يحيى محمد
2ـ مشكلة نشوء النظم المعقدة
تُعدّ هذه الإشكالية من أعقد ما واجه النظرية الداروينية، وهي تمسّ الصعوبات الثلاث الأخيرة التي أقرّ بها داروين، والتي سبق أن عرضناها. وتتجلى أبرز مظاهرها في التساؤل التالي: كيف يمكن للتطور التدريجي، المعتمد على التراكم البطيء للتغيرات الطفيفة، أن ينتج تراكيب بالغة التعقيد والدقة كالتي نراها في العين البشرية، أو نظام الطيران عند الخفاش، أو سلوكيات الكائنات المعقّدة؟ وهل يمكن لآلية الانتخاب الطبيعي وحدها أن تُفسر نشوء هذه البنى المتكاملة عبر تدرجات بسيطة قابلة للبقاء في كل طور من أطوارها؟
لقد أقرّ داروين في مواضع متعددة من كتابه (أصل الأنواع)، بأن مثل هذه البُنى المعقدة تُمثل واحدة من أعظم التحديات التي قد تُسقط نظريته وتنهار إن عجزت عن تفسيرها[1]. لكنه في الوقت ذاته لم يُقدّم تفصيلات منهجية، أو سيناريوهات دقيقة – ولو تخمينية – لكيفية تطور هذه الأعضاء المعقدة من أشكال أبسط. بل اكتفى بإشارات عامة، مفادها أن وجود نظائر أولية أو "بسائط" لهذه الأعضاء في كائنات أخرى يُزيل الحرج، ويجعل فكرة تطورها بالتدرج أمراً ممكناً.
وقد واجه داروين بهذا الصدد مشكلتين مترابطتين: التركيب البنيوي والوظيفة؛ ومنها الغرائز الحيوانية، فتارة وجد المشكلة في التركيب البنيوي، وأخرى في الوظائف والغرائز. ومع انه رأى ان الوظيفة سابقة للتركيب أو البنية، إلا انه اعترف بوجود حالات كثيرة يعجز فيها عن التخمين فيما إذا كانت الغريزة هي التي اختلفت قبل البنية أم العكس؟.
لكنه في جميع الحالات حاول ان يجيب عن شبهة "النظام غير قابل للاختزال"، حيث التناسق بين التركيب والغريزة[2]، مع اعترافه بأن الكثير من الغرائز يصعب تعليلها وتبدو معارضة لنظرية الانتخاب الطبيعي، لعدم ايجاد تدرجات متوسطة سابقة. واقتصر على علاج صعوبة واحدة بدت له بداية الأمر انها لا تقهر، بل وقاتلة للنظرية كلها، وهي تلك المتعلقة بالاناث العقيمة في الحشرات، باعتبارها غير قادرة على التكاثر، كما في عاملات النمل العقيمة التي تختلف كثيراً عن كل من الذكور والاناث الخصبة جسمياً؛ مثل شكل الصدر وانعدام الأجنحة، وأحياناً انعدام الأعين. علاوة على ذلك عقمها حيث لا يمكن ان تنقل أي تعديلات متدرجة إلى ذريتها. لذلك جعل لموضوع الذرية العقيمة صعوبة مستقلة هي الرابعة والأخيرة من الصعوبات التي عرضها، رغم انها واحدة من بين غرائز واسعة متنوعة ومدهشة لدى الحيوانات.
وعبّر عن هذه الصعوبة بقوله: سوف يدور في الأذهان بأنني لا أعترف بأن مثل هذه الحقائق المدهشة للنمل العقيمات والمستقرة جداً تهدم نظريتي تماماً.
وأقرَّ بأنه رغم ايمانه بالانتخاب الطبيعي فإنه لم يتوقع ان يكون قادراً على تطبيقه بدرجة عالية من الكفاءة على هذه النمل العاملات، واعتبر هذا الموضوع أخطر صعوبة واجهت نظريته، لكنه سُعد حينما رأى ان من الممكن تفسير هذه الظاهرة من خلال تطبيق الانتخاب الطبيعي على الجماعة مثلما يطبق على الفرد، رغم اختلاف النمل العقيمات فيما بينها، حتى تم تقسيمها إلى مرتبتين أو ثلاث مراتب مختلفة تماماً[3].
ويمكن ابداء ملاحظتين حول هذه المسألة:
الأولى هي ان بعض الحيوانات العاقرة لا تمتلك فائدة بينة من عقمها، سواء كانت الفائدة فردية أو عائلية جماعية، كما في البغال.
والثانية هي ان داروين اضطر إلى التفسير السابق كشذوذ عن التزامه العام بأن الانتخاب الطبيعي يعمل لصالح الفرد لا الجماعة، وكانت له خلال ستينات القرن التاسع عشر جدالات مع والاس الذي خالفه في ان العكس هو الصحيح، كما في حالة البشر، ومثل ذلك الطيور التي تتظاهر بأن أجنحتها مكسورة لتصرف نظر مفترسيها عن ذريتها، بل وقد تعرّضُ نفسَها للافتراس باطلاق صفارات انذار لانقاذ المجموعة. وكذا هو الحال مع عقم الحشرات مثل اناث النمل والنحل والدبابير.
وقد اعتقد داروين بأن من ضمن ما يهدم نظريته العثور على جزء خاص قد تم تكوينه من أجل الفائدة المنحصرة على نوع آخر (أي الايثار النوعي)، حيث لا يمكن ان يتم ذلك عبر الانتخاب الطبيعي. في حين ثمة ظواهر حيوانية أشار اليها عدد من الباحثين المعترضين دالة على ان بعض الحيوانات تعمل على الاضرار بنفسها لتقديم الفائدة للغير، مثل تلك التي تقوم بتحذير فرائسها كما تفعل بعض الأفاعي[4]. وعلى هذه الشاكلة ثمة ظاهرة غريبة لاستسلام العناكب للموت بيد الدبابير دون دفاع أو هروب[5].
وبعيداً عن هذه المشكلة نجد ان الكائنات الحية غنية بالكثير من الوظائف المعقدة، ومن الصعب ان نرى فيها نوعاً من التدرج والقابلية على الاختزال وفق ما يعمل به الانتخاب الطبيعي.
فمثلاً أقرّ داروين بمشكلة الأعضاء الجسدية الكهربائية لبعض أنواع الأسماك، فكيف تطورت بالتدريج؟ وما هو سلفها المشترك؟ وأقرّ بأننا لا نعرف عنها إلا القليل. كذلك مشكلة الأعضاء الجسدية المضيئة لدى بعض الحشرات بما يشابه الأعضاء الكهربائية لدى الأسماك[6]. أيضاً الحالة المدهشة في طيران التناسل لدى حشرة اليعسوب، فالأجهزة لدى ذكوره لا نظير لها في أي مكان من المملكة الحيوانية، كما انها غير مشتقة من أي أعضاء سابقة، لذا فنشوئها غامض، كالذي صرح به الجيولوجي وعالم الحشرات روبرت جون تيليارد Robert John Tillyard [7].
وتعتبر هذه الحالات محدودة للغاية وسط بحر من حالات التراكيب المدهشة والغريبة ومثل ذلك الغرائز. ولحد الآن لا يوجد لها تفسير يمكن ان يوضح كيفية نشوءها بالتدريج وفق قانون الانتخاب الطبيعي.
نموذج العين البشرية
على صعيد التركيب البنيوي سنكتفي بمثال العين البشرية التي أبدى داروين حولها شيئاً من الحيرة والتردد. ففي (أصل الأنواع) اعترف بأن تكونها عن طريق الانتخاب الطبيعي يبدو كشيء مناف للعقل إلى أقصى درجة، وأشار إلى ان فحوى الاعتراضات المتعلقة بها، هي انه لكي تتطور العين ويُحافَظ عليها سوف يكون من الضروري ادخال الكثير من التعديلات في وقت متزامن، الأمر الذي يتنافى مع قدرة الانتخاب الطبيعي[8]. لكنه هوّن المسألة عن طريق التدرج في تطور التعقيدات المفيدة.
وأكد في هذا الصدد على انه لا يستهدف البحث في نشأة العضو البسيط الحساس للضوء؛ مثلما لا يستهدف البحث عن نشأة الحياة ذاتها، واعتبر انه لا يبدو مستحيلاً ان عناصر حساسة معينة موجودة في أحشاء العين قد تتجمع وتتطور إلى أعصاب موهوبة بهذا الوعي الخاص[9].
وقد يوحي عدم اهتمام داروين في البحث عن العضو البسيط الحساس للضوء؛ بأنه بسيط غير معقد كما هو تصور عصر القرن التاسع عشر، في حين يُعرف اليوم ان هذا العضو يمتلك تركيباً وظيفياً معقداً جداً للرؤية، كما يظهر ذلك عند مرور فوتون الضوء لأول مرة بالشبكية، الأمر الذي جعل الكيميائي الحيويي مايكل بيهي Michael Behe يقوم بشرح هذه العملية واعتبرها من النظم غير القابلة للاختزال[10].
على ان أبسط عين وجدها داروين في عالم الحيوانات لا يتعدى تكونها من عصب بصري محاط بخلايا صبغية ملونة ومغطاة بجلد شفاف من دون عدسة. فمثلاً ان لحيوان الرميح البحري عين تتألف من كيس من الجلد الشفاف المزود بعصب والمبطن بالصبغة. وأشار إلى ان هناك ما هو أبسط من ذلك طبقاً لما نشره جوردين، حيث وجود تجمعات الخلايا الصبغية الملونة، ويبدو انها تستخدم كأعضاء ابصار من دون أعصاب، وهي تستعمل للتمييز بين الضوء والظلام فقط[11].
ورغم ان داروين حاول في (أصل الأنواع) التهوين من مشكلة التعقيد الحاصل في تركيب العين من خلال البحث عن البسائط، لكنه اعترف خارج الكتاب باحساسه بالقلق ازاء نظريته. فخلال فبراير (شباط) من عام 1860 بعث رسالة إلى عالم النبات الأمريكي أسا غراي عبّر فيها عن شكّه بقوله: ‹‹تصيبني العين حتى يومنا هذا بقشعريرة باردة››[12].
وبعد ثلاثة أشهر من رسالته السابقة بعث بأخرى إلى أسا غراي؛ ضمّنها القول بأنه لا يرى ضرورة للاعتقاد بأن العين مصممة بشكل صريح[13].
وعوّل في اعتقاده هذا على ذات المبدأ الذي انتهجه في تفسير تطور الكائنات الحية وأعضائها المعقدة، فرأى انه رغم تعقيدها المدهش لدى الانسان وسائر الفقريات إلا انه يمكن تفسير تخلّقها من خلال لحاظ طيف الاختلاف بين أعين الحيوانات من أبسطها تركيباً وحتى أعلاها. وهو بذلك طرح كلاماً عاماً دون الدخول في التفاصيل، إذ معلوم انها في غاية التعقيد ومن الصعب اختزالها، ويمكن ان تنطبق عليها قاعدة مايكل بيهي في "التعقيد غير القابل للاختزال".
وثمة من اعتبر جواب داروين ذكياً، فهو قد نقل التتبع من الاطار الزمني إلى الاطار المكاني، حيث العالم اليوم يشهد تراوحاً لأطياف العين من أقصى البداية إلى أعظمها تعقيداً[14].
ومعلوم ان في الحيوانات يوجد ما لا يقل عن أربعين نوعاً من الأعين المستقلة التي تختلف في أشكالها وتعقيدها، وان من الصعب تماماً ايجاد سبيل للربط فيما بينها بطرق تدرجية كما ينتهجها الانتخاب الطبيعي. لذلك استشهد الناقد المتميز ميفارت بما عرضه السيد مورفي من صعوبات تتعلق بالتطور البصري للعين، حيث انه يبدأ من نقاط انطلاق مختلفة ويستمر عبر طرق مستقلة[15].
واليوم تم التعرف على ان جميع الأعين الأربعين المشار اليها تخضع لنفس الجين التنظيمي بما يُعرف بـ "PAX6".
وثمة من حاول شرح كيف يمكن للعين ان تتطور عبر الطفرات والانتخاب الطبيعي، مثل محاولة عالم الوراثة جابريل دوفر Gabriel Dover من كمبردج، وكما قال: ‹‹افرض انه يلزم 1000 خطوة من التطور حتى تتطور العين من لا شيء، سيعني هذا ان تتالياً من 1000 تغير وراثي يلزم لتحويل رقعة جلد عارية إلى العين››.
وعلق ريتشارد دوكينز على ذلك في (صانع الساعات الأعمى) الصادر عام 1986 بقوله: ‹‹وهذا فيما يبدو لي افتراض مقبول جدلاً، حيث يمكن للانتخاب الطبيعي ان يرد ذلك إلى أبسط أشكاله، حيث ان الطفر سيقدم في كل خطوة واحدة من الخطوات الألف عدداً من البدائل، ولا يحبذ الانتخاب منها إلا واحداً يساعد على البقاء››[16].
كما حاول دوكينز ان يحلل هذا التعقيد نافياً وجود نظم غير قابلة للاختزال، بل واعتبر انه لو وجدت مثل هذه النظم فسوف يكف عن الإيمان بالداروينية. وعلى رأيه انه توجد على الدوام توسطات في الأعضاء ووظائفها لدى الكائنات الحية، وهي ما تدل على التدرج، كما في الأعين والآذان والأجنحة والأطراف وغيرها[17].
لذلك شرح حصول التعقيد في العين بأن تنشأ مباشرة من شيء يختلف قدراً بسيطاً عنها، وهذه عن غيرها بقدر بسيط آخر، وهكذا.. وافترض كل شبيه بأنه (س)، فهناك تغيرات طفيفة جداً بين (السينات) المتجاورة، لكن عندما تبتعد (السينات) عن الأصل فإنها تكون مختلفة بشكل واضح، وهكذا حتى يمكن في هذه الحالة ان تكون العين قد جاءت من العدم. لذلك اعتبر للعين قابلية على التطور التدريجي والتكامل، فقد يكون الابصار عبارة عن 5%، وقد يوجد كائن يبصر أو يتحسس بهذا القدر من النسبة. ومن ذلك ان هناك قابلية للرؤية البسيطة جداً من دون عدسة العين، وهو دليل على امكانية التطور التدريجي[18].
ويتضح مما سبق ان نهج دوكينز في (صانع الساعات الأعمى) لم يتجاوز عصر داروين الذي لم يشهد اكتشاف الجينات والبروتينات والجزيئات الخلوية الأخرى ودورها في تركيب البنى المعقدة. كما لم تقدم هذه الطريقة كيفية حصول التطور بالتدريج من 5% للابصار فما فوق، فواقع الأعين في عالم الأحياء لا يبدو على هذا النحو الساذج، فقد تجد بعض الأعين معقدة للغاية منذ زمن الانفجار الكامبري دون ايضاح كيف تشكّلت مثل هذه البنى في مدة قصيرة جداً، بل وما هي الأعين التي تدرجت حتى بلغت هذا الحال من التعقيد؟ كما هو حال أعين رأسيات القدم مثل الحبار والاخطبوط التي تتميز بامتلاكها عدسة وقرنية وشبكية وغيرها من الأجزاء المشابهة لما في العين البشرية.
لذلك ذهب العديد من العلماء، إلى ان العين وغيرها من الأعضاء المعقدة، بدلاً من ان تتطور من أعضاء أبسط تركيباً بالتدريج كما رأى داروين، فإنها وثبتْ إلى الوجود في لحظة واحدة خارقة، كالذي اعتقده الكيميائي الحيوي ليسلي اورجيل Leslie Orgel خلال سبعينات القرن العشرين[19]. ومثل ذلك ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بوجود تعقيد لا نهائي لدى الأعضاء الحيوية كما في مثال العين[20].
لقد جادل عالِم الأنثروبولوجيا الفيزيائية الأمريكي جيفري شوارتز Jeffrey Schwartz في كتابه (أصول مفاجئة Sudden Origins) عام 1999، بأن علماء البايولوجيا قادرون على شرح البنى المعقدة كالعين بالاستناد إلى الطفرات التي تصيب جينة هوكس hox gene وحدها. كما أصر على القول بأن جينات هوكس هي التي تقوم بتشكيل العين. وعند تشغيل إحداها في الموضع المناسب والوقت المناسب فسيحصل الفرد على عين. واعتبر أيضاً ان الطفرات في هذه الجينات تساعد على ترتيب الأعضاء لتشكل المخططات الجسدية. لكن عالِم الأحياء النظرية ابرش ساتماري في مراجعته لكتاب شوارتز رأى انه قد اخطأ في تجاهل حقيقة ان جينات هوكس هي جينات انتقائية لا يمكنها القيام بشيء إذا لم تكن جينات أخرى تنظمها موجودة[21].
كما قدّم عدد من الباحثين محاولات لشرح تطورات العين من خلال المحاكاة الحاسوبية. ففي عام 1994 قام دان إريكس نيلسون وزميلته بيلجر ببعض الحسابات التي تظهر تطور العين المعقدة من بقعة من الخلايا المستشعرة للضوء في أقل من (400 الف) سنة حسب البرمجة الكومبيوترية. وفي عام 2003 فضح الرياضي ديفيد بيرلنسكي Berlinski David تلك الطريقة القائمة على النموذج الحاسوبي وعبر عنها بالفضيحة العلمية.
وفي عام 2004 هناك من ادعى محاكاة كومبيوترية لشكل نموذج العين بالتغير عشوائياً وفق تجربة نيلسون وزميلته بيلجر[22].
لكن نُقدت جميع هذه المحاولات القائمة على المحاكاة الحاسوبية لتطور شكل العين؛ باعتبارها تتجاهل دور الجينات والبروتينات والعوامل الجزيئية الأخرى، كالذي أشار اليه مايكل بيهي في كتابه (تراجع داروين)[23].
شبهة نقص العين البشرية
إن من ضمن التبريرات التي قُدمت لاثبات تطور العين بعيداً عن يد التصميم الذكي، هو ان تركيبها يعاني من بعض العيوب، ففي عام 1986 اعتبر دوكينز ان شبكة أعيننا وأعين الفقريات جميعاً تعاني من عيب يتمثل في ان الخلايا الضوئية موجودة ليست باتجاه الضوء، بل بعيدة عنه، في حين ان الاسلاك الموصلة هي أقرب للضوء، فيما يفترض ان تكون بعيدة عنه إلى الوراء. ورأى ان ذلك يجعل الرؤية تعاني بعض الضعف والتشويه[24]. إذ كيف يناسب ان تكون الاسلاك الموصلة أقرب للضوء؛ فيما الخلايا الضوئية بعيدة في الخلف؟
واستعرض الباحث جوناثان ويلز من معهد دسكفري للتصميم الذكي ايقونة المحاولات التي تنتقص العين رغم وجود بعض الاكتشافات الدالة على خطأ ذلك. فبعد ست سنوات من كتابة دوكينز عن نقص عين الانسان عام 1986 تبعه عالم البايولوجيا التطورية جورج ويليامز George Williams بنفس الايقونة، فأكّد على وجود نقطة عمياء، معتبراً أنه إذا كانت العين مصممة فهي مصممة بغباء. كذلك في عام 1994 كتب عالم الأحياء الجزيئية كينيث ميلر بأن عين الانسان مصممة بشكل سيء، وذكر المشكلة بما لا يختلف عما ذكره دوكينز.
واستمرت ايقونة عيوب العين البشرية والفقريات لدى الكتابات المعاصرة، ومنها ما جاء في الكتب الشعبية للبايولوجي الأمريكي ناثان لينتس Nathan H. Lents[25].
وتذكّر مثل هذه الاشكالات بما سخر منه الفلكي المعروف كارل ساجان من موقع الأرض لأنه خلفي منعزل في المجرة.. لكن مع تقدم العلم تبين ان الأرض لا يمكن ان تكون قريبة من المركز، وان موقعها الخلفي هو موقع مثالي[26].
وعودة الى ما قبل الاشكالات التي عرضها دوكينز قرابة منتصف الثمانينات وبقية العلماء الذين كرروا نفس الايقونة من وجود نقص في العين البشرية. فقبل عقدين من طرح دوكينز لاشكالاته على العين البشرية، وبالذات في عام 1967 تم اثبات ان وضع العصي والمخاريط الحساسة للضوء جاءت في موقعها السليم، وليس كما يدعيه التطوريون. ومن ذلك تفسير لماذا لا ينبغي ان تكون العصي والمخاريط الحساسة للضوء أمام الشبكية؟ إذ في هذه الحالة ستتقدم الشعيرات المملوءة بالدم والطبقة الطلائية الصبغية أمام الشبكية فتحجب الضوء كله تقريباً[27].
كذلك ظهرت دراسة تعود إلى ما قبل اشكالات دوكينز بسنتين (عام 1984) لفريق بايولوجي ايطالي؛ أوضحوا فيها انه لا يوجد نقص في أعين الفقريات، بل النقص في أعين رأسيات القدم مقارنة بالأولى.
كما كشفت دراسة أخرى عام 2009 بأن الشبكية المعكوسة لدى الفقريات هي أفضل من شبكية رأسيات القدم[28].
وفي عام 2007 قدّم فريق من الفيزيائيين وعلماء الأحياء بحثاً كشفوا فيه عن أن الضوء لا يمر عبر طبقات الخلايا للوصول إلى شبكية العين، بل تعمل بعض الخلايا كأسلاك ألياف ضوئية حية لتوجيه الضوء من سطح البنية مباشرة إلى قضبان الشبكية ومخاريطها. ثم أظهرت دراسة لاحقة أن أسلاك الألياف الضوئية تعمل بالفعل على تحسين الرؤية أثناء النهار دون التضحية بجودة الرؤية الليلية[29].
أخيراً استشهد مايكل بيهي بما صرح به موقع أخبار العلوم Phys.org حول ما تقدّم من أن وضع المستقبلات الضوئية خلف شبكية العين هو ‹‹ليس قيداً على التصميم؛ بل هو ميزة التصميم››. كما أن الشكاوى التي ترى من المناسب للعين الفقرية أن يكون لها موصلات عصبية خلف العين، كما تفعل رأسيات القدم كالأخطبوط، هي "حماقة" فعلاً[30].
ويعتبر دوكينز أبرز من توهم بهذا النوع من التفضيل، وكما صرح بأن أعين الأخطبوط تشبه أعيننا كثيراً، لكن أسلاكها التي تخرج من خلاياها الضوئية لا تتجه أماماً ناحية الضوء مثلما هي عندنا. فهي بذلك أفضل مما لدينا، أو انها أكثر معقولية[31].
وقد رد الباحث ريتشارد لومسدين Richard Lumsden على شبهة العيب في تركيب العين البشرية مستهزئاً بقوله: إننا محظوظون بالفعل ان دوكينز لم يُكلّف بتصميم أعيننا[32].
[1] أصل الأنواع، ص299.
[2] المصدر نفسه، ص430ـ2.
[3] المصدر نفسه، ص432ـ9.
[4] المصدر نفسه، ص326.
[5] التطور: نظرية في أزمة، ص274ـ5.
[6] للتفصيل انظر: أصل الأنواع، ص305ـ7.
[7] التطور: نظرية في أزمة، ص270ـ1.
[8] أصل الأنواع، ص296.
[9] المصدر نفسه، ص293ـ4.
[10] مايكل بيهي: التدليل على التصميم في أصل الحياة: ضمن العلم ودليل التصميم في الكون، ص123ـ7.
[11] أصل الأنواع، ص295ـ7.
[12]https://www.darwinproject.ac.uk/letter/?docId=letters/DCP-LETT-2701.xml&query=Gray%201860
[13] https://www.darwinproject.ac.uk/letter/DCP-LETT-2814.xml
[14] مايكل ريوس: تشارلس داروين، ص52.
[15] George Jackson Mivart, On the genesis of species, 1871, p. 52. Look:https://ia800207.us.archive.org/29/items/Mivart1871gk14P/Mivart1871gk14P.pdf
[16] الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص414 وما بعدها.
[17] المصدر نفسه، ص131ـ2.
[18] المصدر نفسه، ص113ـ8.
[19] المصدر نفسه، ص332.
[20] هنري برجسون: التطور الخالق، ترجمة محمد محمود قاسم، المركز القومي للترجمة، مصر، 2015م، ص86.
[21] شك داروين، ص505ـ6.
[22] للتفصيل انظر: العلم الزومبي، ص182ـ7.
[23] Michael J. Behe, Darwin Devolves, 2019, p.175. Look:https://b-ok.africa/book/3701154/a58178
[24] الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص135.
[25] العلم الزومبي، ص192ـ8.
[26] حافة التطور، ص272.
[27] العلم الزومبي، ص193ـ5.
[28] المصدر نفسه، ص197.
[29] Michael J. Behe, 2019, p. 39-40.
[30] John Hewitt, Fiber optic light pipes in the retina do much more than simple image transfer, Phys.org, 2014. Look:Fiber optic light pipes in the retina do much more than simple image transfer (phys.org)
[31] الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص137ـ8.
[32] Richard D. Lumsden, Not So Blind a Watchmaker, 1994. Look:http://www.public.asu.edu/~jmlynch/origins/documents/lumsden1994.pdf