عندما صرح في (المعجزة الخامسة) عام 1999 بأن الكائنات الحية غامضة ليس بسبب تعقيدها في حد ذاته، بل لتعقيدها المحدد بدقة[3]. وسبق له في (المخطط الكوني) ان قسّم الحدود العلمية بتناولها ثلاث فئات عامة: كبيرة جداً كالنجوم والمجرات، وصغيرة جداً كالجسيمات تحت الذرية، ومعقدة جداً كالكائنات الحية[4].
***
أما وليام ديمبسكي فقد تميّز بتنظيره الشمولي لمفهوم "التعقيد المخصص"، ومن ثم أضفى عليه الطابع الرسمي كمعيار للكشف عن آثار الذكاء؛ فاشتهر باسمه. وقد اعترف بتصريح كل من اورجيل وديفيز الآنفي الذكر من دون اشارة إلى ما طرحه ثاكستون رغم أهميته البالغة. كما وصف هذا الاستخدام بالفضفاض[5].
لكن هذا الوصف لا ينطبق على ما قدّمه ثاكستون من تفصيل وتمييز واضح.
مهما يكن، فالفضل يعود إلى ديمبسكي في جعل مفهوم "التعقيد المخصص" معروفًا على نطاق واسع، بل مثيرًا للجدل في الأوساط الفلسفية والعلمية المعنية بمسألة الأصل والتصميم، حتى أصبح السؤال التالي حاضرًا بقوة: هل كل ما يبدو معقدًا ومخصصًا يدل بالضرورة على وجود ذكاء؟
وتُعدّ حركة التصميم الذكي التي ينتمي إليها ديمبسكي ممهدة لظهور هذا المفهوم وتطويره. إذ الهدف من ظهور هذه الحركة هو جعل مسألة التصميم تندرج ضمن الاطار العلمي، وقد وجدت في المفهوم المشار إليه ما يمثل الكأس المقدسة في اثبات المصمم.
وسبق لمايكل بيهي ان استخدم قاعدة "التعقيد غير القابل للاختزال" للدلالة على التصميم عام 1996. غير أن هذه القاعدة ارتبطت مباشرة بتخطئة التفسير التدريجي للتطور كما في النظرية الداروينية. وهي وإن كانت تنتهي في النتيجة إلى الحاجة لافتراض المصمم، لكنها تُعدّ حالة من حالات مبدأ "التعقيد المخصص"، كالذي أشار إليه ديمبسكي بنفسه. فهو مبدأ شامل؛ سواء تمّ تطبيقه على نظرية التطور، كما في قاعدة "التعقيد غير القابل للاختزال"، أو على مسائل أخرى مثل أصل الحياة، وأنظمة التشفير الحيوي، وغيرها من الظواهر.
من هنا، احتدم الجدل العلمي والفلسفي حول هذا المفهوم، لا سيما في التساؤل عما إذا كانت الظواهر المعقدة، ذات الطابع التخصيصي، تشير حتمًا إلى وجود تصميم ذكي، أم أن بالإمكان تفسيرها ضمن آليات الطبيعة العمياء.
على ان الهدف الذي دفع ديمبسكي لطرح فكرة التصميم الذكي هو ما لاحظه كغيره من العلماء من تفاصيل مدهشة للتعقيدات الوظيفية الخاصة بالدنا في الخلية الحية. فالدنا يحمل سلسلة حساسة من التركيب المعقد للعناصر الكيميائية، وهو بفضل هذا التعقيد الحساس يحمل رسائل من المعلومات المشفرة والمبرمجة بما يفوق قابلية أي حاسوب الكتروني قد أنتجه البشر حتى يومنا الحالي. وهذا ما دفع الكثير من الفلاسفة والعلماء إلى الاعتقاد بوجود صانع مصمم بعد ان كانوا ملاحدة أو لاأدريين.
ويمكن تصوير تطورات موقف الملاحدة واللاأدريين عبر الزمن كالتالي:
قبل داروين: لا يوجد تصميم في الطبيعة اطلاقاً..
↓
بعد داروين: ثمة تصميم لكن من غير مصمم..
↓
بعد اكتشاف الدنا: إن الكائنات الحية تبدو وكأنها مصممة. فالتصميم لاحق عرضي..
↓
مآل تطور الفكرة: إن الكائنات الحية تبدو وكأنها مصممة، وذلك لأنها بالفعل مصممة، على حد قول بعض العلماء. فالتصميم سابق متأصل وليس لاحقاً عارضاً.
لقد شخّص ديمبسكي الخطأ الذي كان يمنع ادخال فكرة التصميم إلى المجال العلمي. وهو الخطأ المتعلق بغياب المعيار الدقيق الذي يجعلنا نصف ظاهرة بأنها تكشف عن التصميم ثم يتبين الحال غير ذلك. لكنه هوّن من هذه المشكلة واعتبرها بالية بعد اكتشاف معيار التعقيد المخصص. فهو معني بتفسير نمط واحد فقط وسط ثلاثة أنماط من التفسير في المجال العلمي، هي: الصدفة والضرورة والتصميم القصدي. فكما ان بعض الظواهر لا تُفسّر بغير الصدفة، وبعض آخر لا تُفسّر بغير الضرورة أو القانون، فكذلك هو الحال في ان بعض الظواهر تفرض علينا ان نعتبرها مصممة من قبل مصمم ذكي حينما لا يمكن للصدفة ولا الضرورة ان تفسرها، وليس من سبب لذلك سوى تضمنها للتعقيد والتخصيص في آن واحد.
ويمثل ديمبسكي على نمط التفسير وفق التصميم دون الصدفة والضرورة بالفلم الخيالي (اتصال)، فهو يتضمن اشارة فضائية تتضمن أعداداً أولية من سلسلة طويلة دالة على الذكاء الفضائي، حيث يتوفر فيها التعقيد باعتبار ان السلسلة طويلة ومختلفة، كما انها مخصصة باعتبارها دالة على مشترك محدد هو الأرقام الأولية.. وان من الممكن ان تكون بغير ذلك فلا تدل على التصميم والذكاء.
فالتصميم يتطلب ملاحظة ثلاثة أمور، هي الاحتمالية والتعقيد والتخصيص. بمعنى ان الحادثة ممكنة وليست ضرورية أو داخلة ضمن قانون محتم، كما انها معقدة، وكذلك مخصصة. إذ لا بد من التمييز بين الحادث المحتمل والحدث الضروري الخاضع للقانون الفيزيائي والكيميائي. وعندما يكون الحادث ممكناً غير ضروري وانه يحمل صفتي التخصيص والتعقيد فسيدل على نمط الذكاء.
وللدقة، اعتبر ديمبسكي ان التعقيد هو نوع من الاحتمالية[6]، بل وثمة علاقة عكسية بينهما[7]. لذا يَصْفى عنصران يشيران إلى الذكاء لا ثلاثة، هما التعقيد والتخصيص. فالحادث الذي يمتلك أحد هذين العنصرين لا يدل على المطلوب، بل لا بد من اجتماعهما معاً.
فمثلاً الحصول على سلسلة من قطع الحروف المقطعة "السكرابل Scrabble" مرتبة عشوائياً يعتبر عملية معقدة، لكنها ليست مخصصة أو محددة، بينما الحصول على سلسلة من قطع اللعبة تتكرر بنفس الكلمة يعتبر عملية مخصصة لكنها ليست معقدة. وكل منهما لا يدل على الذكاء. في حين ان جمع العمليتين معاً نحصل على التعقيد المخصص الدال على التصميم الذكي[8].
وهذا ما سبق ان أشار إليه اورجيل وثاكستون من قبل، إذ توجد ثلاثة أصناف من الظواهر: أحدها مخصص، وآخر معقد، وثالث يجمع بين التخصيص والتعقيد.
وربما يمكن التعبير عن التعقيد الذي تحدث عنه ديمبسكي بالعشوائية البنيوية الكبيرة من دون انتظام. فكما لاحظ ان التسلسلات المعقدة تفتقر إلى النمطية وتتصف بقلة احتمال تحققها، وبالتالي تستعصي على التوصيف بقانون أو علاقة بسيطة[9].
أما التخصيص، فهو عبارة عن أثر مخصص مستقل أو أداء وظيفة معينة[10]. وهو بذلك ينطبق على أكثر من قضية مع اختلاف الشروط، مثل الوظيفة والأثر المحدد. ومن ثم فإن مفهوم التخصيص يكتسب بعض الغموض، لا سيما ما يتعلق بالأثر المحدد.
وكان ديمبسكي في بداية دراساته قد حاول ايضاح هذا المفهوم من خلال بعض الأمثلة، فعبّر عنه بنوع من النمط. فمثلاً الحرف الواحد للغة يعتبر مخصصاً، كما ان تكرار الحرف وكذا الأحرف هي أيضاً مخصصة من حيث التكرار، وعلى هذه الشاكلة تكرر الأرقام الأولية. كذلك ان الجملة المفيدة للمعنى مخصصة بمعناها، وان الوظيفة البايولوجية مخصصة بوظيفتها.
ويلاحظ في اللغة ان التخصيص تارة يلوح البنية، وأخرى يلوح الوظيفة أو المعنى. وبحسب ديمبسكي، أن الحروف سواء في جملة مفيدة للمعنى، أو أنها مكررة من دون معنى، ففي الحالتين تعتبر مخصصة. ففي حالة الجملة المفيدة يتحدد التخصيص بالمعنى، وفي حالة الحروف المكررة يتحدد التخصيص بالتكرار. لكن هذه المقارنة يشوبها الاختلاف النوعي، إذ التخصيص في الجملة المفيدة يتعلق بالوظيفة (المعنى) لا البنية، في حين انه في تكرار الأحرف يتعلق بالبنية دون الوظيفة أو المعنى.
لذلك ثمة أنماط مختلفة للتخصيص، وعندما تكون معقدة فإنها تدل على التصميم، لكن ما الجامع الذي يوحدها؟ لا سيما عندما يضاف إلى ما سبق بعض الشروط كما في المثال التالي:
عندما يصوّب رامي سهام رميته إلى دائرة ضيقة يصعب تصويبها، فسيكون قد حدد الهدف، وهو نوع من التخصيص، ومن ثم إذا كان قد صوبها لمرات كثيرة؛ فسيُعرف بأنه متقن وماهر في الرماية؛ لاجتماع التعقيد والتخصيص معاً. لكن مع وجود شرط في التخصيص، وهو ان تحديد الهدف يأتي قبل التصويب لا بعده. ولو كان بعده لما دل على الاتقان والمهارة. وفي أحيان أخرى يكون العكس هو الصحيح، فقد نجد حروفاً عشوائية تبدو بلا معنى، لذا لا يمكن اتخاذها دليلاً على التصميم. في حين لو تمّ معرفة ان لها تشفيراً للمعنى فستدل على التصميم[11].
وحقيقة ان طبيعة لغتنا المفيدة للمعنى انما تعبّر بهذا الحال من التشفير، ولولاه لما دلت على التصميم. والشيء ذاته يقال حول التشفير الحيوي.
مع هذا فالأمثلة السابقة يستفاد منها التخصيص الدال على التصميم والاتقان وان لم يوحدها جامع، خاصة مع اختلاف الشروط المتعلقة بها. فلا نستطيع ان نقول بأن المقصود من التخصيص هو نمط التكرار، أو الحدث الفعلي، لأن المعنى في اللغة، ومثله الوظيفة في الحياة، لا يعبّران عن التكرار ولا الحدث الفعلي، كما لا يسعنا اعتبار المقصود من الأخيرين هو الوظيفة أو المعنى. ومع اختلاف الشروط يصبح المفهوم مشتتاً.
لكن في عام 2011، قدّم ديمبسكي في (تصميم الحياة) تعريفاً شاملاً للتخصيص، عبّر عنه ببساطة أنه ‹‹ما يسهل وصفه››. ومن ثم يصبح التعقيد المخصص عبارة عن كل ما يسهل وصفه ويصعب حدوثه بالصدفة. وكشف عن هذا المعنى عبر افتراض تجربتين متعلقتين برمي قطعة نقد عشوائياً عشر مرات، ولنفترض انهما أظهرتا الشكلين التاليين:
الأولى: AAAAAAAAAA
الثانية: ABBABBAAAB
ويلاحظ ان التجربة الأولى تمتلك وصفاً سهلاً مقارنة بالثانية. حيث لا نحتاج إلى ان نقول في التجربة الأولى انها أظهرت الأشكال التالية:
(AAAAAAAAAA)
بل نكتفي بالوصف ان نقول بأن التجربة قد أظهرت الشكل (A) في كل الرميات.
أما في التجربة الثانية، فنحن على العكس من التجربة الأولى مضطرون إلى أن نذكر الأشكال التي تظهر فيها عملة النقد على نحو التحديد بالضبط؛ رغم ما فيها من تعقيد مقارنة بالتجربة الأولى، حيث نضطر إلى القول بظهور الأشكال التالية:
(ABBABBAAAB).
فهذا هو الفارق بين الوصف السهل كما نجده لدى التجربة الأولى، والوصف المعقد كما نجده في التجربة الثانية.
لذا فالحكم بالتعقيد المخصص يتطلب ان يكون التعقيد الوصفي فيه ضعيفاً، أي يمكن وصفه بسهولة مع تعقيد احتمالي كبير. فالدمج بين ضآلة التعقيد الوصفي – أي بنية سهلة الوصف بعبارة قصيرة - مع ضخامة التعقيد الاحتمالي هو ما يجعل التعقيد المخصص مفهوماً فعالاً في التعبير عن الذكاء[12].
واعتبر ديمبسكي ان كل الأمثلة المعروفة حول التعقيد المخصص توظف الوصف الموجز لنموذج التجربة. فهناك أهمية لاختيار اللغة المستخدمة في الوصف، مثل وصف سوط الجراثيم بأنه دوّار يقوده محرك ثنائي الاتجاه[13].
التعقيد المخصص والمعلومات
لقد عزف ديمبسكي في بداية دراساته عن استخدام مفهوم "المعلومات" كأثر للتعقيد المخصص، كما طرحه ثاكستون من قبل. وبحسب ستيفن ماير يعود سبب هذا العزوف إلى ان الناس يخلطون بين معلومات شانون وبين المعنى أو الوظيفة. إذ تتمثل معلومات شانون بالضآلة الاحتمالية، لكنها لا تشير لوحدها إلى التصميم بالضرورة. لذا ظل ديمبسكي يقترح ان وجود التخصيصات ضئيلة الاحتمال، وليس المعلومات، هو المعيار الحاسم الذي يشير إلى السبب الذكي.
لكنه مع هذا تقبّل - فيما بعد - استخدام "المعلومات" في معناها الموسع لما جاء في مفهوم شانون، فهي تمثل معلومات شانون زائد الوظيفة أو المعنى أو الخصوصية. ومن ثم بدأ يتحدث عن التحديدات ذات الاحتمالية الضئيلة و(المعلومات المخصصة المعقدة) على أنها الشيء ذاته[14].
ولم يكتفِ بذلك، بل حدد مفهوم "التعقيد" بكمية معينة من المعلومات، هي قرابة (500) بت. وهو ما يعني ان الصدفة والأسباب الطبيعية عاجزة عن إنتاج ما يفوق هذا الحد من المعلومات لشدة تعقيدها.
والسبب في اختيار ديمبسكي لهذه الكمية من المعلومات كدلالة على التعقيد المخصص هو لأنها مستنتجة من مجموع الموارد الكونية، فهي بحسب تقديره تساوي (15010). فهذا هو الحد الذي يعطي مثل تلك الكمية من المعلومات المعقدة. وهو ما يعني ان أي احتمال أقل من مقلوب هذا الحد يعتبر معقداً لا يمكن للأسباب الطبيعية أو الصدفة ان تنتجه من دون ذكاء. أو ان ما يمكن إنتاجه من معلومات وفقاً للأسباب الطبيعية لا يتعدى (500) بت كحد أقصى. فالتعقيد المخصص هو ما يمثل هذا الحد من المعلومات.
وعليه اعتبر ان الاستحالة الخالصة تتفق مع التعقيد المحض. وبالتالي فالتصميم، لا الصدفة، هو التفسير الوحيد لهذه الاستحالة[16].
لقد توسع ديمبسكي في بحث المعلومات وعلاقتها بالتعقيد المخصص، فأخذ يطرح فكرة الكون المعلوماتي كما في كتابه (كومينيون Being as Communion) الصادر عام 2014.
فمن وجهة نظره ان المعلومات أو الرسالة هي دائماً ما يلازمها شيء آخر هو الوسيط، وان انتقالها يتطلب انتقالاً للطاقة سواء كانت مادية أو غير مادية. وان الطاقة هي دائماً ما يستدل عليها من المعلومات لا العكس. لكن في جميع الأحوال ان هذا الوسيط الناقل هو نفسه معلوماتي، وعبّر عنه بمصطلح التجسد بدل المادة. أي ان المعلومات هي متجسدة على الدوام وان تجسدها يمثل وسيط الرسالة[17].
وبذلك تصبح المادة شكلاً من أشكال المعلومات، وبالتالي اعتبرها ديمبسكي اسطورة حرفياً لا مجازاً، حيث تذوب بالتحليل إلى معلومات وتصبح محض تجريد غامض. إذ يمكن ان تتواجد المعلومات في البنية التحتية التي هي نفسها معلوماتية بالكامل، على شاكلة المحاكاة الحاسوبية. وهو لا يستبعد ان تكون المادة نتاجاً عرضياً للمعلومات، على عكس الاتجاه المادي[18].
لقد اتخذ ديمبسكي نهجاً مثالياً فسار على خطى الفيزيائي ماكس تجمارك Max Tegmark في اعتبار الواقعة الفيزيائية لا تتجاوز البنية الرياضية، لا انها مجرد توصيف من خلال الرياضيات. بل واعتبر الوجود كله سلاسل غير متناهية من المعلوماتية المتمثلة بالعلاقة الرابطة بين الرسالة والوسيط، ويكون مبدأ تراجعها اللانهائي عائداً إلى الإله كمكون رئيسي. فهي رابطة على شاكلة تسلسل الادراكات العقلية أو الصورية في الوجود وفق الرؤية الفلسفية التقليدية.
مع ان هذه الفكرة تتضارب مع تسليم ديمبسكي السابق بالعمر الفيزيائي المحدود للكون، ومن ثم تحديد مجموع الموارد الكونية وما يتأسس عليها من كمية مقدرة للمعلومات.
كما أضاف ديمبسكي إلى هذه الرؤية بعض الأبعاد الدينية المسيحية، فهو يرى ان من الممكن اعادة تجسيد المعلومات بأشكال مختلفة، مثل تجسيد الموسيقى بمسودة مكتوبة، وكنسخة ممسوحة الكترونياً، وكأداء حي، وكملف صوتي على الحاسوب.. الخ. وهي من ثم لا تتلاشى أو تدمر. وطبّق ذلك على حالة المسيح بن مريم[19].
نقد نظرية التعقيد المخصص
تلك كانت باختصار نظرية ديمبسكي في التعقيد المخصص أو المحدد، ولنا عليها جملة ملاحظات نقدية كالتالي:
1ـ سبق ان عرفنا بأن ديمبسكي حدد أنماط التفسير العلمي بثلاثة، هي الصدفة والضرورة والتصميم الذكي، لكنه لم يُشر إلى نمطين آخرين، هما القانون الاحصائي واللاتحدد. كذلك ان استخدامه لمصطلح الضرورة هو استخدام فلسفي، وكان الأولى ان يعبر بدلاً عن هذا المصطلح بالقانون الصارم أو الحتمي، حيث بين الضرورة والصرامة ثمة فارق من الناحية المنطقية.
2ـ إن من الممكن أن نجد تعقيداً مخصصاً – نسبياً – لكن من غير ان يرتبط بالأسباب الذكية، كما في حالة التقلبات المتنافية والنُظم الفيزيائية الديناميكية.
ففي حالة الرميات الكبيرة للعملة النقدية تزداد العشوائية وتصبح أكثر تعقيداً، أي ان الاحتمالية لأي ترتيب منتظم تكون أشد ضآلة كلما ازداد عدد الرميات. لكن مع ذلك فإن هذه الزيادة في العشوائية تمدّنا بتخصيص أدق بالاقتراب من نسبة ثابتة هي الاحتمال القبلي لوجهي العملة. وهنا نلاحظ ان شدة العشوائية تفضي إلى التخصيص الأدق.
وقريب من هذا المعنى حاصل في حالة النُظم الديناميكية الفيزيائية، فهي تعبر عن تعقيد في العشوائية لكنها تنتج نوعاً من التخصيصات المنتظمة البسيطة، مثل تلك المتمثلة بالجواذب الغريبة.
صحيح ان ديمبسكي اشترط في التعقيد ان تكون الاحتمالية ضعيفة جداً، أو ان التعقيد بحسب المفهوم هو ما يكون احتماله ضئيلاً للغاية. لكن في هذه الحالة يصبح ليس كل تعقيد يفيد الغرض، بل التعقيد المتعلق بالاحتمالية الضعيفة. لذا يمكن الاكتفاء بالاحتمالية الضعيفة دون حاجة لقيد التعقيد.
3ـ إن تعريف ديمبسكي للتخصيص والقائل بأنه ‹‹ما يسهل وصفه››؛ يتميز بالذاتية قبال الموضوعية. ومن وجهة نظرنا انه لا ينطبق على جميعِ الحالات التي يُستكشَف منها الذكاء عند إضافته إلى التعقيد. ويمكن لحاظ ذلك عند العودة إلى مثال الرميات العشر لقطعة النقد الآنف الذكر، فخلال تجربتين مفترضتين أظهرتا هذين الشكلين:
التجربة الأولى: AAAAAAAAAA
التجربة الثانية: ABBABBAAAB
فقد عرفنا كيف ان ما يسهل وصفه بحسب التجربة الأولى ينافي ما لا يسهل وصفه بحسب التجربة الثانية، وان للتعقيد المخصص علاقة بالتجربة لأولى لا الثانية. لكن عندما نعرف ان احتمال ظهور احد الوجهين لدى التجربة الأولى هو بالضبط يساوي احتمال ظهوره لدى التجربة الثانية، لذا سيقتضي هذا الحال ان نجعل من التجربة الثانية وكذا الأولى دالة على الذكاء عند التنبؤ المسبق، أو ان التخصيص في الثانية هو أيضاً يعتبر من حالات التخصيص المطلوبة، وذلك عند اضافة شرط هذا الاخير قبل التجربة.
فقد يراهن الشخص على توقع ظهور أشكال التجربة الثانية قبلياً، أي انه خصص الهدف قبل التجربة المعقدة، وهو حال ينسجم مع التعقيد المخصص، على شاكلة تخصيص الهدف الضيق قبل الرمي بالسهم، وفق المثال الآنف الذكر. لكن لو افترضنا ان التجربة شملت ألف رمية بدلاً عن الرميات العشر، وادعى الرامي إمكانية اظهار أي صورة توافيقية ممكنة، كتلك التي على شاكلة أشكال التجربة الثانية في مثالنا السابق، ومن ثم ثبت صدق تنبؤ الرامي في تحقيق الصورة التوافيقية المنتخبة.. ففي هذه الحالة يصبح التخصيص المشروط قبل التجربة ليس من السهل وصفه، فهو ليس بتكرار أحد وجهي الصورة أو أي انتظام آخر. ومن ثم فهذه الحالة لا تتوافق مع تعريف ديمبسكي الأخير.
4ـ تتميز نماذج التخصيص كما أدلى بها ديمبسكي بخليط من الذاتية والموضوعية. ففي مثال رامي السهام يتصف التخصيص بالذاتية، فهو محدد من قبل ذات الرامي دون ان يكون له شأن موضوعي. في حين تتميز أمثلته الأخرى كالتكرار والمعنى والوظيفة بالموضوعية لا الذاتية. ويُعدّ هذا النقد مجرد تحليل وليس اعتراض.
5ـ لا ينطبق مفهوم ديمبسكي للتعقيد المخصص على قوانين الضبط العددي الدقيق. فمن الناحية الفعلية ليس في هذه القوانين والثوابت ما يعود إلى الإمكانية الاحتمالية وقابليات الصدفة.
عودٌ إلى قانون الذكاء والاحتمال النوعي
كانت تلك جملة من الإشكالات والنقود التي تواجه نظرية ديمبسكي رغم حداثتها وأهميتها، إذ تبين أن هذه النظرية لا تصلح للكشف عن قانون الذكاء.
أما من وجهة نظرنا، فإن حل هذه الإشكالات يعود بنا إلى الاقتراح الذي قدمناه سلفاً وفق ما اصطلحنا عليه بمعيار "الاحتمال النوعي".
فقد سبق ان اكتفينا بمبدأ واحد فقط هو ضعف الاحتمال النوعي، دون التعويل على الاحتمال الشخصي. فيكفي ان نفترض وجود منطقتين متنافيتين في الاحتمال نوعياً. وينطبق هذا المعيار ليس فقط على الظواهر الحيوية والصناعات البشرية، بل حتى على بعض الظواهر المتصفة بالثبات الصارم مثل الضبط العددي الدقيق، كما ينطبق على بعض الظواهر المصطنعة مثل اللغة وكذلك العالَم الرياضي الصرف.
والمهم في هذا المعيار انه يفترض وجود بنية تمتلك تعقيداً عشوائي الارتباط، أي انه غير منتظم أو ضعيف الانتظام. ويمكن ان تكون هذه البنية المعقدة حقيقية في الواقع الفعلي، أو متخيلة، أو مصطنعة، أو رياضية اعتبارية. وهي قابلة للتطبيق على كل من النظام الوظيفي والضبط العددي الدقيق والرياضيات المجردة، ضمن النُظم الأربعة التي مرت معنا، حيث في جميع الأحوال نواجه احتمالاً نوعياً هو ما يمثل الأساس في تفسير الظواهر العائدة إلى التصميم.
كما ينطبق هذا الحال على الأعداد المنتظمة الكبيرة في عالم الرياضيات، فهي تدل على الذكاء، لكن مع أخذ اعتبار التعامل وفق "الاحتمال النوعي" لا الشخصي، حيث نفترض مجموعتين من الأعداد؛ إحداهما منتظمة وأخرى غير منتظمة، وحيث ان المجموعة الأولى ضيقة جداً في قبال المجموعة الثانية الواسعة، لذا فإن ظهور أي فرد من المجموعة النوعية المنتظمة سيعتبر دالاً على الذكاء. وفي حالات قليلة، تمتاز المنطقة الضيقة للأعداد المنتظمة بقابليتها على الانضغاط الخوارزمي بخلاف المنطقة الواسعة غير المنتظمة.
وبذلك نعتبر ارتباط الذكاء بضعف الاحتمال النوعي - بدرجة كافية - قانونًا لا يختلف عن سائر قوانين الطبيعة. ومن ظواهر هذا القانون أن النصوص اللغوية، والمنازل، والساعات، وجميع الآثار البشرية المعقدة التنظيم، تتضمّن احتمالات نوعية دالة على الذكاء. فالعلاقة بين تحقق الاحتمال النوعي الضعيف جدًّا والذكاء تميل إلى أن تكون لزومية من حيث الدليل، وهو قانون لا يُعرف له استثناء. فالأثر يدلّ على المؤثر، ومن هذه الناحية أنه يشبه تفسير جملة من الظواهر الأرضية والكونية استنادًا إلى الجاذبية، إذ لا يختلف هذا الحال عن ردّ جملة من الظواهر إلى الذكاء عندما يكون الاحتمال النوعي ضئيلًا للغاية.
وعليه فإن قانون الذكاء هو كقانون الجاذبية أو أي قانون سببي آخر، بغض النظر عن الحساب الرياضي. وهو يشكّل، بفضل المعلومات التي يحملها، قوة خامسة تضاف إلى سائر قوى الطبيعة الأربعة المعروفة.
[1]: Thaxton, Bradley, Olsen: The Mystery of Life's Origin, 1984, p. 130-1. Look:http://libgen.rs/book/index.php?md5=9903F52BE6DBC56D9AB5E53FF199B12E
[2] Charles B. Thaxton, 1986.
[3] Paul Davies, The Fifth Miracle: The Search for the Origin and Meaning of Life, 1999, p. 83. Look:https://www.4shared.com/office/b0WMNd1dba/Paul_Davies_The_Fifth_Miracle_.html
[4] Paul Davies,The cosmic Blueprint, 1988, p. 10. Look:https://b-ok.africa/book/567583/3bd4a4
[5] William Dembski, 2012, p.6.
[6] انظر: وليام ديمبسكي: النمط التفسيري الثالث، ضمن العلم ودليل التصميم في الكون، ص23 و32-6.
[7] William Dembski, 2012, p.7.
[8] تصميم الحياة، ص232.
[9] التصميم الذكي: فلسفة وتاريخ النظرية، ص88.
[10] توقيع في الخلية، ص484ـ485.
[11] وليام ديمبسكي: النمط التفسيري الثالث، مصدر سابق، ص37ـ39. كذلك:William A. Dembski, 1998, p. 31.
[12] تصميم الحياة، ص237ـ239.
[13] المصدر السابق، ص242.
[14] توقيع في الخلية، ص484ـ485.
[16] تصميم الحياة، ص240.
[17] وليام ديمبسكي: كومينيون، ترجمة خليل زيدان، مركز براهين، الطبعة الأولى، 2017م، ص177 و167 و156.
[18] المصدر السابق، ص125 و153 و226.
[19] المصدر نفسه، ص157ـ159.