-
ع
+

القضية العلمية والتصميم

يحيى محمد

يمكن التمييز بين ثلاثة مواقف ازاء علاقة التصميم الذكي بالعلم كالتالي:

1ـ يندرج التصميم الذكي ضمن القضايا العلمية، سواء ثبت صدقه أو خطأه.

2ـ لا يمكن ادراج هذا التصميم ضمن القضايا العلمية وفق معيار الطبيعانية.

3ـ يشترك التصميم والقضايا العلمية بأساس جامع يعمل على اثباتهما أو نفيهما. كما هي طريقة المفكر محمد باقر الصدر في إثبات المسألة الإلهية الواردة في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء).

ولكل من هذه المواقف مبرراته. وقبل الدخول في التفاصيل لا بد من التمييز بين العلم في ذاته والعلم المتحقق..

العلم في ذاته والعلم المتحقق

سبق أن ميّزنا في (علم الطريقة) بين العلم - المطلق - في ذاته والعلم المتحقق. ونقصد بالأول أنه علم بغض النظر عن تحققه فعلاً، فسواء تحقق أم لم يتحقق، وسواء كان علماً أم ما زال ثقافة؛ فإن من الممكن إفتراض موضوعه وتحديده بما يجعله متميزاً ومختلفاً عن غيره. وتستمد هوية كل علم من أمرين متلازمين، هما الموضوع والوظيفة، شرط أن تكون الأخيرة مقيدة بالبحث والكشف المعرفي ضمن الآليات التي يفرضها الموضوع. أما العلم المتحقق فله خصائص وصفات موضوعية محددة تضاف إلى هويته الذاتية المفترضة بحسب الاعتبار الأول. لذا فالعلم المتحقق ينطوي ضمناً على العلم في ذاته من دون عكس.

ويصدق ما سبق على العلوم الطبيعية والانسانية المختلفة، فلكل منها مفهومان: العلم في ذاته، والعلم المتحقق. فالأول عبارة عن مفهوم ذهني مفترض يستهدف تفسير موضوعات هذه العلوم وفق آليات مفترضة ومناسبة؛ كالملاحظة والتجربة والاحصاء والاستقراء. أما الثاني فيتميز بالتحقق التاريخي مع تضمنه شيئاً من القيود أو السعة غير الواردة في المفهوم الأول. فالعلم المتحقق يكشف عن مساره التاريخاني دون ان يتخذ طابعاً بنيوياً محدداً أو ثابتاً.

فالفيزياء مثلاً، هي علم موضوعه الظواهر الطبيعية ووظيفته تفسير هذه الظواهر وفق الآليات الأساسية المفترضة في العلم، لذا فتحديده كهوية ينطلق من حيث اعتباره علماً يُعنى بتفسير الظواهر الطبيعية على أساس تلك الآليات. فهو بهذا الاعتبار الافتراضي يعد موضوعاً قائماً بذاته، أما ما يُلحق به من خصائص، مثل كيفية تفسير هذه الظواهر، ودقته العلمية، والمناهج المستخدمة، وكذا النتائج والنظريات المعتمدة؛ فكلها أمور لاحقة لا تمس جوهر هذا العلم في ذاته. وبالتالي فإن تبدل هذه الأمور لا يقتضي تبدل هوية العلم المفترض.

وما يهمنا في هذا البحث هو الكشف عن معيار القضية العلمية وفق مسلكها التاريخي، أي العلم المتحقق. ويتضح ان ما كان يعد خارج اطار العلم أصبح يمثل جزءاً متأصلاً فيه. كذلك ان القضايا التي تعتبر اليوم غير علمية، قد تصبح غداً على العكس من ذلك. فالعلم يمثل صيرورة تاريخية دون ان يتخذ صوراً ثابتة، وهو ما يجعل معيار العلم المتحقق غير ثابت.

القضية العلمية واختلاف المعايير

ظهرت على مدار تاريخ العلم الحديث معايير عديدة ومختلفة تميز بين القضية العلمية وغيرها، لكن دون ان يعتمد هذا التمييز على وجهات نظر فلاسفة العلم، ليس فقط لأنهم يختلفون في تحديد معيار القضية العلمية وفق ما يراعونه من مفهوم العلم في ذاته، بل ولأن المسار التاريخي للعلم لم يلتزم بقواعد فلاسفته عادة، إلا عندما كان هؤلاء الفلاسفة علماء أيضاً، كالذي عليه دائرة فيينا الفلسفية، أو مدرسة الوضعية المنطقية عموماً.

ومعلوم ان بعض فلاسفة العلم قد حدد المعيار الذي تتأسس عليه القضية العلمية بمبدأ التأييد القائم على الدليل الاستقرائي، فيما حدده بعض آخر بمبدأ الدحض أو القابلية على التكذيب، كما ذهب بعض ثالث إلى انه يتحدد وفق عدد من المبادئ أبرزها مبدأ البساطة، كذلك ذهب آخرون إلى انه يتحدد بالاختبار العام؛ سواء من خلال مبدأ التأييد، أو عبر القابلية على التكذيب. في حين شذّ البعض فاعتبر الواجب يقتضي ان لا يخضع المعيار لقواعد محددة، بل يكفي ان يكون مدعوماً بأي دليل كان من دون قيود وشروط، وهو ما أكّد عليه أنصار التصميم الذكي.

فبحسب وجهة النظر الأخيرة، لا يوجد تعريف للعلم يمكن الدفاع عنه بشكل قاطع، ولا معيار ترسيم محدد يصلح لاستبعاد نظرية التصميم من الاتصاف بالعلمية، في الوقت الذي تُقبل فيه النظريات المادية المعارضة بوصفها نظريات علمية[1].

وكما رأى مايكل بيهي ان التصميم هو قضية علمية لا فلسفية، فهو يعتمد حصراً على الدليل المادي المفصّل، إضافة إلى المنطق المعياري المعول عليه في العلم[2].

في حين حذّر ستيفن ماير من ان الطريقة المادية المتبعة في العلم ستحرم العلماء من سبل جديدة للاكتشاف، مشيراً إلى انه ليس لديهم ما يخسرونه في اختبار نظرية التصميم من خلال تنبؤاتها. لذلك دعا إلى كسر بعض القواعد واتّباع الدليل إلى حيث يقود[3]، كما هو مأثور عن سقراط الذي شدّد على وجوب اتّباع البرهان كيفما يقود.

وكان عدد من فلاسفة العلم يتساءلون: “ما الذي يميز العلم عن اللاعلم” مثل لاري لودان وفيليب كوين وفيليب كيتشر، واعتبروا هذا السؤال غير مهم، بل المهم هو ما إذا كانت النظرية صحيحة ومعلومة بالدليل[4].

هل نظرية التصميم علمية؟

نعود فنقول: ما الذي يمنع العلماء من اعتبار نظرية التصميم علمية مادامت تعتمد على الأدلة المادية الملحوظة بما لا تختلف عن العديد من المذاهب العلمية، وعلى رأسها النظرية الداروينية؟

وقد يوحي هذا الحال بأن معظم العلماء يعتمدون على بعض المعايير السلبية كموجهات تقف خلف القضايا العلمية، كما تتمثل في النزعة الطبيعانية، فكل قضية تخرج عن اطار هذه النزعة فإنها تخرج عن المجال العلمي.

مع ذلك تم تقديم عدد من المبررات التي تجعل نظرية التصميم الذكي لا تنتمي إلى هذا المجال، مثلما عرضها ستيفن ماير وردّ عليها في عدد من كتبه ودراساته.

ومن أبرز هذه المبررات هو ان هذه النظرية لا تشير إلى شيء قابل للرصد والملاحظة، وهي تستدل على كائن خارق للطبيعة له قدرات مطلقة، فيمكن من خلاله تفسير أي نتيجة ممكنة، وهذا ما يجعلها فرضية غير قابلة للدحض والتكذيب، كالذي جادل فيه فيلسوف العلم روبرت بينوك.

وثمة من أصرّ على ان هذه النظرية تخرق قواعد العلم، حيث لا يمكن وضع الإله القادر في انبوبة اختبار أو جعله ملاحظاً. كما لا يمكن قياس التصميم الذكي ولا عدّه أو تصويره.

كما قيل ان هذه النظرية لا تتوافق مع أيٍّ من البيانات التي يمكن تصورها، ولا تقدم أيّ تنبؤات قابلة للاختبار. أي انها تعجز عن وضع معيار للتوقعات المستقبلية، إذ لا يمكن التنبؤ بدقة تامة ما الذي سيفعله الأذكياء، باعتبارهم يمتلكون القدرة على الفعل الحر. لذلك فهذه النظرية غير علمية.

يضاف إلى ما قيل بأنها لا تصف الظواهر التكرارية بموجب القانون الطبيعي، كما لا تقدم تفسيراً ميكانيكياً، بل تستند إلى المعجزة دون ذكر أيّ آليات، ولا تقدم ادعاءات تجريبية مؤقتة، وليس لها القدرة على حل المشكلات، وانها غير قابلة للتعديل. ومن ثم فإنها لا تقدم أيّ تفسير علمي على نحو التحديد.

هذه جملة من الاعتراضات التي قُدمت لرفض توصيف نظرية التصميم الذكي بالعلمية. وقد تصدى ستيفن ماير للردّ عليها معتبراً انها تنطبق أيضاً على نظريات أخرى منافسة، مثل الداروينية. لذلك أقرّ بوجود تكافؤ منهجي لوصف النظريات المتنافسة في قدرتها على التفسير. لكنه في الوقت ذاته ميّز بين التصميم الذكي ونظريات التطور المادية، سواء الكيميائية منها، أو البايولوجية، حيث اعتبر الأخيرة لا تقدم شيئاً من التوقعات كالذي تقدمه نظرية التصميم، ومن ذلك أنها لا تقدم توقعات عن المسار المستقبلي للتطور، ولا أي نوع من الصفات والأنواع التي ستنتجها الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي في المستقبل.

كما اعتبر أن نظرية التصميم لا تدّعي رصد ذكاء خارق للطبيعة، ولا قدرات مطلقة، وهي لا تحدد ما إذا كان الفاعل الذكي يعمل ضمن مجال الطبيعة أو خارقاً لها؛ بل تقتصر على إثبات وجود مسبب ذكي من دون الإدعاء بمعرفة هويته أو صفاته. وردّ على بينوك الذي زعم أن النظرية تتضمن الإيمان بإله قدير يفسر نشأة الحياة، فأشار إلى ان الدفاع عن هذه النظرية كما جاء في كتابه (توقيع في الخلية) يختلف عن الفرضية التي اعترض عليها بينوك، بل واعتبر التصميم الذكي أفضل تفسير لخاصية محددة من الحياة؛ لما نعلمه عن بنية السبب والنتيجة في العلم. كما شدد على أنها نظرية قابلة للاختبار والدحض، شأنها في ذلك شأن فرضية الصدفة. فهي ذات ادعاءات تجريبية وتستخدم مناهج علمية ثابتة استناداً إلى المنطق العلمي التاريخي، وتقدم تنبؤات مستقبلية، وانها مدعومة من قبل الادبيات العلمية المحكمة. كما لديها القدرة على حل المشكلات العلمية، خلافاً لما يدعيه معارضوها بأنها لا تقوم بذلك[5].

أما الاعتراض على استحالة احضار المصمم في المختبر، فهو ينطبق على النظرية الداروينية أيضاً، حيث استحالة احضار السلف المشترك في المختبر. وسبق لعالم الأحياء التطوري جيري كوين Jerry A. Coyne ان صرح عام 1996 بأنه لا يحق للداروينيين ان يطالبوا أصحاب التصميم بأن يأتوا بالمصمم إلى المؤتمر العلمي التالي، وذلك لأنهم أنفسهم عاجزون عن تصور طبيعة السبل العشوائية المفترضة التي تؤدي إلى نُظم معقدة[6].

وثمة عدد من العلماء يعتقدون بأن نظرية التصميم قابلة للاختبار والقابلية على التكذيب، وهو ما يؤيده أنصار التصميم الذكي؛ مثل مايكل بيهي الذي قدّم محاولة لاختبارها عبر بعض التجارب كما سنرى، ومنها انه دعا عالِم الأحياء الجزيئية كينيث ميلر Kenneth Miller للذهاب إلى المختبر لعمل بعض التجارب حول سوط البكتيريا إنْ كان من الممكن دحض النظرية أو تأييدها[7].

ولنظرية التصميم ثلاث طرق محددة لقابليتها على الاختبار كما ذكرها ماير، وهي كالتالي:

1- مقارنتها من حيث قوتها التفسيرية بغيرها في شرح الأحداث في الماضي السحيق. وهي ذات الطريقة التي استخدمها داروين في أصل الأنواع[8].

2- معرفتها ببنية السبب والنتيجة.

3- تنبؤاتها المختلفة.

وحول هذه التنبؤات أشار ماير في (توقيع في الخلية) إلى وجود (12 توقعاً) مستوحى من التصميم الذكي.

لكنها وإن كانت تنسجم مع اطروحة التصميم إلا انها ليست بتوقعات حقيقية، فهي لا تتنبأ بشيء على نحو الايجاب كما تمارسه الطريقة العلمية.

ومن هذه التنبؤات، ان التجارب المستقبلية ستظل تُظهر افتقار الانزيمات المحفزة المصنوعة من "الرنا RNA" القدرة على جعل سيناريو عالم الرنا منطقياً، وهو العالم الذي تضمن سناريو افتراض أن يكون للرنا قدرة على صنع البروتين كتمهيد لنشأة الحياة الأولية.

كما من هذه التوقعات القضية القائلة: لن تثبت أي عملية غير موجهة قدرتها على انتاج (500 بت) من المعلومات الجديدة بدءاً من مصدر غير حيوي. وعلى هذه الشاكلة التنبؤ بأن الخوارزميات الجينية التي تحاكي قدرة العمليات التطورية غير الموجهة لن تنتج أكثر من (500 بت) من المعلومات المخصصة المعقدة عشوائياً، وان الفحص الدقيق لبرامج تنتج معلومات مخصصة معقدة ومبتكرة ستكشف إما انها معلومات أدخلها مبرمجون، أو ان المحاكاة الحاسوبية تفتقر للواقعية الحيوية، أو كلاهما.

وهو قد اعتبر ان الخوارزميات الحاسوبية يمكن ان تفتقر إلى الواقعية لواحد من هذه الأسباب الثلاثة:

1- تزويد البرنامج بتسلسل مستهدف.

2- برمجة الحاسوب على الانتقاء بناءاً على القرب من الوظيفة المستقبلية بدلاً من الوظيفة الفعلية.

3- انتقاء تغيرات لا تحاكي خطوات التغير الوظيفي التراكمي الذي يحدث في واقع الحياة[9].

التصنيف المنهجي للقضايا العلمية

لقد أكّد أنصار التصميم الذكي على وجود فئتين من القضايا العلمية، الأولى تكرارية وخاضعة للقوانين الوصفية وان لم تتضمن التفسير، كما في علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء التي تستدعي البحث عن القوانين. والثانية لا تخضع للقوانين والتكرار، بل للتعليل والتفسير، كما في العلوم التاريخية. وهم قد اعتبروا نظرية التصميم الذكي تنتمي إلى الفئة الثانية؛ بما لا تختلف عن علوم أخرى منتمية إلى هذه الفئة، مثل: علم الآثار، والانثروبولوجيا، والجريمة، والتاريخ، والبايولوجيا التطورية، والبحث عن الذكاء الفضائي، وغيرها. وتشترك جميعاً في البحث عن الأسباب (الذكية) لا القوانين[10].

وكان ستيفن جاي جولد قد ميّز بين العلوم التجريبية وعلوم التاريخ الطبيعي كالجيولوجيا والبايولوجيا التطورية وعلم الأحافير. واعتبر ان نظريات التاريخ الطبيعي قابلة للاختبار من خلال قدرتها التفسيرية. وهو ما ينطبق على نظرية التصميم الذكي، حيث ان العلوم التاريخية تحتاج إلى افتراض أحداث مسببة ماضية دون ان تسعى إلى استنتاج القوانين[11].

وسبق لمؤرخ العلوم والفيلسوف اللاهوتي وليام هيويل William Whewell ان شيّد هذا التمييز بين العلوم الطبيعية والتاريخية خلال القرن التاسع عشر؛ معتبراً ان الأخيرة تفسر الأحداث الحاضرة بالرجوع إلى أسبابها الماضية لا القوانين. وهذا ما يناسب التصميم. فاقتراح المصمم هو عندما يفشل التفسير القائم على القوانين[12].

لذلك ردّ ستيفن ماير على مايكل روز الذي صرح في أحد المؤتمرات عام 1992 بأن التصميم الذكي غير ملائم علمياً باعتباره يتطلب نشاطاً واعياً من فاعل مصمم، بدلاً من قانون طبيعي لتفسير نشأة الشكل والمعلومات الحيوية. فردّ عليه ماير بأن القوانين الطبيعية غالباً ما تصف دون ان تفسر الظواهر الطبيعية، فقانون الجاذبية لنيوتن يصف علاقة الجذب الثقالي ولا يفسرها. وكثير من نظريات علوم التاريخ الطبيعي لا تُفسّر بالقانون الطبيعي، بل تفترض أسباباً ماضية لتفسر الأحداث التالية، مثل نظرية اوبارين Oparin التي افترضت سلسلة من أحداث لسيناريو محدد دون ان تفترض قانوناً عاماً لتفسير نشأة الحياة. كذلك هو الحال مع نظرية التصميم الذكي، حيث تحتج بحادث عقلي سابق بدلاً من القانون لتفسر به نشأة الحياة وتعقيد الخلية[13].

نظرية التصميم والداروينية

سبق لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر ان احتقر في وقت مبكر من حياته المهنية الفلسفات التطورية. ففي كتابه (فقر التاريخانية The Poverty of Historicism) الصادر عام 1957 أشار إلى أن فكرة السلف المشترك ليست قانوناً علمياً، بل مجرد فرضية؛ كونها تتعلق بحدث تاريخي فردي لا يمكن تعميمه كقانون طبيعي. وحتى قوانين الوراثة والعزل والطفرة اعتبرها لا تنتمي إلى القانون العام، حيث انها تشير إلى ما في الأرض دون سائر الكون.

وعندما نشر بوبر تخميناته ومبدأه في القابلية على التكذيب عام 1962 لم يتغير رأيه في القوانين التطورية، فاعتقد ان فكرة وجود قانون يحدد اتجاه وطبيعة التطور هي خطأ نموذجي وقع فيه علماء القرن التاسع عشر.

وفي عام 1972 اعتبر مبدأ البقاء للأصلح حشواً بلا فائدة. وبعد سنتين، أي عام 1974، صرح بأن الداروينية عبارة عن برنامج بحث ميتافيزيقي، وليست نظرية علمية قابلة للاختبار والتكذيب. لكنه في عام 1978 عدّل من وجهة نظره كما في ورقة بعنوان (الانتخاب الطبيعي وظهور العقل)، فذكر بأنه على الرغم من ان من الصعب اختبار مبدأ الانتخاب الطبيعي؛ فإنه قابل للاختبار والتكذيب مبدئياً، بل يمكن دحضه عندما يُصوّر بأنه الأساس الوحيد للتطور[14].

ومن جهته أقر مايكل روز عام 1993 بما يخالف شهادته عام 1981 من التفريق بين العلم وغيره، فاعتبر الداروينية هي مثل الخلقوية تعتمد على بعض الافتراضات الميتافيزيقية غير القابلة للاثبات. وفي دراساته المتأخرة اعتبر نظرية التطور تعمل كنوع من الدين العلماني[15].

وقد أيد أنصار التصميم الذكي فكرة تكافؤ نظريتهم مع نظريات التطور المادية في المعايير، سواء اعتبرت علمية أو غير علمية. ومن ذلك ان فرضية السلف المشترك لدى الداروينية تتكافأ مع فرضية التصميم لدى نظرية التصميم الذكي. وبحسب بعض النقاد فان كلتيهما تستخدم نفس المنطق وطريقة الاستدلال على السؤال: ما الذي سبب نشوء النماذج البايولوجية وظهور التصميم في تاريخ الحياة؟[16].

وكان ستيفن ماير يعتقد عام 1999 بأن نظرية التصميم، ومثلها نظرية التطور، كلتيهما لا تنبئ عن شيء، وانها غير قابلة للتكذيب، وانها لا تمدنا بأي آليات، وانها غير مؤكدة، وليس لها القدرة على حل المشكلات.. رغم اعترافه بأن لنظرية التصميم قوتها التفسيرية للمحتويات المعلوماتية في الدنا، ومثل ذلك التعقيد غير القابل للاختزال في الآلات الجزيئية، والشكل الهرمي من الأعلى للأسفل كما هو ظاهر في السجل الاحفوري، والضبط الفيزيائي الدقيق[17]. لكنه رأى فيما بعد ان نظرية التصميم الذكي هي فرضية قابلة للاختبار وتقدم تنبؤات مستقبلية وذات ادعاءات تجريبية، ولديها القدرة على حل المشكلات العلمية[18].

وقد عارض عالم الاحافير روبرت آشر Robert Asher ادعاء ستيفن ماير القائل في (توقيع في الخلية) بأن نظرية التصميم تستخدم ذات مبدأ التماثل الذي استخدمه داروين، ومن قبله الجيولوجي تشارلس لايل Charles Lyell. ففي كتابه (التطور والمعتقد Evolution and Belief) الصادر عام 2012، اعتبر انه لا تماثل بين الطريقتين، لأن الداروينية تستخدم التفسير الميكانيكي متمثلاً بالانتخاب الطبيعي خلافاً لنظرية التصميم.

وأجاب ماير على هذا الاعتراض بأن التماثل ليس في التفسير الميكانيكي، بل في ما نراه من تجارب وفيرة حول العقلاء الذين يقدمون معلومات محددة مخصصة، كما في الوقت الحاضر، هي ذاتها تجعلنا نعتبر وجود مثل هذه المعلومات في الماضي حادثة لبعض الأسباب العقلية. فبالحاضر يُستدل على الماضي، وهو المبدأ الذي استند إليه داروين اعتماداً على لايل[19].

وهو أمر صحيح بالفعل. لكن مع وجود فارق جوهري بين النظريتين، وهو ان الداروينية قائمة على تحديد الآلية في تفسير التطور الحيوي، خلافاً لنظرية التصميم الذكي التي تفتقر إلى تحديد نوع الآلية التي تفسر بها التصاميم المعقدة الدقيقة في التطور. لذلك فإن العلماء يفضّلون عادة الآليات الطبيعانية، حتى وإن كانت خاطئة، على التفاسير التي تفتقر إليها. وهو ما قد يبرر التشبّث بآلية الانتخاب الطبيعي في التطور الحيوي وترجيحها على غيرها من التفاسير، لا سيما اللاطبيعانية منها. وربما يدرك الكثير من الداروينيين ان التفسير بهذه الآلية ينجح في مواطن معينة بسيطة دون غيرها من النُظم المعقدة، ورغم ذلك فهو مقبول ومرجح على أي تفسير آخر لا يمتلك آلية محددة. ويصبح وفق هذه البراجماتية ان التفسير الخاطئ صحيح، والتفسير الصحيح خاطئ.

هذا فيما يخص التطور البايولوجي[20]، أما مسألة نشأة الحياة فهي أمر آخر مختلف تماماً، حيث الآلية مفقودة؛ لا أنها خاطئة أو غير ناجحة في تطبيقها على النُظم المعقدة، إذ من المحال ان ينبسط عليها قانون الانتخاب الطبيعي باعتباره مديناً للحياة. لذلك ليس ثمة ما ينافس فرضية التصميم مقارنة بالفرضيات الطبيعانية، كما سنرى.

معيار القضية العلمية

من جهتنا يمكن التمييز بين القضايا العلمية وفق علاقتها بالافتراضات السببية الطبيعية واللاطبيعية. إذ تتضمن كل قضية علمية طرفين: الأول هو مقدمات القضية كما تتمثل في الظواهر الموضوعية، والثاني هو الاستنتاجات المنبنية عليها. وقد تعبّر الاستنتاجات عن أسباب معينة أو قوانين محددة، أو وظائف وغايات مفترضة... الخ.

ويشترط في المقدمات ان تكون طبيعية خالصة. أما ما يستنتج عنها فيمكن ان تكون طبيعية مثل الأولى، كما هو حال أغلب القضايا العلمية التي نعهدها. لكن في حالات محدودة قد لا تتضمن الاستنتاجات عناصر طبيعية، رغم ان مقدماتها طبيعية. ونصف القضايا في مثل هذه الحالة بأنها علمية من الدرجة الثانية مقارنة بالأولى، وذلك شرط أن لا تتضمن الاستنتاجات المفارقة كلياً.

فمثلاً تم الاستدلال على الجاذبية من خلال سقوط الأشياء وحركات الكواكب. وتعتبر هذه القضية علمية من الدرجة الأولى، لأن ظواهر سقوط الأشياء وحركات الكواكب تعتبر طبيعية، كما ان حالة الجذب المستنتجة ملحوظة وطبيعية هي الأخرى، ويمكن ان يتحدد بموجبها القانون الفيزيائي كما فعل نيوتن. لذا تتصف هذه القضية بالعلمية من الدرجة الأولى.

لكن لو تقدمنا خطوة أخرى وتساءلنا: ما الذي يجعل المواد تتجاذب فيما بينها؟ أي ما هو السبب الذي يقف خلف قوة الجذب المادي؟

وبلا شك ان هذا السؤال لا يُعنى بوصف الجاذبية كما يفعل قانون نيوتن، بل بتفسيرها. فهل ثمة حبيبات تمسك بها؟ أم قوة طبيعية معينة؟ أو غير طبيعية تعمل عن بعد؟ أم انها تعود إلى تأثير النسيج الزمكاني؟ أم ثمة شيء آخر مختلف؟..

وعندما نحدد السبب بشيء طبيعاني كحبيبات الگرافيتون graviton المفترضة، أو النسيج الزمكاني؛ فسيكون التفسير طبيعانياً، وتصبح القضية علمية من الدرجة الأولى. أما عندما نفترض السبب يتمثل بقوة محايثة غير طبيعانية فستبقى القضية علمية لكنها من الدرجة الثانية. في حين لو افترضنا ان السبب عائد إلى قوة مفارقة كلياً؛ فستصبح القضية غير علمية، أو ميتافيزيقية خالصة.

وبعبارة أخرى، يمكن تحديد القضية إن كانت علمية أو غير علمية وفق الفقرات الأربع التالية:

1ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات واستنتاجات طبيعانية؛ فهي علمية من الدرجة الأولى.

2ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات طبيعانية، مع استنتاجات غير طبيعانية تتضمن الأسباب المحايثة، فهي علمية من الدرجة الثانية. ويمكن أن تشمل في هذه الحالة مسألة المصمم الذكي، مثل أثير الذكاء.

3ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات طبيعانية، مع استنتاجات غير طبيعانية تتضمن الأسباب المفارقة، فهي غير علمية. وتتميز هذه القضية بأنها تشترك مع القضايا العلمية بنفس الأساس المعتمد عليه في الدليل. ومن أبرز الأمثلة عليها المسألة الإلهية كقضية ميتافيزيقية مفارقة.

4ـ إذا كانت القضية لا تتضمن المقدمات الطبيعانية؛ فهي غير علمية، سواء كانت عقلية فلسفية، أو دينية، أو غيرها.

إذاً، من خلال الفقرات الأربع التي ذكرناها، يتبين ان القضية العلمية يجب ان تتضمن المقدمات الطبيعانية مع الاستنتاجات التي تتضمن الحالات غير المفارقة، سواء كانت هذه الاستنتاجات طبيعانية او غير طبيعانية، وهي بذلك تشمل مسألة التصميم الذكي.


[1]   ستيفن ماير: شك داروين، ص608.

[2]   مايكل بيهي: حافة التطور، ترجمة زيد الهبري ومحمد القاضي وآخرين، مركز براهين، الطبعة الأولى، 2019م، ص298.

[3]   شك داروين، ص628.

[4]   توقيع في الخلية، ص562

[5]   انظر لستيفن ماير: توقيع في الخلية، ص548ـ560 و520 و525. وشك داروين، ص607ـ608. والمنزلة العلمية للتصميم الذكي، ص181.

[6]   حافة التطور، ص299.

[7]   Michael J. Behe, 2000.

[8]   توقيع في الخلية، ص527.

[9]   المصدر السابق، ص641ـ642 و626. كذلك: شك داروين، ص610.

[10]  ستيفن ماير: المنزلة العلمية للتصميم الذكي، ص176 و192.

[11]  المصدر السابق، ص205.

[12]  توقيع في الخلية، ص205ـ206. والمنزلة العلمية للتصميم الذكي، ص203.

[13]  توقيع في الخلية، ص544ـ548.

[14] David L. Hull, The Use and Abuse of Sir Karl Popper, 1999. Look: http://www.ask-force.org/web/Discourse/Hull-Use-Abuse-Popper-1999.pdf

[15]  توقيع في الخلية، ص562

[16]  شك داروين، ص609 و611.

[17]  المنزلة العلمية للتصميم الذكي، ص188 و201.

[18]  شك داروين، ص608.

[19]  شك داروين، ص612ـ614.

[20]  انظر حول التطور البايولوجي: يحيى محمد: جدليات نظرية التطور، دار روافد، بيروت، 2023م.

comments powered by Disqus