-
ع
+

نظرة موجزة للتعرف على نظرية الكوانتم

يحيى محمد

يؤرخ لهذه النظرية منذ (عام 1900) كأول بداية فعلية ارساها ماكس بلانك في اعماله على شعاع الجسم الاسود، والتي شهدت بعض التطور على يد أينشتاين (عام 1905)، كما في تفسيره لما يعرف بالتفاعل الكهروضوئي. فلقد أخذ الإعتراف بالوصف الجسيمي للضوء، مضافاً إلى وصفه كموجة، زمناً ليس بالقليل خلال العشرينات من القرن الماضي، منذ اعلان أينشتاين له أول مرة إثر تفسيره لظاهرة التفاعل الكهروضوئي واشعاع الجسم الأسود، ومن ثم محاولة جعل البناء الذي أسسه ماكس بلانك لنظرية الكم قائمة على أسس راسخة وصحيحة، لا سيما ان بلانك ينكر الطابع الكمومي للضوء كحقيقة فيزيائية، وكان يتصور بأن التقطع في اصدار الضوء والحرارة وامتصاصهما يعود إلى المادة المهتزة، خلافاً لأينشتاين الذي اعتبر ذلك يعود إلى طبيعة الضوء والحرارة ذاتهما، وهو من سمى هذه القطع من الطاقة بالكموم أو الكمّات (quanta)، باعتبارها تظهر بشكل وحدات مستقلة يمكن تعدادها، وهي غير قابلة للإنقسام إلى كسور، ومن ثم تحولت التسمية إلى نظرية الكم وثبتت عليها.

وقد مُنح أينشتاين على تفسيره جائزة نوبل (عام 1921) بعدما دلّت تجارب ميليكان على العنصر الجسيمي للضوء رغم ان ميليكان نفسه رفض ان تكون تجاربه قد برهنت على هذا العنصر، معتبراً الوصف الكمومي يستحيل تبريره، مثلما وصف فالتر نيرنست هذا الاكتشاف بأنه ربما يكون أغرب شيء خطر ببال أحد. بل ان أينشتاين ذاته قد شعر بأنه أمام خيارين صعبين، فثبات سرعة الضوء يجعله أقرب إلى الموجة منه إلى الجسيمة، فليس للموجات الضوئية - ومثلها الصوتية - تزايداً في السرعة، بل تحصل حالة من الإنضغاط في الموجات عند الإقتراب، والإنبساط عند الإبتعاد، لذلك تبدو السرعة ثابتة، وهو ما يجعل النظرية الموجية أكثر توافقاً مقارنة بالجسيمية.

وقد كان أينشتاين يدرك طبيعة هذه المشكلة عندما اضطر للإقرار بكموم الضوء، مما جعله يواجه وابلاً من الاعتراضات كما في مؤتمر سولفاي (لعام 1911) بعد ان قدّم محاضرة بهذا الخصوص، وكان من أبرز المعترضين لورنتز وبلانك وبوانكاريه. فمثلاً ان لورنتز اعتبر هذه الفكرة تتعارض مع معادلات ماكسويل الموجية. لكن رغم ذلك أصر أينشتاين على عدم التنازل عن فكرته في الكموم، وإن اعتبر هذا الوصف هو خاصية مؤقتة باعتباره لا يتسق مع التبعات المترتبة على التحقق التجريبي لنظرية الموجات. لهذا اتصفت مقاييسه للضوء بأنها قائمة على المعايير الموجية، معتبراً ان ما يحدد الضوء عاملان فقط هما التردد والشدة. وكان يرى بأنه يتعين على الفيزياء النظرية أن تمنحنا نظرية جديدة في الضوء قابلة للتأويل وفق دمج النظريتين الموجية والكمومية، كالذي صرح به (عام 1909)، وهو أول اعلان له على مثنوية الضوء. لكنه ظل عاجزاً حتى النهاية من أن يفهم لغز كموم الضوء، فقال قبل وفاته بقليل: ‹‹هذه السنوات الخمسون التي أمضيتها في التفكير والتأمل لم تقربني أكثر من إجابة السؤال: ما كمات الضوء؟››.

ومن وجهة نظر أغلب الفيزيائيين فإن (عام 1923) كان حاسماً في التوقيع على كموم الضوء؛ بعد ان اثبتت تجارب وقياسات كومبتون بأن الأشعة السينية تتصرف تصرف الجسيمات حين ارتدادها وفقدانها جزءاً من الطاقة عند اصطدامها بالإلكترونات، وهي أشبه بتصادم كرة بليارد متحركة بأخرى ساكنة. فقد حملت هذه التجارب دلالة واضحة على الطابع الكمومي للضوء. بل قُدّر بأن ميكانيكا الكم لم تبدأ إلا مع تقبل فكرة أينشتاين حول كموم الضوء وفقاً لهذه التجارب المباشرة التي قام بها كومبتون، وذلك بعد ثمانية عشر سنة منذ أن اعلنها أينشتاين أول مرة مطلع القرن العشرين. إذ نشر ماكس بورن بحثاً يدعو فيه إلى نسق جديد في ما اصطلح عليه لأول مرة (ميكانيكا الكم) قبل أن يتم تداوله على نطاق واسع إلى يومنا هذا، وكان يقصد به ما يقابل ميكانيكا نيوتن التقليدية. ومن ثم ظهر اسم الفوتون (photon) عام 1926 على لسان جيلبرت لويس، ولم يصبح جزءاً من لغة العلم إلا بعد مؤتمر سولفاي الخامس الذي عُقد تحت عنوان (الإلكترونات والفوتونات) عام 1927.

لكن رغم ذلك فقد رفض العالم الذري الدنماركي نيلز بور ان تكون لتجارب كومبتون تلك الدلالة المشار اليها؛ لاعتبارات قيل بأنها استبدادية متصلبة غير علمية تعود إلى طبيعته الشخصية، إذ كان لا يرى غيره جديراً للإكتشاف في هذا المجال بعد الشهرة العظيمة التي حظي بها، وإنْ اضطر فيما بعد لتقبل الأمر الواقع، وطرح ما سماه مبدأ التتام، أو المبدأ التكميلي (principle of complementarity)، كوصف لحالة الازدواج الغريبة التي يتصف بها الضوء، فهو ينص على ان نظريتي الموجات والجسيمات لا تستبعد إحداهما الأخرى، بل هما متكاملان، فهناك حاجة إلى قياس طاقة ‹‹جسيمات›› الضوء بمدلول ترددها أو طول الموجة.

عموماً ان التطور الحقيقي لنظرية الكوانتم بدأ مع ما يعرف بميكانيكا الكم أو الكوانتم بداية العشرينات من القرن الماضي، وهي لم تبدأ إلا مع تقبل فكرة أينشتاين حول كموم الضوء وفقاً لقياسات كومبتون التجريبية حول الضوء والاشعة السينية بالتحديد، وذلك بعد ثمانية عشر سنة منذ أن اعلنها أينشتاين أول مرة مطلع القرن العشرين.

فعلى هذا الاساس استحدث هايزنبرغ تصوراً جديداً عندما كان يعمل مساعداً لنيلز بور، ضمن ما يعرف بمدرسة كوبنهاجن. وقد شهدت هذه المدرسة سجالات داخلية قوية، لا سيما بين هايزنبرغ والمشرف على دراسته بور، فكل منهما كان يريد تحديد هذه الميكانيكا الجديدة ضمن تأويلاته الخاصة. وبدا الأمر كما لو ان هناك مؤامرة يخطط لها، رغم ان هذه الخلافات الداخلية لم يشأ لها ان تتطور للخارج بعد تنازل هايزنبرغ وابتلاع اعتراضاته وتذمره من بور، فأظهرت الدراسة الجديدة وكأنها معسكر موحد ضد كل نقد خارجي.

وكان من بين الخلافات بينهما ما يدور حول الاصطلاح الذي ينبغي اختياره للكشف الجديد كما اتى به هايزنبرغ حول معرفة موضع الجسيم واندفاعه (زخمه أو تسارعه)، كالذي تطرقنا اليه في دراسة مستقلة.

comments powered by Disqus