-
ع
+

التصميم والضبط الفيزيائي الدقيق

 يحيى محمد

يتمايز الجدل المتعلق بأدلة التصميم الذكي في ميدان الفيزياء عن نظيره في ميدان الأحياء. فعادةً ما يُعزى نشوء الظواهر الحيوية إلى قانون الانتخاب الطبيعي، الذي يُطرح بوصفه بديلاً عن فرضية التصميم، حيث يُفترض أن التطور قائم على هذا الانتخاب دون حاجة إلى عقل مصمِّم. أما في عالم الفيزياء فالوضع مغاير، إذ لا ينطوي على قانونٍ مماثلٍ للانتخاب، وبالتالي فإن المعارضة جاءت من منطق آخر مختلف.

ومع ذلك فإن أطروحة التصميم الذكي تستند في الحالتين - الفيزيائية والحيوية - إلى أرضية مشتركة، قوامها المنطق الاحتمالي، وبالتحديد الكشف عن ضآلة الاحتمال العشوائي التي تسببه الصدفة العمياء، سواء في بنية النُظم المعقدة للكون أو للحياة. مع أخذ اعتبار ان تطبيق المنطق الاحتمالي على القوانين والثوابت الدقيقة للكون انما يجري وفق الحالة الافتراضية المتخيلة، نظراً لتعذر تفسير هذا الضبط الدقيق اعتماداً على العفوية أو الضرورة الكامنة في طبيعة المادة والطاقة.

فكما لا تُعزى نشأة الحياة إلى العشوائية المحضة، كذلك لا يمكن اعتبار نشأة هذه الثوابت والقوانين تلقائية بفعل الحتمية أو الجواذب الذاتية كما تفرضها طبيعة المادة والطاقة من دون اعتبار آخر. ومن هنا تأتي ضرورة تفكيك المسألة وتحليلها في ضوء المنطق الاحتمالي وارتباطه بمفهوم الصدفة العشوائية.

ففي الفيزياء ثوابت رياضية عديدة هي منبع القوانين والخصائص الدقيقة، وبحسب اطروحة التصميم ان من غير المنطقي ان يكون مصدرها الصدفة العمياء. وبعض الأرقام المقدرة في هذا المجال هي أرقام فلكية كبيرة، لذلك يُعرف الدليل القائم عليها بـ "الضبط الدقيق للكون"، ويشار إليه أحياناً بـ "المبدأ الانساني Anthropic Principle"، لأن أي اختلاف ضئيل في ضبط العلاقات الكونية سوف يمنع من ان تنشأ الحياة وما ترتّب عليها من ذكاء. وبحسب الفلكي الانجليزي جون بارو John Barrow والفيزيائي الامريكي فرانك تبلر Frank Tipler فإن حجج المبدأ الانساني قد اُستخدمت بنجاح طيلة التاريخ العلمي كله[1].

ويعود أصل فكرة هذا المبدأ إلى عالم الكونيات الانجليزي براندون كارتر Brandon Carter خلال الستينات من القرن العشرين. فقد ابتكر نوعاً من الأسئلة يُطلق عليه "التحليل المنافي للواقع"، وأهم ما جاء فيه أنه لو كانت القوانين مختلفة بقدر طفيف عما هي عليه بالفعل لأصبح من المحال وجود الحياة، وما كان من الممكن إخضاع الكون للملاحظة والرصد.

وبالتالي رأى هذا الفيزيائي أن وجودنا يعتمد على قدر محدد من الضبط الدقيق للقوانين، لذلك بدت القوانين مناسبة للحياة والكائنات الذكية.

وكما صرح الفيزيائي الرياضي فريمان دايسون في كتابه (ازعاج الكون) عام 1979 قائلاً: ‹‹إن فكرة الصدفة هي في حد ذاتها مجرد غطاء لجهلنا. لا أشعر أنني غريب في هذا الكون. فكلما قمت بفحصه ودراسة تفاصيل بنيته، كلما وجدت المزيد من الأدلة على أن الكون بمعنى ما يجب أن يكون قد عرف أننا قادمون››[2].

مع هذا فإن عدداً من النقاد يعتقدون أن مسألة التغييرات الطفيفة في الثوابت الفيزيائية لن تؤدي إلى إنشاء كون مختلف بشكل كبير عن عالمنا الذي نعرفه، بل قد يشابهه[3].

 

أنواع الثوابت الدقيقة للكون

من الفيزيائيين من أشار إلى وجود أكثر من (100 خاصية) دقيقة للكون، تسمى "الثوابت الانسانية anthropic constants"[4]. ومن ذلك ان الفلكي اللاهوتي هيو روس Hugh Ross أشار إلى ان قائمة خصائص تصميم نظامنا الشمسي المناسبة لايجاد الحياة على الأرض قد تزايد اكتشافها حيناً بعد آخر، ففي عام 1966 كانت الخصائص الدقيقة المكتشفة عبارة عن اثنتين، ثم نمت نهاية الستينيات إلى ثمانية، وفي نهاية السبعينات أصبحت (23 خاصية)، ثم تحولت في نهاية الثمانينات إلى (30 خاصة)، حتى وصلت القائمة بعدها إلى (123 ثابت) أو خاصية دقيقة[5].

وقد اقتصر بعض الفيزيائيين على ذكر ستة ثوابت، كما جاء في كتاب مارتن ريس Martin Rees الموسوم (ستة أرقام فقط Just Six Numbers).

ومن أهم هذه الثوابت: الانتروبيا الأولية، والثابت الكوني، وطاقة الفراغ، والبنية الدقيقة، وثوابت قوى الطبيعة الأربع، وكتل الجسيمات، وغيرها..

وبالنسبة إلى الانتروبيا الأولية، أو الشروط الابتدائية لنشأة الكون، فهي تفترض كما حددها عالم الرياضيات البريطاني روجر بنروز Roger Penrose ان الكون بدأ ناعماً جداً وليس عشوائياً فجاً، وقدّر قيمة هذه النعومة بثابت ذي مقدار يفوق كل التصورات، ويساوي (10 وفوقه 10-123)، أي لا ينفع سوى اختيار واحد من مقدار قيمته (10 أس 12310) من الأصفار، كالذي حدده في كتابه (العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء) عام 1989[6]. ويعني هذا المقدار المذهل ان للخالق قائمة لا حدود لها من الشروط الابتدائية الممكنة، ولا ينفع فيها سوى اختيار مناسب واحد ليكون الكون على ما هو عليه الآن من سلاسة ونظام[7].

وفي هذه الرؤية القائمة على النموذج الافلاطوني فإن الكون يصبح محدداً بأكمله تبعاً لمخطط رياضي دقيق ولجميع الأزمنة. فبنروز يشاطر اينشتاين في مقالته التي يرى فيها العالم منظماً إلى درجة يصعب معها خيار آخر لخلق الكون، خلافاً للكوانتم التي ترى عوالم مختلفة متعددة ذات تواريخ متغايرة والتي لم يرتح إليها بنروز[8].

كما تختلف هذه الاطروحة مع الرؤية التي ترى الكون قد بدأ بعشوائية تامة، ومن ثم حدث النظام عرضاً بالصدفة. وقد واجه هذا الافتراض وجود دقة منقطعة النظير منذ بدء التشكل الكوني، وذلك بعد ان طرح آلان جوث نظريته حول التضخم الكوني، وبدا على الفيزيائيين شيء من التناقض والغموض. والسائد بين الفيزيائيين اليوم هو ان هذه الدقة تمثل مصادفة سعيدة، وبعضهم لم يهتم بتفسيرها، فيما لجأ آخرون إلى تفسيرها بنواح شتى، وأبرزها افتراض انها جاءت من بين عدد غير متناه من الأكوان المنبثقة ضمنياً.

لقد أشرنا إلى مقدار الشروط الابتدائية كما حددها بنروز، وهي الشروط التي تتحدد عليها سائر الثوابت، وعلى رأسها ثابت تمدد الكون المتعلق بأول دفعة للانفجار العظيم، فهي ذات سرعة محددة لا تزيد ولا تنقص بمقدار ضئيل للغاية هو (10-60). إذ لو كانت سرعة تمدد الكون أبطأ قليلاً؛ لانهار الكون على نفسه إلى الداخل. ولو تمدد بسرعة أكثر قليلاً؛ لما كان هناك وقت لتشكّل بنى المجرات والنجوم والكواكب، ولا كان هناك شيء يُعرف بثابت البنية الدقيقة. ولو كانت الشروط الابتدائية قد بدأت بشكل آخر؛ لما كانت هناك نجوم ولا كواكب ولا حياة[9].

وبعبارة ثانية، تأتي المفاجأة عند معرفة أن مسار الانفجار العظيم بدأ منذ اللحظة الأولى وفق النظرية السائدة لنموذج التضخم الكوني، حيث كان التضخم منظماً بما يفوق التصور والخيال. فهناك دقة في الكثافة الحرجة، وهي المقدار المتعلق بسرعة الانتفاخ والتمدد، إذ لا بد من ان تكون هذه السرعة بين حدين دقيقين للغاية، طاوية خلفها مراحل كثيرة دفعة واحدة؛ بلا مجال للعشوائية والانحراف، أحدهما لصالح الكون المغلق، والآخر لصالح الكون المنفرج المفتوح، وبينهما الحد المعبر عنه بقيمة اوميگا، حيث تم ضبط هذه القيمة بدقة عند لحظة زمن بلانك الذي أصبح للزمكان فيه معنى؛ بما يساوي جزءاً من (1060)، أي واحد من:

1000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000

وتعتبر هذه الدقة العظيمة مذهلة للغاية.

ولو أردنا ان نكشف عن حجم الاعجاز الحاصل في هذه اللحظة الحاسمة؛ فلنعلم ان عدد ذرات الكون كله تقدّر بما يقارب هذا الرقم الخيالي. وكتشبيه لحال الاعجاز؛ لو كانت السرعة الممكنة للكون خلال اللحظة الأولى من عمره بعدد ذرات الكون قاطبة، وان كل ذرة مرقمة برقم محدد، بحيث يبلغ مجموع الأرقام بقدر ذلك العدد المذهل؛ فإن على الكون ان يتخذ سرعة واحدة من هذا المجموع الضخم، وهذه السرعة هي بمثابة ذرة مخصوصة غير قابلة للتعيين وسط القدر الهائل من جميع ذرات الكون. لذلك لو أننا أطلقنا رصاصة من مسدس جسيمي نحو واحدة من هذه الذرات لا على التعيين؛ لكانت قيمة احتمال ان تكون الذرة المطلوبة تساوي واحداً من مجموع ذرات الكون كله. وهو أمر في غاية الاستحالة.

وحقيقة، هذا هو حال ما تمّ افتراضه من سرعة اعجازية مذهلة أدّت بالكون إلى أن يمرّ بين حافتي التمزق والانسحاق العظيمين بسلام.

وقد أخذت اللحظات الأولى بعد زمن بلانك تحافظ على الدقة وإن كان أقل مما هي عليه في هذا الزمن، فمثلاً خلال ثانية واحدة من عمر الكون تم تقدير قيمة اوميگا بجزء من (1015)، لذا فلو أننا اعتبرنا سرعة الكون قد مرت فقط خلال اللحظتين السابقتين، أي خلال زمن بلانك والثانية الأولى؛ لكان ذلك يتطلب ان يمر الكون بسلام بقيمة قدرها جزء من (1075)، أي واحد من:

1000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000

هذا ناهيك عن وجود سلسلة طويلة من المعاجز الكونية التي مرّ بها الكون بما لا يحصى عددها كماً وكيفاً، والتي جمعها روجر بنروز بالرقم الخيالي السالف الذكر.

وبالنسبة إلى ثابت طاقة الفراغ فيعود إلى ما تنبأ به الميكانيك الكمومي بوجود جسيمات مفترضة في الفراغ لتوليد مضاد الجاذبية ليحصل توازن شبيه بما اقترحه اينشتاين حول الثابت الكوني الذي يعمل على استقرار عالمنا[10]. وتُحدَّد هذه الطاقة بأنها ذات كتلة، ولها قيمة معينة، وهي تعمل على عكس تأثير جاذبية المادة فتؤدي إلى اتساع التمدد كما في حالة التضخم[11].

لكن سبق ان عرفنا ان حسابات هذه الطاقة تفضي إلى مقدار ضخم للغاية، وقد اُعتبر أكبر خطأ نظري في تاريخ الفيزياء. فالفراغ الخالي لا يحمل سوى أقل قدر ممكن من الطاقة، وهي المسماة بالحالة القاعية ground state[12].

أما الثابت الكوني فهو صغير جداً وموجب مما يسمح بالحياة. وقد جاء على خلفية تقدير كمية المفقود من كثافة الكتلة الكونية، والمقدرة بحوالي (80ـ90%)، الأمر الذي ينهض بأعبائها هذا الثابت[13]. وكان ستيفن واينبرغ قد حدد خلال ثمانينات القرن الماضي قيمة هذا الثابت بمقدار (10-121 وحدة بلانكية)، أي نحو (10-27 غرام) لكل سنتمتر مكعب من الفضاء. لكن بحسب التقديرات الحالية يكون الثابت عبارة عن (10-124 وحدة بلانكية)، وهو يعني انه لكي يتحقق كون منتظم فيه حياة فسوف يحتاج إلى ما لا يقل عن (12410كون) ليصادف واحد منها كوناً مثل الذي نعيشه[14].

فلو كان هذا الثابت كبيرًا وسالبًا، لمرّ الكون بدورة من التوسع والانكماش أسرع من أن تتيح زمناً كافيًا لنشوء الحياة. ولو كان كبيرًا وموجبًا، لأدى إلى توسع أبدي للكون، من دون أن تتاح الفرصة لتشكُّل المجرات والنجوم التي تتوقف عليها الحياة[15].

أما ثابت البنية الدقيقة، الذي يحدّد خصائص الذرات والجزيئات، فيُعرَف بأنه مربع شحنة الإلكترون مقسومًا على سرعة الضوء مضروبًا بثابت بلانك، ويُقدَّر بحوالي (1/137). فلو اختلف هذا الثابت بمقدار أقل من (1٪) تقريبًا، لما وُجدت ذرات أو جزيئات كما نعرفها. كما أن هذا الثابت يحدد كيفية انتقال الإشعاع الشمسي وامتصاصه في الغلاف الجوي للأرض، فضلاً عن دوره في عملية التمثيل الضوئي كما تحتاجه الحياة[16].

يضاف إلى ان لهذا الثابت أهمية للتفاعل الكهرومغناطيسي لتكوين الكاربون ضمن الاندماج النجمي، فلو اختلف بنسبة (4%) فقط فسيكون من المحال انتاج الكاربون. وتبرز أهمية هذا الثابت أيضًا في التفاعل الكهرومغناطيسي لتكوين الكربون داخل النجوم عبر الاندماج النووي، فلو اختلف بنسبة (4%) فقط، لاستحال إنتاج الكربون. وبدون وجود كمية كافية من هذا العنصر فإن أشكال الحياة الكاربونية لن تتحقق، ولما كنا هنا[17].

وينطبق الأمر ذاته على ثوابت القوى الأربع الأساسية في الطبيعة، والنسب الدقيقة فيما بينها، إذ إن أي تغيير مهما بدا ضئيلاً يؤدي إلى اختلال التوازن، وجعل الكون غير قابل لنشوء الحياة. وقد أدهش هذا التوازن العجيب العلماء، خصوصًا أن النظرية السائدة تفترض أن هذه القوى قد تشكّلت خلال أقل من جزء من المليون من الثانية بعد الانفجار العظيم، ولو تأخر هذا التشكل - ولو بمقدار طفيف - لتشتّتت مواد الانفجار دون امكانية لصنع المجرات والنجوم والكواكب.

ولو بدأنا بالقوة النووية الشديدة، وهي أعظم القوى الأربع، إذ هي أقوى من تأثير القوة النووية الضعيفة بحوالي مليون مرة ، ومن الكهرومغناطيسية بحوالي (137 مرة)، ومن الثقالة أو الجاذبية بحوالي (13810 مرة)[18].

وتُقاس فعالية القوة النووية الشديدة داخل الأنوية بما يُعرف بـ "فرق الكتلة" أو "نسبة الكتلة المفقودة" أثناء الاندماج النووي، وتُقدَّر في حالة تكوّن أنوية خفيفة (كالهليوم من الهايدروجين) بـحوالي 0.007 (أي 0.7%)، ولو كانت أصغر، مثل ان تكون (0.006)، فسوف لا يتكون أي شيء آخر في الكون سوى الهايدروجين. أما لو كانت بمقدار (0.008)، فستلتحم البروتونات مباشرة ولم يبق شيء من الهايدروجين ليوفر الوقود في النجوم العادية، ولما تكون الماء. أما إذا كانت أكبر من تلك القيمة لتنافرت البروتونات من بعضها البعض من دون التحام[19].

كما من خاصية هذه القوة هي انها تجعل الأنوية مستقرة، فأي تغير طفيف في الشدة النسبية بين هذه القوة والكهرومغناطيسية سيجعل النواة مضطربة. فهي تتغلب على قوة التنافر بين البروتونات التي تُحدثها القوة الكهرومغناطيسية، وبذلك تستقر النواة[20].

كذلك الحال مع القوة النووية الضعيفة، حيث يُقدّر ثابت قوة الربط فيها بين (10-7 و10-6) مقارنة بثابت ربط تأثير القوة النووية الشديدة المقدر بحوالي واحد، وهي بذلك أضعف من القوة الكهرومغناطيسية التي تبلغ حوالي (10-2)[21]. لذا لو كانت القوة النووية الضعيفة أكبر قليلاً لتحول الكثير من الهيدروجين إلى الهليوم بداية الانفجار العظيم، وهو ما يؤدي إلى احتراق النجوم بسرعة فائقة. أما لو كانت أصغر فسينتج القليل جداً من الهيليوم بداية الانفجار العظيم، وهو لا يكفي لتوليد عناصر ثقيلة في النجوم[22]. وفي كلا الحالتين لا يمكن للحياة ان تنشأ.

كذلك لو كانت القوة الضعيفة أقل مما هي عليه لما تكوّن الكاربون، وهو العنصر الأساس في خلق الحياة[23]. ومثل ذلك لو كانت القوة النووية الشديدة مختلفة بنسبة (1%) أقل أو أكثر فسيُعطل ذلك رنين الكاربون من العمل، ومن ثم لا يتم صنع الكاربون والعناصر الأثقل منه[24].

ومعلوم أنه حتى مطلع خمسينيات القرن العشرين، كان تخليق العناصر الثقيلة - ابتداءً من الكربون فما فوق - يُعدّ لغزًا محيرًا. لكن الفيزيائي فريد هويل توصّل إلى اكتشاف مستوى رنين نشط بما يكفي ليسمح بحدوث تفاعل نووي ثلاثي لجزيئات الهيليوم، يُفضي إلى إنتاج نواة الكربون. والمقصود بالرنين هنا هو مستوى معين من الصدى - أو الطاقة - الناتج عن تصادم شظايا الأنوية[25].

وقد اعتبر هويل أن مثل هذا الاكتشاف في الفيزياء، مع ما تكشفه الكيمياء والبيولوجيا من تناسقات دقيقة، يُشير بوضوح إلى تفسير فطري سليم، وهو أن عقلًا فائقًا هو من تولّى تسخير هذه المهام الكونية، وأنه لا وجود لقوى عمياء جديرة بأن تُنسب إليها هذه الظواهر في الطبيعة[26].

كما إذا كانت القوة الكهرومغناطيسية أقوى أو أضعف قليلاً، لما أمكن نشوء الروابط الذرية، وبالتالي لا إمكانية لتشكّل الجزيئات المعقدة[27]. كما أن أي تغير طفيف في هذه القوة، ولو بنسبة (4%)، أو في القوة النووية الشديدة، ولو بنسبة (0.5%)، كفيل بأن يؤدي إلى تدمير: إما كل الأوكسجين، أو كل الكربون، في داخل النجوم[28]. الأمر الذي يجعل وجود الحياة كما نعرفها، مستحيلاً بالكامل.

تبقى الثقالة أو الجاذبية، فلو كانت قيمتها أكبر بقليل فستصبح النجوم ساخنة جداً، فتحترق بسرعة كبيرة، ومن ثم ينتهي وقودها دون امكانية حفظ الحياة. ولو كانت أصغر فستصبح النجوم باردة جداً دون امكانية حدوث الاندماج النووي الذي يترتب عليه انتاج العناصر الثقيلة اللازمة لكيمياء الحياة[29].

كذلك لو كانت الثقالة أكبر لصارت النجوم كلها اشعاعية، أما لو كانت أقل لأضحت كلها حملية، وفي كليهما تمتنع الحياة[30].

ولولا الثقالة لكانت الشمس غازاً متناثراً. ولولا التفاعلات الحرارية النووية للشمس لكانت الأخيرة أشد حرارة وأصغر حجماً، ولأدى ذلك بها إلى الموت، وان التفاعلات النووية الحرارية تساهم في خفض انتروبيا الشمس[31].

يضاف إلى ما سبق، يجب أن تكون نسبة القوة الكهرومغناطيسية إلى الثقالة متوازنة بشكل دقيق جداً. وإذا ازدادت بشكل طفيف على قيمة (10-40)، فإن جميع النجوم ستصبح أكبر من شمسنا بما لا يقل عن (40٪). وهذا يعني أن حرق النجوم سيكون قصيراً وغير متوازن لدعم الحياة المعقدة. وإذا انخفضت هذه القيمة قليلاً، فإن جميع النجوم ستكون أصغر من شمسنا بما لا يقل عن (20٪). وهذا من شأنه يجعلها غير قادرة على إنتاج عناصر ثقيلة ضرورية لنشأة الحياة والحفاظ عليها[32].

كما تمتد النسب الدقيقة إلى الجسيمات الذرية، من حيث أعدادها وكتلها وغير ذلك، فأي اختلاف صغير فيها قد يؤثر على اضطراب الكون وانعدام الحياة. وقد تكلم الكثير من الفيزيائيين بهذا الشأن. ناهيك عن أهمية أحجام وكتل ومواقع الشمس والأرض وسائر الكواكب بالنسبة إلى الحياة، ومثل ذلك أهمية الغلاف الجوي وغرائب الماء والهواء ونسب عناصره مما له علاقة مباشرة بحفظ الحياة وديمومتها.

 

الاعتراض على حجة الضبط الفيزيائي

تم توجيه عدد من الاعتراضات إلى حجة التصميم في الضبط الدقيق، من بينها القول إن عدم اقتناعنا بفرضية الصدفة لا يبرّر ضرورة قبول هذه الحجة. ومن الأمثلة المطروحة على هذا الاعتراض: أنه عند رمي قطعة نقد محايدة ألف مرة، فإن كل صورة توافيقية محتملة لها احتمال ضئيل للغاية يقدَّر بـ (2⁻¹⁰⁰⁰). ومع ذلك، فإن وقوع صورة معينة لا يبرّر الاعتقاد بأنها كانت نتيجة تأثير مصمّم ذكي.

وقد ردّ بعض المفكرين على هذا الاعتراض، مثل الفيلسوف اللاهوتي جورج شليزنجر George Schlesinger، مستندًا إلى الحدس العقلي. فقد ميّز بين تجربتين في لعبة اليانصيب (اللوتري Lottery):

الأولى تفيد بأن جون فاز ببطاقة رابحة من بين مليار بطاقة يانصيب.

أما الثانية فتنص على أن جون فاز ثلاث مرات متتالية، في كل واحدة ألف بطاقة.

ومن وجهة نظر شليزنجر، إن ردة الفعل الحدسية اتجاه الحالتين مختلفة، رغم تساوي الاحتمال العددي فيهما. ففوز جون ثلاث مرات متتالية يثير الدهشة، ويرجّح احتمال التدخّل البشري أو التلاعب، بخلاف الحالة الأولى التي لا تستدعي هذا الانطباع.

غير أن شليزنجر لم يقدّم تفسيرًا وافياً لاختلاف الانطباع رغم تساوي الاحتمال في الحالتين. والواقع أن الانطباع يمكن أن يتساوى لو كنّا قد حددنا البطاقة الرابحة قبل السحب، ثم جاءت النتيجة مطابقة للتحديد المسبق. عندها يصبح الاختباران متكافئين.

أما سبب عدم اندهاشنا في الحالة الأولى، فراجع إلى تكافؤ جميع البطاقات؛ إذ لا بد من فوز إحداها على التعيين، سواء كانت تعود إلى جون أو إلى غيره. بينما يختلف الأمر في التجربة الثانية، ففي البداية لا نندهش من فوز جون، لكن تكرار فوزه يثير التعجب، بسبب عدم التكافؤ الشديد بين نتائج جون من جهة، ونتائج بقية المشاركين من جهة أخرى. علماً أن المتوقع في السحوبات المتكررة هو تكافؤ النتائج، باستثناء فائز واحد يُحدد عشوائيًا.

ومع ذلك، كان غرض شليزنجر من المثال هو الاستدلال على وجود خالق قصدي للكون، من خلال ملاحظة نحو (20 خاصية) فيزيائية دقيقة تدعم إمكانية وجود الحياة واستمرارها.

وقد تعرّضت هذه الحجة للنقد من عدة جهات، أبرزها كالتالي:

الافتراض الحيوي البديل:

إن الخصائص العشرين المذكورة قد تكون ملائمة للحياة الكربونية، لكن قد توجد أشكال أخرى من الحياة لا تتطلب هذه الخصائص بعينها.

غير أن هذا الاعتراض يظل فرضية محتملة، وحتى لو سُلّم بها، فإن عددًا من الخصائص الدقيقة تبقى ضرورية لنشأة أي شكل من أشكال الحياة، سواء كانت كربونية أم غيرها. وعليه ليس في هذا النقد ما يمكن ان يدحض تلك الحجة تماماً.

فرضية الأكوان المتعددة:

يذهب عدد من الفيزيائيين إلى تفسير الضبط الدقيق عبر فكرة الأكوان المتعددة، والتي تجعل نشوء الحياة أمرًا حتميًا لا صدفة؛ كما هو الحال في حتمية فوز إحدى بطاقات اليانصيب لا على التعيين.

ورغم شيوع هذا الاعتراض، إلا أنه لا يحلّ مشكلة نشأة الحياة، كما أن فرضية الأكوان المتعددة تعاني من عيوب قاتلة.

الاعتراض المعرفي التجريبي:

يقول أصحاب هذا النقد إن سبب دهشتنا من فوز جون المتكرر يرجع إلى معرفتين تجريبيتين:

أولاهما أننا نعلم بوجود أذكياء ذوي دوافع وقدرات تتيح لهم التلاعب بنتائج اليانصيب.

والثانية أننا نملك خبرات سابقة بحصول حالات مشابهة من الغش والتزوير.

ولولا هذين العاملين، لما فسرنا فوز جون المتكرر بالغش. أما في حالة فرضية التصميم الكوني، فليس لدينا خبرة سابقة، ولا نعلم بوجود ذكاء خارجي يملك دوافع وقدرات على التصميم. وعليه، لا يمكننا استنتاج وجود مصمم استنادًا إلى الضبط الدقيق وحده.

غير أن هذا الاعتراض يمكن الردّ عليه بسهولة؛ إذ إن استنتاج الغش في المثال السابق لا يتوقف على العاملين المذكورين، بل ينبع من منطق الاحتمال ذاته، وهو ما لا يختلف عليه العقلاء. فكثير من الحالات تُثير الشك والدهشة حتى من دون وجود معرفة سابقة، متى ما خالفت التوقعات الاحتمالية بشكل كبير.

وقد قدّم الفيلسوف روبن كولينز Robin Collins عام 1999 حجة "مخففة" لصالح التصميم، مفادها أن ملاحظة الضبط الدقيق لا تُثبت بالضرورة وجود مصمم، لكنها توفّر سببًا معقولًا لترجيح فرضية التصميم على فرضية الصدفة. فهي تجعل الأولى أقرب إلى القبول العقلاني، وإن لم تكن حاسمة أو لزومية[33].

ولا شك أن هذه الحجة المخففة تذكّر بما ذهب إليه ثاكستون في كتابه (لغز أصل الحياة) عام 1984، قبل أن يتحوّل - بعد سنتين فقط - إلى تبني استنتاج حاسم بوجود التصميم، وليس مجرد الترجيح أو المعقولية.


[1]    حافة العلم، ص217.

[2]    Freeman Dyson, Disturbing the universe, 1979, p. 250. Look:https://b-ok.africa/book/3496557/36c837

[3]    https://en.wikipedia.org/wiki/Intelligent_design

[4]    https://lifehopeandtruth.com/god/is-there-a-god/does-god-exist-design-of-the-universe/

[5]    Hugh Ross, The Creator and the Cosmos, 2001, chapter 16. Look:https://b-ok.africa/book/3328685/bb77ee

[6]    روجر بنروز: العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، تصدير مارتن غاردنر، ترجمة محمد وائل الأتاسي وبسام المعصراني، مراجعة محمد المراياتي، دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى، 1998م، ص406، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com. انظر ايضاً: https://www.ws5.com/Penrose/كذلك الفيديو الخاص بالموضوع: Fine Tuning Odds Less than 1 in 10^10^123 Roger Penrose - YouTube

[7]    الاقتراب من الله، ص110.

[8]    العقل والحاسوب وقوانين الفيزياء، ص506.

[9]    بحث في نظام الكون، ص131.

[10]   الجائزة الكونية الكبرى، ص200.

[11]   ستيفن هوكنج: الكون في قشرة جوز، ص93

[12]   يحيى محمد: انكماش الكون.

[13]   أحلام الفيزيائيين، ص178ـ180.

[14]   براين جرين: الواقع الخفي، ترجمة محمد فتحي خضر، دار التنوير، ضمن عنوان: الحياة والمجرات واعداد الطبيعة.

[15]   أحلام الفيزيائيين، ص177ـ179.

[16]   https://www.huffingtonpost.com/deepak-chopra/why-the-universe-is-our-h_1_b_2950189.html

[17]   https://aeon.co/essays/why-does-our-universe-appear-specially-made-for-us

[18]   https://en.wikipedia.org/wiki/Strong_interaction

[19]   مارتن ريس: فقط ستة أرقام، ترجمة جنات جمال وآخرين، مركز براهين، الطبعة الأولى، 2016م، ص71ـ72.

[20]   الكون الانيق، ص28.

[21]   https://en.wikipedia.org/wiki/Weak_interaction

[22]   https://evolutionnews.org/2017/11/ids-top-six-the-fine-tuning-of-the-universe/

[23]   الجائزة الكونية، ص185ـ189 و191ـ194.

[24]   لكن الفيزيائي المعروف واينبرغ لم يقتنع بالحجة المذكورة حول علاقة رنين الكاربون بنشأة الحياة، فأشار إلى ان فريقاً من الفيزيائيين برهنوا مؤخراً على ان طاقة حالة الكاربون المذكورة يمكن ان تكون أكبر من ذلك دون ان تخفّض كثيراً من كمية الكاربون التي تتشكل في النجوم. كذلك أننا إذا غيّرنا قيم ثوابت الطبيعة فقد نعثر على حالات أخرى لنواة الكاربون وسواها ربما تتيح اسلوباً آخر في تشكل عناصر أثقل من الهليوم ( أحلام الفيزيائيين، ص174).

[25] http://www.sciencemeetsreligion.org/physics/cosmic.php

[26]   Fred Hoyle, The Universe: Past and Present Reflections, 1982. Look:https://www.annualreviews.org/doi/pdf/10.1146/annurev.aa.20.090182.000245

[27]   https://evolutionnews.org/2017/11/ids-top-six-the-fine-tuning-of-the-universe/

[28]   التصميم العظيم، ص192ـ193.

[29]   الكون الانيق، ص28. كما انظر:                    https://evolutionnews.org/2017/11/ids-top-six-the-fine-tuning-of-the-universe/

[30]   الجائزة الكونية، ص195ـ197.

[31]   العقل والحاسوب، ص381

[32]   https://www.gotquestions.org/evidence-intelligent-design.html

[33]   https://www.iep.utm.edu/design/

comments powered by Disqus