-
ع
+

الداروينية الجديدة ومنافساتها (1)

يحيى محمد

كان معظم علماء التطور قبل داروين من دعاة النظرية الوثبية. ومنذ ظهور (اصل الانواع) عام 1859 وحتى بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر تضاءل الاعتقاد بها لصالح نظرية داروين في التدرج والانتخاب الطبيعي. لكن بعد وفاة الاخير اصبح الاهتمام بالنظرية الوثبية عظيماً، الى جنب عدد من الاتجاهات التطورية، كاللاماركية وغيرها، كالذي فصل الحديث عنها بيتر بولر Peter Bowler في كتابه (كسوف الداروينية The Eclipse of Darwinism) خلال فترة حددها بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وتتمثل الاتجاهات المضادة للداروينية في هذه الفترة بكل من: التطور الموجه والوثبية واللاماركية المعاد احياؤها. لكن بعد منتصف القرن الماضي ظهرت نظريات اخرى، كالنظرية المحايدة نهاية الستينات، وبعدها بسنوات قليلة نشأت نظرية التوازن المتقطع. وكل هذه النظريات جاءت لتحل محل فكرة الانتخاب الطبيعي، وانكار المبالغة في تأثيره او جعله هامشياً، كما سنعرف..

التطور اللاماركي الجديد

يؤرَّخ للاماركية الجديدة New Lamarckism بأنها ولدت عام 1883 وما زال بعض آثارها موجودة حتى يومنا الحالي. واشتهر الكثير من أتباعها في بريطانيا واوربا[1]. وبحسب بيتر بولر فإن شعبية اللاماركية بلغت ذروتها في تسعينات القرن التاسع عشر، لكن درجة نجاحها تباينت من بلد إلى آخر. وكانت المدرسة الأكثر تماسكاً قد ظهرت في أمريكا، كما اعترف بذلك الكتّاب الفرنسيون[2].

والفكرة التي حملها اللاماركيون هي ان الانتخاب الطبيعي لا يفسر أصل التغايرات والتطور، وانما يلعب دوراً هامشياً في التكيفات الدقيقة. وقد ركزوا على دور الظروف البيئية في اظهار التغايرات التي تحتاج إلى توجيه؛ خلافاً لداروين القائل بالتغايرات غير الموجّهة، ومالوا إلى الرأي القائل بأن الاتجاهات التطورية التي تعمل على المدى الطويل تكون خطية، حيث تسببها ظروف بيئية ويسوقها التعود، ثم يتم توارث ما ينتجه هذا التعود، أو الاستعمال وغير الاستعمال.

فمثلاً ان عالم التاريخ الطبيعي باكارد Packard، وهو من اللاماركيين الجدد، قام بتفسير فقدان الرؤية للحيوانات القاطنة في الأماكن المظلمة بسبب عدم استعمال عضو الرؤية، واعتبر ذلك أقرب إلى الحقيقة من الانتخاب الطبيعي[3].

وحقيقة ان هذا التفسير هو أيضاً ما تبناه داروين في (أصل الأنواع) تعويلاً على نظرية لامارك.

لكن وفقاً لريتشارد دوكينز فإن علم الأجنة قد قضى على مبدأ لامارك في توريث الصفات المكتسبة، تعويلاً على ان الجينات ليست طبعة (زرقاء للمخطط) بحيث انها تطابق ما سيحدث في النمو، بل هي وصفة تعليمات. ولو كانت طبعة لكان الانسان مثلاً موجوداً ككائن مجهري في البيضة المخصبة ولا يحتاج إلا إلى النمو وزيادة الحجم. في حين توجد وصفة تعليمات جاهزة لترتيب ما سيسفر عليه الحال من اكتمال الجنين، وهناك تعليمات لتنشيط الجينات لكل بحسب وقته للعمل. وهذا ما يتنافى مع توريث الخصائص المكتسبة لاتساقها مع نظام الطبعة وليس الوصفة التعليمية[4].

وعلى خلاف ذلك ظهرت محاولة تستعيد الاعتبار للآليات اللاماركية، كالذي جاء في كتاب (الوراثة اللاجينية والتطور: البعد اللاماركي) عام 1995 للباحثتين إيفا جابلونكاEva Jablonka  من جامعة تل ابيب، وماريون لامب Marion Lamb من جامعة لندن. فقد اعتبرت الباحثتان كما في مقدمتهما للكتاب ان كلاً من الداروينية الجديدة واللاماركية الجديدة مهمة في التطور، وان الأولى ليست مكتملة إذا ما تم تجاهل الآليات اللاماركية، مثل الوراثة اللاجينية والانتقال السلوكي. وهذا يعني ان النظم الوراثية لا تقتصر على نشاط الحامض النووي الدنا (DNA) وجيناته التعليمية، كما هي الفكرة السائدة، بل يضاف اليها نظام الوراثة اللاجينية كما في البنى فوق الجينية التي تلعب دوراً هاماً في التوريث، وانها مسؤولة عن نقل الوظائف والخصائص الهيكلية للخلايا، وهي تمكّن الخلايا ذات الأنماط الجينية المتطابقة من اكتساب ونقل أنماط ظاهرية مختلفة، ومنها الانتقال الثقافي والسلوكي بين الأجيال.

لهذا اعتبرت الباحثتان ان الوراثة اللاجينية مهمة في التطور، ويمكن ان تكون تأثيراتها غير مباشرة على الانتواع عن طريق تحفيز التغيرات الجينية، بل وقد تشكل العامل الرئيسي للانتواع، وان الاختلافات الوراثية فوق الجينية يمكن ان يكون لها أهمية في تأثير المراحل الأولى من الانتواع لدى الكائنات الحية. وقد كانت الفكرة القديمة تقول بأن الحامض النووي للجينات هو الناقل الوحيد للمعلومات الوراثية، لكن الباحثتين اعترضتا على هذه الفكرة لثبوت انها غير صحيحة، وأشارتا إلى ان قبول مفهوم أوسع للوراثة - بتضمن نظم وراثية متعددة - سيكون له عواقب بعيدة المدى لفهمنا للعمليات التطورية[5].

وبلا شك يعتبر هذا الاتجاه منسجماً مع الاكتشافات المتعلقة بدور البنى فوق الجينية في النماء الجنيني، كالذي سبق اليه علم الأحياء النمائي التطوري (الايفو ديفو evo-devo).

ووفق ما ذكرته الباحثتان فإن علماء الأجنة ووظائف الأعضاء اعتقدوا بأنه حتى لو كانت العوامل المندلية في النواة مسؤولة عن الخصائص الفردية والعرقية، فإن العوامل الوراثية غير المندلية الموجودة في السايتوبلازم هي المسؤولة عن السمات التي تحدد الجنس والأنواع التي ينتمي اليها الحيوان. كما اعتقدتا بأن السايتوبلازم المرن الذي تنشط فيه العوامل غير المندلية يسمح بوراثة السمات المكتسبة اللاماركية. وبحسب الباحثتين انه عندما يتم النظر في النظم اللاجينية تكون البيئة أكثر من مجرد عامل انتخابي، فهي أيضاً محفز لتغيرات وراثية معينة[6].

وبعد عقد من الدراسة السابقة ظهر للباحثتين كتاب آخر على ذات المسار بعنوان (التطور في أربعة أبعاد) عام 2005. وفيه اعتبرتا ان التطور مدين إلى أربعة عوامل أساسية، هي: الجينية واللاجينية والسلوكية والرمزية (genetic, epigenetic, behavioral, and symbolic)، ومن ثم وجّهتا نقداً للنظرية الداروينية الجديدة التي وضعت اصبعها على عامل واحد فقط هو العامل الجيني الذي يشتغل عليه الانتخاب الطبيعي. في حين توجد ثلاثة أبعاد أخرى مختلفة، هي البعد اللاجيني، كما في نقل المعلومات من خلايا الأم إلى الوليدة من دون الحامض النووي الدنا (DNA). كذلك البعد السلوكي، كما في المعلومات التي تنقلها العديد من الحيوانات لغيرها بالوسائل السلوكية. وأيضاً الوراثة القائمة على الرمز، كما في اللغة التي لها دور جوهري في تطورنا.

وقد تركز محور الكتاب على الجانب الوراثي من خلال محاولة اثبات أربع نقاط أساسية هي كالتالي:

1ـ في الوراثة ما هو أكثر من الجينات.

2ـ بعض الاختلافات الوراثية غير عشوائية في الأصل.

3ـ بعض المعلومات المكتسبة وراثية.

4ـ يمكن ان ينشأ التغير التطوري من التعليمات الداخلية الموجّهة، مثلما ينشأ من الانتخاب الطبيعي[7].

التطور الموجّه

إن من بين النظريات المنافسة للداروينية فكرة "التطور الموجّه Directed Evolution"، وهي فكرة تمتزج عادة مع التطور الوثبي، كما امتزجت أيضاً مع اللاماركية فضلاً عما تتبناه النظرية الخلقوية. وهي اطروحة شائعةقبل داروين وبعده حتى بداية القرن العشرين، واشتهرت لدى علماء الأحافير وفقاً لما يدل عليه السجل الاحفوري من فجوات كبيرة، لذلك كانت موضع تأييد هؤلاء العلماء. ومن القدماء الذين أيدوا هذا النوع من التطور العالمان الحفريان الأمريكيان إدوارد درينكر كوب Edward Drinker Соре، وألفيوس هيات Alpheus Hyatt، كما منهم من ينتمي إلى اللاماركيين الجدد؛ مثل عالم الحيوان الالماني تيودور ايمر Theodor Eimer، والذي جمع بين فكرة اللاماركية والنزعة الموجّهة.

ويمتاز هذا النوع من التطور بأنه يركز على أهمية النزعة الداخلية للتحول باتجاه معين، لكن من دون تشخيص من الذي يقوم بهذا التوجيه. فمثلاً ان تيودور ايمر نفى ان يكون الرب هو الموجّه، كما انه ليس من ضرورات التكيف ولا علاقة له بالانتخاب الطبيعي والحاجات البيئية. والمثال البارز حوله ظبي الإلك الايرلندي، فقرونه تنمو نمواً مفرطاً بحيث تبدو كأنها حكمت على النوع بالانقراض الحتمي[8].

حتى ان صديق داروين توماس هنري هكسلي كان يرى التغيير الذي يحصل في الكائن الحي، مهما كان دقيقاً وعرضياً من حيث الظاهر، لا يمكن تصوره إلا كتعبير عن وجود قوى مقيمة داخل الكائن الحي تعمل وفق قوانين محددة، لذلك اعتبر ان الحوت «لا يميل إلى توليد الريش، ولا الطائر يتجه إلى تكوين عظمة الحوت»[9].

وهو الحال الذي أيده مايكل دنتون واستدل عليه بالسجل الاحفوري الذي وثّق نزعات طويلة الأمد وحيدة الاتجاه لا يبدو ان لها أي استخدام تكيفي مباشر للأنواع المتعاقبة.

كما ظهرت على هذا الصعيد اقتراحات وتجارب عديدة حاولت اثبات التطور الموجّه من خلال الطفرات التكيفية الموجّهة.

فمن الناحية التاريخية سبق لعالم الأسماك الروسي ليف بيرج Lev Berg ان اقترح بداية القرن العشرين وجود طفرات جماعية موجهة باعتبارها الآلية الرئيسية للتطور، كما في كتابه (التطور المنظم بالقانون Nomogenesis) عام 1922. وقد جمع فيه قدراً كبيراً من البيانات التجريبية التي قدمت نقداً قوياً لنظرية داروين[10].

كما أجرى علماء الوراثة الألمان دراسات مبكرة عن "الطفرة الموجّهة". وادعى عالم الوراثة الالماني المعروف ريتشارد جولدشميدت GoldschmidtRichard أنه قدّم دليلاً على حدوث طفرة موجهة عام 1929، كما في تجاربه على ذبابة الفاكهة المعرضة لدرجات حرارة مرتفعة. وفي الثلاثينات أجرى فيكتور جولوس Viktor Jollos تجارب على ذبابة الفاكهة، وكتب أن نتائجه أكّدت عمل جولدشميدت في وجود دليل على حدوث طفرة موجّهة على عكس الانتخاب الطبيعي.

لكن بقيت هذه التجارب والاقتراحات غير مفضلة مقارنة بالعمل وفق آلية الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، واستمر هذا الحال حتى ثمانينات القرن العشرين. وفي عام 1988 تمكّن الباحث جون كيرنز John Cairns لأول مرة من رصد طفرة موجّهة لدى بكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli)، عند إخضاعها لظروف بيئية قاسية.

فقد تمّ زرع هذه البكتيريا في وسط غني بسكر اللاكتوز، وهو وسط لا تستطيع معالجته وفق آلياتها الجينية الاعتيادية. لكن المفاجأة كانت أن قرابة (20%) منها خضعت لتحوّرات مكّنتها من إعادة تشفير جينومها، وتعديل بنيته بما يتيح لها استغلال المورد الجديد المحمل باللاكتوز المركز. بل إن الأدهى أن هذه الطفرات التكيفية استمرت بالظهور حتى عندما تمّ نقل البكتيريا إلى وسط مختلف يحتوي على أدنى مستويات اللاكتوز، مما يشير إلى آلية استجابة داخلية نشطة تتجاوز التفسير الكلاسيكي للانتخاب الطبيعي، كما لا يمكن تفسيرها وفق المصادفات والعشوائية.

وقد فسّر كيرنز وزملاؤه هذه الظاهرة على أنها ناجمة عن تلف في الحامض النووي (DNA) استدعى استجابة إصلاحية نشطة، تمثّلت في موجة من الطفرات الموجّهة. وقد اعتُبر هذا "التحول المفرط" غير قابل للفهم إلا من خلال فرض آليات تنظيمية داخلية في الجينوم ذاته، مما يُضعف من فكرة الطفرات العشوائية بوصفها العامل الرئيس.

وقد شكّلت هذه النتائج حينها صدمة فكرية كبرى داخل المجتمع العلمي، وأثارت موجة من الجدل بين دعاة الاتجاه التقليدي ومناصري الرؤى الجديدة في علم الأحياء الجزيئي[11].

ومعلوم ان العلماء عادة ما يفسرون مقاومة البكيتريا للمضادات الحيوية استناداً إلى الانتخاب الطبيعي، في حين ان هذه المقاومة هي أقرب إلى التغيرات الموجّهة لدى تنظيم حامض الدنا (DNA) بما يجعل البكتيريا قابلة للمقاومة.

وربما لا يكون للانتخاب الطبيعي أي تأثير، بل ولا حتى وجود، فهو قوة مفترضة رغم انها غامضة، وقد لا تتعدى شكل التكيف الذي تمنحه القوى الداخلية للكائن الحي في مواجهة البيئة، وهي بهذا المعنى تعبّر عن "القوة الموجّهة" دون حاجة لافتراض فكرة غامضة مثل "الانتخاب الطبيعي".

لقد تعاظم تأثير التطور الموجّه منذ ثمانينات القرن العشرين فصاعداً، خاصة بعد الاكتشافات المتواصلة الخاصة بالجزيئات الخلوية العملاقة منذ مطلع النصف الثاني لهذا القرن، حيث بدأت مشاكل جديدة جعلت الداروينية تصاب بالضعف، وبدأ الاعتراض عليها خلال الستينات من قبل علماء يعودون إلى تخصصات مختلفة، كما يظهر حال ذلك في مؤتمر ويستار المنعقد عام 1966، والذي تأثر به جملة من العلماء، لا سيما أنصار التصميم الذكي. ومن ثم أصبح التطور الموجّه يمثل التهديد الأعظم للنظرية الداروينية دون بقية أنواع مذاهب التطور.

وحديثاً قدّم مايكل دنتون بعض الأدلة على هذا النوع من التطور بما يؤيد البنيوية المستندة إلى تأثير الأسباب الداخلية على التحول، فافترض وجود نزعات داخلية طويلة الأمد، على مدى ملايين أو مئات الملايين من السنين أحياناً، وهي تظهر على شكل تغير مستمر وحيد الاتجاه لدى جميع افراد سلالات معينة. لذلك اعتبر انه لا يمكن تفسير هذا التغير الثابت ووحيد الاتجاه بمفاهيم داروينية، حيث بحسبها تتشكل الكائنات الحية بفعل الانتخاب التراكمي لتلبية الانتفاع اليومي المباشر فقط. ومن أجل تفسير هذه النزعات من ناحية داروينية يجب التسليم بافتراض غير معقول بوجود محددات اصطفائية ثابتة عملت على جميع أفراد السلالة المتعاقبين والمختلفين على مدى ملايين السنين ضمن بيئات مختلفة[12].

التطور الوثبي

عادةً ما يُلحق التطور الموجّه بـما يُعرف بـ "النظرية الوثبية Saltation Theory"، وهي النظرية التي استعادت زخمها في تسعينات القرن التاسع عشر واستمر تأثيرها حتى أواخر ثلاثينات القرن العشرين، خصوصاً عقب اكتشاف قوانين الوراثة المندلية. فقد رأى أنصار هذه النظرية أن الوراثة كما بيّنها مندل تنسجم أكثر مع مبدأ القفزات الوراثية (الوثب)، لا مع التصور الدارويني القائم على الانتخاب الطبيعي والتدرج التطوري البطيء.

وكان داروين نفسه قد تطرق إلى فكرة التطور الوثبي، لكنه انتقدها معتبراً أنها لا تختلف كثيراً عن فكرة الخلق المستقل، إذ تفتقر - بحسب رأيه - إلى تفسير علمي واضح، رغم إقراره في موضع آخر بأن تبني هذا الرأي يمنح قدراً ضئيلاً من الفائدة[13]. والمفارقة أن داروين في بداياته قد تبنّى هذه الفكرة الوثبية قبل أن يتخلى عنها لاحقاً بشكل نهائي في إطار تصوره للتدرج والانتخاب الطبيعي[14].

وكان من أبرز المعترضين على داروين والداعين إلى التطور الوثبي، القديس جورج جاكسون ميفارت George Jackson Mivart الذي وُجهت على يده واحدة من أقوى الانتقادات لنظرية داروين، لا سيما فيما يتعلق بقدرة الانتخاب الطبيعي على تفسير التعقيد الحيوي.

لقد اعتقد ميفارت ان ظهور الأنواع الجديدة يحصل بطريقة تحورات مفاجئة تأتي على الفور، مثل ظهور جناح أي طائر بشكل فجائي، ومثل ان الهيباريون - وهو حيوان منقرض له ثلاثة أصابع في القدم - قد تطور إلى الحصان فجأة. ويأتي هذا التغير الفجائي بفعل قوة داخلية مجهولة لدى الكائن الحي. وكان بعض علماء التاريخ الطبيعي يوافقون ميفارت على ذلك. علماً بأن الأخير لا ينكر تأثير الانتخاب الطبيعي على الكائنات الحية، لكنه لا يعتبره كافياً لتفسير ظهور الأنواع الجديدة.

وكانت الحجة التي التزم بها ميفارت وكوفييه وغيرهما من علماء النظرية الوثبية هي ان التغير القفزي الحاصل في عضو محدد من أعضاء الكائن الحي يتناسق مع تغيرات بقية الأعضاء، ولولا هذا التناسق فسيفضي الأمر إلى هلاك الكائن الحي أو تشويهه.

لذلك أحال التدرج في التعديلات لدى أي عضو من أعضاء الكائن الحي، فلا يمكن ان نحصل مثلاً على نصف جناح أو نصف فك أو غير ذلك من التعديلات المشوهة، بل لا بد من التغيرات القفزية التامة للعضو مقترنة بالتناسق مع التغيرات الأخرى التي تحدث لدى بقية الاعضاء، وهو ما يتناسب مع افتراض وجود قوة داخلية تعمل على التعديل والتطور.

في حين ذهب داروين إلى خطأ توريط أي قوة داخلية في العملية التطورية أكثر من القابلية العادية على التمايز. كما عدّ رأي ميفارت في التطور الفجائي يقتضي فجوات كبيرة وانقطاع في التسلسل، لذلك اعتبره ضعيف الاحتمال جداً، رغم اعترافه ببعض التحويرات الشاذة، مثل ولادة ستة أصابع ليد الانسان، ومثل بعض الأعراق المدجنة التي يتدخل في تكوينها الانسان[15].

إعادة بناء نظرية ميفارت

أشرنا إلى أن نظرية القديس جورج ميفارت وغيره من دعاة النظرية الوثبية، قد تمحورت حول الإيمان بوجود قفزات نوعية مفاجئة في عملية التطور، بديلاً عن التدرج البطيء الذي تبنّاه داروين.

وقد شهدت هذه النظرية إعادة بناء منهجية بعد وفاة داروين، حين جرى ربطها بأُسس الوراثة المندلية التي وُضعت في أواخر القرن التاسع عشر، الأمر الذي منحها تفسيراً وراثياً بدا حينها أكثر اتساقاً من اعتماد التراكم التدريجي للطفرات عبر الانتخاب الطبيعي.

وقد استمرت هذه النظرة حاضرة في الأوساط العلمية حتى أربعينات القرن العشرين، ووجدت أنصاراً من بين عدد من العلماء البارزين الذين استندوا إلى قوانين منـدل، معتبرين أن هذه القوانين تدعم فكرة التطور الوثبي أكثر مما تعزّز التصور الدارويني التقليدي.

ومن هؤلاء عالم النبات الهولندي هوجو دي فريس Hugo de Vries الذي كتب في مطلع القرن العشرين كتاباً بمجلدين بالالمانية حول دور الطفرات في العملية التطورية، وسماه (نظرية الطفرة The Mutation Theory) الصادر منذ عام 1901 وحتى عام 1903، وظهرت نسخته الانجليزية عام 1909، حيث استخدم كلمة "الطفرة" الشائع استخدامها قديماً لوصف التغيرات الرئيسية المفاجئة، واعتبرها بديلة عن التطور الدارويني.

وفي كتابه أشار دي فريس إلى ان لفظة "الطفرة" قد استُخدمت في علم الاحاثة أكثر من أي علم آخر للتعبير عن الاختلافات بين الأنواع المتقاربة[16].

ومعلوم ان دي فريس صادف ان تعرف من خلال أحد زملائه على كتاب مندل في طبعته المعادة عام 1865، وكان مندل قد نشر ورقته بعنوان لا يسترعي الانتباه، وهو: (تجارب في تهجين النبات)، وكان راهباً وليس بعالم معروف، لذلك لم يلتفت أحد إلى ورقته لأكثر من ثلاثة عقود، ومن ثم اعيد اكتشافه من قبل ثلاثة علماء نبات بشكل مستقل، وهم بالاضافة إلى دي فريس كل من كارل كورينسKarl Korens  وأريك تشيرماك فون سيسنج Erik Chermack von Sessing [17].

ومما يذكر بهذا الصدد ان كارل كورينس اتهم دي فريس عام 1900 «بالاستيلاء على مصطلحات من ورقة مندل دون نسب الفضل له أو الاعتراف بأسبقيته».. لكن دي فريس نشر ورقة لاحقة معترفاً بفضل مندل «وبأن عمله هو فقط امتداد لأعمال مندل السابقة»[18].

وفي كتابه المشار اليه انتقد دي فريس نظرية داروين وآليته الانتخابية، واستشهد بعدد من العلماء الذين عارضوا هذه النظرية، وكان منهم عالم الاحاثة الأمريكي إدوارد درينكر كوب Edward Drinker Соре الذي اعتبره أول من صاغ بوضوح اعتراضات ضد عقيدة الانتخاب الطبيعي، ونقل عنه قوله بأن هذا الانتخاب يُبقي الخير ويقضي على الشر، لكن من دون جواب عن كيف ينشأ الخير[19]؟.

أي ان الانتخاب الطبيعي قد يفسر بقاء الأصلح، لكنه لا يفسر نشوءه اصلاً. وقد بقيت هذه المعضلة تواجه الداروينية حتى يومنا هذا. لذلك قيل انه لا شيء يتطور إلا إذا كان موجوداً سلفاً، لا انه يأتي بشيء جديد[20].

ويمكن التمثيل على ذلك بمن يذهب إلى الأسواق - دائماً - ليقتني فقط الأشياء الاكثر صلاحاً مع ترك غيرها مما تعتبر عاطلة أو ناقصة. وفي هذه الحالة ان الأسواق تحتوي على البضائع القديمة والجديدة ومنها الصالحة والعاطلة والناقصة، وان المحبذ هو البضائع الصالحة دون العاطلة والناقصة.  مع هذا لا يعلم مصدر هذه البضائع سواء كانت قديمة أو حديثة أو صالحة أو عاطلة أو ناقصة.

كذلك ذهب عالم الحيوان البريطاني وليام باتسون William Bateson إلى تأييد فكرة التطور الوثبي مع الالتزام بقوانين مندل في الوراثة، وهو الذي استخدم مصطلح "الجينات أو الوراثيات" لأول مرة عام 1906. وقيل ان هذا المصطلح قد اخترعه البايولوجي الدنماركي وليام جوهانسن Wilhelm Johannsen عام 1909[21].

فقد حاجج باتسون بأنه لما كانت الأنواع تنقطع بعضها عن بعض فإن التغايرات التي تنتج عنها الأنواع قد تكون متقطعة هي الأخرى، وبالتالي فالانتخاب الطبيعي ليس ضرورياً طالما يحدث التغير في قفزات كبيرة مفاجئة قد تؤدي أحياناً إلى أنواع جديدة. وكان باتسون يبدي تعجبه كيف انه تم قبول نظرية الانتخاب الطبيعي والمهارة الجدلية التي جعلت مثل هذا الفرض يبدو مقبولاً[22]، بل واعتبر سلسلة التراكمات التكيفية كما يزعم الداروينيون ما هي إلا سخافات غير متناهية[23].

وذهب إلى هذا النحو مؤسس النظرية الكروموسومية للوراثة توماس هانت مورغان Thomas Hunt Morgan، وكان يرى ان الجينات مندمجة في الكروموسومات مثل حبات اللآلي في العقد[24]، وذلك قبل ان يتبين ان الجينات ليست على هيئة حبات العقد في خيط الكروموسوم، وانما متضمنة في لولب مزدوج كثير الالتفاف حول نفسه، يدعى جزيء الدنا (DNA)[25].

وفي عام 1915 أيد عالم الوراثة ريجينالد بونيت Reginald Bonet النظرية الوثبية كما في كتابه (التقليد في الفراشات Imitation in Butterflies)[26].


[1] البايولوجيا تاريخ وفلسفة، ص61. وداروين متردداً، ص176.

[2] Peter Bowler, The eclipse of Darwinism : anti-Darwinian evolution theories in the decades around 1900, 1992, p. 79. Look:https://archive.org/details/eclipseofdarwini0000bowl_v6z4

[3] داروين متردداً، ص174ـ5.

[4] الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص395.

[5] Eva Jablonka and Marion J. Lamb, Epigenetic Inheritance and Evolution: The Lamarckian Dimension, 1995, p. 278-9 & 20. Look:https://b-ok.cc/book/930675/86ca69

[6] Ibid, p. 19 & 26.

[7] Eva Jablonka and Marion J. Lamb, Evolution in Four Dimensions: Genetic, Epigenetic, Behavioral, and Symbolic Variation in the History of Life, 2005, p. 1-2. Look:https://b-ok.cc/book/667014/5c7e79

[8] داروين متردداً، ص177.

[9] Thomas Henry Huxley, Mr. Darwin's critics, 1871. Look:https://archive.org/details/a622687300huxluoft

[10] https://en.wikipedia.org/wiki/Lev_Berg#Nomogenesis

[11] https://en.wikipedia.org/wiki/Adaptive_mutation

[12] التطور: ما يزال نظرية في أزمة، ص279ـ281.

[13] أصل الأنواع، ص769.

[14]Niles Eldredge, 2006.

[15] أصل الأنواع، ص387ـ9.

[16] Hugo de Vries, The Mutation Theory, Translated by Pro- fessor J. B. Farmer and A. D. Darbishire, 1909, p. 66. Look:https://archive.org/details/mutationtheorye02vrie

[17] ارنست ماير: هذا هو علم البيولوجيا، ص138. وداروين متردداً، ص178ـ9.

[18] https://en.wikipedia.org/wiki/History_of_genetics#cite_note-Mukherjee_ch5-19

[19] Hugo de Vries, 1909, p. 63.

[20] Douglas Axe, Undeniable: How Biology Confirms Our Intuition That Life Is Designed, 2016, p. 152-6. Look:https://b-ok.cc/book/5224492/e2c85d

[21] البايولوجيا تاريخ وفلسفة، ص105.

[22] الجديد في الانتخاب الطبيعي، ص404.

[23] التطور: ما يزال نظرية في أزمة، ص117.

[24] البايولوجيا تاريخ وفلسفة، ص109.

[25] هذا هو علم البيولوجيا، ص224.

[26] https://en.wikipedia.org/wiki/Saltation_(biology)#cite_note-9

comments powered by Disqus