يحيى محمد
بداية سنحدد الاطروحات العامة التي تناولت تفسير نشأة الحياة كالتالي:
1ـ المصادفات العشوائية..
2ـ القوانين الفيزيائية والكيميائية وما على شاكلتها..
3ـ التفاعل بين المصادفات العشوائية والقوانين الطبيعية..
4ـ قوانين التنظيم الذاتي..
5ـ قوانين التطور الخوارزمي..
6ـ قوانين وأسباب طبيعية خفية..
7ـ قوانين وأسباب فائقة لا طبيعية..
8ـ أسباب مفارقة لا طبيعية..
هذه ثمان أطروحات مختلفة، وللتمييز بينها سنتبع الخطوات التالية:
تعتمد الأطروحة الأولى على الاحتمالات الضعيفة في نشأة الحياة، فرغم ان الأخيرة ضئيلة التحقق لكنها تحدث بالصدفة العشوائية إذا ما اعطيت الزمن الكافي. وكانت هذه الفكرة شائعة خلال القرن التاسع عشر والغالب من القرن العشرين.
كما تتشعب الأطروحات الثانية والثالثة والرابعة بين ان تكون القوانين الطبيعية صارمة، أو أنها غير صارمة؛ كنظريات التجاذب الذاتي، ونظرية جاك مونود Jacques Monod الذي نسج تفاعلاً بين القوانين والمصادفات وطبّقها ليس فقط على أصل الحياة وتطوراتها، بل وعلى وجودنا والكون الذي نعيش فيه. وتمتاز هذه الأطروحات بأنها لا ترى في نشأة الحياة صعوبة بالغة كما تفترضها الأطروحة الأولى القائمة على المصادفات العشوائية.
أيضاً تتجه الأطروحة الخامسة إلى وجود برمجة ذاتية خفية في صميم النسيج الكوني ساعدت على نشأة الحياة تلقائياً، وفق تطورات خوارزمية قائمة على الدعم الاحتمالي القوي، كالذي يحدث في المحاكاة الحاسوبية، كما طرحها عدد من العلماء.
في حين تبدي الأطروحة السادسة وجود قوانين مجهولة لا نعرف عنها شيئاً، وقد تكون هي سبب نشأة الحياة، كما قد يأتي اليوم الذي يمكننا اكتشافها. وهي أطروحة تبناها عدد من العلماء البنيويين.
أما الأطروحة السابعة فأمرها يختلف عما سبق، فهي لا تعتبر سبب الحياة أمراً طبيعياً، بل ترى انها نتاج عملية ذكية فائقة، لكنها مع ذلك غير مفارقة، كالذي ذهب إليه هويل وزميله ويكراماسينج. وهي الأطروحة التي نرجحها لعدد من المبررات.
تبقى الأطروحة الثامنة والأخيرة، فهي تشابه السابعة، سوى انها تعتبر سبب الحياة ليس فقط غير طبيعي، بل ومفارق أيضاً، كما هو رأي أصحاب النظرية الخلقوية وبعض أنصار التصميم الذكي.
ويلاحظ ان الأطروحات الخمس الأولى تتفق معاً في القابلية على صناعة الحياة في المختبر ولو من الناحية النظرية. فهي تجعل ان أسباب الحياة وقوانينها لا تختلف عن أسباب وقوانين بقية الظواهر الأخرى في اعتبارها طبيعية. لذلك فمثلما يمكن إنتاج سائر الظواهر الأخرى في المختبر ولو نظرياً، فكذا هو الحال مع صناعة الحياة، رغم اختلاف ما تقتضيه من درجات السهولة والصعوبة لدى صناعتها في المختبر.
وبدون تدخّل الذكاء البشري، تقتضي الأطروحتان الثانية والرابعة أن تكون صناعة الحياة سهلة جداً عند توفر عناصرها الأساسية وظروفها المناسبة. وأصعب منهما ما يتعلق بالأطروحة الثالثة.
وتزداد الصعوبة لدى الأطروحة الأولى، حيث تواجه مشكلة الاحتمالات العصية، لذلك انها تلجأ إلى خيار الزمن الطويل لحل هذه المشكلة. رغم ان الاعتماد على محض الظروف العشوائية ومصادفاتها لا تتناسب مع عمر الكون.
مع هذا يُفترض ان من السهل صناعة الحياة وفق هذه الأطروحة من خلال تدخّل الذكاء البشري دون الانتظار طويلاً. بل وان ما يصنعه البشر سيكون أفضل مما تفعله الطبيعة. فما من شيء يخضع للمصادفات العشوائية إلا وأمكن للذكاء تحضيره بسهولة وبكفاءة أعلى.
ومن هنا، يتبيّن أن الحياة لا تخضع لمنطق الاحتمالات بالمعنى العشوائي الصرف، ذلك أن هذا المنطق يفترض إمكانية نشوء الحياة على نحوٍ ضئيل الاحتمال، في حين أن تدخل العقل البشري يقلب المعادلة، ويجعل تحققها أمراً راجحاً أو قريباً من الضرورة. وبالتالي فكل ما يعجز الذكاء البشري عن الإتيان به، أو يلاقي فيه عسراً نظرياً وعملياً، يخرج عن إطار الاحتمال ويقع في حيّز الاستحالة أو ما يقاربها.
كذلك لو كانت المنتجات الطبيعية وليدة المصادفات العشوائية، لكان من الصعب تفسير كيف ان الصناعة البشرية لا تدانيها. فلطالما لاحظنا أن ما تجود به الطبيعة، كالفاكهة والخضروات غير المعدّلة، يتفوق - من حيث القيمة الصحية والنكهة والتوازن الحيوي - على نظيراته المعدّلة جينياً بفعل التدخل الصناعي، وكأن الطبيعة تسير على خطة خفية لا تبلغها يد الصدفة ولا تدركها آليات الإنسان.
أما الأطروحة الخامسة، فتحتاج إلى عنصر الذكاء، فقوانين التطور الخوارزمي عصية عن فعل شيء من غير التزود بالمعلومات المعقدة، وهي بحاجة إلى الذكاء.
وبذلك يتبيّن أنه عند مساعدة الذكاء البشري، تقتضي الخمسة الأولى من الأطروحات الثمان سهولة صناعة الحياة في المختبر، ولو من الناحية النظرية، إذ قد يكون المانع متعلقاً بالجانب العملي. فما دامت الحياة ظاهرة طبيعية المنشأ، لذا فمن الممكن تحضيرها في المختبر. وإذا كان من الصعب إنتاجها، فذلك لأن بعض ظروفها أو عناصرها غير متوفرة. لهذا صرح فرانسيس كريك واورجيل بأن من المحال على الأرض ان تكون موضعاً صالحاً لنشأة الحياة للسبب المشار إليه، وهو ما جعلهما يلجآن إلى نظرية البذور الموجهة.
وبالتالي فمن الناحية النظرية، يمكن تحضير الحياة بسهولة، مثلما يمكننا إنتاج العناصر الكيميائية المختلفة، ومنها الثقيلة، فيما لو توفرت الطاقة الكافية لها، كما في طاقة النجوم والمستعرات.
أما الأطروحة السادسة، فحيث أنها تتحدث عن أسباب وقوانين طبيعية خفية، لذا يُفترض انها تستصعب تحضير الحياة في المختبر للجهل بالأسباب والقوانين التي تعمل على صناعتها. فما لم نتعرف على الظروف والقوانين التي ما زالت خافية عنا؛ لا يمكننا صناعة الحياة وتحضيرها.
في حين يختلف الحال مع الأطروحة السابعة، فهي تقر ان سببية الحياة فائقة غير طبيعية لكنها ليست مفارقة، لذا ليس من المعلوم إن كانت هذه السببية تعمل عندما يتم استحضار كافة العناصر والظروف الطبيعية الملائمة مع تدخل الذكاء البشري، أم انها تنطوي على عنصر غير طبيعاني يتصف بعدم القابلية على الاستحضار في المختبر؟
وتتضمن هذه الأطروحة الفكرة القائلة: إن صناعة الحياة لا تتوقف فقط على تجميع العناصر الأساسية ونسبها وظروفها، بل كذلك على تأثير بعض القوانين والأسباب غير الطبيعية، والتي لا نعرف شروط فعلها وعملها في صناعة الحياة لحد الآن، وكل ما يمكن معرفته هو انها سبب نشأة الحياة للاعتقاد بأن من المحال ان تنشأ الأخيرة بشكل طبيعي. فحال سبب هذه النشأة - هنا - هو كحال تأثير بعض الظواهر الفيزيائية الغامضة - على فرض وجودها - مثل المادة والطاقة المظلمتين اللتين يعزى اليهما صيرورة الكون واستقراره. فإلى هذا اليوم لا يُعرف كيف تعمل هاتان القوتان المفترضتان، ولا ان بالامكان تحضيرهما في المختبر، رغم الاعتقاد بأنهما يملآن الكون تقريباً.
تبقى الأطروحة الأخيرة، فباعتبارها قائلة بالسببية المفارقة، لذا تبدو امكانية صناعة الحياة في المختبر غير مبررة، إذ كيف يمكن استدعاء المفارق الغيبي إلى عالمنا الشهودي بعوامل طبيعية؟! وعليه فهذه الأطروحة هي أبعد ما يمكن تفعيلها في المختبر.
والفارق بين الأطروحة السادسة والأطروحتين الأخيرتين، هو أن الأولى تعوّل على وجود أسباب وقوانين طبيعية ما زالت خافية عنا. بمعنى ان من الممكن بحسبها وجود ظروف خاصة - ما زلنا لا نعرف عنها شيئاً - هي ما تتيح للحياة ان تنشأ. في حين بحسب الاطروحتين الأخيرتين ان الأمر لا يتعلق بالظروف والأسباب الطبيعية رغم أهمية توفرها، بل يناط بالفاعلية غير الطبيعية، كفاعلية عنصر الذكاء.
***
تبعاً لما سبق، يمكن وضع قاعدة متأصلة في التمييز بين الأطروحات الست الأولى من جهة، والاطروحتين الأخيرتين من جهة ثانية، وتقريرها كالتالي:
إن كل ما يصعب على العقل البشري، أو يعجز عن تحضيره وايجاده - ولو نظرياً - فسوف يكشف عن فشل الأطروحات الست بما فيها السادسة؛ باعتبارها فرضية من دون دليل.
وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن الحياة هي نتاج أسباب غير طبيعية.
ولا بد من الاشارة إلى مسألة ما زالت موضع خلاف شديد بين الداعمين للتصميم وخصومهم، وتتعلق بالمقارنة بين الصناعات البشرية من جهة، وتركيبة الحياة من جهة ثانية.
فالجميع يتفق على ان تركيبة الحياة، كما في أبسط خلية، أعظم بما لا يقارن من أي صناعة تكنلوجية أنتجها البشر. كما لا يوجد تردد في عزو أي أثر تكنلوجي إلى كونه مصنوعاً بفعل الذكاء دون أن يُنسب إلى المصادفات الكونية والقوانين الطبيعية.
في حين يتأجج الخلاف حول نشأة الحياة، على الرغم من أنها أعظم تعقيداً من الآلات البشرية، وانه ما زال البشر غير قادرين على احضارها وإنتاجها. فرغم ذلك يعتقد أغلب العلماء بأنها نتاج قوانين طبيعية أو مصادفات استثنائية، وهو ما لا يقال حول الآلات التكنلوجية المعقدة.
وبدورنا نقول: لو ان هذه التفرقة سليمة، لكان من السهل صناعة الحياة، بل ولكان ذلك أيسر من صناعة أي أثر معقد للانسان.
فلا يوجد شيء يمكن انجازه بالصدفة أو القانون الطبيعي إلا وكان للذكاء ان يأتي به ولو نظرياً. أو ما من شيء معقد يمكن ان ينشأ بالمصادفات إلا وأمكن للممارسات الذكية ان تحضره بسهولة.
فمثلاً ان ترتيب لعبة البطاقات - وهي 52 بطاقة - بطريقة واحدة عشوائياً سيحتاج إلى زمن يفوق عمر الكون بمضاعفات كبيرة جداً. فلو اعتبرنا أن كل محاولة تستغرق ثانية واحدة، فسنحتاج إلى (6810) ثانية، في حين ان عمر الكون أقل من (1810) ثانية. وفي المقابل يمكن ترتيب هذه البطاقات عن قصد بسهولة جداً خلال دقائق محدودة فقط.
وعلى خلاف ذلك، لا تزال مسألة تصنيع الحياة بعيدة المنال، رغم أن عناصرها الأساسية متوفرة في متناول أيدي العلماء.
وقد يشير هذا التعذّر إلى واحد من أمرين:
أولهما، أن تعقيدات الحياة ما زالت خافية لم تُكشف أسرارها بعد، ومن ثم سيأتي اليوم الذي نتمكن فيه من معرفة كافة تفاصيلها، ومن ثم امكانية صناعتها من جديد.
أما الاحتمال الثاني، فهو أنه حتى لو تكشّفت لنا كل خفاياها وأُدركت دقائقها، فقد تظل عصيّة على التخليق؛ لافتقارها إلى عنصر غير طبيعاني، يتجاوز حدود المادة وآلياتها الصمّاء.
وعلى كلا الاحتمالين، سواء صدق الأمر الأول أم الثاني؛ فإن صناعة الحياة لا تستغني عن الحاجة إلى عنصر الذكاء.
***
وتجدر الإشارة إلى وجود محاولات علمية جادّة لصناعة بعض الخلايا الجديدة، إلا أنها لم تبدأ من العدم، بل استندت إلى خلايا طبيعية قائمة في نهج شبيه باسلوب التدجين. أي انها لم تُنتِج حياة من مادة لا عضوية.
فلأول مرة تمكّن فريق من الباحثين بقيادة كريج فينتر Craig Venter من صنع خلية بكتيرية جديدة عام 2010. وجرت العملية من خلال الاستعانة بالحاسوب في اصطناع كروموسوم جديد بناءاً على آخر طبيعي موجود[1]. وقد احتوى جينوم الكروموسوم الجديد على حوالي (900) جين تمت إضافته إلى بكتيريا مفرغة من جينومها أو مادتها الوراثية[2].
وفي عام 2016 نجح فريق فينتر في تقليص عدد الجينات إلى (473) جين فقط، في حين أن البكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) تحوي حوالي أربعة آلاف جين، وتضم الخلية البشرية ما يقرب من ثلاثين ألف جين. وقد أعلن الباحثون أن هذا العدد المختزل يكفي لنشوء حياة قادرة على النمو والانقسام وتكوين مستعمرات خلايا على وسط الآجار (Agar)، وهو مادة تُستخدم في مختبرات الأحياء الدقيقة وغيرها.
لكن عند الفحص الدقيق، تبين أن الخلايا المصنّعة لم تنقسم بشكل موحد ومتساو لإنتاج جيل متطابق كما تفعل معظم البكتيريا الطبيعية، بل انتجت خلايا ذات أشكال وأحجام غريبة. وقد تمكنت الباحثة ستريشالسكي Strychalski لاحقاً من تحديد سبعة جينات اضافية مطلوبة لجعل الخلايا تنقسم بشكل موحد[3]. ومن بين هذه الجينات السبعة المضافة، حدّد العلماء وظيفة اثنين منها فقط، بينما تبقى الخمسة الأخرى غامضة الأثر دون معرفة ما هي الأدوار التي تلعبها في انقسام الخلايا.
ثم في عام 2021 أضاف الباحثون تسعة عشر جيناً إلى الجينوم الاصطناعي بما فيها الجينات السبعة المطلوبة لانقسام الخلايا، وذلك لتحسين قدرة الخلية على الانقسام بشكل سوي[4].
وعلى الرغم من هذا الإنجاز، فقد أقرّ الباحثون بأنهم لم يخلقوا الحياة من الصفر، بل استخدموا الحاسوب لتقليص عدد الجينات الموجودة في بعض البكتيريا الطبيعية، فتخلوا عن غير الضرورية واحتفظوا بالمطلوبة، ومن ثم زرعوها في بكتيريا أخرى بعد إفراغها من مادتها الوراثية[5].
لذلك صرحت الباحثة ستريشالسكي بالقول: إن الحياة ما زالت صندوقاً أسود.
وهكذا هو حال الحياة إلى يومنا هذا..