-
ع
+

فلسفة النظام الاخلاقي (2)

يحيى محمد

عالم الاخلاق الحدسية

لنركز على صنف الاخلاق الحدسية من الاصناف الثلاثة السابقة الذكر ( الحدسية القبلية والموضوعية الكسْبية والنفسية الذاتية).

واول ما يصادفنا من إشكال هو انه لو كانت الاخلاق حدسية عقلية لما تفاوت ادراك الحكم فيها مقارنة بالضرورات المنطقية والرياضية. فقد نتردد في القضية الاخلاقية بما لا يحصل في القضية المنطقية والرياضية. فلا احد يتردد في حكم مبدأ عدم التناقض المنطقي، وكذا ان الواحد المضاف الى نظيره يساوي اثنين بالضرورة من دون تردد، في حين لا يحصل هذا اليقين الضروري في القضية الاخلاقية.

والجواب هو انه لا دليل على عدم تفاوت الضرورات العقلية فيما بين انواعها المختلفة، بل العكس هو الصحيح. فمثلاً نجد تفاوتاً واضحاً بين مبدأ عدم التناقض المنطقي مع عدم التناقض الوجودي، او بين الاول وبين مبدأ السببية العامة. لذلك نجد كثيراً من الفلاسفة يشككون في مبدأ السببية العامة او اطلاقيته، لكن من النادر ان نجد من يشكك في المبدأ الاول.

على ان ما يعنينا هو اثبات الحدسية القبلية للنظام الاخلاقي، ويكفي اثبات حالة واحدة تؤكد الحدسية العقلية لهذا النظام.

فمثلاً اذا اردنا ان نعرف مصدر ادراكنا للقضية التي تقول ان النار تحرق، وان المعدن يتمدد بالحرارة، يكفي لحاظ ان الحس والتجربة هما ما يحددان - من حيث الاساس - مثل هذه النتيجة، وبدونهما لا يمكن للعقل ان يعرف ان كانت النار تحرق ام لا، ولا المعدن ان كان يتمدد بالحرارة ام لا؟

أما في القضايا العقلية المحضة مثل مبدأ السببية وعدم التناقض، فيكفينا تصور هذه القضايا لنتأكد من ان النتائج فيها صحيحة وضرورية دون الرجوع الى الحس والتجربة. فتصورنا بوجود حادثة ما تجعلنا ندرك انها لا يمكن ان تحدث من دون سبب مؤثر، سواء ادركنا هذا السبب ام لا. كذلك ان تصورنا للنقيضين بشكل مجرد يكفي الحكم عليهما عقلاً بانهما لا يجتمعان مطلقاً وفق الشروط المعروفة، وكل ذلك لا علاقة له بالحس والتجربة، وبالتالي فهي قضايا قبلية.

وكذا هو الحال حين نقول ان العدل حسن او مطلوب، ومثله الصدق وحفظ الامانة وغيرها، وفي قبالها ان الظلم سيء وقبيح او مردود، ومثله الكذب وشهادة الزور وغيرها. فهذه القضايا هي من القبليات الحدسية دون ان تستمد من الحس والتجربة او الواقع الموضوعي المشهود. فهي لا تمتلك كينونات محددة في الواقع ليشار اليها حسياً او تجريبياً وفق الطرق العلمية الطبيعية. لذلك يأتي السؤال من اين عرفنا ان العدل مطلوب وان الظلم مردود؟ فليس للغريزة البايولوجية والاعتبارات النفسية والاجتماعية  دور في هذا الحكم.

وقد يقال ان هذا الحكم يعتمد على تعريفنا للعدل والظلم، فما هو العدل وما هو الظلم؟ هل يمكن تحديدهما لنعرف ما اذا كان يمكن انتزاع حكم عقلي منهما؟ وكيف نعالج التخصيصات والاستثناءات التي تتعلق بهما.

ونجيب على المشكلة الاولى بالقول انه ليس بالضرورة تعريف الشيء بالدقة، ومنها القضايا الاخلاقية، اذ ندرك انها ليست من الصنف الاخباري التي تتحدث عن الكينونات الخارجية، فما نتحدث عنه هو ما ينبغي ان يكون. وعندما نقول ان العدل حسن او مطلوب، فليس المقصود ان للعدل كينونة مثل عالم الاشياء المادية. واذا كان ليس بالضرورة تعريف العدل لكثرة الخلاف حوله، خاصة وان كل تعريف مبتلى بالاجمال كما قررنا ذلك في دراسة مستقلة (انظر الفصل الاخير من النظام الواقعي)، فان الاهم في الموضوع هو ذكر حالات وشواهد مصنفة ضمن مفهوم العدل من دون شك ولبس. فالشواهد والحالات انفع في تحديد النتائج المرجوة من الضياع في تعريف المفاهيم.

إن كل مفهوم مهما كان دقيقاً ينتابه شيء من الالتباس والغموض، فهو ينطبق على دائرة واضحة من الحالات، فيما تبقى حالات اخرى موضع التباس. لذلك تنبغي الاستعانة بالحالات والشواهد الواضحة التي تفي باندراجها ضمن المفهوم. وكمثال على ذلك قتل الاطفال والابرياء عن عمد واصرار، فهو شاهد من شواهد كثيرة تندرج ضمن مفهوم الظلم الواضح دون ادنى شك. فالعقل البشري لا يشكك في قبح هذا الفعل، والحكم فيه حدسي ومطلق.

أما دائرة الالتباسات فلها شواهدها التي نختلف حولها لاعتبارات موجهة، وتنطبق على الصراعات الدولية والسياسية والاختلافات الفردية والاجتماعية. فكثيراً ما نختلف حول الافعال ان كانت حسنة او قبيحة، عادلة او ظالمة. والخلافات الاجتماعية تزخر بهذا الصنف من الاحكام المتعارضة. ويمكن ادراجها ضمن الاعتبارات المختلفة، كالذي عرضناه في خاتمة كتاب (النظام الوجودي).

تبقى مشكلة التخصيصات والاستثناءات الواردة في قضايا الاخلاق الحدسية. وهي الاهم، وسنعالجها بعد الانتهاء من عرض ونقد نظرية الفيلسوف الالماني الشهير عمانوئيل كانت..

 

كانت والقضية الاخلاقية

تعود اهمية نظرية الاخلاق عند عمانوئيل كانت الى محاولته غير المسبوقة في وضع قانون محدد يحكم هذه القضية بشكل قبلي ومطلق. وقد صدقت المقولة الشائعة: ‹‹بامكانك التفلسف لصالح كانت، كما بامكانك التفلسف ضده، لكن لا يمكنك التفلسف بدونه››..

ومعلوم ان النظام الاخلاقي يتضمن جانبين مختلفين: صوري ومضموني. فالصوري يعبّر عن الالزام او الواجب، ويتميز بالاطلاق والشمول التام، وهو ما اكتفى به الفيلسوف (كانت) في تعريفه للقانون الاخلاقي من دون استحضار المادة او المضامين؛ تجنباً للاحتكام بما هو تجريبي بعدي ونسبي دون ان يكون قبلياً مطلقاً. وهذا ما اكد عليه في العديد من المناسبات والمواقف كما سنلاحظ..

اما جانب المادة والمضمون فيتخذ موضوعات مختلفة، وهي تعبّر عن نفس القضايا الاخلاقية المتعارف عليها؛ كالصدق والامانة والعدل.. الخ. وتعتبر التخصيصات والاستثناءات في هذه الموضوعات اهم ما في القضايا الاخلاقية من اشكالية، لكنها ملغية لدى الاخلاق الكانتية. فالقانون الكانتي قائم على الشكلية الصورية، ونماذجه التطبيقية محددة بشكل مطلق غير قابل للتقييد او التخصيص والاستثناء؛ تماشياً مع قانونه الصوري المحض، رغم ان ما فعله يخالف البداهة العقلية وأحكام الضمير البشري. اذ لا يمكن نزع العنصر التخصيصي والاستثنائي من القانون الاخلاقي الحدسي، وكل فعل بهذا الاتجاه يقضي على الروح الاخلاقية ذاتها.

ومن حيث التفصيل اورد (كانت) الاسس العامة لنظريته ضمن خطوطها الكلية في كتابين هامين، أولهما (تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق) الصادر عام 1785، وبعده كتابه الشهير (نقد العقل العملي) الصادر عام 1788. ثم عكف على نشر جملة مقالات لم تكن بمستوى الكتابين السابقين، وكان من بينها بحثان جمعهما في مؤلف واحد اطلق عليه (في ميتافيزيقا الاخلاق) والصادر بشكل متأخر عام 1797، وكان الغرض منه اعطاء التفصيلات الجزئية حقها كتطبيقات للمبادئ التي ادرجها في كتابيه الاولين. لكن الاخير لم يكن بالمستوى المطلوب، وكان موضع اعتراض الناقدين، ووُصف بانه قريب من آداب الحياة والاعراف الاجتماعية.

وقد عزا عبد الرحمن بدوي سبب تأخر صدور الكتاب الاخير، مع ضعفه مقارنة بالكتابين الاولين، الى حقيقة عدم اتفاق موضوعه مع طبيعة فكر (كانت). فالكتاب يهدف الى التطبيق العملي التفصيلي للمبادئ التي وضعها في (تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق) و(نقد العقل العملي). وعقلية (كانت) لا تميل الى التفصيلات الجزئية العملية، بل تولع فقط بالمبادئ النظرية العامة والكلية، ولهذا شعر وهو يحاول الكلام في الجزئيات ان كلامه ليس بالمستوى الذي عليه كلامه في المبادئ الكلية (بدوي: الاخلاق عند كنت). 

ومن الدراسات الهامة التي اصدرها (كانت) في هذا المجال كتاب (الدين في حدود العقل) عام 1793. وفيه عالج أصل الشر والخير في الطبيعة الانسانية، مع مقارنة هامة بين الدين الاخلاقي النابع من العقل العملي المحض، والايمان الكنسي النابع من الظروف التاريخية.

وحول القضية الاخلاقية تتضمن نظرية (كانت) عنصرين هامين، احدهما تقنين هذه القضية بما يجعلها عامة لا تقبل الاستثناء، والثاني مصادراتها. وسنبدأ بالتقنين اولاً، ثم نردفه بالمصادرات ثانياً..

 

1ـ تقنين القضية الاخلاقية

وضع (كانت) قانوناً اخلاقياً للعقل العملي القبلي بربطه بالحرية والارادة. فقد اعتبر ان لهذا القانون علاقة لزومية بالارادة الخيرة، فهي التي تعمل على تشريعه. وتعمل الارادة الكاملة من تلقاء نفسها في التشريع ووضع القوانين الكلية من دون اسباب خارجية، فهي الوحيدة التي تعد خيراً في ذاته او خيراً مطلقاً، في حين ان الارادة الناقصة – كما في البشر - تفعل اداء للواجب بما يفرضه القانون من دون اعتبار للنتائج المتحصلة ولا الدوافع والمنافع. لذلك فالتشريع الذاتي هو الحرية على انها هي والقانون امر واحد. وان هذا التشريع هو المبدأ الوحيد لكل القوانين الاخلاقية والواجبات المطابقة لها. 

مع ذلك اعترف بوجود حلقة مفرغة لا سبيل للخروج منها، فنحن نفترض اننا احرار في نظام العلل الفاعلة لكي نتصور انفسنا في نظام الغايات اننا خاضعون لقوانين اخلاقية، ثم نعود لنتصور اننا خاضعون لهذه القوانين بسبب اننا نسبنا الى انفسنا حرية الارادة. ان الحرية والتشريع الذي تضعه الارادة لنفسها هما تصوران يحل احدهما محل الاخر، لذلك ليس بالوسع تفسير احدهما بالاخر.

لقد جعل (كانت) القانون الاخلاقي لا يقبل الاستثناء مطلقاً، بما لا يختلف عن القانون الطبيعي، سواء في العالم البشري او عالم الكائنات العاقلة الاخرى، واضطر الى ان يحدد هذا القانون صورياً من دون مضمون، كما تمت صياغته في عدد من دراساته بدءاً من كتابه (تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق). حيث نصّ عليه بالقاعدة التالية:

«افعل كما لو كانت مسلَّمة فعلك أن ترتفع بإرادتك إلى قانون طبيعي عام».

واعاد ذكر هذه القاعدة في (نقد العقل العملي) تحت عنوان: «القانون الاساسي للعقل العملي المحض».

وكررها بعدد من الصيغ كما في (تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق)، فبداية جعلها غاية للانسانية في ضمير الشخص ذاته، وحددها بالصيغة التالية: «افعل الفعل بحيث تجعل الانسانية في شخصك وفي شخص كل انسان كغاية دائمة لا وسيلة». ومن ثم عممها على كل الكائنات العاقلة، سواء الانسانية او غيرها، لذلك ارتقى بالقانون الاخلاقي الى ان يكون على الشكل التالي: «افعل الفعل كما لو كان على مسلمتك ان تصلح في الوقت نفسه قانوناً عاماً لجميع الكائنات العاقلة كغايات عليا».

وهو بهذه القاعدة جعل القانون الاخلاقي واجباً في حد ذاته من دون ادنى اعتبار للمنافع والدوافع. فهو قانون قبلي يتعالى على التجارب والمعطيات الخارجية.

لقد صرف (كانت) الكثير من الجهد وتسويد صفحات (نقد العقل العملي) للتمييز بين القضية الاخلاقية حينما تكون مطلقة وصورية قبلية غير مشروطة من جهة، وبين ان تكون مشروطة بالمنافع والدوافع بما تتضمن من متعة وسعادة من جهة ثانية. فالاولى قبلية موضوعية، في حين ان الثانية تمثل مسلمات وتعليمات عملية ذاتية تجريبية، واحيانا اطلق عليها بالنصائح لخدمة شهواتنا. فالمسلمات الذاتية هي مجرد تعليمات عملية ومبادئ تتعلق بالمهارة والبحث عن المتعة والسعادة. وهي تجريبية نسبية دون ان تكون قبلية، لذلك فانها لا تمثل اوامر موضوعية. وقد حداه الامر الى نقد الاتجاهات الفلسفية القديمة التي ركزت على علاقة الاخلاق بالسعادة، ومنها المذهبان المتعارضان الابيقوري والرواقي.

فالتمييز في هذه الحالة حاصل، وهو انه لو كانت الاوامر مشروطة بالنظر الى المعلول المرغوب فيه فستكون اوامر شرطية، اي تعليمات عملية وليست بقوانين. فليس للقوانين العملية مرجع سوى الارادة وحدها بقطع النظر عما يتم الوصول اليه من نتائج. في حين كل المبادئ العملية التي تفترض موضوعاً ومادة لملكة الرغبة – حيث يرغب في تحقيقه – هي تجريبية ولا تصلح ان تكون قوانين عملية.

ومبرر (كانت) في تجريبية مادة الرغبة هو انه لا يمكن قبلياً معرفة اي تصور لموضوع إن كان سيقترن بلذة او الم، او بدونهما. فهذه الحالة هي بمثابة مسلمة للذات وليست قانوناً اخلاقياً، حيث لا يمكن ان تكون صالحة لجميع الكائنات العاقلة بالتساوي. فيجب من وجهة نظره ان يكون العقل المحض وحده عملياً، اي قادراً على تعيين الارادة، من دون افتراض اي شعور وتصور عن المتعة بوصفها مادة لملكة الرغبة؛ التي هي على الدوام شرط تجريبي للمبادئ.

وهو يعتبر ان كل المبادئ العملية المادية – اي ان فيها مادة الرغبة – هي من نوع واحد تندرج تحت حب الذات او السعادة الشخصية، وهي تابعة للحس او الشعور وليس للفهم الذي يعبر عن علاقة تصور بشيء.

وهو يساوق بين مادة الرغبة والسعادة في قبال الامر الاخلاقي، كما يعتبر ان كل اسباب تعيين الارادة هي إما ذاتية وبالتالي تجريبية كما يدل عليها مفهوم السعادة، او هي موضوعية عقلية قبلية. فالمبادئ التجريبية تشكل كل الاساس في السعادة بخلاف نظرية الاخلاق باعتبارها قبلية.

فالسعادة لدى (كانت) هي مطلب ذاتي للانسان فرضته عليه طبيعته المتناهية كحاجة تتعلق بملكة الرغبة، اي الشعور الذاتي باللذة والالم. لكن هذا لا يُعرف من قبل العقل من دون تجربة حسية، لذا لا يكون قانوناً؛ لأن الاخير باعتباره موضوعياً فلا بد من ان يحتوي في كل الاحوال ولجميع الكائنات العاقلة على المبدأ ذاته المعين للارادة.

لذلك يعتبر كل الاسباب المعينة للارادة هي تجريبية وتنتمي الى مبدأ السعادة باستثناء واحد منها هو قانون العقل العملي المحض او القانون الاخلاقي.

وحتى ان صنع الخير بدافع حب البشر والاحسان المتعاطف معهم، او ان يكون المرء عادلاً بدافع حب النظام، رغم انه شيء جميل لكنه يخرق فكرة الواجب، ولا ينطلق من المبادئ الاخلاقية للقانون القبلي، حيث عملنا ما يلائم متعتنا.

وهو حينما يميز بين مبدأ السعادة ومبدأ الاخلاقية لا يعارض بينهما، بل ان العقل العملي المحض لا يريد من المرء ان يتخلى عن مطالب السعادة، بل حالما يتعلق الامر بالواجب فانه لا تؤخذ مطالب السعادة بالحسبان. ولاعتبارات معينة يكون الامر واجباً ان يراعي المرء سعادته كالمهارة والصحة والغنى لاحتوائها على وسائل القيام بالواجب. لذا لا يمكن ان يكون هذا السعي نحو السعادة بالواجب المباشر. وهو اشبه بمقولة علماء اصول الفقه: مقدمة الواجب واجبة.

وينتهي (كانت) الى ان القانون العام لا يصلح الا بالصورة لا المادة، ومن ثم فانه ينزع عن القانون كل ما هو مادي.

مع هذا ورغم انه ابعد القانون عن الرغبة وعن المادة، فقد اعترف بان الممارسة المتكررة للعمل بالقانون الاخلاقي تنتج شعوراً ذاتياً بالرضا مع النفس، معتبراً ان تأسيس هذا الشعور وتنميته انما هو من شأن الواجب، وهو وحده الذي يستحق ان يسمى شعوراً اخلاقياً بالمعنى الصحيح. لكن مفهوم الواجب لا يستنبط من هذا الشعور.

لقد استخدم (كانت) عبارة الرضا عن النفس والارتياح بدل المتعة والسعادة الحسية. فالارتياح العقلي دون الحسي هو المرتبط بالقانون الاخلاقي، حيث ان هذا القانون مستقل عن الميول كدوافع لرغباتنا. وبقدر ما نكون واعين بالحرية في اتباعنا للمسلمات الاخلاقية الموضوعية، بقدر ما ستكون الاخيرة المصدر الوحيد للارتياح للزومه عنها بالضرورة، وهو الارتياح غير القائم على اي شعور خاص، لذلك يمكن ان يسمى بالارتياح العقلي لتمييزه عن المتعة والارتياح الحسي القائم على اشباع الميول. فالحرية بهذا تصبح قابلة للاستمتاع في علاقتها بالقانون الاخلاقي، لكن ذلك لا يسمى سعادة ولا غبطة لعدم تضمنها الاستقلال الكلي عن الميول والحاجات.

وبحسب (كانت) ان اخضاع الارادة بشكل حر للقانون يتم عبر القسر والاكراه، وحيث ان هذا القسر يمارس وفق تشريع عقلنا الخاص؛ لذا فهو يحتوي على سمو، وبما ان التأثير الذاتي على الشعور يسببه العقل العملي المحض لذا يمكن ان يسمى مجرد رضا عن النفس. حيث نعرف اننا واعون بمنفعة مختلفة عن كل المنافع، كونها منتجة ذاتياً، وهي عملية بحتة وحرة، ولهذا فهي تحمل اسماً مميزاً جداً هو الاحترام.

فالرضا عن الذات كلذة ليس هو السبب المعيِّن للفعل، وانما تعيين الارادة مباشرة بواسطة العقل فحسب هو سبب الشعور بالرضا واللذة، ويبقى هذا التعيين عملياً محضاً غير حسي لملكة الرغبة.

ومن الناحية الموضوعية يقتضي مفهوم الواجب ان يكون في الفعل توافق مع القانون، لكن من الناحية الذاتية يقتضي ان تكون مسلمة الفعل احترام القانون بوصفه الطريقة الوحيدة لتعيين الارادة به.

فالاحترام هو الوعي بالاكراه المباشر الذي يمارسه القانون على الارادة. وانه لكي تكون الافعال اخلاقية يجب ان تكون بدافع من الواجب وبدافع احترام القانون، وليس عن حب واستحسان لما قد تنتجه هذه الافعال.

ولا ينسى (كانت) ان يميز في القانون الاخلاقي بين ان يعود الى كائن مخلوق حيث يتصف بانه قانون الواجب والاكراه الاخلاقي، ومن ثم فهو قانون تعيين الافعال بواسطة احترام القانون، وبين ان يعود الى ارادة كائن كلي الكمال، حيث يتصف بكونه قانون قداسة.

لقد اتخذ (كانت) من الواجب إلهاً يستحق العبادة والخضوع، فهو يخاطبه بالتعظيم: ‹‹الواجب انت ايها الاسم السامي الكبير الذي لا تحوي في طياتك اي شيء يُفتن او يتزلّف، بل تطلب الخضوع.. انت تقيم فقط قانوناً.. تصمت امامه كل الميول››.

 

نقد التقنين الكانتي

من الناحية النقدية نرى ان نقطة ضعف التقنين الكانتي هي تجريده من المادة، حيث الاكتفاء بالصورة وفق مفهوم الواجب، مع ان هذا المفهوم هو من المفاهيم الاضافية التي لا تستقيم من دون ان يضاف اليها الموضوع، وبالتالي الحاجة الى المادة والمضمون.

كذلك ليس من الصحيح الحصر الثنائي القائل: إما ان يكون القانون صورياً،  او انه تجريبي كما في مفهوم الرغبة والسعادة. اذ لا يمكن الفصل بين القانون ومادته الموضوعية المعهودة والتي يطالب بها (كانت)، مثل الصدق وحفظ الامانة والاستقامة. وهي بذلك تتجرد عن الرغبة والسعادة الحسية.

والاهم مما سبق هو ان (كانت) اولى القانون الاخلاقي اهمية خاصة وفق تحديده للصيغة الصورية لتستوعب كل قاعدة اخلاقية عامة من دون تخصيص واستثناء، رغم ان هذه العملية تستلزم التناقض الصريح. فكثيراً ما يتوارد حكمان مطلقان في الوقت ذاته، ويضطر الانسان الى ان يرجح احدهما على الاخر دفعاً للتناقض، رغم انهما مطلوبان عند فصلهما عن بعض.

فمثلاً لو ان الانسان عوّل على الاخذ بمطلق الصدق والامتناع التام عن الكذب، وفي الوقت ذاته عوّل على التمسك المطلق بعدم ظلم الاخرين والاضرار بهم.. فرغم ان هذين الحكمين الاخلاقيين صالحان من حيث النظر اليهما في حد ذاتهما، الا انهما من حيث الواقع الفعلي قد يتواردان معاً على قضية معينة، ويصبح الانسان ليس بوسعه الوفاء بهما معاً، فإما ان يفي بالحكم الاول او الثاني.

والمثال التقليدي الذي يمكن تصويره بهذا الصدد: افترض اننا شاهدنا انساناً هارباً خوفاً من قتله من قبل جماعة تلاحقه، وسألونا عن الاتجاه الذي سلكه؛ إن كان هذا الطريق ام ذاك، ففي هذه الحالة نصبح في موقف لا يمكننا الجمع بين الحكمين الاخلاقيين: الصدق وعدم الاضرار بالاخر. فاما ان نقرّ بالصدق ونتقبل النتيجة التي تؤدي الى قتل الهارب اضطراراً، او نفعل العكس، حيث نضطر الى ان نكذب كي ننقذ هذا الانسان. وفي كلا الحالين نحن مضطرون الى ان نرجح احد الحكمين الاخلاقيين على حساب الاخر، وليس من الممكن الجمع بينهما.

لكن (كانت) آثر الاحتفاظ بالحكم المطلق من دون تخصيص. فقريب من المثال السابق رأى انه لا مفر من اتخاذ الصدق واجباً حتى لو ادى الامر الى هلاك الشخص الهارب او البريء. وهو حكم غريب لم يُقنع أحداً. وكان ممن اعترض عليه في عصره الفيلسوف الفرنسي بنيامين كونستانت Benjamin Constant، حيث كتب مقالاً في نقده عام 1797، الامر الذي جعل (كانت) يردّ عليه في نفس سنة صدور المقال.

فقد اعتبر كونستانت ان التمسك بالمبدأ الكانتي في الحكم المطلق لقول الحقيقة يجعل المجتمع بأسره مستحيلاً. وعارض وجوب قول الحقيقة وفق النهج المطلق، اذ كيف يمكن الحكم بوجوب الاقرار بالصدق مطلقاً من دون استثناء حتى لو ادى ذلك الى قتل الابرياء؟ ورأى ان مفهوم الواجب لا ينفصل عن مفهوم الحق، فالواجب هو ما يتوافق مع حق كائن اخر، فحيث لا توجد حقوق لا توجد واجبات. وبالتالي فقول الحقيقة واجب، لكن فقط اتجاه من له الحق في معرفة الحقيقة. وليس لذوي الايذاء والاعتداء حقوق في معرفتها. لذلك لو سألَنا من يريد قتل شخص بريء لجأ الى منزلنا إن كان موجوداً في المنزل أم لا؟ فليس من الواجب تعريفه بالحقيقة، بل يصبح من المتعين الكذب لحفظ سلامة هذا الشخص.

وقد ردّ (كانت) على اعتراض كونستانت، معتبراً أن اباحة الكذب في مثل هذه الحالة سوف يجعل الاخرين لا يثقون في الاعلانات التي نقدمها بشكل عام، اي انها سوف تفقد المصداقية، ومن ثم فان جميع الحقوق المبنية على العقود ستفقد قوتها، وهو خطأ يلوح البشرية عموماً. فالكذب يضر بالاخرين بشكل دائم، وبالبشرية عموماً، ومن ثم سيجعل القانون غير قابل للاستخدام.

كما اعترض على مقولة كونستانت ‹‹قول الحقيقة واجب، لكن فقط اتجاه من له الحق في معرفة الحقيقة››، معتبراً هذا التعبير غامضاً، لأن الحقيقة ليست ملكية يمكن منح الحق فيها للبعض دون البعض الاخر، فواجب الصدق لا يميز بين الاشخاص، وهو غير مشروط في جميع الاحوال والظروف. فالصدق هو امر عقلي مقدس وغير مقيد بالمنفعة.

ووضع (كانت) احتمالات ما قد تؤدي الكذبة في المثال المشار اليه من عواقب سيئة، حيث يمكن ان تؤدي بطريقة ما الى قتل الهارب وفق بعض الامكانات غير المأخوذة في الحسبان. لذلك فهو يرى انه عندما نكذب سنكون مسؤولين قانونياً عن كل العواقب، أما لو كنّا ملتزمين بشكل صارم في قول الحقيقة، فسوف لن يجد القانون أي خطأ في ذلك.

لقد طرح (كانت) افتراضات ما قد تؤدي الكذبة من عواقب غير متوقعة، وهي امور عرضية، ويمكن تلافيها في تضييق مساحة ما افترضناه في المثال، كما ان جوابه حول عدم مسؤولية المقر بالحقيقة امام القانون ليس بجواب يعفي هذا الاقرار من الجريمة الاخلاقية المتعلقة بالقتل؛ بغض النظر عن القانون الوضعي.

واخيراً اعتبر (كانت) ان الصدق واجب في حد ذاته، فهو بالتالي مطلق لا يسمح بالاستثناءات، لأن الاخيرة تدمر الشمولية التي تحملها المبادئ.

لكن من الناحية النقدية ان القانون الاخلاقي حتى من حيث المنطق الكانتي ليس منحصراً في مبدأ الصدق والاقرار بالحقيقة، بل يضاف اليه مبادئ اخرى، ومنها عدم الاضرار بالاخرين، وان يراعى اتخاذ الانسانية كغاية للارادة والقانون. لذلك فان (كانت) مضطر لترجيح بعض مبادئ القانون على البعض الاخر. وهو في المثال السابق رجّح الصدق على الاضرار بالاخرين. وليس من الممكن الجمع بين المبدئين في مثل هذه الحالة.

لذا نقول ان صيغة القانون الاخلاقي لدى (كانت) - كما في النسخة المتعلقة بالمجال البشري - لا تصلح الا مع اخذ اعتبار التخصيص، ودون ذلك ينتابها التناقض. فهي تتضمن الاقرار بان من الواجب على الفرد ان يراعي اتخاذ البشرية كغاية لا وسيلة. ولأجل المراعاة هذه قد يضطر المرء الى ان يكذب للغاية ذاتها، فالإضرار ببعض الافراد هو إضرار بالبشرية عموماً. وبالتالي فان القانون الكانتي يجمع بين حكمين متعارضين من الناحية الاخلاقية.

وتعتبر مثل هذه الحالة ضربة قاصمة للصياغة الشكلية للقانون الاخلاقي كما يطالبنا (كانت) بالتزامها. فالقانون الاخلاقي لا يمكنه ان يتشكل صورياً بحتاً، كما لا يمكنه ان يتخذ صورة الاطلاق مثلما الحال مع سائر القوانين العقلية الضرورية. ومع ذلك فهذا القانون يمتلك صفة الضرورة والعقلية رغم تقبله الصدام والترجيح مع غيره من القوانين الاخلاقية المزاحمة. بل ان اهم ما في القضية الاخلاقية هو الجانب المضموني لا الصوري. فالحدس العقلي متعلق بالمضمون سواء بالحكم الاولي في نفس الامر، او بالحكم الثانوي عند نزوله في الواقع واتخاذ مبدأ الترجيح عند التزاحم بين الاحكام.

 

2ـ مصادرات القضية الاخلاقية

إن اهم ما امتازت به فلسفة (كانت) هي كثرة الافتراضات والمصادرات، فلا يوجد فيلسوف غيره تميز بمثل هذه الكثرة المخلة. فقد اضطر الى جعل القضايا الاشكالية التي يكثر فيها الجدل مصادرات أسس عليها بعض القضايا الفلسفية لأغراض نفعية (براجماتية) طالما ان من المستحيل ان تخضع للبرهنة والاثبات وفق المسلك الذي خطّه.

فالقضية الاخلاقية مدينة في وجودها الى ثلاث مصادرات، الاولى هي الحرية منظوراً اليها كعلية كائن ينتسب الى العالم المعقول لا الطبيعي. يضاف اليها مصادرتان ثانويتان يشكلان اساس العقل العملي، وهما وجود الله وخلود النفس. وسبق لنا في (مفارقات نقد العقل المحض) ان عرضنا نظرية (كانت) حول المسألة الالهية مع نقدها وتبيان الخلل الذي يعتريها.

ولغرض براجماتي اعتبر اليقين المتعلق بهذه المصادرات مستمداً من القانون الاخلاقي ذاته، حيث من مصلحته ان يوجد إله وان تكون النفس خالدة في سعادة لا تنقطع كما سنلاحظ.

وفي (نقد العقل العملي) اشار مراراً الى ان هذه المفاهيم هي مصادرات للعقل العملي، لكنه في (نقد العقل المحض) اعتبر هذه الموضوعات الثلاثة تارة تمثل غرض العقل الترسندالي، وأخرى غاية الميتافيزيقا، من دون ان يزيد عليها موضوعاً رابعاً. وبالتالي فهي تمثل غايات من جهة، ومصادرات لا دليل عليها من جهة ثانية.

مع هذا ميّز (كانت) بين مفهوم الحرية والمفهومين الاخرين. فالاول هو شرط ضروري للاخلاق، وهو يشكل حجر الغَلَق في بناء منظومة العقل المحض بكاملها حتى النظري وكافة المفاهيم الأخرى، وهي الله والخلود. أما فكرة الله ومثلها الخلود فلا تعتبر شرطاً للقانون الأخلاقي. فالمهم لدى هذا المفكر هو مفهوم الحرية، حيث ان به يكون لبقية المفاهيم قوام وحقيقة موضوعية، لأن إمكانيتها قد حازت على برهان بحسب العقل العملي بأن الحرية حقيقية، وتتجلى هذه الفكرة عبر القانون الأخلاقي. وهي وان لم ندركها لكنها شرط هذا القانون كما نعرفه.

وبلا شك ان لهذا الفيلسوف الحق في اعتبار الحرية شرطاً لا غنى عنه للاخلاق. لكن ما ضرورة المصادرتين الاخريين؟ ألا يمكن للقانون الاخلاقي ان يصدق من دون حاجة اليهما؟

حقيقة ليس ثمة حاجة الى هاتين المصادرتين غير انهما يعبران عن مصلحة براجماتية دون ان يكون لهما علاقة صميمة بالقانون الاخلاقي ذاته. فمن منطلق اعتبار الغايات دلل (كانت) على حياة النفس بعد الموت؛ طالما ان للطبيعة وحدتها الغائية كمصادرة أخلاقية عملية. فمن وجهة نظره ان من المحال ان يكون الخير الأسمى ممكناً عملياً إلا بافتراض خلود النفس. ويحصل الخير الاسمى للنفس البشرية هو عندما تتحقق فيها السعادة بشكل دائم.

فقد حاول ان يبرر مصادرة خلود النفس من خلال مبدأ القداسة، وهو كمال يتميز بتوافق تام للارادة مع القانون الاخلاقي، وحيث ان هذا لا يحدث في عالمنا الحسي، لذا لا بد من افتراضه يحدث في عالم اخر من غير انقطاع، وهو ما يبرر خلود النفس. وبذلك اعتبر الخير الاسمى لا يكون ممكناً عملياً الا بافتراض هذا الخلود.

لكن لا يمكن ان يتحقق الخير الاسمى للنفس البشرية ما لم نفترض وجود إله باعتباره مرتبطاً ارتباطاً ضرورياً بامكانية هذا الخير. فالسعادة هنا هي في حالة ان الكائن العاقل يمكنه ان يُحدِث كل شيء وفقاً لرغبته وارادته طيلة وجوده، ولا يحصل هذا الحال الا في السعي نحو الخير الاسمى. ففي حياتنا الحالية لا نستطيع ان نجعل الطبيعة فيما يخص السعادة متفقة مع المبادئ العملية، لذلك كان لا بد من السعي نحو الخير الاسمى، وهذا ما يجعل الحاجة الى مصادرة وجود علة للطبيعة تحتوي على مبدأ الارتباط والتوافق الدقيق بين السعادة والاخلاق. وبالتالي ليس الخير الاسمى ممكناً في العالم الا من حيث الاقرار بوجود علة اعلى للطبيعة، ومن ثم كان من الضروري اخلاقياً ان نقر بوجود الله. ويمثل هذا الاقرار بوجود الله لدى (كانت) ايماناً وحاجة ذاتية وليست موضوعية.

لذلك صرح بان القانون الاخلاقي هو ما يأمرني بان اجعل الخير الاسمى الممكن في العالم الموضوعي النهائي هو ان يكون ‹‹لسلوكي باكمله، لكنني لا استطيع ان آمل في تحقيق ذلك الا بتوافق ارادتي مع ارادة صانع للعالم قدوس ومنان››.

مع هذا اعتبر انه على الرغم من ان السعادة الخاصة متضمنة في مفهوم الخير الاسمى، حيث تتمثل فيه اقصى السعادة المرتبطة بالكمال الاخلاقي، لكن ذلك لا يلغي كون القانون الاخلاقي هو الذي يمثل سبب تعيين الارادة الموجه نحو تحقيق هذا الخير.

وبالتالي ليست الاخلاق تعلمنا كيف نجعل انفسنا سعداء، بل كيف علينا ان نجعل انفسنا جديرين بالسعادة.

او ان غاية الله في خلق العالم ليست سعادة الكائنات العاقلة فيه، بل الخير الاسمى الذي يضيف على رغبة هذه الكائنات شرطاً وهو ان يكونوا جديرين بالسعادة، اي شرط الاخلاق.

وبذلك فان نظرية (كانت) تحمل في جعبتها العديد من الافتراضات والمصادرات المتراكبة، فبالاضافة الى وضعه مصادرة الحرية باعتبارها الاساس الذي يقوم عليه القانون الاخلاقي، وبدونها لا معنى للحديث عن الاخلاق، نجده يجعل من فكرة الخير الاسمى همزة وصل لافتراض كل من خلود النفس والوجود الالهي الحامل لكل الكمالات. وكما رأى انه توجد حاجة لدى العقل العملي المحض تتأسس على واجب ان يجعل الخير الاسمى ‹‹موضوع ارادتي لكي اقوم بكل ما بوسعي لتحقيقه››. لذا يجب افتراض امكانية وجود الخير الاسمى والتي تبنى عليه مصادرات الله والحرية والخلود. ويتأسس هذا الواجب على القانون الاخلاقي.

وعليه تشكل فكرة الخير الاسمى افتراضاً ضرورياً لتحقيق سعادتنا. فعلى اساس هذا الافتراض اقيمت مصادرة خلود النفس، ثم الحاجة الى مصادرة وجود الله، ثم اعتبار هذا الوجود تام الصفات من العلم والقدرة والخير التام. فالله بنظر (كانت) هو وحده القدوس، ووحده المبارك، ووحده الحكيم. فالمبدأ الاخلاقي بنظر (كانت) لا يقبل مفهوم الالوهة الا وفق افتراض صانع للعالم يكون على اعلى درجات الكمال، بحيث يكون عالماً بكل شيء مطلقاً، وانه كلي القدرة، وانه حاضر في كل مكان وأبدي. وبالتالي فالقانون الاخلاقي يعين بواسطة الخير الاسمى مفهوم الكائن الاصلي ككائن اسمى. فهذا لا يُنجز من قبل العقل النظري، بل من خلال القانون الاخلاقي.

فالكائن الاسمى هو الوحيد الذي يمكنه ان يوحد بين العنصرين المكونين للخير الاسمى، وهما السعادة والاخلاق. وفي كتاب (الدين في حدود العقل) اعتبر (كانت) ان هذه النتيجة تجعل الاخلاق تقود على نحو لا بد منه الى الدين. لكن الدين الذي يدعو اليه ليس المتعارف عليه.

لقد ربط (كانت) الخير الاسمى بالدين، فاعتبر القانون الاخلاقي يقودنا عبر مفهوم الخير الاسمى بوصفه الغاية النهائية الى الدين، اي الى معرفة كل الواجبات على انها اوامر الهية، لا على انها عقوبات، مع ضرورة ان ينظر اليها على انها اوامر الكائن الاسمى، اذ لا يمكننا ان نعقد الامل الا على ارادة كاملة اخلاقياً مقدسة ومنّانة. فبالانسجام مع هذه الارادة يمكننا ان نأمل في الوصول الى الخير الاسمى الذي يقيمه القانون الاخلاقي.

ولو اردنا ان نصوّر تراكب هذه الفرضيات بعضها على بعض، لكانت البداية معتمدة اولاً على مصادرة الخير الاسمى، فبها يمكن تبرير بقاء النفس خالدة بسعادة غير منقطعة، وان هذا التحقيق يحتاج الى شرط وجود الاله، وان وجود الاله يحتاج الى كمال الصفات لتحقيق كل ذلك. فهذه الافتراضات تتضمن المعاني القوية لا الضعيفة. وهو امر يضعف من نظريته ولا يجد تبريراً منطقياً لها، انما تبريرها قائم على الرغبة البراجماتية، لذلك صرح بان هذه القضية المصادرة هي ذات منفعة كبرى ليس فقط حرصاً على استكمال لنقص راهن للعقل التأملي، بل ايضاً اعتباراً للدين.

وتبقى كل هذه المصادرات والافتراضات مجرد اماني لا تقدم شيئاً ولا تؤخر.. وهي تجعل من نظرية (كانت) متهافتة الى حد بعيد.

ولهذا الفيلسوف اشارة الى هذه الامنية كما لو انها حقيقة عبر الفحوى البراجماتية. وكما قال: يستطيع كل انسان قويم الخلق ان يقول: انني اريد ان يوجد إله، وان يكون وجودي في هذا العالم، وكذا في العالم المعقول، كما ويكون دوام وجودي لا متناهياً، اني اتمسك بهذا من دون ان اعير اي اهتمام للسفسطات.. واني لن ادع احداً ينزع مني هذا الاعتقاد، لانها هذه هي الحالة الوحيدة التي تكون فيها مصلحتي.

وحقيقة لا اظن انه يوجد مخلوق يمكن ان يتقبل من جعل هذه الاماني افتراضات للتأسيس العقلي المحض كالذي يبشرنا به فيلسوف بروسيا.

كما ان اغلب البشر لا يولون القانون الاخلاقي بصيغته الكانتية اعتباراً، فهم لا يفصلون بين مصالحهم الشخصية والسلوك الاخلاقي. لذا فما هو مصيرهم بعد الموت؟ اذ وفق المنطق الكانتي انهم ليسوا جديرين بالسعادة والوصول الى الخير الاسمى.

وعموماً انه باستثناء فكرة الحرية فان جميع المصادرات التي افترضها (كانت) هي زائدة على القانون الاخلاقي الذي اراد تجريده من كل مادة. وهو يعي ذلك، كما جاء في مقدمته للطبعة الاولى من كتاب (الدين في حدود العقل)، حيث يقول: ان فكرة الخير الاسمى ليست متضمنة باطروحة الواجب الاخلاقي، بل هي قضية تأليفية قبلية وليست تحليلية. فالقضية القائلة: اجعل من الخير الاسمى الممكن في العالم غايتك النهائية، هي قضية تأليفية قبلية تم ادراجها من قبل القانون الاخلاقي، لكنها غير متضمنة فيه، حيث ان العقل العملي يمتد الى ما هو ابعد من القانون الاخلاقي. فهذه القضية تمنح مفهوم الاخلاق سببية في العالم كواقع موضوعي عملي، حيث يكون القانون الاخلاقي سبباً لتحصيل الخير الاسمى بوصفه غاية. وحيث ان قوة الانسان لا تحقق السعادة في عالمنا الطبيعي رغم ان الانسان الاخلاقي مؤهل لأن يكون سعيداً، لذا لا بد من افتراض كائن اخلاقي واسع القدرة ومهيمن على العالم بفضله يمكن ان يتحقق الاتفاق بين الاخلاق والسعادة. لهذا فان الاخلاق تقود لا محالة الى الدين.

على ان الدين الذي يدعو اليه (كانت) ليس الدين التاريخي، الذي يعبّر عنه بالايمان الكنسي، بل هو الدين الاخلاقي القائم على العقل العملي المحض، كما قدّمنا، وكما صرّح في (الدين في حدود العقل): لا يحتوي الدين الحق على اي شيء سوى القوانين غير المشروطة، وهي الموحى بها من طرف العقل العملي المحض.

comments powered by Disqus