-
ع
+

فلسفة النظام الاخلاقي (3)

يحيى محمد

الاخلاق الحدسية ومعضلة التخصيصات

لنبدأ الان بطرح الاشكالية التي تواجهها الاخلاق الحدسية، وهي كيف يمكن اعتبار جملة من القضايا الاخلاقية قبلية في حين انها قابلة للتخصيص والاستثناء؟ اي كيف يمكن ان تكون مطلقة وكلية وهي تتضمن حالات مخالفة؟ الامر الذي يبعث على شبهة التناقض، بل قد يقال انه لا يوجد لهذه الحالة شاهد في الضرورات العقلية المعروفة.

بالفعل ان اهم ما يميز النظام الاخلاقي الحدسي هو تقبله للاستثناءات المعقولة، وهذه الازدواجية لا نجدها في غيره من القضايا العقلية المألوفة، باستثناء احد انواعها ، وإن كان بطريقة مختلفة كما سنرى. فهو ينفرد بخاصية الجمع بين الاطلاق والاستثناء النسبي معاً من دون تناقض ولا اخلال. وقد تجاهلها عمانوئيل كانت فنسج صورة مثالية للنظام الاخلاقي لا تنسجم مع طبيعة هذا النظام. فكما عرفنا ان القضية الاخلاقية لدى (كانت) صورية شكلية تتسم بالاطلاق والكلية من دون تخصيص واستثناء. وتمثل هذه الصياغة أهم ما في نظرية (كانت) من ضعف. لذلك كان لا بد من البحث عن نظرية اخرى تعترف بما للنظام الاخلاقي من حدسية قبلية مع قابليته على التخصيص والاستثناء.

وثمة ثلاث نظريات هامة حاولت الاجابة على المشكلة المطروحة، وسنستعرضها كما يلي:

1- نظرية المفهوم المجرد

وفق هذه النظرية تعتبر الاخلاق الحدسية من حيث ذاتها - ومن دون اعتبار ما يترتب عليها من مصالح واغراض - مطلقة وغير قابلة للتخصيص والاستثناء عند النظر اليها في ذاتها، او في عالم المفهوم والماهية، قبل امتثالها لعالم الواقع والوجود. فالتفكير في القضايا الاخلاقية يحمل بعدين مختلفين، احدهما من حيث الماهية، والاخر من حيث الوجود، فمن حيث الماهية ليس ثمة تعارض او تزاحم بين المفاهيم الاخلاقية الحسنة، فكلها مطلوبة بشكل مطلق من دون تخصيص، وان مضاداتها منكرة مردودة من دون تزاحم، خلافاً للحاصل من حيث الوجود، حيث يحدث التزاحم بين المصاديق الاخلاقية فيصعب الحكم احياناً، او يرجح بعضها على البعض الاخر بما لا يحدث في حالة الماهية والمفهوم المجرد. وهي خاصية تتميز بها القضايا الاخلاقية الحدسية دون غيرها من الضرورات العقلية. فمن حيث نفس الامر يتصف النظام الاخلاقي الحدسي بالكلية والاطلاق، لكن من حيث الوجود الفعلي فهو يحمل استثناءات نسبية دون ان يتخذ صيغة الاطلاق والشمول التام.

وبذلك يكون النظام الاخلاقي قابلاً لحمل ازدواجية الاختلاف بين حقيقته الحدسية كماهية، وتطبيقه كواقع وجودي.

هذه هي نظرية المفهوم المجرد كما هو في ذاته، كالذي عوّل عليها الكثير من علماء منطق الحق الذاتي. وقد حاول البعض ان يطورها الى ان تكون نظرية اقتضاء مع الحفاظ على قبليتها وحدسيتها، واختلافها في الوقت ذاته عن سائر القضايا العقلية الاخرى، كما يتبين كالتالي..

2- نظرية الاقتضاء

وفق هذه الاطروحة تعتبر القضية الاخلاقية الحدسية ليست مطلقة كما هي في ذاتها، لكنها اقتضائية، حيث من شأنها ان تكون صحيحة بغض النظر عما يطرأ عليها من طوارئ في مرحلة لاحقة يتغير فيها الحكم، وذلك عند تنزيلها الى ارض الواقع. بمعنى انها صحيحة بالاقتضاء لا الاطلاق كما هو شأن نظرية المفهوم المجرد، او كما هو في ذاته، أي ان هذا الحكم الاولي يتضمن الاقرار بامكانية حدوث مانع شاذ يعترضه في عالم المزاحمات الواقعية، فيحصل ما يجعله قابلاً للتخصيص والاستثناء. ومن ثم فكل تخصيص واستثناء لا يخدش في الحكم العقلي الحدسي بمفهومه الاقتضائي، خلافاً للقضايا العقلية الاخرى.

هكذا تقر هذه النظرية بان كل قضية اخلاقية تتصف – من حيث ذاتها - بالكلية الاقتضائية من دون اطلاق، فهي تقتضي الحسن والمطلوبية بغض النظر عما يصادفها من عوارض مزاحمة.

ويعتبر ابن القيم الجوزية ممن التزم بهذه النظرية، فاعتبر ان تخلّف القضية الاخلاقية عن حسنها في ذاتها أحياناً؛ بسبب فوات شرط أو قيام مانع يقتضي مصلحة راجحة، لا يخرج القضية عن حسنها بالذات. فالعلل العقلية والأوصاف الذاتية المقتضية لأحكامها قد تتخلّف عنها لفوات شرط أو قيام مانع، ولا يوجب ذلك سلب اقتضائها لأحكامها عند عدم المانع وقيام الشرط. فالحال هنا هو اشبه بحال اكل الميتة عند الضرورة، فهي للاضطرار لوجود حالة اقوى تجعلها مرجحة[1].

كما تمسك بهذه النظرية بعض المتأخرين من علماء الشيعة، فتمّ تداولها في ابحاث اصول الفقه، كما في نهاية الدراية في شرح الكفاية للاصفهاني، واصول الفقه للمظفر. وتبناها المفكر محمد باقر الصدر، كما في بعض بحوثه الخارجية لاصول الفقه.

فقد رأى الصدر ان القضية الاخلاقية كما في الحسن والقبح مدركة من قبل العقل البديهي على سبيل الاقتضاء بغض النظر عن ابتلاءها بمزاحم وعدمه. فكل انسان سوي يمكنه ادراك حسن الصدق بغض النظر عن مزاحمة الحيثيات الاخرى التي تقضي بقبحه. فالحيثيات المقتضية للحسن والقبح قد تتزاحم في مرحلة تالية، كما في حالة اقتضاء حيثية حفظ الامانة لزوم الكذب. وبذلك تقع المزاحمة بين حرمتين او واجبين، هما حرمة الصدق وحرمة خيانة الامانة. ومن وجهة نظره ان الترجيح في هذه المزاحمة هي قضية نظرية تتقبل الاختلاف وليست بديهية كما هو الحال في القضايا الاخلاقية الاقتضائية[2].

مع ان الترجيح في قضايا المزاحمات تارة يكون واضحاً تماماً، واخرى لا يتصف بالوضوح. والسؤال المطروح من اين يأتي لعقلنا العملي هذا الوضوح في الترجيح لدى جملة من الحالات، لا سيما ان ذلك لا يتوقف على تجارب سابقة ولا على تعاليم دينية او اجتماعية؟ وعليه نرى ان الترجيح في القضايا الواضحة للتزاحمات الاخلاقية لا يمكن تفسيره خارج الاطار الحدسي للعقل العملي.

وبلا شك ان فكرة الاقتضاء وليدة النظر الى الواقع الخارجي، ولولاه ما كان من الممكن تقرير الحال ان كانت القضية الاخلاقية اقتضائية ام لا، اذ يمكن تصور وجود عالم يخلو من المزاحمات، لا سيما ان النظر في هذه القضية لا يعرّفنا بمفهوم الاقتضاء، فالاخير عارض عليها وليس مستمداً منها.

***

لكن سواء بالنظرية الاقتضائية، او بنظرية المفهوم المجرد، تعتبر القضية الاخلاقية حدسية عقلية. وان الخلاف بينهما هو ان النظرية الاقتضائية تقر بان الاستثناء مأخوذ في اعتباره سلفاً، حيث تقيد صحة القضية الاخلاقية بعدم المزاحم، وبذلك فانها تبني جسراً بين المفهوم والواقع. في حين ليس في نظرية المفهوم المجرد هذا التقييد، حيث يتم الفصل بين النظر في المفهوم كماهية من دون اعتبار لشيء اخر، وبين التطبيق الفعلي للمفهوم وما يعترضه من تخصيصات واستثناءات، وبالتالي لا يوجد جسر يمكن تشييده بين المفهوم والواقع. لذلك فان القضية الاخلاقية لدى نظرية المفهوم المجرد هي كلية ومطلقة في عالم الماهية، في حين انها لدى النظرية الاقتضائية كلية غير مطلقة.

3- نظرية اللزوم الخيري

كثيرة هي النظريات التي تسعى الى الربط بين الاخلاق وما يترتب عليها من لوازم. لكنها ليست بصدد حل مشكلة التخصيصات والاستثناءات، ولا بصدد اعتبارها حدسية قبلية. لذلك لا بد من بناء نظرية تفي بهذين الجانبين عبر قانون شامل يفسر لنا طبيعة هذا الصنف من الاخلاق المتعالية.

وبداية نسلّم بصحة ما تقوله نظرية المفهوم المجرد من وجود ازدواجية في القضايا الاخلاقية الحدسية. بل ليس من الغريب ان تتصف هذه القضايا بالمفارقة المزدوجة بين مفهومها الذاتي وواقعها الفعلي. فبعض الضرورات العقلية لها مثل هذه الازدواجية المفهومة بطريقة اخرى كما سيتبين لنا من خلال البحث كالتالي..

الاخلاق الحدسية والمنطق الاحتمالي

إن القضايا العقلية الضرورية على انواع مختلفة، وقد ميزناها في بعض الدراسات بأربعة اصناف، ولكل منها شروطها وقيودها. فهي إما ان تكون منطقية كما في مبدأ عدم التناقض، او غير قابلة للتكذيب كما في مبدأ السببية العامة وعدم التناقض الوجودي، او احتمالية كما في الاحتمالات المتماثلة، او قيمية كما في مبدأ العدل الاخلاقي. وتتميز الضرورة الاخلاقية بالتغاير بين عالمها المفاهيمي كما هي في ذاتها والواقع الموضوعي. وهي من هذه الناحية لا تختلف مبدئياً عن منطق الاحتمالات في وجود مفارقة بين العالمين المشار اليهما. بل ان القضايا الاحتمالية تحمل ازدواجية صارخة بين الماهية والوجود.

فعلى صعيد الماهية والمفهوم ان رمي قطعة نقد متماثلة الوجهين عشوائياً يعطينا قيمة احتمالية عقلية مقدارها (1\2). لكن من الناحية الواقعية ان اغلب اختبارات حالات الرمي لا تعطي هذه القيمة بالضبط. فالقضايا الاحتمالية تحمل ازدواجية متعاكسة على نحو صارخ بين عالمي المفهوم والواقع.

مع هذا تختلف القضايا الاخلاقية عن القضايا الاحتمالية بأمور:

ان النظر في القضايا الاحتمالية يمدنا بدليل ضروري بأن قيمها الرياضية لا تتطابق غالباً مع مصاديقها الواقعية، او ان التوقعات التي نستشرفها لا تتطابق مع النسبة القبلية لهذه القضايا. ومن ثم يمكن استنتاج التناسب الطردي في التقارب بين المفهوم القبلي للاحتمال من جهة، والواقع الفعلي له من جهة ثانية، وذلك كلما طالت سلسلة الاختبارات. لكن ليس من المتوقع الحصول على التطابق بين المفهوم القبلي والواقع الفعلي الا عند سلسلة الاختبارات اللامتناهية، فكلما طالت الاختبارات كلما ازداد التقارب بين المفهوم القبلي للاحتمال والواقع المتعلق به، طبقاً لقانون برنولي[3].

في حين ليس لدينا ادنى علم قبلي حول استشراف القضايا الاخلاقية. فليس لدينا توقعات ما يمكن ان يحدث لهذه القضايا على صعيد الواقع لولا خبراتنا البعدية. بمعنى ان من الممكن لهذه القضايا ان تتعايش بسلام دون تزاحم في عالم اخر غير عالمنا الذي يشهد التزاحم احياناً. وهو ما لا يصدق على القضايا الاحتمالية، فهي قابلة للاستشراف والتوقع في اي عالم مفترض من دون اختلاف.

كذلك ان الاختلاف الحاصل بين المفهوم والواقع في القضايا الاخلاقية هو امر شاذ ومستثنى كما يتبين لدينا وفق العقل البعدي. فمثلاً حين نتأمل الصدق في ذاته بغض النظر عن اي شيء آخر يزاحمه نجده مطلوباً على خلاف الكذب. فهذا هو حال ما عليه الماهية، او ما يعبر عنه قديماً بنفس الامر. أما من حيث الواقع فقد يترجح الكذب على الصدق احياناً، لكن هذه الحالة ليست هي الغالبة مثلما رأينا في حالة القضية الاحتمالية.

يضاف الى ان اكتشاف ما يحصل من شذوذ على صعيد الواقع في القضايا الاخلاقية انما يأتي من حيث العقل البعدي، خلافاً للقضايا الاحتمالية التي يمكن استنتاج نتائجها الواقعية من حيث العقل القبلي لا البعدي. فثمة قوانين رياضية تتحكم في تحديد الامكانات الاحتمالية للتنبؤات الاستشرافية. وهذا ما لا يرد في القضايا الاخلاقية.

مع ذلك نتساءل في هذه الحالة: هل من الممكن ان نأتي بقانون عقلي مطلق يمكن اعتماده في القضايا الاخلاقية من دون استثناء ولا تخصيص؟

ونجيب بان ذلك يعتمد على طبيعة اللزوم الذي تتضمنه القضايا الاخلاقية، فما هو مصدر هذا اللزوم؟

قانون اللزوم الاخلاقي

تتضمن العلاقة بين الموضوع والمحمول في القضية الاخلاقية نوعاً من اللزوم، فاذا كان الموضوع يعبر عن مفهوم العدل او الصدق او الامانة، فسوف ندرك ما يلزم عنه بانه حسن ومطلوب. لكن السؤال الذي يخطر بهذا الصدد: اي نوع من اللزوم تتضمنه القضية الاخلاقية؟

بلا شك انها لا تتخذ طابع اللزوم المنطقي، فلو اننا اعتقدنا بالقضية القائلة (الصدق قبيح ومردود) نجد انها لا تنطوي على تناقض منطقي، فهي تختلف تماماً عن القضية القائلة: الواحد المضاف الى مثله يساوي ثلاثة، او الحكم بان الخمسة تتضمن السمة الزوجية لا الفردية. فالحكمان الاخيران لا يتفقان مع اللزوم المنطقي القائم على مبدأ عدم التناقض.

كذلك لا تتخذ العلاقة بين الموضوع والمحمول في القضية الاخلاقية طابع اللزوم العلّي، بحيث نعتبر الصدق علة للحسن والمطلوبية بما لا يمكن ان يتخلف المعلول عن علته، فحيث هناك صدق فهو مطلوب بحكم ارتباطه العلّي، وكذا الحال مع سائر القضايا الاخلاقية، رغم اننا نجد بعض التخصيصات والاستثناءات بما لا يتلاءم مع قانون العلية المطلق.

هكذا اذا لم تكن القضية الاخلاقية الحدسية حاملة للزوم المنطقي ولا العلّي، ولا انها نفسية، ولا اعتبارية ذهنية، بل ولا كسْبية نتعلمها من التجارب الخارجية، لذا ما هي طبيعة هذا اللزوم الذي يتعين به مصدر الحكم الاخلاقي؟

وبعبارة ثانية: ما هو معيار الحكم الاخلاقي الذي يتحدد به اللزوم المطلوب؟ فهل من قانون معين يمكن الاعتماد عليه في تحديد هذا اللزوم؟

نعتقد ان المعيار الذي نبحث عنه يتمثل بقانون الخير والصلاح، وفي قباله الشر والفساد الاخلاقيين. فكل ما يترتب على القضية الاخلاقية إن كان خيراً او شراً ستُحكم به. فالاخلاق الحدسية قائمة على هذا اللزوم من الخير والشر.

وبذلك يتيح لنا هذا القانون الابتعاد عن الاحكام الذاتية وصفاتها واحوالها واعتباراتها كما كان اصحاب منطق الحق الذاتي ينقسمون حولها، حيث القول بالحسن والقبح استناداً الى ذات الفعل او صفاته اللازمة او لوجوه واعتبارات اخرى ملحقة بالفعل، او من حيث الاقتضاء كما عرفنا.

فوفق قانون اللزوم الخيري ان من الممكن تخيل عالم تنقلب فيه العلاقات بحيث يسود فيها التزاحمات التي تبرر لخيرية الكذب وشريّة الصدق، والشيء ذاته مع بقية القضايا الاخلاقية التي تصبح فيها التزاحمات هي الغالبة في العلاقات، ومن ثم ليس من معيار سليم يمكن اتخاذه غير الاعتماد على قانون الخير الاخلاقي.

القانون الاخلاقي وتحليل القضايا

لقد عرفنا ان القانون الاخلاقي يتحدد بمعيار الخير والصلاح. ومن الممكن تحليل قضايا هذا القانون قبلياً عبر النظر الى ما يترتب عليها من خير وصلاح، اذ يفترض ان تطبيقات هذا القانون عامة وقابلة لأن تصدق في اي عالم مفترض، سواء في عالمنا الفعلي المشهود، او في عالم اخر غيره.

فمثلاً يمكن تحليل قضية الصدق والكذب عقلياً، فمن الناحية القبلية يرتبط الصدق بحالة معينة حقيقية لا تقبل التردد، لذا فالتوجه القصدي الى تعيينها يفضي الى مصلحة من هذه الجهة. في حين ان الكذب يدعو الى التضليل، ويفضي الى ترددات كثيرة لا يعلم عن حقيقتها شيء على وجه التحديد. لذلك يترتب على الكذب ضرر من هذه الجهة بخلاف الصدق. 

ومن حيث النظر البعدي نجد في اغلب حالات الصدق مصلحة عظيمة، وهو ما يجعله مطلوباً وفق هذه المصلحة، وفي اغلب حالات الكذب مفسدة عظيمة، وهو ما يجعله منكراً وفق هذه المفسدة. فمن حيث الصدق تنشأ معرفة الصواب والحقيقة ومن ثم الثقة. فحتى لو حصل خطأ في التعيين احياناً من دون قصد، فعلى الاقل تتولد ثقة لدى المتلقي ان القائل شخص صادق، واذا كان قد اخطأ احياناً ففي الغالب انه لا يخطئ. في حين ان الكذب مضلل لا يبعث على معرفة الصواب والحقيقة ومن ثم يؤدي الى فقدان الثقة، حيث التردد بين خيارات كثيرة تبعث على الحيرة والضلال دون معرفة الحقيقة. فبعد ان يعلم المتلقي حالة الكذب المتعمد يفقد ثقته بالقائل، ويصبح في تردد بين ان تكون المعلومة بهذا الشكل او ذاك او غيرهما. لذلك فان الكذب مفسدة أكيدة في اغلب الاحيان.

وعموماً حينما نتمسك قبلياً بمعيار الخير والشر سنجد من الناحية البعدية ان اغلب حالات الصدق في الواقع تدعو الى الخير، وعلى خلافها حالات الكذب، حيث اغلبها يدعو الى الضرر او الشر. وحينما يحصل العكس، بحيث يدعو الكذب الى الخير، ويدعو الصدق الى الشر، فسينقلب الحكم طبقاً للمعيار المتبع، حيث سنعتبر الكذب هو المطلوب والمعول عليه، والصدق هو المنكر. لكن من حيث الواقع ان اغلب الحالات التي نراها هي ان الخير يترتب على الصدق لا الكذب، وهو امر لا يتنافى مع خيرية الكذب في حالات مخصوصة كما في التزاحم، فالتعويل هنا على الكذب انما لخيريته لا لأنه كذب، مثلما ان التعويل على الصدق انما لخيرته وصلاحه لا لأنه صدق.

وتبقى الحالة الطبيعية هي ان الصدق هو الذي يبعث على الخير، أما الكذب فهو لا يبعث على الخير الا مع وجود قضية اخلاقية مزاحمة.

بمعنى ان من الممكن افتراض عالم تسود فيه المزاحمات ويكثر فيه الكذب المفضي الى الخير بخلاف الصدق. أما مع عدم المزاحمات فسيبقى الصدق هو ما يبعث على الخير دون الكذب تبعاً للتحليل العقلي الانف الذكر. وهو ما يعني ان اصالة الخير من حيث التحليل العقلي تلزم عن الصدق لا الكذب، ففيه صفة لزومية تجعله حسناً ومطلوباً، لكن لزوم هذه الصفة ليست حسنة ومطلوبة في جميع الاحوال. لذلك فان التحسين العقلي للصدق ليس من حيث صفاته اللازمة، ولا من حيث ذاته، ولا تبعاً لوجوه الاعتبارات فيه، بل لارتباطه اللزومي بالخير والصلاح على وجه التحديد.

كذلك الحال في مسألة العدل والظلم، حيث مردهما الى الخير والشر. فمن الناحية القبلية يحكم العقل بعدم جواز ضرب الابرياء وتعذيبهم وقتلهم، ومن حيث التحليل ان هذه القضية العقلية تتضمن الضرر الملحق بالاخرين، او حتى بانفسنا ومن ثم بالانسانية جمعاء، فحيث يوجد ضرر فثمة شر. لذلك يترتب على الاعتداء غير المبرر شر، وعلى المسالمة خير، وان للافعال في هذه الحالة نتائج من الخير والشر على الانسانية جمعاء حتى وان كانت قاصدة شخصاً محدداً، بما في ذلك ما يرتبط بعلاقة الشخص مع نفسه، سواء عاملها بعدل او ظلم. وهكذا هو الحال مع القضايا الاخلاقية الاخرى.

والنتيجة ان الحالة الطبيعية عند غياب التزاحم هي التعويل على القضايا الاخلاقية المعهودة، فلها لوازمها من الخير والشر. أما مع حضور التزاحم فالامر يختلف، حيث من الممكن ان تنقلب هذه القضايا الى ما يخالفها؛ لمبررات تتعلق بمعيار الخير والصلاح كقانون عام لا يقبل الاستثناء.

إذاً فالتحليل العقلي يكشف عن ان جوهر القضية الاخلاقية يستلزم الخير والصلاح الراجحين من دون فصل وانعزال، وفي قبالهما الشر والفساد. ومن ثم نستخلص ان كل حالة تمتاز بالخير والصلاح الاعظم ستكون مطلوبة لهذه العلة، فتقتضي الترجيح على ما يزاحمها من حالات اخرى.

وبذلك تتضح اهمية قانون الخير والصلاح، وهي انه لا يضطرنا الى التمسك بالموقف الازدواجي التقليدي اتجاه القضية الاخلاقية الحدسية، حيث الاختلاف في الموقف ازاء مفهوم القضية من جهة، وواقعها من جهة ثانية. بل سنكتفي بتحليل هذه القضية دفعة واحدة اعتماداً على فكرة الخير والصلاح الاعظم، فالاخير هو ما يحدد مطلوبيتها. فسواء كانت القضية الاخلاقية موجبة ام سالبة فانها تتبع ما عليه الخير العام والصلاح الاعظم من الناحية النوعية لا الشخصية.

وبعبارة ثانية، انه سواء كانت القضية الاخلاقية تعبر عن ذات القضايا المطلوبة بشكل عام مثل الصدق والامانة والمسالمة وغيرها، او تعبر عن منافياتها كالكذب والخيانة والاعتداء، فان المعيار الذي يحكمها هو قانون الخير الاعظم بما له علاقة بالانسانية عموماً، حتى وان كانت الافعال الاخلاقية قاصدة اشخاصاً معينين من دون عموم.

فهذا هو ملاك القضية الاخلاقية ومعيارها الثابت، دون حاجة لتقسيمها وفق المفهوم والواقع، كما لا ينفع اعتبارها اقتضائية.

ولا يُستمد هذا القانون من العقل البعدي او التجارب الخارجية، بل يكفي تحليل القضايا الاخلاقية ذاتها لمعرفة ما فيها من خير وصلاح.

صحيح اننا قد لا ندرك بعض المصالح او الترجيح فيما بينها عند التزاحم، لكن ذلك لا يضر بالمبدأ العام، حيث لا توجد قضية الا وفي مصاديقها حالات واضحة واخرى ملتبسة.

ونواجه بهذا الصدد اشكالاً عسيراً، وهو اننا في حالات معينة لا نرجح قوة المصلحة الظاهرة على ما هو اقل منها. وكما اشرنا في كتاب (النظام المعياري) انه ‹‹قد تحصل مصلحة أعظم في قبال حق متعين، ومع ذلك يرجح فيها الحق على المصلحة وإن عظمت. فمثلاً لو توقفت حياة شخصين من الناس على قتل ثالث بريء؛ لما جاز هذا القتل لأجل إنقاذ الشخصين››.

كذلك لو ان حياة شاب متوقفة على موت شيخ يبلغ من العمر ما يناهز التسعين عاماً، فهل من الجائز استخدام بعض اعضائه لانقاذ الشاب من الموت؟

وبلا شك توجد مصلحة ظاهرة قد تجعلنا نحكم بان انقاذ الشاب اهم من حياة الشيخ الهرِم، وذلك فيما لو لم نمتلك معلومات اخرى تخصهما. ومثل ذلك انقاذ شخصين من خلال قتل ثالث بريء كما في المثال الاول. في حين من حيث الفطرة البشرية والعقل العملي فان تحقيق هذه المصلحة غير مستساغ، فثمة اعتداء وظلم واضحان للعيان رغم الاعتراف بوجود مصلحة في حياة الشاب عوض الشيخ الهرِم، وكذا بالنسبة للشخصين في قبال الثالث.

فالإشكال من خلال المثالين السابقين يرينا انه ليس كل ما هو اعظم خيراً وصلاحاً يفي بالغرض. وهو الاعتراض الذي يواجه القانون الاخلاقي المشار اليه، حيث تبدو هذه الحالة منافية لهذا القانون.

لكن عند التأمل نجد ان الاعتداء المشار اليه وان كان فيه مصلحة شخصية اعظم بالنسبة لانقاذ الشاب في قبال الشيخ الهرِم كما في المثال الاخير، وكذا الحفاظ على حياة شخصين في قبال شخص ثالث كما في المثال الاول، الا ان فيه ضرراً باطنياً عظيماً بالنسبة للمصلحة البشرية العامة. ففيه تشويه للفطرة البشرية من الداخل وهتك ضمني للصالح العام. فهو وان كان فيه مصلحة شخصية اعظم، لكنه مضر عند النظر الى صميم ما عليه فطرة الانسان. لذلك لن يكون مثل هذا الفعل صلاحاً للبشرية ولا خيراً اعظم، بل شر اعظم. ومن ثم فقانون الخير والصلاح يبدو سليماً.

قانون الاخلاق والواقع

يتميز قانون الاخلاق المشار اليه بان له قابلية على تبرير علاقة التأثير المتبادل بين الاخلاق والواقع. فرغم ان طبيعة النظام الاخلاقي مختلفة جوهراً عن طبيعة الواقع الموضوعي، حيث يعود الاول الى عالم الاحكام الانشائية والتي لها علاقة بما ينبغي ان يكون لا بما هو كائن كالذي ينتمي اليه الواقع الموضوعي القابل للوصف والتقرير، لكن مع ذلك فبينهما تأثير متبادل، وان دعوى الانفصال التام بينهما كالتي اشار اليها ديفيد هيوم ليست صحيحة، فاحدهما يؤثر في الاخر بشكل ملحوظ تماماً. فالقيم الاخلاقية سواء كانت حسنة او سيئة تعمل على تغيير الواقع الموضوعي، كما ان ظروف هذا الواقع وطبيعته يعملان على تغيير هذه القيم. فمثلاً تعمل القرارات (الاخلاقية) التي تتخذها الدولة، او من لهم ولاء شعبي كبير، على خلق واقع جديد يختلف عما سبق، وهذا يبين ان القيم الانشائية لما ينبغي ان يكون تؤثر على القيم الوصفية لما هو كائن. كما في المقابل ان التكنلوجيا الحديثة، وهي قد اصبحت من ضمن الواقع الذي نعيشه، تؤثر في سلوكيات الطفولة ومن ثم الخيارات الاخلاقية عند الكبر. الامر الذي يبين بان القيم الوصفية لما هو كائن تؤثر في القيم الانشائية لما ينبغي ان يكون.

وحيث ان الواقع يكشف عن المصالح والمفاسد، فهو من هذه الناحية يكشف عما هو مطلوب ومنكر، وهذه هي وظيفة القضية الاخلاقية بما يجعلها خاضعة للقانون المشار اليه. فما هو كائن ليس بمعزل عن القانون الاخلاقي المتضمن لما ينبغي ان يكون. ومن ذلك ان العلم (science) بامكانه ‹‹أن يقدّر لنا المصالح والمفاسد في الأفعال، وبالتالي بإستطاعته أن يعرّفنا على القيم الحسنة. لذا فالترابط بين أحكام القيم وأحكام الواقع وثيق لا يقبل التفكيك››[4].

وبما اننا اليوم نشهد تحولات كبيرة على مستوى العلم والتكنلوجيا، لذا اصبح من الواجب وفقاً للقانون الاخلاقي ان تفعّل المؤسسات العلمية والتكنلوجية جملة من الضوابط الاخلاقية الملزمة دفعاً للخطر المحدق بالحياة البشرية، كما يحصل في كل تطور علمي وتكنلوجي جديد.

التناغم بين الاخلاق والوجود

يتضمن النظام الاخلاقي بعدين مختلفين، احدهما وجودي واقعي والاخر معياري. وقد يجتمعان، كما قد يفترقان. ويتميز البعد المعياري بوجود الدافع القصدي الحر للخيار الاخلاقي، في حين يتميز البعد الوجودي بافتقاره الى هذا الدافع الحر. ويجد الاول في القيمة الاخلاقية امراً ذاتياً خلافاً للثاني الذي يخضع لسلطة خارجية في تقبله للخيار الاخلاقي، كسلطة الواقع الاجتماعي.

ويلاحظ ان النظام الاخلاقي في بعده الوجودي يتلاءم مع الواقع البشري، فكلاهما متسق ومنتظم ومطلوب، وان الخلل في احدهما ينعكس على الاخر، فبينهما تكامل وتبادل في التأثير وفق المستوى الانطلوجي للاخلاق. فعالمنا الانساني مصمم على غلبة القيم الحسنة حتى وان خلت من النوايا والدوافع الطيبة.

فهذا هو البعد الانطولوجي للنظام الاخلاقي والذي يناسب ما عليه واقعنا البشري. لكن ماذا بشأن البعد المعياري؟ فهل هو حاضر بقوة لينسجم مع تطلعات الوجود البشري؟

الجواب: العكس هو الصحيح. فالوجود البشري يعاني من نقص حاد في حضور هذا البعد الجوهري في القضية الاخلاقية. فواقعنا الاجتماعي محكوم في الغالب بسلطة البعد الوجودي لا المعياري للاخلاق، ومن هذه الناحية تشهد العلاقة بينهما الافتراق لا الاتحاد والاجتماع، لذلك لو رفعنا السلطة الاجتماعية لتحوّل البشر الى قطيع غابة متوحشة.

وسبق لنا في بعض الدراسات ان اعتبرنا هذه الحالة دالة على ان البشر يمثلون حلقة وسيطة تحتاج الى رقي منتظر يعمل على قلب التحكم الاخلاقي من البعد الوجودي الى البعد المعياري، اذ سيغدو الاخير هو ما يحدد الاول، لا العكس كما نلاحظه في علاقاتنا الاجتماعية عادة.

وهذا هو مغزى وجودنا ضمن سلسلة التطور الموجّه كما نظّرنا له في كل من (صخرة الايمان) و(جدليات نظرية التطور).

الخلط بين الاخلاق الحدسية والأعراف الاجتماعية

كثيراً ما يرد الخلط بين الاخلاق الحدسية من جهة، والاعراف والتقاليد من جهة ثانية، بل ويجري التعميم القائل بنسبية القضايا الاخلاقية كافة من دون تمييز، فما يكون حسن هنا فهو قبيح هناك، او هو ليس بحسن ولا قبيح لدى ظرف او شخص اخر. وكما عبّر الشاعر ايليا أبو ماضي في أبيات من الشعر عن هذه الرؤية النسبية للقيم الاخلاقية، كالتالي:

رب قبح عند زيد.. هو حسن عند بكر

فهما ضدّان فيه.. وهو وهم عند عمرو

فمن الصّادق فيما يدّعيه، ليت شعري

ولماذا ليس للحسن قياس؟

لست أدري!

ويعمم هذا التصور على كافة انماط القيم الاخلاقية بما في ذلك ما نسميه بالاخلاق الحدسية؛ لا سيما عند الاخذ بعين الاعتبار ما تتعرض له من تزاحم في الواقع الموضوعي، اذ تتوافق مصاديقها احياناً دون اخرى، ومن ذلك ان العمل بالصدق لا يلزم بشكل مطلق، وانما في حالات دون اخرى، وهو من هذه الناحية يوهم بالنسبية.

لكن هذه الحالة تختلف عن نسبية القضايا الاخلاقية العائدة الى الاعراف والتقاليد، فما يكون حسناً في ظرف او مجتمع قد يكون منكراً في ظرف او مجتمع اخر.

ومن حيث التحقيق ان عدم العمل ببعض القضايا الاخلاقية الحدسية يمكن الاجابة عنه وفق النظريات الثلاث السابقة بعيداً عن منطق النسبية كما يحدث في حالة الاعراف والتقاليد.

فمن حيث نظرية المفهوم المجرد ان القضية الاخلاقية الحدسية تبقى صحيحة مطلقاً من دون تخصيص واستثناء في عالم الماهية وبغض النظر عما يصادفها من عوارض في عالم الوجود والواقع. فهي في عالم الماهية ونفس الامر لا تختلف عن اي قضية عقلية ضرورية اخرى، انما المشكلة هي حينما يحدث التزاحم بين مصاديقها على صعيد الواقع. فالتزاحم هو ما يُبطِل العمل ببعض القضايا الحدسية، لكن دون ان ينتقص من ذاتها شيئاً. وبالتالي فانها بعيدة كل البعد عن منطق النسبية التي تنتمي اليه الاعراف والتقاليد والقوانين المدنية والدينية.

ومن حيث النظرية الاقتضائية يمكن الاجابة بان القضية الاخلاقية هي قاعدة كلية سليمة تماماً وان لم تبلغ درجة التعميم المطلق، وهي من هذه الناحية ليست نسبية ولا خاضعة للاعراف والتقاليد وسائر القوانين المدنية والدينية، فالاقتضاء الحاصل فيها هو لوجود ما يعترضها من موانع ومقتضيات، لكنها تبقى صحيحة في عالم الماهية والمفهوم.

أما من حيث نظرية الخير والصلاح فمن الواضح ان قانون الخير الاعظم هو ما يحدد لنا طبيعة الحكم الذي نختاره في القضية الاخلاقية دون الخضوع لمنطق النسبية ولا التأثر بالاعراف والتقاليد وسائر القوانين المشار اليها.


[1]  ابن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة، ج2، ضمن الوجه الحادي عشر من وجوه الكلام على كلمات النفاة.

[2]    حسن عبد الساتر: بحوث في علم الاصول، تقرير لابحاث محمد باقر الصدر، ج6، ص354-355، عن الموقع الالكتروني نرجس:http://www.narjes-library.com/2013/12/blog-post_1.html

[3]  للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي.

[4]  انظر: النظام المعياري.

comments powered by Disqus