-
ع
+

أثر القبليات في الإدراك والعلم والفهم

يحيى محمد

الفكر هو علاقة معرفية تربط الذهن بالموضوع. او هو قراءة الذهن ورؤيته للموضوع. ففيه ان العلاقة قائمة بين القراءة والرؤية من جهة، وبين الموضوع من جهة أُخرى. فطالما هناك تفكير بشري فلا بد من هذه العلاقة الثنائية. ففي علم الطبيعة مثلاً هناك علم من جهة، وهناك طبيعة مستقلة من جهة ثانية، او قل هناك شيئان: شيء لذاتنا وشيء في ذاته. وهذا التقسيم يجعل العلاقة بين الفكر والموضوع ليست متطابقة بالضرورة، فهي اشبه بعلاقة الماهية بالوجود حسب تصور فلاسفتنا القدماء، اذ الوجود واحد لكنه يتعدد بتعدد قابليات الماهيات ويتنوع بتنوعها.

هكذا فان الفكر يتعدد مع ان الموضوع واحد. وهذا ما يبرر اختلاف القراءات الى الدرجة التي يرى فيها الكثير ان النص مفتوح وقابل الى ما لا نهاية له من القراءات والأفهام، واليه يعود السبب فيما يطرح احياناً من تساؤل حول ما اذا كان للنص معنى مقصود كشيء في ذاته ام لا؟ فهذه النسبية تدل على ما للفكر من تأثر بكل من الذهن والموضوع، مثل تأثر الصورة في المرآة بكل من الشخص وهذه الأخيرة. فالمرآة المستوية لا تعطي ذات الصورة التي تعطيها المرآة المقعرة او المحدبة او غيرها، لكن جميع المرايا تظل معبرة عن شيء واحد لا غير، هو ذلك الشخص، دون ان تخلط بينه وبين غيره من الأشياء. ونفس الحال يجري مع الفكر والقراءات.

فالفكر واقع - لا محالة - تحت تأثير الذهن البشري واعتباراته القبلية. وقد تكون هذه الاعتبارات عامة مشتركة، كما قد تكون خاصة ببعض الأذهان دون البعض الآخر. فمثلاً على الاعتبارات القبلية العامة؛ مبدأ السببية وعدم التناقض، ولكون هذه القضايا واضحة للجميع فإن بها يكون العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، حسب قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت[1]. أما الاعتبارات القبلية الخاصة فهي تعود الى المنظومات الفكرية المتباينة، فمثلاً للمنظومة الفلسفية اعتباراتها القبلية الخاصة التي تميزها عن الاعتبارات القبلية الخاصة بالمنظومة الكلامية، وهكذا.. كما قد تكون هذه الاعتبارات منضبطة او غير منضبطة، اي تخضع الى قواعد واضحة فتكون منضبطة، او انها لا تخضع الى ذلك كتلك المتأثرة بالظروف النفسية والخارجية فتكون غير منضبطة.

وليس الفكر الديني ومنه الاسلامي بمنئى عن هذه الحقيقة العامة، حيث انه ايضاً متأثر بما عليه الذهن البشري واعتباراته القبلية بأصنافه السابقة، فهو بالتالي فكر بشري اجتهادي قابل للتعدد كغيره من مذاهب الفكر. وحتى التيار المتصف بالنقلي او البياني يستند الى عدد من القبليات المعرفية تجعله تياراً اجتهادياً كغيره من التيارات الدينية، كالذي أشار اليه ابن رشد في بعض المواضع من كتابه (مناهج الأدلة في عقائد الملة).

علماً بأن القبليات المعرفية هي كل معرفة يعتمد عليها في الادراك والعلم والفهم سلفاً، وهي لا تشكل بالضرورة مبادئ ثابتة ولا قواعد منضبطة، بل منها ما هو منضبط وثابت، كما منها ما هو غير منضبط ومتغير، وان البشر يتفاوتون ويختلفون حولها، فمنها المتفق عليه، ومنها المختلف حوله.

والمشترك بين ادراك الشيء الخارجي وبين فهم النص هو ان الموضوع المعالج لدى كل منهما يمثل مادة خام يراد الكشف عن معناها وتفسيرها. وهو ما يمكن اعتباره (الشيء في ذاته)، وان كلاً منهما يخضع الى آليات من التفكير القائم على القبليات. والفكر البشري عن وعي او غير وعي يعمل طبقاً لهذه القبليات، حاله في ذلك حال اللغة حيث هي الأُخرى تعمل ضمن وعاء مشترك قبلي قادر على فهم الجمل اللغوية وتوليدها بلا حدود، سواء كان ذلك يجري عبر نظام (الكفاية اللغوية) كما اطلق عليه تشومسكي، او عبر خرق هذا النظام بأداة (المتبقي) كما اطلق عليه لوسركل. لكن تظل القابلية الفكرية اعمق واوسع مدى من القابلية اللغوية، وفيها من القواعد والمبادئ ما لا نجده في القابلية اللغوية، وبها يتهيء العمل ضمن انظمة معرفية قد تختلف وقد تشترك.

وقد كان عمانوئيل كانت (المتوفى سنة 1804) يعتبر العقل هو الذي يحدد الموضوع الخارجي، وهذه هي ثورته كما وصفها بأنها ثورة في الفلسفة على غرار الثورة الكوبرنيكية في علم الفلك، فكما ان كوبرنيك قلب التصور البطليمي القديم معتبراً الارض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، فكذا ان (كانت) اعتبر العقل هو المحدد للشيء الخارجي خلافاً للرؤية السائدة قبله والتي كانت على العكس ترى الشيء الخارجي هو الذي يحدد العقل، ومنه الاستنتاج القائل بتطابق العقل والطبيعة، او الصورة الذهنية والشيء الخارجي.

وبحسب المقياس (الكانتي) فان ما هو قبلي جدير بتحديد ما هو بعدي. ولا شك ان هذا الحال ينطبق على ما يجري في الفهم. ولو صحت مقولة (كانت) لكان الفهم هو المحدد للنص لا العكس، وبعبارة ادق ان ما هو قبلي للفهم يقوم بتحديد ما هو بعدي له.

وتعتمد نظرية (كانت) السابقة على التفرقة بين «ما لذاتنا وما في ذاته»، وهي تفرقة صحيحة. فنحن لا نمتلك فعلاً غير «ما لذاتنا»، لكن ذلك لا يعني وجود فصل تام بين الأمرين كما يميل اليه (كانت)، اذ يرى ان الذهن البشري يحدد الأشياء عبر ادراك «ما لذاتنا» بمعزل عن «الشيء في ذاته»، طالما ان هذا الأخير يستحيل ادراكه، فكل ما ندركه هو ذلك الظاهر في الذهن، وهو لا يدل على المطابقة مع «الشيء في ذاته» باي نحو من الانحاء، ويظل هذا الشيء بالنسبة الينا مجهولاً مطلقاً. وبالتالي فإن القبلي هو ما يحدد البعدي بهيئة (ما لذاتنا)، استناداً الى الشروط القبلية والقوالب الذهنية كشرط السببية وقالبي الزمان والمكان.

وقد نثبت العكس، وهو ان للأشياء دوراً في تحديد «ما لذاتنا»، لذا فالفصل المطلق بين «ما لذاتنا وما في ذاته» هو فصل وهمي مفتعل. مما يعني ان من الممكن استكشاف بعض الحقائق الموضوعية في الأشياء، كما يمكن اثبات هذه الأشياء - نسبياً - عوضاً عن الزعم (الكانتي) الذاهب الى ان الشروط القبلية لا تمتلك موضوعية خارجية بالضرورة، وهو ما يجعل الشيء في ذاته عصياً عن التحديد والمعرفة. رغم ان بهذه الشروط استطاع (كانت) ان يثبت لنا الشيء في ذاته، كإستعانته بمبدأ السببية. فاذا كنا ندرك ظواهر الأشياء كشيء لذاتنا فما الذي يدعونا للاعتقاد بوجود شيء في ذاته إن لم نستند الى مبدأ السببية؟! وعليه كيف جاز لنظرية (كانت) ان تعد هذا المبدأ مفصولاً عن الواقع الموضوعي مع أن به تقرر ذلك الواقع، وبدونه يستحيل اثبات الشيء في ذاته؟!

وقد سبق للفيلسوف المثالي باركلي (المتوفى سنة 1753) ان زعم بغياب المبرر للقول بوجود الحقائق الخارجية، او ما يعبر عنه كانت (الشيء في ذاته). فاذا كان كل ما نمتلكه هو الشيء لذاتنا فقط، فما مبرر الاعتقاد بوجود عالم خارجي ونحن لا يسعنا ادراكه ادراكاً مباشراً؟ لكن لو سلمنا ان بوسع الشروط الخارجية اثبات الشيء في ذاته، فما الذي يمنع من تحديد هذا الشيء بحسبها؟ وبعبارة أُخرى الى اي حد يمكننا اثبات قضايا الواقع؟ هل باستطاعتنا ان نثبت تفاصيله او مجملاته؟ وهل يمكننا اثبات كيفياته ام كمياته ورموزه؟ وماذا بشأن العلاقات بين الأشياء وارتباطاتها بحسب التأثير والاقتران الزماني والمكاني؟

هكذا تثور بعض المؤاخذات على مقالة (كانت). فما يدعيه في تحديد العقل للشيء الخارجي مقبول على النحو النسبي، فالتأثير مشترك ومتبادل، فالعقل يحدد الشيء، والعكس صحيح. والدليل على ذلك ظهور الأشياء في الذهن منتظمة، فهي تظهر بالشكل الذي تظهر فيه تبعاً لعاملين؛ هما: الشيء كما في ذاته، وقبليات الادراك العقلي. لذا فالعقل لا يحدد الشيء تحديده المطلق، بل الأمر متبادل بين العقل والشيء. وبعبارة ادق، تتحدد الصورة الذهنية بتأثير كل من العقل والشيء الخارجي، فلا العقل يحدد الصورة وحده، ولا الشيء الخارجي يفعل ذلك، بل كلاهما يعملان - معاً - على تحديدها.

وينطبق الأمر ذاته على العلاقة بين الفهم والنص، فاحدهما يعمل على تحديد الاخر. فالفهم لا يحدد النص باطلاق، كما ان النص لا يحدد الفهم باطلاق، والأمر نسبي.

واذا توخينا الدقة فان الفهم محدد بكل من القبليات والنص معاً، فلا القبليات تعمل على تحديد الفهم وحدها، ولا النص يفعل ذلك، بل كلاهما يعمل على تحديده بنوع من الاشتراك. وعليه فعندما نقول ان الفهم محدد بفعل القبليات فلا يعني ذلك انه معزول عن تأثير النص.

لذا ففي الفهم الديني توجد عناصر ثلاثة، هي: القبليات والنص والفهم. والعلاقة الدائرة بينها هي علاقة ثابتة، فالفهم يتوقف على كل من القبليات والنص، وان غياب احد العنصرين الأخيرين يعني غياباً للفهم ذاته. لكن العكس ليس صحيحاً، اي ان غياب الفهم لا يعني غياباً للقبليات، كما لا يعني غياباً للنص. فالفهم نتاج التفاعل بين هذين العنصرين، ووجوده مستمد من وجودهما دون عكس.

وبالتعبير الرمزي فإن (ف) يتحدد بحسب (ق) مع (ن)، حيث (ف) تمثل الفهم، و(ق) هي القبليات، و(ن) هي النص. وبعبارة رياضية فإن:

ق + ن ← ف

وبعبارة أُخرى، إن بين ذات القارئ والنص المقروء مسافة لا يمكن اجتيازها الا عبر قنطرة القبليات. فلولا هذه القبليات لكانت المسافة قائمة والبعد باقياً من غير اجتياز.

وهنا يطرح السؤال المزدوج التالي: كيف نثبت ان القبليات تعمل على تحديد الفهم؟ وكيف نثبت كون النص يحدد الفهم ايضاً؟

وقد يصاغ هذا السؤال المزدوج بصيغة أُخرى لها علاقة بالادراك والشيء الخارجي، فيمكن أن يقال: كيف نثبت أن للعقل تأثيراً على تحديد الشيء الخارجي، كما تزعم نظرية (كانت) معتبرة العقل هو المحدد للشيء الخارجي لا العكس؟ كذلك كيف نعكس المسألة ونثبت ان الشيء الخارجي يحدد العقل مثلما ان هذا الأخير يحدد الاول؟

ومن حيث الدقة: كيف نثبت ان لكل من العقل والشيء الخارجي دوره في تحديد الصورة الذهنية والحكم التصديقي، فتكون هذه الصورة - وكذا الحكم - نتاج فعل عاملين: العقل بقضاياه القبلية، والشيء الخارجي كوجود مستقل؟

وبعبارة أُخرى: كيف نثبت ان ما هو قبلي يقوم بتحديد صورة ما هو بعدي، وان ما هو بعدي يعمل على تحديد تلك الصورة، وان العملية بين الطرفين مشتركة تتفاعل فيها العناصر الخارجية والذاتية لتحديد ادراك الشيء او صورته؟ وكذا هو الحال مع الاحكام التصديقية.

هكذا فان امامنا قضيتين متماثلتين. فالموقف من النص كشيء في ذاته وعلاقته بالصورة الذهنية لدى القارئ هو كالموقف من الشيء الطبيعي وعلاقته بالصورة الذهنية لدى الرائي، ولا جواب لدينا على هذه المشكلة الا باعتماد منطق القرائن الاستقرائية ودورها الايجابي في تنمية القوة الاحتمالية للتقريب بين الحالتين التصورية والموضوعية، او بين القراءة والنص المجهول كشيء في ذاته. فنحن نقوم - هنا - بعملية من الاستدلال، وكل عملية استدلال هي عبارة عن اتصال غير مباشر، فليس لدينا ما يمكن فعله من الاتصال المباشر في الكشف عن طبيعة الأشياء الخارجية، او الكشف عما يتضمنه النص المجهول كشيء في ذاته.

إذاً يمكننا ان نستدل بشتى القرائن الدالة على الحقيقة الموضوعية؛ سواء كانت طبيعية او نصية، وعملية الاستدلال هذه تتخذ السبل المنطقية التي فيها يمكن التمييز - في الكثير من الاحيان - بين الأمر الاقرب للحقيقة عن ذلك البعيد عنها.

وللتبسيط نفترض - مثلاً - ان احساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكننا نشك في وجودها او كونها شيئاً اخر كالقلم والطاولة وغير ذلك. ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط ونتوسل بمختلف القرائن لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية او وهمية، وكذا فيما اذا كانت بالفعل عبارة عن كرة او انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تراكم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الأشياء الخارجية لن نحتاج عادة الى الاختبار او المزيد منه، لكنّا نفترض كما لو كنّا نمارس عملاً استدلالياً اولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الاستدلالية للعلوم الطبيعية. لكن حيث من المحتمل ان يكون ما نراه وهماً؛ لذا كان لا بد من صنع قرينة أُخرى، كإن نتحرك نحو زاوية أُخرى وننظر من خلالها إن كنّا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذا نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، اذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، فهذا الاحساس يزيد الظن بوجود شيء خارجي يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا القيام بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.

ويمكن تطبيق الأمر ذاته على العلاقة بين احساسنا التصوري في القراءة وبين النص المجهول كشيء في ذاته. حيث يمكننا في النص البسيط - مثلاً - ان نجمع العديد من القرائن الاحتمالية التي يمكنها ان تدعم تقارب الحقيقة بين القراءة والنص المجهول، بحيث كلما زادت هذه القرائن كلما قوي احتمال التقارب بينهما. وواقع الأمر ان اول فعل في القراءة ينشأ هو فعل الظهور المجالي، اذ يمكن الاستدلال على ان هذا الظهور قابل لان يبرر القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول، وذلك بالقدر الذي ينفى عنه مجال (الخبز والشعير!). فقوة القطع الوجداني بالتطابق بين المجال والنص المجهول هي بنفس قوة القطع الذي نعتقد فيه ابتعاد النص عن مجال (الخبز والشعير!). فالقطع بهذا المعنى ممكن ومبرر تبعاً لكثرة القرائن الاحتمالية، وهي نفسها التي تبرر القطع بنفي ان يكون للنص إشارة تخص ذلك المجال المستبعد.

ويمكن تشبيه علاقة تطابق الظهور المجالي مع النص المجهول؛ بعلاقة الوجود مع الماهية، او علاقة النور مع الزجاج الملون. فالزجاج يظل مظلماً غير متميز واشبه بالمعدوم ما لم ينفذ اليه النور. فهذا النفاذ هو الذي يُظهره ملوناً كما هو عليه. اذ ليس بمقدور النور قلب الزجاج الى (الخبز والشعير)، او تحويل قابلياته الى شيء اخر. وبالتالي فلولا هذه القابليات الكامنة ما ظهر بالشكل الذي ظهر فيه، رغم ان ظهوره بهذا الشكل من الالوان لا يعبر عن حقيقة ما عليه الزجاج بالكامل، انما بفعل كل من النور والقابليات تظهر الالوان والاشكال على النحو الذي ظهرت فيه، ولولا النور ما ظهر من ذلك شيء، وكذا لو ان للنور لوناً اخر غير ما كان عليه؛ لظهرت الوان الزجاج بشكل مختلف عما كانت عليه.

إذاً يظل المجال ثابتاً هو هو لا ينقلب الى مجال (الخبز والشعير)، وان بدا تأثر الظاهر وما على شاكلته بالقبليات والاذهان.

هكذا نقف بفكرة المجال موقفاً وسطاً بين اولئك الذين رؤوا امكانية تطابق قراءتنا مع النص كشيء في ذاته، او كما قصدهُ صاحب النص، وبين اولئك الذين رؤوا في النص انفتاحاً لا يحده حدود، اي انه قابل للتشكل والانتاج الى ما لا نهاية له من القراءات والفهم والتفسير؛ بعدد القراء والمفسرين، وهو بهذا يكون مستقلاً عن قصد صاحبه باعتباره خطاباً مكتوباً وليس كلاماً مشافهاً[2]. وتهيمن هذه الرؤية على الكثير من المفكرين الغربيين من رواد ما بعد الحداثة - من امثال غادامير ودريدا وريكور والبراجماتيين وغيرهم –. وتوحي نظريات عدد من هؤلاء بأنها لا تضع حدوداً للقراءة والتفسير، ولا ميزاناً للترجيح بين القراءات المتعددة، كالذي تدعو اليه براجماتية (رورتي) ونقائضية (دريدا) المسماة بالتفكيكية. مع أن هذا التصور يجعل النظرية لا تخدم قائليها إن لم تسيّج ضمن سياج منيع بمثل ذلك الذي اطلقنا عليه المجال. فهي ذاتها معبر عنها بالنص، ولو طبقنا عليه ما يقولونه لكان من غير الممتنع ان نقرأه قراءة هي على النقيض تماماً مما يريدون ايصاله الينا، وهنا سوف يستحيل ان يتحقق اي مجال للتواصل المعرفي. فالتواصل لا يتم الا عبر النص، ولما كان الأخير مفتوحاً، فلا مجال لمعرفة ما يراد منه ولو على سبيل التقريب، وبالتالي يصبح من العبث ان نكتب شيئاً او نقول شيئاً، فكل شيء يمكن حمله على (الخبز والشعير) بلا حدود. ولا شك ان فكرة المجال والفهم المجمل والقيم الاحتمالية تبعدنا عن هذا العبث من التفكير إن اريد به الانفتاح التام بلا قيود مقننة مرسومة.

كما أن المعنى الذي أراده غادامير رغم أنه لا يخرج عن المعنى الوجودي للانفتاح، بمعنى أن طبيعة الذهن البشري تظل خلاقة للفهم والتفكير بلا حدود، وهو أمر صحيح، سيما وأن في كل زمان هناك من يتجاوز المجال الظاهر للفهم، لكن مع ذلك فهذا الفيلسوف يرى ان كل فهم للنص لا بد ان يكون نتاج تأثيرين مختلفين من الأُفق، هما أُفق النص وأُفق الثقافة المعاصرة كما سنعرف، وهذا ما يجعل من المحال معرفة النص كما هو، وبالتالي الانفتاح على القراءات بلا حدود، رغم انه – مثل بول ريكور - لا يساوي بين هذه القراءات من حيث احتمال الإصابة[3]. وفي جميع الأحوال تظل عملية التأويل عند غادامير وغيره من المفكرين مفتوحة بلا نهاية؛ باعتبارها لا تستوفي الغرض من اصابة المعنى النهائي. وهنا نعود الى المربع الأول، ونحن لا نجد رداً على هذا التحليل سوى ما ذكرناه، وسيأتينا تفصيل ذلك فيما بعد.

على أن ما يقدمه الفكر البشري من اجتهاد في قراءته للموضوع، سواء كان نصاً او واقعاً او غير ذلك، لا ينفي وجود حقائق متكشفة مجملة وقليلة للموضوع (الخام)، وكأن الموضوع يُظهر نفسه بنفسه.

فنحن هنا اشبه ما نكون أمام غابة كبيرة تشهد بوجود الاشجار الكثيفة دون شك، وكأن الاشجار تعلن عن نفسها، أما سائر الأشياء الأُخرى ، مثل انواع محددة من الحيوانات، فهي لا تظهر الا بعد البحث والتفتيش، وقد تظل هناك أشياء مجهولة عنا في هذه الغابة الكثيفة، كما قد تشتبه علينا أمور لا نعلم عنها شيئاً على وجه القطع واليقين لعدم قدرتنا على تحديدها بدقة.

وعليه أصبح الموضوع، كالنص مثلاً، ناطقاً بحقائق فعلية تتكشف لدى الادراك دون حاجة الى جهد التحديد والتعيين. لكنها - مع ذلك - تظل مجملة غاية الاجمال.

إذاً في المادة او الموضوع الخام، هناك حقيقة عامة تشهد عليها قرائن كثيرة تجعلها ظاهرة «بنفسها» دون جهد ادراك، سواء كان الموضوع الخام عبارة عن واقع او وجود او نص او عقل. لكن تظل الحقائق المتكشفة «بنفسها» محدودة، خلافاً لما يتبقى من مضامين، اذ تحتاج الى جهد الممارسة الاجتهادية عبر العلاقة التي تربط قبليات الادراك بالموضوع. فعند هذا الارتباط والامتزاج يتحول الموضوع الى علم وتفكير. فتارة تتلبس العلاقة الكشفية للذهن بموضوع الطبيعة فتنتج عن ذلك علوم الطبيعة، وأُخرى بالنص فتنتج علوم النص، وثالثة بالعقل فتنتج علوم العقل... الخ.

وبعبارة أُخرى، عندما يُعرض الموضوع على الذات البشرية يكون له وجه من الحقائق المنكشفة بفعل قبليات قرائن الاستقراء الاحتمالية، مثلما له وجه اخر يتلبس بمختلف قبليات الذات الكاشفة.

ولا نقصد - هنا - بالحقائق، الحكم على ما يتضمنه الموضوع من صواب او خطأ، بل نقصد بها الجانب الوصفي فحسب. فمثلاً يمكن ان نصف نصاً ما بهذه الحقائق التي لا تخطئها الذات القارئة؛ بنحو من الاجمال والعموم، وهو وصف لا علاقة له بمضمون ما يريد النص اثباته، سواء كان على صواب او خطأ. وبالتالي يمكن ان نطلق على مثل هذه الحقائق: الحقائق الاصلية او (الموضوعية)، اذ يعبّر الموضوع - في انكشافه - عن حقائقه الاصلية، وهو كونه على ما هو عليه من الخصائص المنكشفة.

وعندما يكون العقل هو الموضوع، يحصل نوع من الاتحاد بين الكاشف والمكشوف، او العاقل والمعقول، اذ يصبح العقل كاشفاً عما في نفسه، وهو من الحضور المباشر، خلافاً للموضوعات الأُخرى غير العقلية، اذ يكون الكاشف فيها غير المكشوف، او ان العلاقة بينهما هي علاقة غير مباشرة.

لكن ماذا لو قيل ان تركيبنا الذهني يرى الأشياء متسقة هكذا، ولو تغير هذا التركيب - كإن تتغير طبيعة ما عليه الجهاز العصبي مثلاً - لكُنا نرى الموضوع رؤية أُخرى مختلفة؟

في الجواب نقول: ان تغير التركيب الذهني لا يبعث على رؤية اخرى متسقة، صحيح ان الرؤية عندها قد تتشوش وتضطرب او تنعدم، لكن من المستبعد تماماً ان يؤدي ذلك الى تكوين صورة نسقية. ففي أحسن الأحوال قد تبدو لنا الأشياء بأشكال مختلفة كذوات، او يظهر لنا عالم متسق آخر ما كان ظاهراً من قبل. فمثلاً مما قد يبدو للشخص المصاب بالاستجماتا القوية (Astigmatism) انه يستقبل صوراً مشوهة على شبكة كل عين، فعندما ينظر الى عصا بوضع افقي فقد يرى انها اطول مما نراها وانها في وضع رأسي وليس افقي، وجميع اطوال الاشياء الاخرى تتغير على هذا النحو بشكل متسق، ولو ان هذا الشخص زود بنظارات تصحيحية فانه سيرى الاشياء بشكل مشوه ومشوش ويحتاج الى ايام او اسابيع لكي يتلائم مع الحالة الجديدة ليراها طبيعية[4]. كذلك كانت هناك تجارب تبدي ان بعض الناس المصابين ببعض الامراض البصرية يرون الاشياء بشكل مختلف، وهي مألوفة لديهم، ولو انه تم تصحيح الرؤية لهم بنظارات مصححة لأصابهم شيء من الاختلال والتشوه في الرؤية قبل ان يتكيفوا على الوضع الجديد. وقد وصف الطبيب والفيزيائي (هيلمهولتز) بعض التجارب كالتي اجراها بنفسه واستخلص منها ان من الممكن ان يكون المكان المرئي ذا بنية غير اقليدية، فلو ان شخصاً تكيف جيداً على تجارب تتضمن سلوك الاجسام في عالم غير اقليدي لأمكنه تصور البنية اللااقليدية بنفس السهولة التي نتصور بها البنية الاقليدية[5].

فلا شك ان مثل هذه الحالات مقبولة وقد تكون متوقعة بفعل التكيف الذهني مع الاشياء بنوع من الاتساق، ففي المثال الاول ان اطوال الاشياء نسبية كما هو معلوم وان ما يرى بانه رأسي في حين انه افقي قد يتصحح او يعلم تعارضه مع استخدام حاسة اخرى كاللمس مثلاً، او حتى انه ليس بالامكان ذلك فانه سوف لا يكون اشد مما نحن فيه على الارض وهي تتحرك في حين اننا لا ندرك حركتها. لكن ما يُستبعد هو ان تبدو علاقات الأشياء متسقة بشكل مفارق للحال الأول. فمثلاً لا يمكن توقع أن تنقلب صورة المعلول الى علة، وصورة العلة الى معلول، وصورة الأب الى الإبن، وكذا العكس، ما لم يتغير الموضوع ذاته. ومعلوم انه عرضت تصورات مستمدة من نظرية اينشتاين في النسبية لتبين بأن الامور قد تنقلب الى الشيء المعاكس، فقد صورت لو ان سرعة الضوء كانت اكبر مما هي عليه لكان من الممكن السفر للماضي، ولانقلبت الاشياء الى العكس، فيكون المعلول علة لعلته، والابن اباً لابيه وهكذا. لكن طرحت افتراضات متعددت لدى المختصين كي لا تكون الفرضية مصادمة للمنطق، كتلك التي استعرضها ستيفن هوكنج في كتابه (تاريخ اكثر ايجازاً للزمن).

وما نود قوله هو ان ما ذكرناه سابقاً هو ذاته يصدق مع النص، إذ إن احتمالات الحصول على معان متناسقة وعمومية يتفق عليها جميع من شملته هذه الحالة هي احتمالات ضعيفة للغاية. وهو أمر يعزز اعتبار فهمنا للنص محصوراً ضمن المجال المفترض. ففي حدود هذا المجال يمكننا الاقتراب من المعنى الذي يتضمنه النص طبقاً للقرائن الاحتمالية.

فمعرفتنا كاشفة كالمرآة، مع ما لطبيعة المرآة من دور في اظهار الصورة المنعكسة، بحيث تتحدد الصورة بفعل أمرين: المرآة والشيء الخارجي، ولا وجود لها عند حضور احد هذين الأمرين دون الاخر. فالصورة في المرآة لا تطابق الشيء الخارجي، لكنها تقترب من حقيقته. وكذا يقال بخصوص النص، حيث ان ما يحدد الإشارة فيه، كالظاهر مثلاً، ليس النص المجهول (كشيء في ذاته) فقط، بل القبليات المعرفية أيضاً. فبفعل الأمرين معاً يتجلى الظاهر ضمن المجال. لكن مع أخذ اعتبار الفارق في القيمة الاحتمالية بين الظاهر والمجال، حيث لما كان الأخير يعبر عن اقصى حدود الاجمال؛ فذلك يعطي المبرر للتطابق مع ما عليه النص كشيء في ذاته، طالما انه يحظى بكثرة القرائن الاحتمالية الدالة عليه. أما الظاهر او الإشارة فهو لا يحضى بتلك القوة والقيمة من القرائن التي يحظى بها المجال، لذلك فلا مبرر لحالة القطع الذهني بالتطابق ما لم يكن ذلك محمولاً على المجملات العامة، طبقاً لنفس الاعتبار من التنمية الاحتمالية. فالأمر يعود في النهاية الى ما عليه هذه التنمية من قوة وقيمة، لكنها تتعاظم عند القضايا المجملة مقارنة مع القضايا المفصلة، ومنه يتبين الفارق بين القيمتين الاحتماليتين لكل من المجال والظاهر او ما على شاكلته من انماط الإشارة.

أو قل: ان كل معنى اجمالي لا بد ان يحظى على الدوام بالعدد الاكبر من القرائن الاحتمالية مقارنة مع المعنى المحدد او المفصل. وبالتالي لا مانع من تحصيل القطع الوجداني بالتطابق مع النص المجهول ضمن حدود المعنى المجمل، وذلك عند تضافر القرائن الاحتمالية الدالة عليه. فمن شأن المجمل انه يبعث على القطع بخلاف المفصل، لكن قد يكون المفصل مجملاً لما تحته، وهنا قد يتفاوت القطع، وقد يصل الحال الى وجود مفصلات يمكن انتزاع المجملات منها دون ان يفضي ذلك الى القطع في المعنى. ولا شك ان من ابرز مصاديق القطع للمعنى المجمل هو الظهور المجالي.

هكذا عندما نتحدث عن المطابقة بين الفهم والنص؛ لا نريد بذلك المطابقة التامة الجامعة المانعة، فذلك غير ممكن اذا ما نظرنا الى مقصد صاحب النص، اذ في جميع الاحوال تتجدد التساؤلات إن كان معنى النص يشتمل على ما نطرحه من تساؤل ام لا؟ وعليه لا يمكننا بأي شكل من الاشكال ان نثبت التطابق، فالنص في هذه الحالة قابل لعدد غير محدود من القراءة والافتراض، انما نقصد بالتطابق امكانية حصول ذلك من حيث الحد الادنى، كالتطابق الاجمالي، سواء كان هذا الاجمال كافياً في تحصيل المعنى أم غير كاف؟

كما نستخلص بأن ما يحدد فهم النص ليس النص وحده، ولا القبليات المعرفية وحدها، بل كلا هذين العنصرين. فلكل منهما بصماته الظاهرة على الفهم. وان العناصر المتفاعلة ثلاثة، هي: القبليات والنص والفهم. والأمر نفسه ينطبق على ادراك الشيء الخارجي، اذ فيه ثلاثة عناصر متفاعلة، أحدها القبليات المعرفية، وثانيها ادراك الشيء، وثالثها الشيء ذاته. وإن الادراك او (الشيء لذاتنا) يتحدد بفعل تأثير العنصرين الآخرين المتمثلين بالقبليات المعرفية والشيء ذاته، وانه يحمل بصمات كل منهما على السواء. ولو غاب أحد هذين العنصرين لما حصل ادراك الشيء بأي نحو من الأنحاء.

 



[1] رينيه ديكارت: مقال عن المنهج، ترجمة محمود محمد الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1968، عن مكتبة المصطفى الالكترونية، ص109.
[2]  بول ريكور: من النص الى الفعل، ترجمة محمد برادة - حسان بورقية، عين  للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، الطبعة الاولى، 2001م، ص85.
[3] نظرية التأويل، ص148.

[4] الاسس الفلسفية للفيزياء، ص200.

[5] الاسس الفلسفية للفيزياء، ص200.
comments powered by Disqus