-
ع
+

الفيزياء المعاصرة ووحدة الوجود

يحيى محمد

نعتقد بأن العلم المعاصر أخذ ينحو نحو وحدة الوجود، فتارة تجسدت هذه (الوحدة) خلف الرؤية العلمية التي هيمنت على عصرنا هذا، وأخرى طفحت على لسان بعض رموز العلم وأساطينه. وكان هناك رجال مشهورون قد عرفوا برعايتهم للتوجه الصوفي، مثل أينشتاين وادنجتون وشرودنجر وهايزنبرغ وغيرهم.

لقد كانت وحدة الوجود في الحضارات القديمة مفضوحة صريحة، وأحياناً مشاراً إليها في لغة الخطاب، على نحو ما قيل: «إذا فهمت ورقة واحدة من أوراق الأعشاب فسوف تفهم الكون جميعاً»، وظهر خلال العصر الحديث ما يحاكي هذه الصيغة كتصور الفيلسوف الألماني لايبنتز بأن قطرة من الماء تحتوي على نسق الكون كله[1]، أو كما أنشد الشاعر الصوفي الإنجليزي (وليام بليك) هذه الأبيات من الشعر: ﻟﺘﺭﻯ العالم ﻓﻲ حبة رمل، والسماء في زهرة برية، لذا أمسكْ اللانهاية براحة يدك والخلود في ساعة واحدة[2]. وكذا ما يقال قديماً من أن «كل شيء في أي شيء»، ومثل ذلك الإعلان عن تشاكل عوالم الوجود وتطابقها، أو من خلال تقسيم الوجود إلى مراتب متفاضلة ضمن النوع الواحد، كتقسيم صدر المتألهين للوجود إلى أربعة مراتب هي الجسم الطبيعي والجسم النفسي والجسم العقلي والجسم الإلهي[3]، كلها منضمة في نوع واحد نعبّر عنه بـ (جسمانية الوجود).

ومع أن النظام الوجودي ما كفّ يعلن تصريحاً وتلميحاً عن تبنيه لوحدة الوجود، إلا أن هذه الوحدة داخل الحضارات القديمة وإمتداداتها قبل الحضارة الإسلامية لم تنفرز بشكل واضح ودقيق، إذ أن ذلك قد جرى لأول مرة وسط الحضارة الإسلامية ذاتها، خاصة لدى المتأخرين داخل النظام الوجوي، إذ اعتادوا أن يفصّلوا القول في أنواع تلك الوحدة حتى بلغت أحياناً ستة أنواع كما ذكرها النراقي[4]، غالباً ما تعتمد عملية الفرز على «التشبيهات» الواردة في توضيح تلك الوحدة، لكونها صُورت بأنها تفوق مستوى حد العقل وتصوره. ومع ذلك فإن التأمل في تلك الأنواع يمكن أن يردها إلى نظريتين أساسيتين متمايزتين، إحداهما تتبنى السلسلة الرتبية من العلة والمعلول دون خلط وإختلاط، وهي التي تنسب إلى «الفلسفة»، والاخرى لا تتبنى ذلك ولا تجعل للمرتبة الأصل مكانة مختصة بذاتها متعالية عن سائر الرتب التي تدنو منها، والتي تنسب إلى «التصوف»، رغم أن ظاهرة الإختلاط والتزاوج بين الفلاسفة والمتصوفة، وكذلك التشابه والتداني في الطرح لدى كل من المنظومتين الآنفتي الذكر، كل ذلك جعل من الصعب الفرز بشكل مطلق وتام فيما إذا كان رمز الطريقة المزدوجة يتبنى وحدة الوجود «الفلسفية» أو «الصوفية».

كان من الواجب علينا أن نذكّر بتلك الإعتبارات، كي نعرف أي نوع لوحدة الوجود استعادها العلم المعاصر عن الحضارات القديمة وإمتداداتها. فالمسلمات العلمية المعاصرة حول تحليل المادة والطاقة وردّ كل منهما إلى الآخر، كذلك إرجاع جميع الأشياء من العناصر والمركبات الكونية إلى جسيمات متماثلة واقعة في «بساط موجي» يفوق التصور العقلي، الأمر الذي يجعل من حركاتها وتفاعلاتها تتخذ إنساقاً هندسية تمثل أساس التكثر والإختلاف الذي نراه في الوجود الطبيعي.. أن هذه المسلمات لهي ذات دلالة واضحة على وحدة الوجود - ولو في اطارها الطبيعي الضيق - التي كان القدماء المسلمون يصعب عليهم توضيحها، فشبهوها بتشبيهات عديدة كالشعلة الجوالة، والبحر وأمواجه، والنور وإختلافه في القوة والضعف، واللوح والمداد، وغير ذلك من التشبيهات الأخرى[5]. لكن أقربها إلى الفهم العلمي هو الأخير ذو المغزى (الصوفي) من وحدة الوجود.

فالمداد المطبوع على اللوح بأحرف مختلفة يجلّي حالة ما كان يسمى بـ «الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة». إذ لا وجود في اللوح سوى المداد، ومع ذلك فالتنوع والإختلاف في شكل هذا المداد - بالحروف - إنما يعني وجود التكثر وسط الوحدة، ووجود الوحدة في التكثر. فما يُرى من فوضى التكثر والإختلاف يضمر إنسجاماً في الوحدة، وما يُرى من هذه الوحدة يضمر ذلك التكثر والإختلاف، فهو شبيه بما يقوله أصحاب نظرية الكايوس الحديثة أو الشواش من وجود النظام في «الفوضى الكونية»، والفوضى في النظام، أو ما يسمى بهندسة الفراكتال أو ظاهرة التكرار المتغير في الطبيعة، فكل تفصيل صغير يحتوي على الكون كله، رغم أن له كونه الخاص المختلف، مما يعطي مزيجاً من التنوع والكلي في آن واحد[6]. فالتصوير السابق الذي صوّره أصحاب النظام الوجودي داخل الحضارة الإسلامية يطابق إلى حد كبير ما توصّل إليه العلم المعاصر من أن جميع القوى الطبيعية والعناصر والجسيمات (النهائية) لها وحدة على صعيد المماثلة في قبال كثرتها.

فمن حيث القوى الطبيعية الأربع يلاحظ أنه تم توحيد القوى الثلاث: الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة النووية القوية، وهناك محاولات لدمج الجاذبية مع هذه القوى المتحدة لتصبح جميع القوى الأربع عبارة عن قوة واحدة من حيث الأساس.

ومن حيث العناصر فمن المعلوم أن أبسطها وأقدمها هو الهايدروجين الذي تشكلت منه العناصر الأخرى ذات النوى الذرية الأثقل، وذلك طبقاً لعملية الإندماج النووي. وأول عنصر تشكل من الهايدروجين بداية الكون، أو بعد ما يُعرف بالإنفجار العظيم، هو الهليوم، ثم بدأت تتكون سائر العناصر الأخرى بالإندماج. وبذلك تكون الكثرة حاضنة للوحدة ومستمدة منها.

أما من حيث الجسيمات النهائية فهي مصنفة إلى عدد من الأصناف المختلفة، هي الكواركات واللبتونات ومنها الإلكترونات، لكنها متقاربة ومتشابهة، اذ عادة ما تختلف طبقاً لمقدار كتلتها أو نوع شحنتها أو بحسب دوارنها المغزلي (السبين)، وبعضها يتحول إلى البعض الآخر، إضافة إلى ما تشترك به من التحول إلى الطاقة. حتى أن رائد نظرية اللاتحدد الجسيمية (هايزنبرج) يرى بأن هناك جوهراً واحداً أساسياً يتكون منه كل الواقع، كالذي يبحث عنه فلاسفة الإغريق القدماء، وهو ما يسمى بالطاقة، التي لها أشكال مختلفة[7]. ومع أن هناك من يرى بأن جملة من الجسيمات النووية الثقيلة (الهادرونات)[8] كالبروتونات والنيترونات لا يمكن اختزالها إلى جسيمات أولية، وهو المذهب الذي طوّره (جوفري شو) في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، والمسمى بمذهب (الديمقراطية النووية)[9]، إلا أن التطورات التالية بيّنت بأن هناك بالفعل جسيمات أولية تمّ تحديدها كما تتمثل بالكواركات. لذا فالإشكالية التي يعالجها المنطق العلمي في هذا المجال هي فرض البساطة على الطبيعة أو ما يُعرف بنصل أوكام، بإعتبارها مبدأً ميتافيزيقياً وبراجماتياً، فيودّ لو أنه يكتشف بأن مردّ الإختلاف في تلك الجسيمات يعود إلى الوحدة، بمعنى أن يكون أساسها قائم على نوع واحد منها فقط. وفعلاً أن البعض يعتقد بأن مردّ الجسيمات جميعاً إلى جسيم واحد عديم الكتلة طبقاً لإعتبارات الجمال والبساطة[10]. ولا شك أن فرض البساطة على الطبيعة يتسق وطريقة النظام الوجودي من رد الأمور إلى الوحدة، وكما يقول أينشتاين بأن العالِم الفيزيائي قد يبدو فيثاغورياً أو افلاطونياً طالما يعتبر مسألة البساطة المنطقية شيئاً لا مفر منه، وأداة مؤثرة في بحثه[11]. الأمر الذي يتسق ومقولة (بسيط الحقيقة كل الأشياء) التي كثيراً ما يرددها صدر المتألهين الشيرازي. فمثلما أن بساطة مبدأ الوجود حاضنة للكثرة الشاملة، فكذا أن بساطة الجسيمات يمكنها أن تشكل كل هذه الكثرة، والعلاقة بين البساطتين هي أشبه بالعلاقة بين العلة الفاعلة المتضمنة للصور بالفعل، والعلة المادية المتضمنة لها بالقوة، كما يحددها أرسطو[12].

وعموماً فإن هذه الجسيمات تعد أساس ما يتمظهر عنها من عناصر ومركبات وأجسام مختلفة - بل ومتضادة أيضاً -، حيث تتخذ أشكالاً مختلفة من التكدس والتنقل والتذبذب والتهندس والإختفاء والكمون وسط البساط الموجي الذي لا يعني شيئاً دونها. وبحسب نظرية الأوتار فإن ما يبدو جسيمات أولية مختلفة هو في واقع الأمر نغمات متباينة لوتر أساس واحد. فثمة عدد ضخم من الأوتار المتذبذبة التي تمثل سمفونية كونية، فلكل وتر نسق اهتزازي رنيني ينشأ عنه جسيمة ذات طبيعة محددة وفقاً لطبيعة الإهتزاز، فالأنساق الإهتزازية للوتر المجهري تولّد كتلاً وشحنات قوى مختلفة، وبالتالي فخواص جميع الجسيمات والقوى الطبيعية المختلفة مردها إلى تذبذبات الوتر، أو أن جميع المواد والقوى لها مكون واحد أساس يتمثل بالوتر المتذبذب، لذلك يقال بأنه لو فهمنا المكونات الأساسية لفهمنا كل شيء دون استثناء، وهي – بالتالي – نظرية كل شيء كما يقال[13].

وكل ذلك يعني إعادة إحياء تلك المقولة الفلسفية الآنفة الذكر «الكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة». فالتكثر والتنوع في مختلف أجزاء الطبيعة ومظاهرها وعلاقاتها مستمد من تلك النقطة الجوهرية لوحدة الجسيمات التي تتجلى فيها المظاهر المختلفة وسط لوح التموجات. وعلى الرغم من أنها هي الموجودة حقيقة وليس هناك شيء آخر غيرها في عالم الكون، فإنها تبدو مختفية تماماً، وما يظهر من عوالم كونية مختلفة، إنما هي مظاهر لها تسترها وتخفيها، بل هي عين السراب عند النظر والتدقيق، إذ حقيقة ما موجود هو «الجسيم» وحده، وما عداه وهم ناتج عن نشاطه الموجي، وهو بمثابة النشاط الروحي لـ «إرادته الحرة» في الحركة وما يحمله من طاقة عظيمة، الشيء الذي يماثل قول أصحاب النظام الوجودي في الحضارة الإسلامية من أن «الوجود» لشدة ظهوره كان أكثر الأشياء خفاء، بل هو الظاهر والباطن ولا شيء غيره في لوح الوجود البتة، أو قولهم صراحة ليس في الوجود إلا «الله» وما عداه وهم وباطل، أو كما قيل:

كل ما في الكون وهم أو خيال            أو عكوس في المرايا أو ظلال

لذلك كانت النزعات المثالية التي عصف بها القرن العشرين وسط علماء الفيزياء إلى الحد الذي شكك الكثير منهم بوجود الأشياء أو نفوها، إنما تعبّر عن إعادة إحياء حالة ما سبق أن عاشها رموز النظام الوجودي.

وإذا ما كان التحليل الآنف الذكر للنتاج العلمي يزودنا بدلالة «صوفية» عن وحدة الوجود، فإنه كما يشير البعض إلى أن التوازن يميل بقوة نحو إعادة إحياء الصوفية؛ سواء كان ذلك في أوساط الجرائد أم بين علماء الكونيات، وأن العلم أصبح يضفي المعقولية على التأكيدات الصوفية[14]. كذلك فإن رمز العلم المعاصر أينشتاين لا يخفي إعتقاده بدلالة وحدة الوجود متأثراً بالفيلسوف اسبينوزا[15]، الذي يظن أنه قد تأثر بدوره بمحي الدين بن عربي. حتى أنه يقال بأن الكثير من العلماء، مثل كوبرنيكوس وغاليلو ونيوتن وأينشتاين قد تأثروا بالأفكار الهرمسية[16]، ورغم أن هذه الأفكار قد شاعت بعد قرنين من المسيح؛ إلا أن جذورها تمتد إلى مصر الفرعونية قبل أكثر من خمسة آلاف سنة تقريباً.

يضاف إلى ذلك، إن التأمل في التحليل الفلسفي الذي ضمنه وأقامه بعض رموز العلم - كأينشتاين ذاته - على حصيلة النتاج العلمي يمكن أن يرشدنا لا فقط إلى معرفة ما كان يكنّه ذلك التحليل من «لفيف» وحدة الوجود، بل ويرشدنا كذلك إلى الطابع اللامادي (العقلي ـ الروحي) الذي تتمثل فيه تلك الوحدة، فضلاً عن إعتبارات أخرى قد سبق إليها النظام المعرفي الوجودي داخل الحضارة الإسلامية.

فقد انصب إهتمام أينشتاين حول معرفة البنية الخاصة للموضوع الخارجي، فهو لا يرى هذا (الموضوع) جسماً أو ذاتاً لها وجود، بل يعتقد إستناداً إلى التحليل العلمي أن أي جسم تتمثل حقيقته بمجموعة حوادث متشابكة هي التي تعطي صفة ما نعبّر عنه بـ «الجسم» الذي يتألف منه الكون، وأن كل حادثة تحدث مرة واحدة في نقطة مكانية ولحظة زمنية واحدة لا تتكرر، في الوقت الذي لا توجد حادثة وحيدة منعزلة، كما لا توجد حادثة بسيطة، إذ الحادثة من جهة التحليل تعبّر عن مركّب آخر من الحوادث، وهكذا.. وحيث أن الحوادث تحدث في مجاميع على هيئة نسيج مسلسل يرتبط بعضه بالبعض الآخر، أشبه بالقطعة الموسيقية أو بصورة فلم على شاشة السينما، إنما يوهمنا وكأنه شيء واحد ثابت له هويته وديمومته الخاصة.

لا شك أن هذا التصور للحادثة يفوق الإدراك الحسي، إذ لا توجد هناك حادثة بسيطة يمكن إدراكها بشكل منفصل، لهذا اعتبرها أينشتاين أمراً مجرداً أو استدلالاً من سلسلة طويلة لمقدمات رياضية، فلا توصف إلا وصفاً رياضياً مجرداً. وقد استفادت نظرية الكوانتم من هذا التصور للحادثة فطبقته على عالم الذرة، حتى أصبح الإلكترون هو الآخر كسائر بقية الحوادث لا يشكل جسيماً له ثباته ووضعه المكاني المحدد، بل هو مجال من موجات هي في حد ذاتها مؤلفة من سلسلة مجموعات من الحوادث. ثم جاء مبدأ (هايزنبرج) في «اللاتحدد أو اللايقين» ليكلل تلك النتائج، إذ جعل من الإلكترون يتصرف وكأن له مجالاً من الإرادة الحرة نسبياً، بحيث لا يمكن تحديد وضعه المكاني وحركته بدقة مطلقة إذا ما حاولنا عزله عن نظائره من مجاميع الإلكترونات الأخرى. وكما يرى (نيلز بور) أن الإلكترونات هي شبيهة بالكناغر، فمع أن عدداً منها يقفز على الدوام بنسبة معينة ضمن فترة زمنية محددة، لكن ليس هناك من طريقة لمعرفة أيًّ من هذه الكناغر أو الإلكترونات سيقفز ويتحول من مدار إلى آخر[17]. ثم تطور الحال فظهرت مقالة التأثير الخفي في الظواهر الكمومية بحيث يجعلها متصلة ببعض وجدت تأويلاً قائماً على فكرة وحدة الوجود، وهي أن الراصد هو المرصود، وأن المادة والوعي مترابطان ضمن حقيقة واحدة مفعمة بالحياة دون انفصال، وأن هناك نسيجاً للكل الكوني ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض مثل شبكة سببية متحركة دون وجود للمصادفات والعشوائية كالتي تلوّح لها مدرسة كوبنهاكن، فأي تأثير في أي شيء يؤثر على الآخر، أو أن أي جزء يحمل الكل بشكل خافت، فكل شيء موجود في أي شيء ضمن الجسيم، وأي شيء يعكس صورة الكل، فهو الكون المرآة، حتى الفوتون يحمل مخطط الكل بما فيه الماضي والمستقبل جميعاً، وكلها منعمة بالحياة ضمن حقيقة واحدة متعددة الأبعاد. وبالتالي هناك نظام مضمر ووحدة وجود في الفيزياء الجسيمية كالتي يتبناها ديفيد بوم في كتابه الموسوم (السببية في الفيزياء الحديثة). وكان هذا الفيزيائي يعتقد بأن أغلب علماء الكوانتم مصابون بخداع النفس لتأثير نيلز بور عليهم، وهو يشير إلى محاضرة للأخير في كوبنهاكن استطاع خلالها ان يجبر الفيزيائيين على فهم الحقائق التي اكتشفوها من الفوتونات والميزونات وغيرها من الجسيمات بأنها تجريدات مرتبطة بأدواتهم القياسية، معتبراً أن هذه الطريقة ليست التفسير الوحيد كما يدعي بور. ويُنقل بأن أينشتاين قد اعترف بأنه لم يفهم نظرية الكوانتم حتى فهمها من ديفيد بوم نفسه، ففي (عام 1951) سلّم بوم نسخة لنص كتبه حول الكوانتم لأينشتاين فأفصح الأخير أنه لم يفهم النظرية تماماً حتى قرأ ما كتبه بوم عنها. وربما كان أينشتاين يرى ان القصة الناقصة التي خلّفها نيلز بور واتباعه حول نظرية الكوانتم قد اكملها بوم – في وحدته للوجود - خارج السلطة الفيزيائية لمدرسة كوبنهاكن. ومثل ذلك فعل الفيزيائي تشو في نظريته (التعضيد الذاتي)، ووفقاً لها انه لا يمكن ارجاع الطبيعة إلى أي وحدات أساسية، بل لا بد من أن تُفهم كلياً عبر تماسكها الذاتي المتبادل. وبالتالي لا توجد لدى تشو ثوابت ولا معادلات ولا قوانين أساسية، بل هناك شبكة دينامية من الأحداث المتعاضدة المتداخلة. فكل شيء يفهم من خلال الآخر بالتبادل.

ولم يتوقف الحال عند مد نظرية «الحادثة» لأينشتاين، من عالم الكون والطبيعة الجسمية إلى عالم الذرة، بل أعقب ذلك مد آخر فيه خطورة جسيمة على دنيا الطبيعة والمادة، فقد قام فيلسوف العلم المعاصر برتراند رسل بسحب بساط «الحادثة» ليغطي به «الإحساس الذهني» مضافاً إلى المادة والطبيعة، فهو يذهب إلى أن المادة الخارجية لما كانت تسبب لنا الإحساس في حواسنا، وحيث أن المادة والإحساس يتألفان معاً من حوادث، فلو أنّا أفرغنا الحادثة من محتواها فسوف لا يعد بإمكاننا أن نقطع ونتيقن فيما إذا كانت مادة أو عقل، بإعتبارها تناسبهما معاً[18].

إن النتائج التي يمكن أن نستخلصها من تحليل نظرية «الحادثة» - إبتداء من أينشتاين ومن بعده نظرية الكوانتم ثم إنتهاء ببرتراند رسل - وعلاقتها بالنظام المعرفي الوجودي، هي كالآتي:

أولاً: إن البساط الذي سحبه برتراند رسل للحادثة إلى ما يغطي عالم الإحساس والعقل، يجعل من التفكير العلمي المعاصر لا ينظر إلى عالمي العقل والمادة نظرة تعددية ثنائية، فهما يعبّران عن طبيعتين من سنخ واحد هو الحادثة. كما أن الإعتقاد بأن حقيقة الأمر الخارجي ليس هو الجسم أو الهوية، بل مجاميع مسلسلة من الحوادث المتشابكة، وحيث أن الحادثة في نهاية التحليل هي أمر مجرد لا يقبل الحس، وإذا ما أضفنا إلى ذلك التصور الموجي للحادثة، وكذلك «السلوك الحر» للجسيم.. إذا ما أخذنا بجميع هذه الإعتبارات أصبحت النتيجة تقترب بشكل بيّن من وحدة الوجود الروحية أو العقلية، الأمر الذي يعني الوقوع مرة أخرى في حوض النظام المعرفي الوجودي. ذلك أن هذا النظام يؤكد على مثل هذه الوحدة إلى الدرجة التي تصبح فيه الطبيعة صورة عقلية مستنسخة من العقل لا العكس، إذ لما كانت الطبيعة مؤلفة من صورة ومادة، والمادة ليست بشيء لأنها - عند ذلك النظام – مجرد قابلية لتشكلات الصور، تصبح حقيقة الأمر الخارجي بصورته، والصورة هي درجة من درجات الإدراك؛ لقاعدة إتحاد العاقل بالمعقول والمدرِك بالمدرَك، الشيء الذي يعني في نهاية المطاف أن الصورة الخارجية للطبيعة إنما هي عقل متنزل، حسب ما تقتضيه السنخية.

ثانياً: بحسب التحليل الآنف الذكر تصبح الحادثة أساساً ومظهراً في أن واحد، فهي أساس جميع المظاهر، لكونها جميعاً مؤلفة من حوادث، لكنها في الوقت نفسه مظهر لحوادث أخرى تؤسسها إلى غير نهاية، إذ كما علمنا أن الإلكترون وكل ما هو أصغر منه من الجسيمات هو بدوره مركب من حوادث، الشيء الذي يعني أن هذه الجسيمات هي أساس ومظهر في آن واحد، فهي أساس بناء المظاهر الأشد منها تركيباً، كما أنها مظهر لحوادث أبسط منها بنية، مما يعني أن الأساس والمظهر هما من سنخ واحد، فبعضها مشكّل من البعض الآخر، كما أن الكثرة فيها تصبح هي الأخرى وهمية، فكلما اشتد تركيب الحوادث كلما زادت وهميتها. الأمر الذي يطابق ما سبق أن أكد عليه النظام الوجودي من وهمية الكثرة في عالم الطبيعة والكون.

ثالثاً: لما كان عالم الكون عبارة عن وحدة ممتدة غير متناهية من الحوادث، وكانت الحادثة لا تحدث إلا لمرة واحدة في نقطة مكانية ولحظة زمانية، فإن بقاء العالم وعدم فنائه وانتهائه إنما يعبّر عن «البقاء النوعي» مع زوال الأفراد، فأفراد الحوادث تنتهي وتزول، لكن صيرورة التجدد تجعل من بقاء الحوادث كنوع هو الذي يحافظ على ديمومة العالم واستمراريته. وهذا ما سبق أن أكد عليه النظام المعرفي الوجودي من فناء الأفراد وبقاء النوع[19].

رابعاً: إن تجدد الحوادث كما تقتضيه نظرية «الحادثة» يماثل تقريباً ما استقر عليه المتأخرون من النظام المعرفي الوجودي داخل الحضارة الإسلامية، من أن الحركة والتحول لا يجري في عالم الأعراض فحسب، بل حتى في عالم الجواهر أيضاً، فما من شيء في الطبيعة إلا وهو في تجدد وتحول من غير إنتهاء. وقد أولت نظرية الكوانتم للفراغ أهمية كبرى في الخلق والنشوء ثم التلاشي على الدوام. إذ يفترض الفيزيائيون ان للفراغ قابلية ذاتية على التخليق والفناء من لا شيء، على شاكلة ما يحصل للعناصر المشعة من تحلل دون سبب خارجي أو قبلي. فعلى المستويات المجهرية ان الكون ساحة مزدحمة مضطربة ومشوشة، وان الفراغ زاخر بخلق الاشياء وافنائها تلقائياً، حتى قال فينمان ساخراً: ‹‹نشوء وتلاش ثم نشوء وتلاش، أي مضيعة للوقت››. فالفراغ بهذا ليس فارغاً، وهو يعتبر مسؤولاً عما يسمى بالجسيمات الوهمية التي تظهر وتختفي بسرعة هائلة ضمن ايقاع من الخلق والفناء. وبعض الفيزيائيين المولعين بالتصوف الشرقي القديم ينقل الينا تصويراً مشابهاً لكلمات الحكيم الصيني تشوانغ تسي (عاش حوالي 369-286 قبل الميلاد) التي تقول:

عندما يعرف المرء ان الفراغ العظيم مليء بالتشيء، يتحقق أنه لا يوجد شيء مثل اللاشيء[20].

مع ذلك تظل نظرية الفلاسفة المتأخرين كما هي الحال عند صدر المتألين تضفي أبعاداً أخرى ثرية وخصبة لا تمتلكها التصورات السابقة ومنها نظرية «الحادثة». فبحسب صدر المتألهين تجري هناك سلسلتا (صعود ونزول) هي التي تديم الاستمرارية والصيرورة نحو الكمال. فالحركة الجوهرية في الطبيعة لا تفني شيئاً إلا وتجدد في قباله شيئاً آخر عبر تزامن (الخلع واللبس). وما يحصل من فناء في هذه العملية لا يمثل العدم، بل هو عين الكمال والالتحاق من صورة الطبيعة إلى صورة أرقى منها عن طريق الإتحاد حسب قانون «السنخية»، أي من عالم (العقل السافل) إلى عالم (العقل العالي)، أو من عالم الشهادة والدنيا إلى عالم الغيب والآخرة. كما ويتزامن مع هذا القوس من الصعود قوس آخر للنزول والخلق، فمع فناء وصعود كل صورة أو «حادثة» من صور وحوادث الطبيعة، تحصل حالة خلق ونزول للصور التي يفيضها العقل من سماء التجريد إلى أرض الطبيعة، وبذلك تتم ظاهرة الديمومة بالصعود والنزول على نحو التجديد والكمال إلى ما لا نهاية له، فالحركة مستمرة، والتحول والفيض سار أزلاً وأبداً دون إنقطاع، والحوادث دائبة على الحدوث والفناء، أو الخلق والكمال[21]، أو الحلول والاتحاد. فلحقيقة الوجود قابلية على الإنبساط والقبض، فإنها من حيث إنبساطها يحصل ما يطلق عليه النزول والخلق والصدور، وهو أشبه بالحلول، لكنها من حيث إنقباضها يحصل ما يطلق عليه الصعود والعودة والموت والفناء والإتحاد. فهي في كل آن أزلاً وأبداً في بسط وإنقباض، ونزول وصعود، وحلول وإتحاد... الخ.

خامساً: إن تحديد الشيء الخارجي تبعاً للحادثة لا الجسم أو الهوية يماثل ما استقر عليه المتأخرون - تقريباً - منذ صدر المتألهين من أن الأصالة للوجود لا الماهية، إذ كان قبل هذا الفيلسوف العارف، كما لدى استاذه السيد محمد باقر الداماد أو الشيخ الديواني أو شيخ الإشراق السهروردي، أن الأصالة للماهية لا الوجود الذي هو بمعنى الكون أو التحقق أو الثبوت أو الصيرورة أو غير ذلك مما يناسب «الحادثة» في قبال الجسم والذات والهوية.

سادساً: يظل هناك خلاف مستقطب حول «عدم التناهي» في الطبيعة. فعدم تناهي الحوادث لدى نظرية الحادثة يكون جارياً فعلاً، وهو لا يطابق عدم تناهي الأجزاء لدى نظام الفلسفة، إذ يحصل حسب وجهة نظر هذا الأخير على سبيل القوة لا الفعل، أي أن عملية التقسيم لو اُجريت لما كان يمكن الوصول فيها إلى نهاية محددة.

 



[1]  جايمس غليك: نظرية الفوضى، ص140.

[2]  انظر:The Complete Poetry and Prose of William Blakeعنوان رقم (1257)، عن الموقع الإلكتروني: www.4shared.com

[3]  شرح أصول الكافي لصدر المتألهين، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسم والصورة.

[4]  قرة العيون، ص210ـ235.

[5]  انظر كلاً من: اسرار الشريعة واطوار الحقيقة، ص77ـ78. وكلمات مكنونة، ص37ـ39. وقرة العيون، ص207ـ208. وتحفه، ص130ـ131.

[6]  جايمس غليك: نظرية الفوضى، ص185 و268، كما انظر في نفس الكتاب الفصل المعنون (هندسة الطبيعة).

[7] فيرنر هايزنبرج: المشاكل الفلسفية للعلوم الطبيعية، ترجمة أحمد مستجير، مراجعة محمد عبد المقصود النادي، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1393هـ ـ 1973م، ص108، عن المنتدى الإلكتروني ليبيا للجميع.

[8] من المعروف فيزيائياً أن الهادرونات تنقسم إلى مجموعتين كبيرتين هما: الباريونات والميزونات، والأولى هي جسيمات فرميونية، أي كيانات يكون لفّها الذاتي (السبين) مضاعفات فردية لأنصاف الأعداد الصحيحة مثل: 1\2، 3\2... الخ، أما الميزونات فهي جسيمات بوزونية، أي كيانات يكون لفّها الذاتي مضاعفات الأعداد الصحيحة مثل: 0، 1... الخ (انظر مثلاً: سام تريمان: من الذرة إلى الكوارك، ترجمة أحمد فؤاد باشا، سلسلة علام المعرفة (327)، الكويت، 2006م، ص293، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com).

[9] ستيفن وينبرغ: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون، ترجمة محمد وائل الأتاسي، نشر وزارة الثقافة السورية، الطبعة الأولى، 1986م، ص153ـ154، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.

[10] جورج جونسون: بحث في نظام الكون، مصدر سابق، ص241.

[11] ديلوكاروف: حول العلاقة بين اينشتاين وماخ، دراسة ضمن: اينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، مصدر سابق، ص93.

[12]  إبن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1504ـ1505.

[13]  الكون الأنيق، ص31ـ32 و158 و166 و168.

[14]  نظام ينتج عن الشواش، ص72 و87.

[15] هذا ما يشير إليه أينشتاين ضمن ردوده على أسئلة أحد الأدباء اليابانيين، والتي نشرت سنة 1929، إذ يقول: «من المؤكد أنه يكمن وراء بحث علمي على شيء من الأهمية اقتناع يشبه الشعور الديني بأن العالم معقول يمكن فهمه. هذا الإقتناع المرتبط بإحساس عميق بوجود عقل أسمى يتجلى في عالم التجربة يكون بالنسبة لي فكرة الله، أو بعبارة مألوفة يمكن تسميته بمذهب إلوهية الكون (اسبينوزا)» (أينشتاين: أفكار وآراء، ص50) .

[16] أُومبرتو إيكو: التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، 2000م، ص36.

[17] جيمس جينز: الفيزياء والفلسفة، ص175 و198.

[18]  ماهر عبد القادر محمد علي: مشكلات الفلسفة، ص41 و46. كذلك: من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية، ص61  و79ـ80.

[19]  لاحظ حول ذلك: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج2، ص 138. وعرشيه، ص231.

[20] الطاوية والفيزياء الحديثة، ص203.

[21]  اسرار الآيات، ص63ـ64 و159.

comments powered by Disqus