يحيى محمد
نشأة الداروينية الجديدة
سبق أن أشرنا إلى أن دعاة التطور الوثبي وجدوا في اكتشاف قوانين مندل الوراثية سنداً علمياً ضد فكرتَي الانتخاب الطبيعي والوراثة المكتسبة لدى لامارك. لكن مع مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، برزت محاولات للتوفيق بين الوراثة المندلية ونظرية الانتخاب الطبيعي، بعد أن شاع الاعتقاد بالتناقض بينهما؛ إذ تتسم الوراثة المندلية بحدوث تغيرات مفاجئة، بينما يعمل الانتخاب الطبيعي وفق نمط تدرّجي بطيء.
وقد أُتيح حلّ هذا الإشكال بفضل نشوء علم الوراثة السكانية (الجمهرية) Population Genetics الذي وظّف الأدوات الرياضية لقياس التراكمات الكمية للطفرات الجينية، وتقدير مدى تأثيرها على مسار التطور العضوي. ووفق هذا العلم، أُعيد تصور العملية التطورية باعتبار أن كل طفرة تخص جيناً بعينه، مما ينعكس على صفة عضوية معيّنة، وبذلك يحدث تراكم تدريجي للطفرات المفيدة التي يُحتفظ بها عن طريق الانتخاب الطبيعي، لتنتقل وراثياً إلى الأجيال اللاحقة.
ومن هذا الدمج بين مفهومي الطفرة الجينية والانتخاب الطبيعي، نشأت ما عُرفت في بدايتها بـ"الداروينية الجديدة Neo-Darwinism". وكان من أوائل من صاغ هذا المصطلح رونالد فيشر Ronald Fisher في بريطانيا، عبر كتابه الشهير (النظرية الجينية للانتخاب الطبيعي The Genetical Theory of Natural Selection) الصادر عام 1930، كما أسهم في تطويرها سيول رايت Sewall Wright في أمريكا حين أطلق عليها اسم "النظرية التخليقية للتطور" عام 1932. كذلك ساهم هالدين J.B.S. Haldane، عالم الوراثة وفسيولوجيا الأحياء، في ترسيخ أسسها العلمية.
لكن منذ أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، أخذ "مصطلح الداروينية التركيبية الحديثة Modern Synthetic Darwinism" بالانتشار، للدلالة على نظرية أكثر تكاملاً، نشأت فعلياً في الثلاثينيات، ودمجت مفاهيم الوراثة الجزيئية والبايولوجيا السكانية بنظرية التطور الدارويني في نسختها المحدثة بشكل متجانس.
وقبل شيوع هذا المصطلح، كان العلماء يكتفون بتسمية "الداروينية الجديدة"، التي بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، خاصة مع أعمال العالم الألماني أوغست وايزمان (August Weismann)، أحد أبرز من رفضوا نظرية الوراثة المكتسبة، وأسهموا في بلورة القطيعة بين داروين ولامارك.
وكثيراً ما يُستخدم مصطلح "الداروينية الجديدة" بالمعنى ذاته الذي يُراد به "الداروينية التركيبية الحديثة"، وذلك منذ ثلاثينيات القرن العشرين فصاعداً. غير أنّه في أحيان أخرى، يُقصر استخدام المصطلح الأول على الحقبة التي امتدت من أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية عشريناته، أو يُستعمل بوصفه يشمل كل ما جاء بعد الداروينية التقليدية بإطلاق.
ومع ذلك، يرى بعض الباحثين أن نواة "الداروينية الجديدة" قد ظهرت في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، ممثلةً في نظرية عالم الحيوان الألماني أوغست وايزمان. فقد قامت أطروحته على رفض الوراثة المكتسبة، واعتماده على مفهوم الطفرة، وعبّر عن رؤيته بمصطلح "استمرارية البلازما الجرثومية Germ-Plasm Continuity"، أي انتقال الصفات الوراثية عبر الأجيال من خلال مادة جزيئية موجودة في نواة الخلية.
فوايزمان قد اعتقد بأن الخلايا الجنسية germ cells لا تتأثر بالمتغيرات التي تصيب الخلايا الجسمية somatic cells، ومن ثم فإن الصفات المكتسبة خلال حياة الكائن لا تُورّث. وقد لاحظ – بدقة لافتة – ما يُعرف اليوم بعملية "العبور الجيني العشوائي random crossing-over" بين الكروموسومات أثناء انقسام الخلية، قبل أن يُعاد تركيبها لتكوين الأمشاج. وفي هذه العملية، تحصل الطفرات التي تنتج عنها متغايرات جينية جديدة new allelic variants لصفات موجودة مسبقاً[1].
لهذا السبب، يُشار في بعض الأدبيات العلمية إلى أن أوغست وايزمان هو بمثابة "أب الداروينية الجديدة"، لا سيما وأنّ تصوّره هذا قد استُكمل لاحقاً بإعادة اكتشاف قوانين مندل، وبنظرية الطفرة التي كان وايزمان نفسه قد سلّم بها من قبل[2].
لقد مثّلت فترة الثلاثينيات وما تلاها لحظة حاسمة في تاريخ نظرية التطور، إذ بدأت تتحوّل إلى نظرية علمية قابلة للاختبار، متجاوزة الطابع الشعبي العام الذي اتسمت به في أطوارها المبكرة. فقد أصبح من الممكن إخضاعها للتجارب والملاحظات، وصياغة الفرضيات بشأنها، أسوة بسائر الحقول العلمية[3]، وذلك بفضل تأسيس علم الوراثة السكانية Population Genetics.
ومن هنا انبثقت ما يُعرف بـ "الداروينية التركيبية الحديثة"، وهي نظرية سعت إلى المواءمة بين مبادئ الانتخاب الطبيعي ونتائج علم الوراثة السكانية، مع الاستفادة من عدد من العلوم المساندة، مثل: علم التشكل Morphology، وعلم الأجنة Embryology، والجغرافيا الحيوية Biogeography، وعلم الأحافير Paleontology.
وقد انطلقت هذه النظرية من فرضية مفادها أن الطفرات الجينية العشوائية تمثّل المادة الخام التي يشتغل عليها الانتخاب الطبيعي، وأن التغيرات التطورية تحصل بشكل تراكمي بطيء عبر هذه الطفرات، أو ما يُعرف بـ "أخطاء النسخ" في الجينات. ومع أن غالبية هذه الطفرات تُعدّ ضارة أو محايدة، إلا أن القليل منها يكون مفيداً، وهو ما يحتفظ به الانتخاب الطبيعي، كما أشار إليه فرانسيس كريك Francis Crick في كتابه (الحياة ذاتها Life Itself) الصادر عام 1981[4].
لقد أكدت الداروينية التركيبية الحديثة، منذ بداياتها، على دور الطفرات بوصفها المصدر الأساس للتغاير الوراثي، واعتُقد أن كل طفرة تؤثر في جينة معينة مسؤولة عن صفة عضوية محددة، وذلك قبل اكتشاف الطبيعة البنيوية للجينات. وبناءً على هذا التصور، تم تقدير احتمالات التغير الوراثي من خلال حساب كمية الطفرات في السياق السكاني.
غير أن اكتشاف بنية الحمض النووي (DNA) عام 1953 شكّل تحولاً جذرياً في الفهم، إذ تبين أن الجينات لا تعمل بصورة منفردة، بل تتفاعل ضمن شبكة تضامنية معقدة، الأمر الذي ينعكس على الصفات الناتجة عن تلك الطفرات.
ومنذ بدايات التركيز على الجينات وحتى أواخر الخمسينيات، انقسم العلماء بشأن الهدف الذي يوجهه الانتخاب الطبيعي: هل هو الجين، كما ذهب إليه علماء الوراثة؟ أم الفرد بأكمله، كما يرى علماء الأحياء التقليديون؟ غير أن الكفة بدأت تميل تدريجياً منذ ستينيات القرن العشرين لصالح الاتجاه الأول، مدفوعة باكتشافات متزايدة حول آليات الجينات[5].
وقد لاحظ عالم الحيوان الشهير إرنست ماير Ernst Mayr أن الداروينية التركيبية ركّزت تركيزاً مفرطاً على الوراثة السكانية، حتى وصف هذا المنحى ساخراً بـ "علم وراثة كيس الفاصوليا Beanbag Genetics"، كما في كتابه (الأنواع الحيوانية والتطور Animal species and evolution) الصادر عام 1963. فقد اعتبر أن النظر إلى الجينات كوحدات منفصلة ومستقلة يُعدّ مضللاً من الناحيتين التطورية والفيزيائية، مشيراً إلى أن الجينات لا تشتغل منفردة بل في إطار تفاعلي شامل، إذ تتأثر كل سمة بجميع الجينات، ويؤثر كل جين في عدد من الصفات. ومن ثم فإن التطور لا يحصل عبر جينات وطفرات منعزلة، بل من خلال شبكات جينية متكاملة ومتفاعلة، تُكوّن ما يشبه الفريق أو المجمّع الجيني المتكيّف، مما يفضي إلى اعتبار النمط الجيني ليس مجرد "كيس حبوب" يضم جينات معزولة من دون تفاعل[6].
صراع مع النظرية الوثبية
إن ولادة الداروينية الجديدة أو التركيبية خلال ثلاثينيات القرن العشرين أدخلها في نزاع حاد مع النظرية الوثبية التي كانت آنذاك تحظى بقبول واسع. فقد ظلّت المذاهب التطورية الأخرى، التي رافقت الداروينية منذ بداياتها، محتفظة بشيء من مشروعيتها العلمية، ولم تُفقد صلاحيتها بالكامل.
وكان كثير من العلماء يتجنبون الداروينية بسبب ما اعتبروه ضعفاً في ركيزتها الأساسية، أي الانتخاب الطبيعي. أما علماء الأحافير، فقد أبدوا تحمساً خاصاً لفكرة القفزات التطورية، مستندين في ذلك إلى كثرة النواقص والفجوات التي يشهد بها السجل الأحفوري، مما جعلهم يرون في "الوثبية" تفسيراً أكثر اتساقاً مع هذه الشواهد الغائبة.
ولعل أبرز العلماء الذين دعوا إلى النظرية الوثبية في تلك المرحلة هو عالم الوراثة ريتشارد جولدشميدت، كما في كتابه (الأساس المادي للتطور The Material Basis of Evolution) عام 1940. وفيه اعترض على فكرة تراكم الطفرات الوراثية لانتاج تعديلات معقدة، ومن ثم تحدى الداروينيين في ان يجدوا طريقة لشرح نشوء الصفات العضوية المستجدة بواسطة هذا التراكم التدريجي، مثل الشعر في الثديات، والريش في الطيور، وقطع المفصليات والفقريات، وتحول الأقواس الخيشومية بما في ذلك الأقواس الأبهرية، والعضلات والأعصاب، ومثلها الأسنان، وأصداف الرخويات، والهياكل الخارجية، والعيون المركبة، والدورة الدموية، وجهاز السم للثعابين، وعظم الحوت، وغيرها[7].
كما عبّر جولدشميدت عن سروره بأن جميع التخصصات العلمية التي توفر مادة لفهم التطور قد قدّمت أدلة وافرة ومتوازية على التطور الوثبي بما هو أكثر منطقية من نظرية الداروينية الجديدة أو التركيبية، مثل التصنيف والتشكّل المورفولوجي، وعلم الأجنة الوصفي والتجريبي، وعلم الوراثة الاستاتيكية والديناميكية (الفسيولوجية)، وعلمي التشريح المقارن والأحافير.
وأشار بهذا الصدد إلى ان الجيل الأصغر من علماء الاحاثة قدموا نتائج منسجمة مع حقائق علم الوراثة والنماء الجنيني، مؤكداً على ان علم الأحافير يؤدي إلى نفس الاستنتاجات التي توصل اليها في كتاباته. إذ توضح المواد الاحفورية بأن العمليات التطورية الرئيسية يجب أن تكون قد حدثت في خطوات واحدة كبيرة، والتي أثرت على المراحل الجنينية المبكرة للحيوانات.
لذلك اعتبر أن من العبث البحث عن الروابط المفقودة في سجل الحفريات؛ لكونها غير موجودة. ورأى ان تطور الكائنات الحية يحصل بشكل قفزي في غضون فترة جيولوجية وجيزة؛ متبوعاً بسلسلة أبطأ من عمليات الكمال التقويمي. ومن ثم انتهى إلى ان آليات التطور تسمح بحدوث تغييرات هائلة في خطوة واحدة، واعتبرها تتفق تماماً مع ما يجري في علم الأجنة التجريبي[8].
واستخدم مصطلح "المسخ المأمول (الواعد) hopeful monster" عام 1933 كدلالة على التبدلات الكبيرة الناجحة[9]، ومن ثم اشتهرت فرضيته بهذا المصطلح كنوع من التطور الوثبي. ولم يتقبلها العلماء، بل وتعرضت للسخرية، لكن اُعيد لها بعض الاعتبار من قبل عدد من العلماء؛ أبرزهم دعاة نظرية التوازن المتقطع.
فقد كان جولدشميدت يعول على تأثير القليل من الجينات التي تتحكم في التطور، وبعد اكتشاف أهمية الجينات التنظيمية وُصف بأنه كان سابقاً لعصره. واليوم أصبح من الواضح انه لا أهمية كبيرة فيما يجري من تغيرات صغيرة داخل الجينوم كما يعول عليها الداروينيون[10]، بل تعود الأهمية للجينات التنظيمية وما فوقها.
وكان في مقدمة المدافعين عن الداروينية عالم الحيوان ريتشارد دوكينز الذي رأى أن التطور مدين للتغيرات التراكمية الطفيفة. ففي منتصف ثمانينيات القرن العشرين عمل على نقد فكرة الطفرات الكبيرة، كما صاغها ريتشارد جولدشميدت، نافياً أن يكون لها أي دور يُذكر في آلية التطور. فبحسب رأيه أن هذه الطفرات لا تدخل إلى "مستودع جينات النوع"، بل يتم التخلص منها عبر الانتخاب الطبيعي[11].
لكن الدراسات اللاحقة أظهرت أن التغيرات الطفيفة التي دافع عنها دوكينز وغيره من أنصار الداروينية الكلاسيكية لا تمثل سوى جانب محدود من الصورة التطورية الكاملة، خاصة بعد اكتشاف الجينات التنظيمية والنُظم اللاجينية Epigenetic Systems، التي كشفت عن آليات عميقة ومؤثرة في التكوين العضوي، والتي لا يمكن تفسيرها وفق نهج التراكمات البسيطة فحسب.
اقتراحات داروينية جديدة
لم يمر على الداروينية التركيبية أكثر من عقد ليصبح لها سيادة بارزة كما شهدتها العقود التالية منذ الأربعينات وحتى السبعينات من القرن العشرين. ففي الأربعينات قام العديد من العلماء بتأسيس نظرياتهم التوليفية على أعمال كل من فيشر وهالدين ورايت، ومن هؤلاء عالم الأحياء التطوري جوليان هكسلي Julian Huxley (1942) وعالم الاحاثة سمبسون Simpson (1944) وعالم الوراثة دوبزانسكي Dobzhansky (1937) وعالم الطيور رنش Rensch (1947) وعالم النبات والوراثة ستيبينسStebbins (1950) وعالم الحيوان إرنست ماير وغيرهم[12].
فمثلاً ظهر كتاب دوبزانسكي (علم الجينات وأصل الأنواع) عام 1937، ومع انه في هذه الطبعة لم يولِ لفكرة الانتخاب الطبيعي دوراً رئيسياً، لكنه تحوّل في الطبعة الثانية عام 1941 إلى تبني هذه الفكرة؛ استناداً إلى ما لاحظه من تنوع واختلاف الحقائق في ذبابة الفاكهة، والبرية منها (غير المعملية) على وجه الخصوص، حيث أظهرت هذه الذبابة حلقات موسمية من التغيرات مما جعله يميل إلى التفسير القائم على الانتخاب الطبيعي[13].
كذلك حاول سمبسون (عام 1944) التوفيق بين الرؤيتين المتعارضتين، وتتلخص فكرته ‹‹انه عندما تبلغ التغيرات في بعض أفراد العشيرة حداً يجعلها غير متجانسة، فإن النزعة الغريزية للتجانس تدفع باقي الأفراد إلى تحول سريع يستهدف تحقيق التوازن البايولوجي، وبتكرار ذلك يتزايد حجم التغيرات تراكمياً حتى يأتي جيل يكون فيه كل أفراد العشيرة مختلفين عن النوع السلفي، وقد سماه "التطور الكمي"››. لكن النقاد رأوا ذلك رجوعاً إلى فكرة الوثبة التطورية، لذا تخلى سمبسون عن هذه الفكرة بأقل من عشر سنوات بعد اعلانها[14].
لقد امتدت النظريات التوليفية بين الانتخاب الطبيعي والطفرات الجينية حتى تُوّجت في الهيكل النظري الذي عممه جاك مونود Jacques Monod في كتابه (المصادفة والضرورة Chance and Necessity) عام 1970، ففسّر كل شيء من خلال تقلبات الطفرات والانتخاب الطبيعي، حيث تلعب الطفرات دور المصادفة، فيما يلعب الانتخاب دور الضرورة[15]. وهي الفكرة التي وجدت دعماً من قبل الاتجاهات الرافضة لاطروحة المصمم الذكي والافتراضات الغائية حتى يومنا هذا.
مع هذا، وكما صرح إرنست ماير، أنه رغم تقبل العلماء للداروينية لكنها ما زالت تلاقي مقاومة كبيرة لدى فرنسا والمانيا وغيرهما حتى الوقت الحالي (1997)[16].
وأشار بهذا الصدد إلى وجود ثلاثة مذاهب متحايثة للتطور، هي:
1- المذهب التدريجي على شاكلة نظرية داروين..
2- مذهب القفزة الفجائية للتحول استناداً إلى كثرة الفجوات في السجل الجيولوجي..
3- محاولة التوفيق بين المذهبين السابقين، وهو ما يعرف بالداروينية التركيبية الجديدة، والتي دعا اليها ماير صراحة. ويمكن التعبير عنها بالداروينية التركيبية المستحدثة، تمييزاً لها عن سابقتها التي برزت منذ مطلع ثلاثينات القرن العشرين. وقد عدّ من أبرز دعاتها كلاً من نيلز ألدريدج وستيفن جاي جولد وستيفن ستانلي Steven Stanley، وهي نظرية تؤكد بأن السجل الاحفوري ليس بناقص، بل ان الأنواع البينية قد انقرضت منذ عصور سحيقة دون ان تترك أحافير[17].
رغم ان ستيفن جاي جولد أشار صراحة إلى نقده للداروينية التركيبية واعتبارها ميتة رغم استمرارها كأرثوذكسية كتابية.
وكان إرنست ماير قد سبق وأشار في كتابه (السكان والأنواع والتطور) الصادر عام 1970، إلى أن مسألة التطور العابر للأنواع ظلّت مثار جدل شديد طوال النصف الأول من القرن العشرين. فقد رأى أنصار النظرية التركيبية synthetic theory، أي الصيغة المعدّلة من الداروينية، أن جميع أشكال التطور قابلة للاختزال إلى تراكم طفرات جينية صغيرة موجّهة بالانتخاب الطبيعي، وأن التطور "الكبير" ليس إلا امتداداً للاستقراء من التغيرات التي تحدث داخل الأنواع وفي نطاق التجمعات السكانية.
لكن أقلية من العلماء البارزين عارضوا هذا التصور، ومنهم: عالم الوراثة جولدشميدت Goldschmidt وعالم الاحاثة شينديوولف Schindewolf وعلماء الحيوان أمثال جيانيل Jeannel وكوينوتCuenot وكانون Cannon.
وقد احتفظ هؤلاء، حتى عقد الخمسينات، بالفكرة التي تنكر أن يكون التطور داخل الأنواع، وكذلك الانتواع الجغرافي، يمكنهما أن يفسرا ظاهرة التطور الكبير، أو كما يسمى "التطور عبر الأنواع". وأكدوا في هذا المجال بأن الأنواع والأعضاء الجديدة لا يمكن تفسيرها بالحقائق المعروفة لعلم الوراثة والتصنيف، لذلك قدّموا بعض التفسيرات المناهضة للداروينية التركيبية[18].
الداروينية التركيبية المستحدثة
قرابة منتصف خمسينيات القرن العشرين، دعا إرنست ماير إلى مذهب تطوّري مستحدث يسعى إلى المزاوجة بين التدرجية الداروينية والنظرية الوثبية، وعبّرنا عنه بـ "الداروينية التركيبية المستحدثة". ففي عام 1954، اقترح ماير حلاً جديداً للدفاع عن مبدأ التدرج، في محاولة لتفسير الفجوات الواضحة في السجل الأحفوري دون الحاجة إلى تبنّي فرضيات القفزات الكبرى المستقلة عن الانتخاب الطبيعي. وقد أشار إلى أن ألدريدج وستيفن جاي جولد أيداه في هذه الفكرة من خلال أعمالهما المشتركة مطلع سبعينيات القرن العشرين.
وتمثّلَ علاجه في ان عمليات اعادة التركيبة الجينية، كالتي تفضي إلى ما يشبه القفزات، ليست عملية منفصلة عن مسيرة التطور التدريجي، بل انها تتم في اطار التنويع الذي يعتري العشيرة التأسيسية، وان فجوات السجل الاحفوري سببها ان التنويع في مثل هذه الحالات يكون محدوداً زماناً ومكاناً إلى درجة ان الأنواع الناتجة عنه لا تتاح لها فرصة تكوين أحافير قبل انقراضها بسرعة. واعتبر ان هذا الاقتراح يحل مشكلة الحلقات المفقودة والتغيرات التطورية الكبرى التي تبدو كأنها تمت وفق قفزات وثبية. فالعشائر المعزولة جغرافياً لها قابلية أعظم على التطور مقارنة بالعشائر الأصلية المتصلة بسبب تطرف موقعها الجغرافي.
وتمثل هذا الاقتراح في اعتبار أن عمليات إعادة التركيب الجيني، والتي قد تبدو أشبه بالقفزات، لا تشكل انقطاعاً عن المسيرة التطورية التدريجية، بل تقع ضمن إطار التنويع الطبيعي الذي يصيب العشائر التأسيسية الصغيرة والمعزولة. فالفجوات الظاهرة في السجل الأحفوري لا تعني غياب الحلقات الانتقالية فعلياً، بل هي ناجمة عن كون هذا التنويع الزماني والمكاني محدوداً جداً، بحيث إن الأنواع الجديدة الناتجة عن تلك العشائر قد تنقرض سريعاً قبل أن تسنح لها الفرصة لتترك سجلاً أحفورياً واضحاً.
وبحسب ماير، فإن هذا التفسير يقدّم حلاً مقبولاً لمشكلة الحلقات المفقودة، كما يفسّر ما يبدو من تغيّرات كبرى حصلت على نحو فجائي. وأضاف أن العشائر المعزولة جغرافياً، بسبب موقعها المتطرف، تكون أكثر استعداداً لعمليات التحول التطوري مقارنة بالعشائر الأصلية المستقرة، نظراً لظروفها الضاغطة وانخفاض التنوع الجيني المبدئي فيها، مما يجعلها أكثر تقبلاً للتغيرات الوراثية التراكمية التي قد تبدو – من حيث النتيجة – قفزية.
فعمليات اعادة تنظيم الجينات لدى العشائر المعزولة تسمح بحدوث تغيرات تطورية تفوق كثيراً تلك التي تحدث في العشائر المتصلة، سواء من حيث الحجم أو السرعة. ومن ثم فهناك آلية تسمح بسرعة انبثاق مستحدثات تطورية كبرى من دون ان تتعارض مع الحقائق الملحوظة في علم الجينات. وبذلك اعتبر ان التغيرات التطورية الكبرى ليست صورة من التطور التحولي الوثبي، بل هي نمط من التطور التبايني الذي يتم تدريجياً، شأنه في ذلك شأن معظم التغيرات الصغرى في حدود النوع.
وحول ثغرات السجل الاحفوري رأى ماير ان مصير معظم العشائر الجديدة هو الانقراض عاجلاً أم آجلاً، والقليل منها تحدث فيه تغيرات تطورية ذات حجم يؤدي إلى التنويع، لكن معظم الأنواع الجديدة مصيرها الانقراض أيضاً، وفي الحالات النادرة يتعرض النوع الجديد لفعل عوامل الانتخاب الطبيعي لعدة أجيال تكفي لأن يكتسب نمطاً جينياً جديداً يسمح له باستمرار البقاء والازدهار والتوسع الذي يؤهله لتشكيل اضافة جديدة إلى السجل الاحفوري.
وأشار بهذا الصدد إلى ان تحليله السابق كان موضع تأييد من قبل الابحاث المشتركة لألدريدج وجولد عامي (1971ـ1972)، وهي أعمال قد اثّرت في فكر علماء الأحافير بحيث أصبح هذا الاسلوب التطوري - الذي وصفه ماير بأنه تطور انتواعي - يقدم المبرر المعقول لكثرة الفجوات في سجل الأحافير.
والأهم من ذلك أن الاسلوب التطوري - المشار إليه - يلفت الانتباه إلى كثرة فترات الاستقرار التطوري المشار اليها، والتي لم يوفق المشتغلون في علم الجينات في تفسيرها عندما عزوها إلى الانتخاب الطبيعي، والذي نعرف انه لا يمنع من حدوث تطورات سريعة في بعض العشائر دون البعض الاخر، ولهذا فلا مفر من افتراض ان مثل هذا الاستقرار انما هو ثمرة نوع من التوازن الجيد في نمط جيني وثيق الترابط[19].
كانت هذه هي الرؤية التطورية لإرنست ماير، والتي بدت على صلة وثيقة بما طرحه نيلز ألدريدج وستيفن جاي جولد لاحقاً تحت عنوان نظريتهما الشهيرة: "التوازن المتقطع Punctuated Equilibrium"، مطلع سبعينيات القرن العشرين. غير أن هذا التشابه لم يُخفِ الجدل حول مدى انتماء ما قدّمه هذان العالمان إلى النسق الدارويني القائم على التدرج والانتخاب الطبيعي، أم أن ما اقترحاه يُعدّ خروجاً عنه في اتجاه التطور الوثبي.
فقد اعتقد ماير أن فكرة جولد وألدريدج لا تختلف كثيراً عما سبق أن اقترحه، بل هي إعادة إنتاج وتوسعة لرؤيته السابقة. وشارك ريتشارد دوكينز هذا الرأي، إذ ذهب إلى أن دعاة "التوازن المتقطع" لم يفعلوا سوى تضخيم أطروحة ماير إلى درجة الإيمان الراسخ بالسكون التطوري كقاعدة عامة للأنواع، حتى بدا كأن التغير التطوري ليس سوى حدث استثنائي، والانتواع لحظة من الجيشان أو الثورة في مسار الركود الطويل[20].
وثمة دراسة مستقلة أفردناها عن هذه النظرية الهامة.
التطور المحايد
لقد ظهر مذهب جديد يُعرف بالتطور المحايد Neutral Theory نهاية الستينات، كما دعا اليه عالم الوراثة الياباني موتو كيمورا Motoo Kimura عام 1968، والذي أمضى بقية حياته في تطوير هذا المذهب والدفاع عنه.
وخلاصة نظريته هي ان أغلب التغيرات التطورية على مستوى الوراثة الجزيئية هي تغيرات حيادية عشوائية لا علاقة لها بالانتخاب الطبيعي والتحسين، مما يجعل الانجراف الجيني عاملاً أساسياً في التطور بطريقة تراكمية[21]. واعتبرت هذه النظرية مجرد افتراض يصعب التحقق منه قبال فرضيات أخرى بديلة، لكنها مع ذلك أصبحت جزءاً من الأساليب الحديثة للتطور الجزيئي[22]، خاصة وانها تُوّجت على يد عالم الوراثة السكانية مايكل لينش Michael Lynch، كما أبرز ذلك في كتابه (اصول هندسة الجينوم The Origins of Genome Architecture) الصادر عام 2007، والذي عمل على انجازه لما يقارب من ست سنوات متواصلة.
فقد اعتبر لينش ان التطور هو عملية جينية سكانية، فهو يمثل تغييراً في ترددات النمط الجيني التي يسعى علم الوراثة السكانية لفهمها[23]. لذلك عنون بعض فقرات كتابه بالقول: ‹‹لا شيء في التطور منطقي إلا في ضوء علم الوراثة السكانية››[24].
وفي مقدمة كتابه صرح بأن النقطة المركزية التي استكشفها هي ان معظم جوانب التطور على المستوى الجينومي لا يمكن تفسيره كاملاً بمصطلحات تكيفية، بل ولا يمكن ان تظهر العديد من السمات الجينومية من دون فك الارتباط شبه الكامل بقوة الانتخاب الطبيعي. لذلك أشار إلى وجود عدة آليات تطورية فاعلة؛ حددها بأربع قوى: احداها خارجية كما تتمثل في الانتخاب الطبيعي، وثلاثة أخرى نابعة من الضغوط الداخلية للخلية دون ان يكون لها علاقة بالتكيف، وهي كل من: الطفرة التي يعتمد عليها الانتخاب الطبيعي، والانجراف الجيني الذي يجعل الترددات الجينية العشوائية تنحرف قليلاً من جيل إلى آخر، واعادة التركيب داخل الكروموسومات وبينها[25].
وقد توصل إلى ان معدلات الطفرات الوراثية تزداد لدى الجمهرات الصغيرة كالحيوانات مقابل الجمهرات الكبيرة كما في البكتيريا. لكنه اعتبر دور الانتخاب الطبيعي في الجينات الطافرة ضعيفاً. بمعنى ان التعقيد الحاصل بفعل التطور لا يمت في غالبه إلى الانتخاب الطبيعي، وانما إلى العوامل الأخرى المحايدة أو غير التكيفية، كما تدل عليه تراكم الجينات الكاذبة pseudogenes التي تمثل أغلب النص الوراثي للجينوم، وهي ما لا علاقة لها بالوظيفة والتحسين والتكيف.
فثمة نسبة كبيرة من الطفرات تعتبر حيادية لا تتأثر بالانتخاب الطبيعي، وان الغالبية العظمى من جينات الحامض النووي هي جينات كاذبة ليست وظيفية (كما هو معتقد في ذلك الوقت). وبالتالي فالتطور في غالبه يتميز بأنه ليس تكيفياً تحسينياً كالذي تزعمه الداروينية اعتماداً على الانتخاب الطبيعي، بل انه عشوائي حيادي.
هذه مجمل نظرية مايكل لينش التي بناها وفقاً لعلم الوراثة السكانية (الجمهرية) المعتمد على الرياضيات الاحتمالية، مثلما سبقه في ذلك فيشر وهالدين ورايت خلال ثلاثينات القرن العشرين. وقد تأسف على ان معظم علماء الأحياء يمقتون الأمور الرياضية، كما ان البعض قام بتهميش مساهمات هذا العلم في فهم التطور حتى وصفه بـ "كيس الفاصوليا beanbag"[26]. وقصد بذلك إرنست ماير دون ذكر اسمه، حيث ادلى بهذا الوصف عام 1963.
لقد كانت هذه النظرية موضع جدل بين العلماء، وتم الاعتراض عليها، فمن الصعب الاقتناع بأن ظاهرة التطور متأسسة في الغالب على العشوائية. ويمكن ابراز نقطتين من الاعتراض كالتالي:
أولاً: إنها حصرت العوامل الفاعلة في التطور الداخلي بالبنى الجينية دون اشارة إلى الدور الذي تقوم به النظم اللاجينية في التطور، كالذي أبرزته مدرسة "الايفو ديفو".
ثانياً: إنها تفشل في تفسير كيف أمكن للتعقيد الحيوي ان يتحقق ويحافَظ عليه بالاعتماد على العشوائية الغالبة. فالوراثة السكانية لا يمكنها ان تحقق الامكانية الاحتمالية لنشوء التعقيدات الحيوية اعتماداً على الانجراف الجيني العشوائي. فحيث ان الجينات تتفاعل فيما بينها، لذلك فإنه ليس من السهل ان يتوافق ذلك في تحصيل نتائج معقدة مفيدة استناداً إلى هذه العشوائية.
فمثلاً ان تقدير احتمال الحصول على مقر رابط لبروتينين عشوائياً هو حوالي (10-20) كائن، وعلى مقرين رابطين لثلاثة بروتينات مختلفة هو (10-40) كائن. والعدد الأخير هو أعظم من ولادة جميع الخلايا منذ نشأة الأرض إلى يومنا هذا. في حين ان أغلبية بروتينات الخلية تعمل في سلاسل معقدة مكونة من (6 أو 7) بروتينات متحدة.. لذا يصبح التفسير القائم على العشوائية مستحيلاً[27]، فكيف الحال مع التعقيدات العضوية المؤلفة من مئات وآلاف الأجزاء البروتينية المترابطة؟!.