يحيى محمد
ينقسم التفكير البشري إزاء سؤال العلّة أو الغاية من وجودنا إلى موقفين متباينين في الرؤية. أحدهما يتبنّى معنىً إيجابيًّا، يسعى إلى تفسير هذا الوجود بناءً على منظومة فكرية أو معرفية معينة، فيما يتخذ الآخر موقفًا سلبيًّا، يعترف بالعجز عن إدراك العلّة أو فهم الغاية من وجود الإنسان. وكلا الموقفين يمتلك جذورًا ضاربة في التاريخ، منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا، ويتفرع عنهما طيف واسع من الأطروحات والرؤى الفكرية المختلفة.
الموقف الايجابي:
ويتجلّى هذا الموقف في اتجاهين رئيسين،، أحدهما يتمثل في "المذاهب العليّة أو المعلِّلة" كالفلسفة اليونانية القديمة وامتداداتها، وعلى شاكلتها الرؤية العرفانية، ومثل ذلك الأطروحات المادية المختلفة؛ سواء كانت فلسفية أو علمية. فيما يتمثل الآخر في "المذاهب الغائية"، كما في الرؤية الدينية التقليدية وما على شاكلتها.
فالاتجاه الأول يكتفي بمعرفة العلل الوجودية والأسباب المؤثرة في نشأتنا البشرية. حيث ينزع إلى قراءة هذه النشأة من ماضيها، مستقصياً الأسباب والعوامل الوجودية أو الطبيعية التي أفضت إلى تحققها. فحتى لو ظهر ما يبدو من غايات فعلية، فإنه يردها إلى تلك العلل والأسباب الطبيعية.
أما الاتجاه الآخر فيذهب إلى التفسير الغائي بافتراض تخطيط مسبق لتحقيق الغاية المطلوبة. فهو يطل من نافذة المعنى دون أن يقيم وزناً للأسباب المادية بقدر ما يعوّل على المقاصد. بمعنى ان معرفة كافة الأسباب المؤثرة في نشأتنا لا تفي بتفسير وجودنا، بل يضاف إليها الغرض والقصد من هذا الوجود. فحال ذلك كحال المصنوعات البشرية، حيث لا يكفي تفسيرها بمجرد الاقتصار على الأسباب والأدوات المادية التي أدت إلى صناعتها، بل لا بد من اضافة شيء أهم غير هذه الأسباب المرئية، وهو الغرض والغاية.
وبحسب التقسيم الارسطي يتمسك الاتجاه الأول بالعلة الفاعلة والمادية، فيما يتمسك الاتجاه الآخر بالعلة الغائية.
فالاتجاه العلّي يعود إلى الماضي ليستنطق الأسباب والعوامل التي أنشأت الظاهرة، بينما يتطلع الاتجاه الغائي إلى المستقبل، باحثًا في الغاية والمعنى الكامن وراء وجودها.
ويتضمن الاتجاه الأول (العلّي) أطروحات كثيرة، منها أطروحة الفلاسفة القدماء التي فسّرت الوجود العام بمراتبه المختلفة وفق منطق "السنخية"، بما في ذلك مرتبة وجود الإنسان. فما من مرتبة إلا وتتقبل التفسير وفق علتها الفوقية المباشرة، حتى ينتهي الحال إلى مرتبة المبدأ الأول التي لا تُفسَّر إلا بذاتها. لذا فالوجود البشري وفق هذه الرؤية مفسر علّياً من دون لغز محيّر.
وشبيه بذلك وجهة النظر العرفانية التي تنطلق من فكرة وحدة الوجود لتُفسّر بها المراتب الوجودية، ومنها المرتبة البشرية، كتعينات حتمية لهذه الوحدة من دون غرض أو غاية.
كذلك تلجأ الأطروحات المادية - سواء كانت فلسفية أو علمية - إلى التفسير العلّي في الكشف عن العوامل المادية التي أدت إلى وجود البشر، سواء عبّرت عن قوانين صارمة، أو أحداث عرضية، أبرزها وأهمها على الصعيد العلمي أطروحة التطور البايولوجي، كما في الداروينية التي شيّدت صرحها على الأحداث العرضية غير الصارمة أو الحتمية.
أما الاتجاه الثاني (الغائي) فهو لا يستند إلى الأسباب التي أفضت إلى وجودنا كما يفعل الاتجاه العلّي، بل يتجه إلى النظر في الغاية المقصودة من وجودنا. بمعنى ان نشأتنا ليست حصيلة أسباب مادية أو غير مادية فعلت فعلها، حتمية كانت أم عرضية، حتى أدت إلى ما نحن عليه، بل هي نتيجة تخطيط سابق لمبدأ اختار ان يكون لنا معنى في هذا الوجود عبر التوسط بتلك الأسباب.
فمثلاً ترى بعض الرؤى "العلمية" أن للكون غاية مرسومة سلفاً، تتمثل في إيجاد الإنسان، كما يستفاد ذلك من بعض صيغ المبدأ الأنثروبي في التصورات الفيزيائية المعاصرة.
بل حتى داروين، رغم أنه استبعد التفسير الغائي من نظريته في التطور، لم يسلم تماماً من نبرة الغائية. فقد وصف الإنسان بأنه أعجوبة الكون ومبعث فخره، ونقل ما قيل من أن العالم بدا وكأنه كان يستعد منذ مدة طويلة من أجل مجيء الإنسان. ومع أنه أيّد هذا القول من وجه، إلا أنه لم يفسّره تفسيراً غائياً، بل أوّله تأويلاً علّياً ينسجم مع نظريته، فرأى أن وجود الإنسان إنما هو ثمرة لسلسلة طويلة من النَسب تمتد إلى الجدود الأولى، وأن غياب أي حلقة من هذه السلسلة كان كفيلاً بمنع تحقّق الإنسان كما هو عليه الآن[1].
وعلى صعيد الرؤى الدينية، تتحدد الأطروحة الغائية في بعض المعاني المعيارية، إذ عادة ما تتمثل الغاية وفق هذه الرؤى في عبادة الخالق والبلاء، وكثيراً ما يُستشهَد على ذلك ببعض النصوص الدينية التي تفيد هذا الغرض، كما في الآية القرآنية القائلة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ ق\ 56، ومثلها الآية: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ الملك\ 2.
وبالتالي، فبحسب هذه الرؤية يكون وجودنا مفسراً من دون لغز، كما هو الحال في الاتجاه العلّي أو المعلِّل.
وتجدر الإشارة إلى وجود مذهب معاصر ينطوي على مفارقة لافتة، إذ يجمع بين ميزتين تبدوان غير متسقتين: الغائية والطبيعانية، كما في الاتجاه الذي تبنّاه توماس ناجل في كتابه (العقل والكون) عام 2012، حيث ذهب إلى أن الطبيعة تنطوي على غاية جوهرية متأصلة، تتيح قدراً كبيراً من الحرية لظهور الصور الغائية، من غير حاجة إلى افتراض وجود إله أو نوايا لخالق مفارق يقع خارج منظومة القوانين الطبيعية.
في حين نعتقد أنه يصعب تصور غاية مبيتة أو مقصودة من دون افتراض وجود قوة عاقلة مدركة تتولى التخطيط.. قوة تتجاوز الطبيعة المادية؛ سواء كانت مفارقة للكون، كما في بعض اتجاهات الرؤية الدينية، أم محايثة له، كما في الرؤية العرفانية الصوفية.
الموقف السلبي:
أما الموقف السلبي فهو على خلاف الموقف الايجابي الآنف الذكر، حيث يذهب إلى ان الوجود البشري يحمل لغزاً ما زال غير معروف، وعادة ما يتبنى فكرة الغائية. ولعل التفكير في هذا اللغز قد ظهر منذ ان تشكل الوعي البشري في سالف الأزمان، وما زال يشكل لغزاً محيراً لدى فئة كبيرة من الناس. وربما يراود كل فرد منا شيء من التفكير في هذا اللغز عند اختلائه بنفسه. ويتجسد هذا التفكير في السؤال العصي: لماذا نحن هنا؟ أو ما المغزى من وجودنا؟.
هذا هو الموقف السلبي. ومع اضافة الموقف الايجابي إليه نحصل على ثلاثة اتجاهات فكرية مختلفة يمكن اجمالها كالتالي:
أ ـ الاتجاه العلّي القائم على اعتبارات الأسباب والعلل المؤثرة.
ب ـ الاتجاه الغائي المستند إلى الرؤية الغائية كما تحددها المنظومات الفكرية الجاهزة، وعلى رأسها المنظومة الدينية.
ج ـ الاتجاه الذي يعترف بعجزه عن فهم لغز وجودنا.
وفي قبال الاتجاهات الثلاثة السابقة، يمكن أن نحدّد وجهة نظرنا عبر النقاط الموجزة الآتية، والتي تُظهر اختلافنا الجوهري معها:
1ـ نعتقد أن لوجودنا مغزى خفيّاً يشكّل لغزاً يستدعي فكّ شفرته لا التسليم به جاهزاً.
2ـ إن تبنّينا لهذا الموقف لا يصدر عن امتلاكنا لمنظومة فكرية جاهزة نركن إليها في حلّ هذا اللغز، بل ننطلق من مساحة حرّة نسبياً في الاستدلال، اعتماداً على المعارف العلمية وسواها من الأدوات المعرفية.
3ـ لقد قادنا الدليل إلى الاعتقاد بأننا مسخّرون لغاية مقبلة ستُسفر عن خلق كائن آخر جديد، وهو ما يضفي على وجودنا معنى ومغزى. وبدون ذلك لا يلوح في الأفق ما يبرّر إثبات المغزى خارج الأطر الجاهزة والمنظومات المغلقة.
وفي هذا السياق، من اللافت أننا - كبشر - كثيراً ما نفكّر في تسخير الأشياء من حولنا، الحيّة منها والجامدة، لخدمتنا ومنفعتنا؛ غير أننا قلّما تساءلنا عمّا إذا كنّا بدورنا مسخّرين لحساب كائنات أخرى، سواء كانت ستظهر من خلالنا، أو هي موجودة فعلاً كما تذهب إلى ذلك بعض أطروحات ما تُعرف بالأكوان الدمى التمثيلية الملفقة أو الحاسوبية.
وبحسب الرؤية التي نقدّمها يصبح وجودنا مسخراً لغيرنا شئنا أم أبينا، مثلما نقوم بدورنا في تسخير الأشياء لصالحنا.
فمعلوم أن الإنسان يحتلّ أعلى مراتب التطور – على الأقل ضمن الإطار الأرضي – وقد امتاز عن سائر الكائنات بخصائص العقل والإرادة والقيم، ولا سيّما الأخلاقية منها. فالتطور، في مجمله، يعكس منحى تصاعدياً نحو مزيد من التعقيد والرقيّ.
وعليه لو اعتقدنا باستمرارية التطور النوعي، فسوف يمثل الإنسان نقطة انطلاق لانبثاق نمطٍ وجودي أعلى، تتجلّى فيه ملكات العقل والإرادة والروح على نحو أكمل. فلأول مرة في التاريخ الأرضي ظهرت خصائص غير بيولوجية، كالعقل والضمير والقيم، وهي ما تزال - رغم حضورها - تعاني قصوراً شديداً، خاصة في بُعدها الأخلاقي والروحي، الأمر الذي يرجّح أن يكون التطور المقبل مكرّساً لمعالجة هذا القصور والارتقاء به.
(للتفصيل انظر دراستنا: المنتظر القادم! https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=167).
[1] تشارلس داروين: نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي، ترجمة مجدي محمود المليجي، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005، ج1، ص387.