-
ع
+

قبليات المعرفة: صورية وتصديقية

يحيى محمد

في الفهم يتعامل الذهن مع معنى النص بعنوانين؛ احدهما «تصور المعنى» والاخر «حكم المعنى». فللمعنى تصور وحكم (تصديق)، ولكل منهما قبلياته، كالذي يجري مع الادراك والعلم. فلا يخلو الحال - في الجميع - من وجود قبليات بعضها صورية بسيطة، والبعض الاخر تصديقية، كما يتضح أدناه:

اعتاد المناطقة تقسيم الادراك الى تصور وتصديق. فالتصور هو ادراك بسيط لا يتضمن في حد ذاته حكماً او تصديقاً، كإحساسنا وتصورنا للاشياء الخارجية مثل الطاولة والقلم والناس وغيرها. وقد تكون بعض تصوراتنا خيالية او وهمية ومع ذلك نتصورها وكأنها موجودة، مثل تصورنا لجسم نصفه انسان ونصفه الاخر سمكة، او تصورنا للحيوانات وهي تتكلم... الخ. أما التصديق فهو تصور يجري عليه ما يجري على التصور البسيط، لكنه ينطوي على حكم او تصديق بخلاف الادراك السابق.

والعملية الادراكية سواء في حالة التصور او التصديق لا تتحقق من غير قبليات. فرؤيتنا للعالم وادراكنا للاشياء وكذا الحكم عليها، كل ذلك انما يتم بمساعدة القبليات. وللذهن البشري نوعان منها؛ هما: القبليات الصورية، والقبليات التصديقية.

وللقبليات الصورية شكلان، كما يلي:

الشكل الأول:

ويعبّر عن الحساسية الصورية كما تتمثل في قالبي الزمان والمكان، إذ لا يمكن إدراك الحوادث الخارجية بلا زمان ومكان. وبالتالي فهما من القبليات الصورية، لأن أي تصور للحوادث لا يتم إلا من خلال تضمنهما، كالذي تحدّث عنه الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت؛ معتبراً الزمان والمكان صورتين حدسيتين قبليتين دون ان ينتزعهما الذهن البشري من الأشياء الخارجية، أو انهما صورتان للحدس الحسي وشرطان من شروط وجود الأشياء بوصفها ظواهر فيزيقية، ويصنفهما (كانت) مع الرياضيات ضمن العناصر الوحيدة التي تمثل الحدس الحسي المحض، تمييزاً لها عن الحدوس الحسية الامبيريقية للظواهر. فمثلاً يعبّر (كانت) عن المكان بأنه تصور ضروري قبلي تتأسس عليه جميع الحدوس الخارجية، وهو شرط لإمكان الظواهر الفيزيقية، وبالرغم من أن من الممكن أن نتخيل عدم وجود موضوعات خارجية، لكن من المتعذر أن نتصور ليس هناك مكان[1].

ويمكن أن نضيف إلى ما سبق صورة الواقع المجمل، فنحن ندرك هذا الوجود سلفاً، بما يتضمن الأشياء مجملاً، دون أن نمتلك أدنى دليل عليه[2]. فالإحساس به قالب من قوالب التركيب الذهني، وحدس حسي محض يهيء لنا حدوس الأشياء المفصلة، وسجن ذاتي نتقوقع فيه مادام الوعي فينا سارياً. بل ينطبق الحال على حدس الوجود العام، فيشمل الإحساس القبلي بكل ما هو وجود مجمل، سواء كان حلماً أو وهماً أو واقعاً.

ونسجل في السياق ذاته أن صورتي الزمان والمكان اللتين رسمهما عمانوئيل كانت قد تضمنتا أموراً تصديقية دخيلة، إذ تصوّر أن قالب المكان يتمثل من الناحية القبلية في الطابع الهندسي الإقليدي وفقاً للنظرية النيوتنية التي سادت خلال عصره، بل وما قبل ذلك من عصور. مع أنه من حيث التحليل لا يمكن معرفة هذه الهندسة إن كانت إقليدية أو غير إقليدية، فكل ما يمكن قوله ان الهندسة على وجه العموم هي ذات طابع قبلي، بمعنى اننا ندرك الطبيعة الهندسية للفضاء من الناحية القبلية، ونقدر الأبعاد الثلاثة، فكل حادثة لا يمكن تصورها من غير هذه الأبعاد، لكنه ليس بامكاننا الحكم قبلياً على هذه الهندسة إن كانت إقليدية أو غير إقليدية، كما لا يسعنا تحديد أبعاد الفضاء بالثلاثة فقط؛ لإحتمال وجود أبعاد أخرى لا يسعنا إدراكها. وكذا فيما يتعلق بالزمان وعلاقته بالمكان، إذ كل ما يمكن قوله انهما قبليان، حيث من المحال تصور حادثة - مهما كانت - ما لم تتقولب بشيء من الزمان والمكان، لكن ذلك لا يدل على كونهما مطلقين أو نسبيين من الناحية القبلية[3].

الشكل الثاني:

ويعبّر عن الإطار العام لجهاز الحس الصوري الذي يتم به تشكيل الصور المدركة بهيئة معينة دون أخرى، سواء تم تشكيل هذه الصور ابتداءً عبر المعطيات الحسية المتفرقة، أو بعد تجميعها وتشكيلها وفق صورة شخصية واحدة. فقد اعتدنا على رؤية الأشياء التي تبدو لنا شيئاً من الوحدة المشتركة لأي شيء ندركه أمامنا رغم ان التحليل الفلسفي للصورة الذهنية لا يفيد هذا المعنى الوحدوي للأشياء. إذ يستلم جهازنا الصوري معطيات حسية متفرقة عبر الحواس، فبحاسة البصر يستلم عن الشيء الخارجي إشارة يحولها إلى صورة لونية وشكلية، وبحاسة اللمس يستلم عن هذا الشيء إشارة أخرى يحولها إلى صورة لمسية، وهكذا مع سائر الحواس، حيث يحول كل ما يستلمه من إشارات إلى صور مناسبة، ثم يعمل على التوفيق بين هذه الصور في صورة شخصية واحدة تعبّر عن الشيء الخارجي، كإن يكون المدرَك تفاحة مثلاً، فإدراكنا لها يتم عبر إحساسات متفرقة ومختلفة، لكن الجهاز الصوري يعمل على تجميع هذه الإحساسات بعد اضفاء الصور الخاصة عليها، ومن ثم يجعلنا نتصورها كجوهر واحد يعبّر عن التفاحة. فتصورنا الحسي لها يتحلل إلى مجموعة من الإحساسات المختلفة، وهي تأتينا عبر مجار متغايرة لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر. فالحس البصري يزودنا بلونها وشكلها، والحس اللمسي يُشعِّرنا بحالتها الصلبة، والحس الشمي يُحسِّسنا برائحتها، كما ان الحس الذوقي يسمح لنا بتذوق طعمها. وتتصف هذه الإحساسات بأنها متمايزة وذات منابع مختلفة، ورغم التباين في المجاري والمنابع والإحساسات فان الذهن مجهز لتوحيدها ضمن حس مشترك يقوم بجمع هذا الشتات المتباعد.

بل إن جهازنا الصوري يعمل على توحيد الصورة حتى في حالة ما يحصل من تفرق واختلاف في الحاسة الواحدة، كما في البصر، إذ ما تراه إحدى العينين لا يطابق تماماً ما تراه العين الأخرى، لذا تتكون الرؤية البصرية وفق حالة من التوفيق بين رؤيتي العينين، ومن الطبيعي إن ذلك يدعم فكرة الاختلاف الحاصل بين الإحساس بالرؤية وبين الموضوع الخارجي كشيء في ذاته. وعلى هذه الشاكلة ما يحصل في حاسة السمع والشم ايضاً.

وبهذا فنحن لا ندرك الشيء الخارجي ابتداءً الا ادراكاً مشتتاً تبعاً للاحساسات المتفرقة، لكن جهاز الحس الصوري هو الذي يعمل على جمع هذا الشتات في صورة جوهرية واحدة، فيبدو لنا الشيء الخارجي جوهراً واحداً.

كما ان الرؤية في الإدراك الفلسفي لا تفسرها القوانين الفيزيائية والكيميائية وسائر العلوم.. فإحساسنا البصري – مثلاً - هو تأويل لما نستقبله من ايعازات ما تقدمه مظاهر تلك القوانين، ليس فقط على مستوى قلب الشكل الفيزيائي وتعديله كما هو معروف، بل كذلك على مستوى الشكل الذي نعبر عنه بـ (الصورة) الحسية، فنحن نرى شيئاً غير ما يتحدث عنه اصحاب العلوم من الكهارب والايعازات الفيزيائية والتفاعلات الكيميائية التي لا ندركها أو نشعر بها.. إننا نرى شيئاً في غاية الإلفة والعجب في الوقت ذاته، إنه (الصورة) ذاتها بجمالياتها وأبعادها.. ما الذي يجعل الذهن يدرك شيئاً لا تفهمه القوانين العلمية؟ ما هذا الجمال الذي تمتلكه الصورة والتي تجعل النفس تواقة لها؟.. إنها عملية غير مفهومة لحد الآن.. وكأن هناك شيئاً يقف خلف الصور يلوح بها ليجعل الذهن سارحاً في تعقبها ومطاردتها على الدوام، وكأنها تخفي وراءها ذلك الجمال المطلق.

فعلاً ان (الصورة) كما تستحضرها أذهاننا، وجهاً لوجه، هي من الأمور المحيرة على الصعيد الفلسفي.. فهي غير مفسرة علمياً، ولا تخضع للبحث العلمي بقوانينه المعروفة، كما انها مألوفة إلى الدرجة التي يصعب على الفرد ان يدرك لماذا تظهر بهذا الشكل المدهش.

ونشبّه ما يقوم به الجهاز الصوري في تشكيله للصور الذهنية بالمرآة التي تُشاهد فيها صورة الشيء، اذ تظهر الصورة بالشكل الذي تظهر فيه اعتماداً على الشيء الخارجي وعلى هيئة المرآة؛ إن كانت مستوية او محدبة او مقعرة او مكبّرة او مصغّرة او زرقاء او حمراء... الخ. وبالتالي فالصورة لا تعبر بالضرورة عن حقيقة الشيء الخارجي، اذ يعتمد كل ذلك على طبيعة الجهاز الصوري للذهن. ولو ان هذا الجهاز تعرض الى بعض التغيير لأدى ذلك الى تغير هيئة الصور المدركة، آخذين بنظر الاعتبار التباين النسبي لهذا الجهاز بين فرد واخر، مما يجعل الاحساس بالصور الذهنية بين الافراد مختلفاً بعض الشيء، كالاختلاف الحاصل في الدرجة التي نتصور بها لوناً معيناً، كاللون الاحمر مثلاً.

ولا يقتصر الامر على حاسة معينة كالبصر مثلاً، بل بقية الحواس تخضع الى ذات النتيجة، ومن ذلك ان احد الباحثين أعد بحثاً تجريبياً حول اللمس الخالص بعنوان (في البحث عن احساس لمسي خالص)، وقد توصل من خلاله الى ان الادراك اللمسي يأتي بفعل نتاج مشترك لكل من المؤثر الخارجي وأفكار الشخص نفسه، وليس من الممكن الحصول على اثر منعزل خالص للعامل الاول او المؤثر الخارجي[4]. وبالتالي فقد يكون لشخصين مختلفين ادراكان مختلفان ايضاً لنفس المؤثر اللمسي.

 

وفي دراسة مستقلة عرفنا بان القضية المعرفية الواحدة تنطوي على جانبين متحدين ومختلفين لها، فالاول منهما معرفي بحت (ابستيمي)، اما الاخر فهو موضوعي اذ يتوقف على طبيعة الموضوع المدرك. فكل قضية معرفية يتداخل فيها هذان الجانبان، أحدهما يعبّر عن المفهوم المعرفي الإبستيمي الصرف، وهو مفهوم منطوٍ على ذاته ومعلّق لا يشير - في حد ذاته - إلى شيء خارجي، فيما يشير الاخر إلى الموضوع الخارجي تبعاً للإعتقاد بأن لهذه المعرفة نوعاً من المصداقية دون أوهام أو أضغاث أحلام، فهذه المعرفة متجهة لا يرد فيها التوقف والتعليق، حتى وإن تبين فيما بعد أنها خاطئة كاذبة.

ويمثل الجانب الاول الرؤية المباشرة الحضورية لماهية الشيء المقصود فعلاً وجهاً لوجه، او هو الظاهرة الفينومينولوجية المعلقة بين هلالين كما يعبر عنها الفيلسوف الالماني هوسرل، او يمثل عين العيان الذوقي كما يعبر عنه العرفاء، مثل ادراكنا المباشر للوجود، فكما يصوره صدر المتألهين الشيرازي بانه لا يكون الا حضوراً اشراقياً وشهوداً عينياً، فهو متصور بذاته بحيث لا يمكن تعريفه بما هو اجلى منه لفرط ظهوره وبساطته[5]. فمن هذه الرؤية المباشرة للشيء تبدأ المعرفة والكشف من دون توقف على شيء آخر سوى جهاز الحس الصوري، وهو الجهاز الذي يلتقط الصور وفق خبراتنا الماضية، اي انه يتقبل الصور المتوقعة دون غيرها. لذا تتصف الصور الذهنية للفرد خلال النشأة  الاولى بانها قابلة للتعديل بمرور الزمن طبقاً للخبرة وتشابه التجارب والاشكال. ومن ثم فان الافراد الذين يفتقرون الى تجارب سابقة يتعسر عليهم الاحساس بالشيء الجديد. ومن ذلك ان بعض التجارب اظهرت ان الذين لم يصادفوا في حياتهم سلّماً للصعود – كما في بعض القرى النائية – لم يتمكنوا من رؤية سلّم مرسوم على ورق، بل كل ما شاهدوه لا يتعدى الخطوط الطولية والعرضية من دون امكانية لتخيل البعد الثالث، وهو العمق الذي يضفي على الرسم صورة السلّم، مثلما لا نتمكن نحن من ادراك الابعاد الخفية التي يفترضها الفيزيائيون للكون ما لم يتم تقريبها الينا بالتشبيه وفق خبراتنا العامة.

 ومع ان المعرفة الصورية لا تمثل قضايا معينة، الا انها اساس تكوين القضايا، او ان عليها تنبني هذه القضايا بالتحول من الحالة الصورية الى حالة الحكم والتصديق، فتفقد بذلك عيانيتها ومباشرتها لما تتعلق به من حضور ورؤية مباشرة، سواء خصّ ذلك الكليات الصورية كحضور صورة الانسان والحيوان، او خصّ المصاديق الشخصية كزيد وعمر وهذه الشجرة وتلك الحجارة. فكل هذه الصور المدركة مباشرة قابلة للتحرير عبر تحويلها الى قضايا محكوم عليها بنوع من التصديق. ووفقاً للرؤية الصورية المباشرة تكون ماهياتها سابقة على موضوعاتها؛ كسبق التصور على التصديق. فمع ان صورة الشيء الموضوعي مؤسسة على وجود الاخير، ومن ثم فانها متأخرة عليه ثبوتاً، اذ قد يكون الشيء الخارجي موجوداً بالفعل قبل ادراكنا له، كوجود الديناصورات قبل وجود واكتشاف الانسان لها، لكن من الناحية الادراكية فان صورة الشيء سابقة على وجوده من حيث الاثبات لا الثبوت، بمعنى اننا لا يمكننا الحكم على شيء ان كان موجوداً بالفعل ام لا؛ ما لم يتم تصوره اولاً، ومن ثم يمكن الحكم عليه بالاثبات او النفي.

ومع ان كل البشر يزاولون هذه الرؤية العينية المباشرة للاشياء قبل الحكم عليها وتحويلها الى قضايا معرفية، الا ان القليل من الناس من يرى اشياءً لا نراها، وقد يصعب في مثل هذه الحالة نقل التجربة من صاحب الرؤية المباشرة الى غيره، فهو يتذوقها بالعيان مباشرة، وعند نقلها الى الغير تتحول الى مفاهيم مجردة تفتقد الانطباع المباشر، ومن ثم لا يمكن فهمها كما ينبغي الا بتشبيهها باشياء من تجربتنا الخاصة. فالذي يخبرنا بتذوق تفاحة نفهم ما يخبرنا به بحكم تجربتنا السابقة في تذوق مثل هذه الثمرة، وان كان الخبر قد تحول من الاحساس المباشر بالشيء الى حكاية عنه عبر المفاهيم المشتركة. فهذا ما يحدث لاشتراكنا بالتجارب المتشابهة، أما لو حدّثنا شخص عن تجربته المباشرة في رؤية اشياء لم يسبق لنا ان جربنا ما يشابهها ويماثلها؛ فالخبر سيصبح بالنسبة لنا مبهماً في التعرف على ماهية هذا الشيء. بل ان صاحب التجربة المباشرة يصبح هو الاخر غير قادر على ان يعبر عن حقيقة ما يراه، ويظل كشفه المباشر محصوراً في دائرته المغلقة، مثل مونادات لايبنتز، فأي تعبير عنه يمسي خطأً او تغييراً لحقيقته.. فالعبارة هنا تضيق عن الكشف.

بل مثل هذه الاحوال لا تدرك بالدليل كما يصرح بذلك اصحاب الكشف والذوق عادة،  فحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق... الخ، كلها – كما يقول ابن عربي - لا تعلم إلا بالاتصاف بها وتذوقها، كما أن الكلام عنها «لا يحتمل البسط وتكفي فيه الإشارة إلى المقصود، ومهما بسطت القول فيه أفسدته». فعلوم الأذواق لا تقال ولا تحكى، ولا يعرفها إلا من ذاقها، وليس في الإمكان أن يبلغها من ذاقها إلى من لم يذقها. وعليه تتوقف عملية التبليغ على الإصطلاح لإفهام السامع بنوع من الإشارة، وليدل به المتذوق نفسه على ما ذاقه، ليتذكر به إذا نسي في وقت آخر، وإن لم يفهم عنه من لا ذوق له فيه[6]..

فهي على ذلك تعبر عن تصورات بدئية من غير تجارب سابقة، لذلك لا يمكن فهمها على ما هي عليه مثلما لا يمكن الاستدلال عليها.

 

هكذا ان التصورات بقدر ما هي واضحة وغير قابلة للنقض؛ بقدر ما يستحيل الحكم عليها بشيء سوى الرؤية الشهودية المباشرة. فعندما تقول إنني أرى شجرة فحسب، فهي رؤية حقيقية مباشرة، لكنها لا تعبّر بالضرورة عن أمر موضوعي مناط بالشجرة، فقد يرى الإنسان شجرة في منامه، أو في أوهامه. فنحن أحياناً نستيقظ للحظات من النوم في الليل ونرى أشياء أمامنا نستغرب منها، كإن نرى شخصاً واقفاً في العتمة أو غير ذلك، وبالتمعن – وبمساعدة الذاكرة - نكتشف أن ما نراه ليس سوى خزانة الملابس مثلاً. وكثيراً ما يحصل هذا النوع من المعرفة لدى علماء الطبيعة عندما يزاولون أجهزة رصد جديدة يشاهدون من خلالها أشياء معينة، فقد يفاجأون بمشاهد غريبة لا يعلمون في البدء إن كانت تعبّر عن مشاهدات حقيقية تشير إلى أشياء خارجية، أو أنها أوهام ناتجة عن طبيعة تركيب الأجهزة الجديدة. وبالتالي فهذه المعرفة معلّقة لا تشير إلى شيء محدد حتى يتبين الأمر عبر إختبارات مختلفة لتلك الآلات القياسية. وحتى طالب البحث العلمي عندما يستخدم لأول مرة الأجهزة الجديدة للتدريب فإنه لا يعرف شيئاً عما يشاهده ويرصده، بل في أغلب الأحيان أنه يفاجئ بأن ما يتصوره نظرياً لا يجده عملياً. فالمشاهدات التطبيقية تحتاج إلى نوع من المران والممارسة لفهم ما يتم لحاظه أو حتى تأويله. وقد تبدو بعض الأشياء المألوفة حسياً شيئاً مختلفاً لدى استخدام أجهزة الفحص، فمثلاً أن بعض الأوراق النباتية الخضراء تبدو خلاياها حمراء اللون تحت المجهر، أو أنها مليئة بالحبيبات الحمراء، وهي بالنسبة للمبتدئ غير متوقعة. عموماً تصورْ نفسَك وأنت تجلس على متن طائرة لأول مرة وتنظر إلى الخارج بعد تحليقها في الجو، فقد ترى أمامك عبر النافذة طريقاً مبلطاً لا يتغير وضعه ولا شكله. طبعاً من المحال أن تتوقع بأن ما تراه يمكن أن يكون شارعاً بالفعل؛ لإعتبارات عدم التغير في الوضع والشكل، طالما أن طائرتك محلقة في الجو، وبالتالي فسوف لا تجد تفسيراً غير أن ما تراه هو جناح الطائرة المحاذي لمقعدك. لكن هذا التحقق الحاصل عندك بسبب الخبرات العامة، قد لا يكون متوفراً عندما يفاجئ الباحث العلمي لأول مرة بظواهر بعيدة لا تتفق مع مثل هذه الخبرات، كتلك المتعلقة بالجسيمات المجهرية الدقيقة والمجرات البعيدة، وهي ما تستدعي التوقف وإجراء المزيد من البحث لمعرفة ما يُرصد إن كان له حقيقة فعلية، أو أنه نتاج ما نستخدمه من آلات قياسية غير عادية تثير الوهم.

فمثلاً ان أول من اخترع التلسكوب الفلكي هو غاليلو خلال القرن السابع عشر وقد اعتمد عليه في رؤية الكواكب وأقمارها، ومع انه توصل من خلاله الى الكثير من الحقائق الهامة التي كانت تدعم نظرية كوبرنيك حول حركة الارض، لكنه وقع احياناً فريسة الخداع البصري، ومن ذلك اعتقاده بأن في القمر فوهات حقيقية كما يظهرها تلسكوبه، مع انه ثبت عدم وجود مثل هذه الفوهات. وقد يحصل الخداع بسبب رؤية ما كان العلماء مستعدين لرؤيته اصلاً[7].

على ان الصورة التي نتصورها للشيء الخارجي قد لا تكون الوحيدة عند ادراكنا له. فقد تظهر لنا صورة وتتوارى اخرى، بدليل انه قد تظهر هذه الصورة المختبئة - في بعض الحالات - عند تركيزنا على المختبئ او تغييرنا لزاوية الادراك، كالذي يُشاهد في الصور التي تعرضها مدرسة علم النفس الجشطالتي. اذ يظهر المشاهَد بأكثر من صورة، استناداً الى زاوية الادراك والتركيز، فتظهر بعض الصور عندما يركز عليها الذهن، او لكونها المتبادرة للظهور ابتداءاً، وإن توارت خلفها صورة ثانية او اكثر لا تدرك تفاصيلها، بل تُدرك الأخيرة عندما تتغير زاوية الابصار بنحو مناسب فيتبادل الظهور والاختباء، مثلما يبدو من تبادل الظهور والتواري لدى بعض الرسوم والاشكال، كالشكل المعروف للكأسين او الوجهين، والبطة او الارنب، وغيرهما من الاشكال التي تعرضها تلك المدرسة.

وقد استخدمت هذه الظاهرة في الصراع السياسي احياناً. فمثلاً في الثمانينات من القرن المنصرم كانت هناك عملة ورقية لدى احدى البلدان الاسلامية وهي تحتوي على صورة لرجل دين ملتحٍ، لكن عند النظر الدقيق تختفي اللحية لتحل مكانها شبكة متداخلة من الضباع والافاعي والحيوانات الاخرى المختلفة. وكان المصمم قد وضع هذه الصورة الخادعة نكاية بالنظام القائم قبل ان يفر هارباً.

وقد تعبّر رؤيتنا للعالم عن تلك الظاهرة من تبادل الظهور والاختباء للصور. فالصور الحسية التي ندرك فيها العالم لا تفسرها الأشياء الخارجية وحدها، اذ كثيراً ما يكون الشيء ذاته مشاهداً من عدة اشخاص لكن رؤيتهم له تكون مختلفة حتى وان كانت ظروفهم الطبيعية متماثلة. وعلى ما يقوله هانسن: >من الاشياء التي تراها العين اكثر مما يصل الى كرة العين<. فالعين هنا لا يمكن مقارنتها بالكاميرا التي تلقط صور الاشياء دون زيادة او نقصان. فما يحصل في الرؤية ان الصورة المرسومة على الشبكية لا تفسر لدى الذهن كما هي، او ان الذهن يقوم بعملية تأويل لهذه الصورة بما يتفق مع القبليات والتجارب السابقة والتوقعات التي ينتظرها الفرد عند الرؤية. وان الاشياء تظل قابلة لاكثر من رؤية محددة وفقاً للصيغة الجشطالتية[8].

وعلى الصعيد الفيزيائي فان الكثير من الواقع الذي نواجهه محجوب عنا بسبب عاملين، هما سرعة الضوء وثابت بلانك. فسرعة الضوء الهائلة تحجب الكثير من طبيعة المكان والزمان الحقيقية، مثلما ان ضآلة ثابت بلانك تحجب السمات الموجية للمادة في حياتنا اليومية، فطول موجة المادة يتناسب طردياً مع ثابت بلانك وفقاً لمعادلة دي بروي التي تنص على ان طول الموجة يساوي ثابت بلانك مقسوماً على عزم الجسم المادي، وحيث ان ثابت بلانك صغير للغاية، اذ يساوي (6,6262 × 10-34 جول على الثانية، أو كيلو غرام متر مربع على الثانية)، لذا فان اطوال الموجات الناتجة ستكون ضئيلة للغاية مقارنة بالمقاييس العادية، وبالتالي فالخاصية الموجية للمادة تصبح واضحة بشكل مباشر في المجهريات فحسب[9]، وهو عالم محجوب عن ادراكاتنا العادية، فكما للشيء مظهره الخارجي الذي ندركه، فان من ورائه باطناً خفياً مازال يتعسر على العلماء تخيله على وجه الحقيقة.

 ولعل العرفاء هم ابرز من أكد هذا المنحى، كالذي صرح به ابن عربي، اذ اعتقد ان الناس يشاهدون العالم ويؤمنون بالله غيباً، خلافاً للعرفاء الذين يشاهدون الله ويؤمنون بالعالم غيباً[10]. فكل منهما يمتثل صورة غير الاخرى، او ان كلاً منهما يتعامل مع إحدى الصورتين كظاهر، ومع الأخرى كمختبئ.

تبقى القبليات التصديقية للاشياء، فهي تأتي بعد أن ينتهي عمل القبليات الصورية من صنع الصور والمعاني، ولا يمكن ان تقوم بدورها ما لم تعتمد اساساً على القبليات الصورية، وعلى نحو الدقة والتحديد انها تعتمد على الصور والمعاني التي تجهزها القبليات الاولى (الصورية)، وهي كثيراً ما تقع في الوهم نتيجة الوهم الذي تفرضه الاولى، فتشكل بذلك صنماً خامساً يضاف الى الاوهام الاربعة التي ادلى بها الفيلسوف التجريبي فرانسيس بيكون.

وتنقسم القبليات التصديقية الى قسمين: منضبطة وغير منضبطة، كما تنقسم الاولى بدورها الى قبليات منطقية محايدة، وقبليات مضمونية (غير محايدة). فالاولى تعبر عن جهاز مركب للادراك بعضه موظف للكشف عن العالم الخارجي من دون تحديد مسبق، اذ تتصف الممارسة الكشفية بالمنطقية والحياد، كما هو الحال مع مبدأ الاستقراء واعتباراته الاحتمالية، فهو كاشف عن الاشياء بلا تحديد سابق، لهذا يعد من المبادئ المنطقية. في حين تتصف القبليات المضمونية بكونها كاشفة عن غيرها، لكنها ليست من المبادئ المنطقية، باعتبارها تحمل مضامين خاصة قبلية دون حياد، وهي تنقسم الى ما هو مشترك بين الناس كافة، وبين ما يخص طوائف منهم، ومن ابرز نماذج القبليات المشتركة مبدأ السببية العامة، فهو مبدأ يفترض سلفاً وجود تضايف بين السبب والمسبب، فاذا ما رأينا مسبباً فإن ذلك يدعو الى الاعتقاد بأن له سبباً ما. كذلك فيما يتعلق بالكشف الوجداني، مثل الكشف الخاص بالعالم الموضوعي ككل، اذ انه مفترض سلفاً، ولم يستنتج بالدليل من الخارج[11]، وبالتالي فانه يعد من القبليات المضمونية غير المحايدة.

وبالتالي يمكن ان نستكشف من ذلك وجود نوعين من التدخلات العقلية، سواء في الادراك او العلم او الفهم، احدهما بسيط ومشترك، اذ لا غنى عنه في المعرفة مطلقاً، فهو كاشف وان كان له شيء من التأثير البسيط، مثلما يتمثل في القبليات الصورية التي تتداخل فيها الذات مع الموضوع، ومثل ذلك بعض القبليات التصديقية غير المحايدة كمبدأ السببية العامة. اما الثاني فمركب لكونه يخضع لعوامل اضافية من القبليات المختلفة غير الضرورية للمعرفة بنحو الاطلاق، كالقبليات المنظومية والايديولوجية والحدسية وما اليها.

وبذلك يتضح ان القبليات الصورية هي غير القبليات التصديقية، وان الأخيرة عبارة عن صور تنطوي على احكام قبلية. في حين ان الاولى بعضها يعبر عن قوالب صورية يتحقق من خلالها تصورنا للأشياء الحسية، كقالبي الزمان والمكان، في حين يعبر البعض الاخر عن جهاز صوري تتأثر به معطياتنا الحسية؛ فتظهر بالشكل الذي نتصورها، وكان من الممكن ان تظهر بشكل اخر لو ان هذا الجهاز طرأ عليه بعض التغير.

***

وينطبق ما ذكرناه على العلم جملة، اذ له قبليات صورية ينتجها العقل العلمي، ولو لم يكن لها مقابل في الخارج، حيث الواقع مجهول، وكأنه «الشيء في ذاته» العصي عن الادراك. فالنظريات العلمية العالية التعميم هي نظريات صورية لا يفترض مطابقتها للواقع الموضوعي، وبنظر البعض انها اصطلاحية وذات صياغة عقلية محضة، كالذي يراه بوانكاريه في تعامله مع الهندسة الفضائية (1891)[12]، وعلى حد قول فتجنشتاين: «نحن نصنع لأنفسنا صوراً للحقائق، فالصورة هي التي تظهر الحقائق في شكل منطقي». وعلى هذه الشاكلة صرح الاستاذ (تريكر) بأن الصورة هي نموذج للواقع، ونحن الذين نصنع هذه الصورة كنموذج نألفه لنطبقه على الواقع، وإن كنّا لا نعرف عن هذا الأخير شيئاً، انما نكيف انفسنا مع الخبرات الجديدة بتصويرها عبر مساعدة الخبرات الماضية التي نألفها[13].

وتلعب الحيل الرياضية والخيالية دوراً كبيراً في صنع القبليات الصورية التي لا يراد منها الكشف عن الواقع بقدر ما يراد منها الاتساق لدى النظرية، ومن ذلك الحيل المتعلقة بالابعاد الفضائية وكيف انها يمكن ان تتخذ اشكالاً مختلفة، او التصورات الكثيرة التي نتصور من خلالها الاشكال المفترضة للكون، او فكرة الاكوان المتعددة اللانهائية والتي تتضمن صيغاً تصورية كثيرة جداً، او فكرة التضخم الكوني والإنفجاري، او حتى الزمن الخيالي عندما يتحول الزمان إلى مكان أو بالعكس، او توسع الفضاء ذاته كوعاء وليس ابتعاد الاشياء بعضها عن بعض. وكثيراً ما يعترف الفيزيائيون بأنهم يتبنون احياناً ما يسمى بالحيل الرياضية، كما قد يختلفون احياناً حول ما اذا كانت متبنياتهم تمثل مثل هذه الحيل ام انها تعبر عن واقع حقيقي. فمثلاً ان ماكس بلانك يرى ان ما جاء به حول مفهوم الكمات يمثل اختراعاً لحيلة رياضية، فيما اعتقد اينشتاين انها تخبر عن فيزياء حقيقية. كما رأى الاخير ان معادلات ميكانيكا الكوانتم هي نوع من الحيل الرياضية أكثر مما تخبرنا عن الواقع الحقيقي. كذلك كان بعض طلاب اينشتاين يرى ان ما يقدمه الاخير من معادلات لا يتعدى اللعب بالرياضيات، فيما كان هو يعتقد بانها تعبر عن مضمون فيزيائي.. وهكذا[14].

هذا فيما يتعلق بقبليات العلم الصورية، أما قبلياته التصديقية فتستند الى مبدأ الاستقراء واعتباراته الاحتمالية، كما تستند الى السببية العامة وافتراض ان هناك واقعاً موضوعياً يُجرى عليه البحث، الى غير ذلك من القبليات التي تساعد على الكشف العلمي. ويلاحظ انه ليس هناك اختلاف بين القبليات التصديقية للعلم عن تلك الجارية في الادراك، ففي كلا الحالين توجد قبليات منطقية محايدة واخرى مضمونية، وكلاهما يعد من القبليات الكاشفة. ناهيك عن وجود قبليات شخصية متأثرة بظروف العالم واحواله المختلفة، والتي تتشكل منها فلسفته للعالم والوجود، وربما يكون ذلك مكتسباً منذ الطفولة. واصبح من الواضح بأن للتأثيرات السايكولوجية والسيسيولوجية بل والتاريخية اكبر الاثر في تحديد مجال الفروض التي يتم اصطيادها كما تصطاد السمك.. فالاهمية تنبع من كيفية اصطياد الفروض وليس التحقيق في تفصيلها بعد اصطيادها.. فعملية الاصطياد تبدي انها لا تخضع الى منطق محدد ولا منهج معين كالذي يبشر به كارل بوبر وغيره من فلاسفة العلم، فهي متأثرة بعوامل عديدة وعلى رأسها العامل السايكولوجي. وكل ذلك له الاثر الكبير في التقدم العلمي رغم عدم خضوعه للمنطق[15]. ومما يشار اليه بهذا الصدد ان كبلر بقي سنوات يرفض قبول فرضية المدارات البيضوية باعتبارها اقل كمالاً من الأشكال الدائرية (منذ عام 1591)، وهو من الاعتقادات الفلسفية القديمة الراسخة. وقد صُدم عندما رأى حساباته تنسجم مع فكرة دوران الكواكب في مسارات غير مثالية[16]. ومن ثم تبنى قبول المدارات البيضوية كفرضية مؤقتة لا اكثر. ففي البداية كان يتبنى فكرة المسار البيضوي لمدار المريخ، ومن ثم اضطر فيما بعد الى تعميم الحال على سائر مدارات الكواكب الاخرى.

 

الفهم الديني والقبليات الصورية والتصديقية

كما ينطبق الحال السابق على الفهم الديني، فله قبليات صورية واخرى تصديقية، وان هذه الأخيرة لا تختلف عما عليه الحال في الادراك والعلم، اذ تنقسم الى قبليات منضبطة وغير منضبطة، والاولى تنقسم الى منطقية محايدة، واخرى مضمونية. وتتلون الأخيرة بالوان مختلفة بحسب المشارب الفكرية والمنظومات المعرفية، كما ان منها مشتركة عامة. بل يمكن القول ان القبليات التصديقية المضمونية، سواء في الفهم او العلم او الادراك، تتخذ شكلين بارزين، احدهما منضبط والاخر غير منضبط، كما عرفنا ذلك في دراسة مستقلة. أما القبليات التصديقية المحايدة فتتخذ الشكل المنضبط، ويعد مبدأ الاحتمالات العقلية او الاستقراء ابرز ما يمثلها، وهو مبدأ عام يستفاد منه في العمليات الذهنية الثلاث: الفهم والعلم والادراك.

لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان موضوع الفهم الديني هو امر معرفي يجري التعبير عنه بلغة النص، وهو بذلك يختلف عن موضوع الادراك والعلم، اذ في كلا الحالين الأخيرين يكون الموضوع ذاتاً وكينونة وليس معرفة كما هو الحال مع موضوع الفهم الديني. لذلك يرد السؤال بصدد الفهم: كيف نتعرف على المعرفة التي يتضمنها النص من وراء حجاب اللغة؟ كما كيف نكشف عن محددات الذهن لهذه المعرفة؟

اذ نواجه - هنا - امرين يتعلقان بالقبليات الصورية والتصديقية. فالمعرفة التي ينطوي عليها النص تتحدد بفعل هذين النوعين من القبليات. وإذا كنّا قد تعرفنا مجملاً على أشكال القبليات التصديقية التي تؤدي دورها في تحديد المعرفة التي ينطوي عليها النص اللغوي؛ بقي ان نتعرف على ما يتعلق بالقبليات الصورية، فهي تحدد المعنى الديني بغض النظر عن الاحكام التصديقية، لأنها مجرد تصورات لمعنى النص، سواء جرى التصديق بها ام لم يجر.

فأول ما يلاحظ ان تصوراتنا لمعاني النص كتبادر اولي متأثرة سلفاً بثقافة العصر والاستخدام الحي للغة، وهي لا تتشكل بمعزل عن ذلك، طالما اننا نتعامل مع نص قد تجرّد عن واقعه الخاص. فحيث ان العرف اللغوي يتغير بفعل تغير الظروف، فسيرسم ذلك لنا تصورات نسبية للمعنى، شبيه بتصوراتنا الحسية عن الشيء الخارجي، لأنه واقع بين تأثيرين: الموضوع الخارجي والذات الكاشفة. فمثلاً نحن معتادون على استخدام لفظ (سيارة) في عصرنا الحالي، وعندما نقرأ لأول مرة النص القرآني ((وجاءت سيارة)) منقطعاً عن الاعتبارات الاخرى، فقد يتبادر الى اذهاننا المعنى المتداول حديثاً لهذا اللفظ، فهو ناشئ بفعل القبليات الصورية، لكن لاعتبارات الواقع التاريخي، او ما نسميه (القبليات التاريخية)، فاننا نمنع ان يكون المقصود محمولاً على المعنى السابق. ومثل ذلك يمكن ان يقال ايضاً حول لفظ (الحكم) الوارد في الكثير من الايات القرآنية، ومثله الفاظ التفقه والاستنباط والتأويل وما اليها.

وعندما ترِد المعاني اللفظية لذهن السامع فانها لا تكون جامعة مانعة في التعبير عن حقائق الاشياء، ومنها المعنى المنتزع من النص، بل تبقى اسيرة لعوامل عديدة والتي منها الاعتبارات الحسية والثقافة العصرية، آخذين بنظر الاعتبار صور المعاني المختلفة نسبياً لدى الاذهان، حيث ان معنى اللفظ الذي يظهر في ذهن البعض وان كان له مثيل في ذهن البعض الاخر، لكن درجة ذلك لا تتطابق، إذ لا بد من حدوث تفاوت في المعنى عند التبادر والتصور، فقد يتبادر للبعض زيادة في المعنى دون البعض الاخر، كما ان اللفظ لا يخلو من التأثير النفسي في الذهن، فتبادر المعاني يخلق حالة نفسية مؤثرة في الاذهان؛ طبقاً لاختلاف العوامل البيئية والثقافية والنفسية والبايولوجية، وكل ذلك يخلق في الذهن صورة للمعنى لا تتطابق مع ما يحدث في سائر الاذهان الاخرى.

كما قد يتبادر للذهن صور للمعنى ما لا يتبادر للاخر، كالذي تحدّث عنه علماء النفس الجشطالتي حول ادراك الاشياء. فقد يتبادر للقارئ القديم معنى بحسب ثقافة عصره ما لا يتبادر للقارئ المعاصر، والعكس صحيح ايضاً، وقد لا يتنافى التصوران فيظهر احدهما ويختبئ الاخر لاعتبارات الثقافة العصرية او لاعتبارات اخرى؛ كاختلاف القبليات المنظومية وما اليها.

ومن الامثلة المفيدة في هذا التباين (الجشطالتي) - سواء على نحو التصور او التصديق - ما ورد في تصور معنى قوله تعالى: ((كل شيء هالك الا وجهه))[17]، فالبعض يتصور ان معناه كما يبدو ظاهراً من غير توجيه، هو ان كل شيء هالك حقيقة لا ان مآله الهلاك، خلافاً لما يراه البعض الاخر من معنى يشير الى المآل. وكلا المعنيين يستبطنان الظهور رغم تضادهما طبقاً لتعارض المنظومتين المعتمد عليهما في الفهم.

وحتى الرجوع الى المعاجم اللغوية لا يعفي كونها متأثرة بتلك الصور المذكورة في تحديدها لمعاني اللغة، ومنها ثقافة العصر. ولو قيل انه يمكن الرجوع بذلك الى ما ورد من اشعار الجاهلية لتحديد معاني الألفاظ ومن ثم النص؟ قلنا ان استخدام اللفظ يرد بمعاني عديدة، وان الاشعار طافحة بذلك، وبالتالي فإن ترجيح بعض المعاني على البعض الاخر قد يتأثر بالثقافة العصرية. كما ان معاني ألفاظ النص لا تعبر بالضرورة عن معاني الاشعار الجاهلية، لا سيما اذا اخذنا بالاعتبار الاختلاف الحاصل بين الثقافتين الشعرية والدينية، والظروف الاجتماعية التي اكتنفت كلاً منهما.

وكما يرى الناقد اللغوي (لوسركل) فإن الموسوعة اللغوية «قد تغني معرفتنا لهذه اللفظة، ولكن تبقى هناك تداعيات وارتباطات لهذه اللفظة متأتية من ظروف تاريخية واجتماعية وثقافية معينة لا يمكن لا المعجم ولا الموسوعة ان تلقي عليها الضوء. ويتعين علينا ان نلم بهذه التداعيات لكي نتمكن من فهم هذه اللفظة وفهم عملها في الجملة فهماً شاملاً صحيحاً»[18].

وفي جميع الاحوال ان المعاجم والموسوعات اللغوية لا تملك القدرة على وضع المعاني الجامعة المانعة، كما انه ليس بوسعها ان تحدد حجم التأثير النفسي في الاذهان عند تبادر المعاني.

تبقى ان وظيفة القبليات الصورية للنص هي اظهار معنى النص في الذهن على شاكلة ما يحدث في حالة ادراك الاشياء الخارجية، ونطلق على هذا المعنى بالظهور المعنوي للنص. وهو ظهور ذاتي غير متوقف على الارادة التصورية للذهن، وإن كان بامكان هذه الارادة ان تدرّب نفسها لإحضار معاني صورية جديدة كالذي يحصل في حالة ادراك الواقع والتدرب على رؤيته رؤية جديدة مختلفة. في حين ان وظيفة القبليات التصديقية هي الحكم الذي من ابرز مصاديقه الفهم والقراءة، اذ تعتمد على ما يتحقق من الظهور المعنوي للنص. ويمتاز الحكم في هذه الوظيفة بانه متوقف على الارادة التصورية للذهن خلافاً لما يجري في الظهور المعنوي للنص.

وفي النتيجة يتوقف الظهور المعنوي للنص (ن ع) على كل من القبليات الصورية (ق ص) والنص المجهول (ن)، اي كما هو في ذاته. وبحسب التعبير الرياضي فان:

ق ص + ن ← ن ع

أما الفهم (ف) او القراءة فانه يعتمد على هذه النتيجة المتمثلة بالظهور المعنوي للنص (ن ع) مضافاً الى القبليات التصديقية والتي نرمز لها بـ (ق ت). وبحسب التعبير الرياضي المجمل فان:

ق ت + ن ع ← ف

لكن الفهم (ف) او القراءة هو إما اشارة (ش) او ايضاح (ض)، لذا فبحسب التعبير الرياضي فان الاشارة تتحدد كالتالي:

ق ت ش + ن ع ← ش

أما الايضاح (ض) فانه يزيد على علاقة الاشارة السابقة بقبليات جديدة هي القبليات الايضاحية او التفسيرية، وبالتالي فالعلاقة الايضاحية تكون كما يلي:

ق ت ش + ق ت ض + ن ع ← ض

واذا كان هناك نوع من الاندماج او الاتحاد بين الاشارة والايضاح كالذي لاحظناه في السابق؛ فان قبلياتهما تكون غير متمايزة، الامر الذي تنطبق عليه العلاقة الرياضية التالية:

2ق ت + ن ع ← ض

 

 

 



[1]           انظر: نقد العقل المحض، ص61، وص37. كذلك: ص105ـ106.

[2]           حول تفاصيل مناقشة الأدلة على الواقع الموضوعي يمكن مراجعة الفصل الأخير من كتابنا: الإستقراء والمنطق الذاتي. كذلك: (مفارقات نقد العقل محض).

[3]           انظر: منهج العلم والفهم الديني.

[4]           بول جييوم: علم النفس الجشطلت، ترجمة صلاح مخيمر وعبده ميخائيل رزق، مراجعة يوسف مراد، نشر مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1963م، ص20.

[5]            ملا محمد جعفراللاهيجي: شرح رسالة المشاعر، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، نشر مكتب الاعلام الاسلامي، طهران، ص1434.

[6]             الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، جمع وتأليف محمود الغراب، دار الفكر بدمشق، ص169ـ170.

[7]           نظرية الفوضى، ص73.

[8]           نظريات العلم، ص36ـ37.

[9]           الكون الانيق، ص125.

[10]          ابن عربي: الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، الطبعة الاولى، 1418هـ ـ1998م، ج4، ص78.

[11]          انظر بهذا الصدد: الاستقراء والمنطق الذاتي.

[12]          انظر:         Lakatos, I. The Methodology of Scientific Reserch Programmes, Philosiphical Papers, Volume 1, Editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, First Published 1978, Reprinted 1984, Cambridge University Press, p. 21.

[13]            انظر:            Tricker, R. A. R. The Assessment of Scientific Speculation, Great Britian, 1965, p. 194

[14]          انظر التفاصيل في: منهج العلم والفهم الديني.

[15]          انظر حول ذلك: نورود رسل هانسون: هل ثمة منطق للاكتشاف العلمي، ضمن قراءات في فلسفة العلوم، تحرير باروخ برودي، ص599 وما بعدها.

[16]          ستيفن هوكنج وليونرد ملوندينوف: تاريخ أكثر ايجازاً للزمن، ترجمة أحمد عبد الله السماحي وفتح الله الشيخ، ص21، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[17]          القصص/88.

[18]          جان جاك لوسركل: عنف اللغة، ترجمة وتقديم محمد بدوي، نشر المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الثانية، 2006م، ص20.

comments powered by Disqus