-
ع
+

نظم الفكر العلمي (2)

يحيى محمد

لقد ظهر في قبال النظام الاجرائي الذي عرضناه في الحلقة السابقة نظام اخر نطلق عليه النظام الافتراضي. وهو ما سنتحدث عنه كالتالي..

النظام الافتراضي

بدأ النظام الافتراضي منذ مطلع القرن العشرين، او حتى قبل ذلك بقليل، وما زال سائداً الى يومنا الحالي. وهو يعتمد على نظام الفروض وما يترتب عليها من نتائج مشتقة تخضع للاختبار ولو على مستوى التأييد دون حسم.

ويمتاز هذا النظام بانه قائم على فرعين مختلفين للتفكير، كلاهما غير مستمد من الاستقراء والتجرية والاختبار، احدهما خيالي (تأملي) والاخر رياضي صوري. فأخذ يسيطر بهاتين الفعاليتين على العلم حالياً، بحيث تغير الموقف التقليدي للعلم حتى لدى التجريبيين انفسهم، اذ كانوا يحاولون ارجاع التصورات الى الحس والتجربة، لكنهم وجدوا صعوبة في توضيح رد التصورات الرياضية والفيزيائية اليهما، كالتصورات الخاصة بمفهومي المكان والزمان.

والمقصود بالخيال هو تلك الصور التي يشكلها الذهن في مخيلته، والتي ترتبط بقضايا حقيقية او غير حقيقية، وقد تكون صوراً تتضمن الاحكام التصديقية او بدونها. وعادة ما يرتبط الذهن البشري باشكال مختلفة من الممارسات الخيالية طوال الحياة، ويشيع استخدامه في مختلف المجالات، وينبسط تأثيره في الفنون المتنوعة كالرسم والشعر والأدب، كما يستفاد منه في العلوم، ومنها ما يتعلق بالاعتبارات الفلسفية، فكثيراً ما تقوم على استنتاج القضايا وفقاً للخيال، ومن ذلك الخلاف القديم حول تجزئة الجسم ان كان يصل الى نهاية محددة مما يطلق عليها الذرة او الجزء الذي لا يتجزء كالذي التزم به ديمقريطس والكلاميون من اهل الاديان السماوية، او انه لا يصل عند حد معين، بل يقبل القسمة الى ما لا نهاية له، كما هو اعتقاد ارسطو واتباعه من الفلاسفة. فجميع الاعتبارات المنظورة في الادلة تعتمد على الخيال، ومن ذلك تصور ان الشيء مهما صغر فان له جهات مختلفة، وبفعل هذه الجهات يمكن قسمته وتجزئته، وهكذا تستمر العملية الى ما لا نهاية له، وهي عملية خيالية بحتة. وعلى هذه الشاكلة محاولة ابن سينا اثبات النفس المجردة عبر الخيال الافتراضي بما يطلق عليه برهان الرجل الطائر.

وحديثاً يلعب الخيال دوراً هاماً في الفيزياء، حيث يراد منه تصوير الواقع بشكل ما حتى لو ادى ذلك الى نوع مما نطلق عليه الحيل الخيالية.

مناهج النظام الافتراضي

للبحث العلمي الحديث ثلاثة عناصر متمايزة، هي الواقع التجريبي، والخيال، والرياضيات. وبعض من هذه العناصر يشكل هيكل النظام الاول، وبالتحديد التجربة والرياضيات القائمة عليها. فالبحث في هذا النظام يبدأ بالاجراء التجريبي او الاستقرائي، ثم يضفى على ذلك الطابع الرياضي. وفي جميع الاحوال يكون الطابع الرياضي ليس متأخراً عن الاجراء التجريبي او الاستقرائي فحسب، بل مطابقاً للمضمون التجريبي او محاكياً له دون زيادة ولا نقصان. اما في حالة النظام الثاني فهناك اساليب متنوعة يكون فيها السبق للخيال والرياضيات على التحقيق التجريبي. فتارة يمارس الخيال كمقدمة للوصول الى النتائج المتوقعة، وهي حالة تأويلية مصدرها هذا الخيال للواقع، وعادة ما تلبس بالغطاء الرياضي، ثم يتبعها بعد ذلك الاجراء التجريبي كخطوة للاختبار والتحقيق. كما تارة ثانية تمارس الرياضيات كمقدمة للوصول الى النتائج المتوقعة قبل اجراء الكشف التجريبي، وعادة ما يجرى عليها التلبيس الخيالي. كما هناك حالة ثالثة تبدأ بتفسير الكشف التجريبي وفقاً للخيال او الرياضيات او كلاهما معاً. وبالتالي فهناك ثلاثة اساليب يستخدمها هذا النظام كالتالي:

1-        ممارسة التأويل الخيالي لتفسير الظواهر الخارجية، وعادة ما يصبغ عليها الصبغة الرياضية قبل الكشف عن مدى توافقها مع التحقيق التجريبي.

2-        ممارسة التأويل الرياضي لتفسير الظواهر الخارجية، وعادة ما تلبس بلباس الخيال، وهي ايضاً تخضع للتحقيق التجريبي. ويعتبر هذا المسلك معاكساً للاسلوب الاول.

3-        القيام بتأويل الكشف التجريبي وفقاً للخيال والرياضيات.

وبحسب هذه الاساليب هناك منهجان للكشف العلمي الحديث، احدهما قائم على الخيال، والاخر على الرياضيات، والغالب فيهما التشابك والاندماج والمزاوجة. وبعبارة اخرى، ينقسم هذا النظام الى منهجين كثيراً ما يتداخلان: احدهما صوري رياضي مجرد كالذي بدأ مع ماكسويل، ثم توج لدى الكوانتم الموجية. والاخر تأملي خيالي كما يتمثل بنسبية اينشتاين بشكل واضح وصريح، وهو يمتاز بقدر واسع من الحرية واطلاق العنان للخيال دون الاعتماد على منهج محدد في تكوين الفروض. وكلا هذين المنهجين يبتعدان عن الحس المشترك (common sense)، وفي كثير من الاحيان تحصل حالة الصدام مع هذا الحس الوجداني. ووظيفة كل منهما تتعاكس مع الاخرى. فمن الناحية الابستيمية يبدأ المنهج الخيالي بالخيال والتأمل ليصنع صورة تأويلية هرمنوطيقية حول الواقع الفيزيائي، ومن ثم يلبسها اخيراً القالب الرياضي المناسب، فيصبح الناتج هو ما نسميه المنهج (الخيالي-الرياضي). وعلى عكس ذلك المنهج الرياضي، فهو يبدأ بالبعد الصوري الرياضي لينتهي الى صورة خيالية هرمنوطيقية، ونسميه المنهج (الرياضي-الخيالي). وبالتالي فالمنهج الاول يبدأ بمقدمات تخيلية حول الواقع الفيزيائي لينتهي الى نتائج رياضية، في حين يقوم المنهج الثاني بشكل معاكس عادة، وهو انه يبدأ بمقدمات رياضية لينتهي الى نتائج خيالية، واحياناً يحصل تشابك بين الحالين بحيث يكون التطور هو بناء متراكم من التصورات الخيالية والرياضية بعضها قائم على البعض الاخر. لكن من الناحية المبدئية نلاحظ بان الاول يبدأ من الهرمنوطيقا لينتهي الى الابستمولوجيا، في حين يبدأ الثاني من الابستمولوجيا لينتهي الى الهرمنوطيقا. والحقيقة ان كليهما يمارسان نوعين مختلفين من الهرمنة او التأويل، كما سنلاحظ ذلك خلال البحث.

المنهج الخيالي-الرياضي

كثيراً ما يقال بان اينشتاين هو اعظم عقل شهده القرن العشرين، واحياناً يوصف بانه اعظم عقل شهده التاريخ البشري اجمع. لكن بماذا تميز اينشتاين في هذه الناحية من القوة الخارقة او العظيمة؟ فهو لم يتميز بالطابع التجريبي، اذ لم يكن من الفيزيائيين التجريبيين، حتى ان عدداً من الفيزيائيين اتهموا نظرياته بانها فرضيات لم تستند الى التجربة والبيانات كما هو المسلك العام الذي تميز به العلم الحديث. وكان هو ذاته يعتبر البيانات التجريبية تحتل مرتبة ثانوية في الكشف الفيزيائي، ومن ذلك اعترافه المتكرر بانه لم يعتمد كثيراً على البيانات التجريبية بعينها لاستنتاج نظرياته الجديدة، سواء عن الحركة البراونية او فيما يتعلق بمفهومه عن كموم الضوء او نتائج النسبية بشكل عام، وفي وصفه للطريقة التي توصل بها الى النسبية العامة قال: ‹‹لا توجد مجموعة من الحقائق التجريبية، مهما كانت مفهومة، يمكن ان تؤدي الى صياغة تلك المعادلات المعقدة››.

كذلك لم يتميز اينشتاين بقوته التجريدية الصرفة كالتي عليها الرياضيات، بل كان يعتبر متوسط الفهم في هذه المادة، ويحكى بان الرياضي الالماني هيلبرت قال للتدليل على ضعف قدرات اينشتاين الرياضية: ‹‹ان كل طفل في شوارع جوتنجين يعرف عن الهندسة رباعية الابعاد اكثر مما يعرفه اينشتاين، غير ان اينشتاين هو الذي قام بالعمل وليس الرياضيون››. وهيلبرت هو ذلك الرجل الذي توصل الى معادلات النسبية العامة في الوقت الذي توصل اليها اينشتاين باستقلال، ومما قاله بهذا الصدد: ‹‹يبدو لي ان المعادلات التفاضلية للجاذبية التي توصلت اليها تتفق مع نظرية النسبية العامة الرائعة التي وضعها اينشتاين››.

وعلى العموم كان اينشتاين يعول في الرياضيات على غيره، من امثال زوجته الاولى وعدد من اصدقائه الرياضيين. وكان يعي هذا النقص تماماً، حتى انه في اواخر حياته تمنى لو تعلم الرياضيات اكثر؛ بعد ان عرف اهميتها في الكشف الفيزيائي عندما كان بصدد البحث في نظرية المجال الموحد، فمما قاله لابنه في نبرة تعبر عن الحسرة: ‹‹آه لو كنت اعلم قدراً اكبر من الرياضيات››. وفي شبابه كان يستنجد في صياغته للنسبية باصدقائه الرياضيين، ليصل الى صيغة مناسبة للنظرية. فهو بالتالي لم يكن بارعاً في هذه المادة، كما لم تكن اكتشافاته العظيمة موجهة من قبلها اساساً. صحيح انه حاول ان يقيم نظرية المجال الموحد عليها عندما ادرك اهميتها؛ لكنه وجد نفسه عاجزاً تماماً، وكان سعيه كما شرح ذلك في مطلع الثلاثينات للتوصل الى هذه النظرية بدافع اغواء الروعة الرياضية وليس بدافع البيانات التجريبية. فرغم اعتقاده بان المعادلات الرياضية هي الطريق الافضل للتوصل الى تلك النظرية وفهم الحقيقة الفيزيائية، الا انه لم يحصد من وراء سعيه خلال العقود الثلاثة الاخيرة من حياته شيئاً. وقد ادى تحوله الى البحث حول الشكليات الرياضية الى فتح الباب امام الاخرين ليدلوا بدلوهم في هذا المجال، عسى ان يحصدوا من ورائه شيئاً مفيداً، كالذي عليه اصحاب نظريات الاوتار الفائقة.

هكذا لم يكن لاينشتاين قوة بارعة غير تلك المتعلقة بسعة خياله وحدسه وبصيرته. فهي العامل الاساس في توجيه نظرياته. وكان يعتبر نفسه رساماً يرسم بحرية حسبما يتراءى لخياله، فالخيال لديه اكثر اهمية من المعرفة، فالمعرفة محدودة، في حين يحيط الخيال بالعالم. فاعظم اكتشافاته جاءت عن هذا الطريق، وليس بطريق رياضي ولا تجريبي، ومن ذلك تأملاته الخيالية المبدعة التي تضمنتها كل من نظريته في النسبية الخاصة والعامة قبل ان يضفي عليها الطابع الرياضي، مثل تلك المتعلقة بغرفة مغلقة (مصعد) تسقط سقوطاً حراً، وكيف ان الفرد فيها لا يتحسس بالثقالة وكأنه يسبح في الفضاء، وكل ما يخرجه من جيبه ويتركه سوف لا يسقط على ارضية الغرفة، او على عكس ذلك عندما تسحب الغرفة بتسارع متزايد نحو الاعلى، اذ سيشعر بالثقالة التي تجره الى اسفل. فهذه التأملات الخيالية قد شكلت البداية لتفكيره في بناء نظريته حول النسبية العامة. وقبل ذلك كانت تأملاته في النسبية الخاصة تدور حول قياس الزمن والمسافة لدى سرعة الضوء في قطار متحرك بسرعة كبيرة، اذ توصل بحسب تأويله (الرياضي- الخيالي) بان الرجل الواقف على رصيف المحطة سيشعر بان المسافة التي يقطعها الضوء اطول مما يراه الاخر الذي يستقل القطار، او ان الزمن يمضي ابطأ بالنسبة للرجل خارج القطار مقارنة بذلك الذي داخله، ولو كانت سرعة القطار بسرعة الضوء فالزمن الذي يستغرقه الضوء داخله يكون بمنظار الراصد الخارجي دهراً، لذلك كان التزامن عنده نسبياً وليس مطلقاً كما كان يصور من قبل. بل حتى وهو في سن السادسة عشر من عمره (عام 1895) كان يتخيل بما سيحدث لو انه انطلق بمحاذاة شعاع ضوئي بنفس السرعة، اذ تخيل بانه سيرى الشعاع ساكناً رغم تذبذبه في الفضاء... الخ.

لقد كان اينشتاين ينهج النهجين المتعاكسين، تارة يبدأ بالخيال لينتهي الى الرياضيات، واخرى على العكس، يبدأ من الرياضيات لينتهي الى الخيال المتعلق بالواقع. فالنسبية الخاصة هي خليط من النهجين، ويبرز فيها الفعل الرياضي كبداية على مستوى تحديد النتائج المتعلقة بنسبية الزمان والطول والكتلة والتزامن، اما النسبية العامة فقد بدأت بالفعل الخيالي قبل ان يتحول الى صياغة رياضية قابلة للرصد والتحقيق. فقد بدأت هذه النظرية بخواطر خيالية تعود الى سنة 1907، فكما قال اينشتاين انه خلال هذه السنة: ‹‹كنت اجلس على كرسي في مكتب براءات الاختراع ببرن عندما طرأت لي فكرة: لو ان شخصاً سقط سقوطاً حراً فلن يشعر بوزنه››. وهي ما دفعته كما يقول نحو نظريته في الجاذبية، ومن ثم عبّر عن ذلك فيما بعد بأنها كانت اسعد الافكار حظاً في حياته.

فهنا يلاحظ ان اينشتاين بسط فكرته حول النسبية العامة وفقاً للخيال ومن ثم صاغ ذلك بحسب الابعاد الرياضية. وعلى أثرها بدأ يولي الرياضيات اهتماماً خاصاً منذ (عام 1912)، فهو في هذا العام ادرك بانها ‹‹يمكن ان تكون وسيلة اكتشاف وليس فقط وصفاً لقوانين الطبيعة. كانت الرياضيات كتاب العاب الطبيعة››. فعندما اراد ان ينشئ نظريته حول النسبية العامة استفسر عما اذا كانت هناك رياضيات تتعلق بالفضاءات المنحنية ذات الابعاد الاربعة، فأشار عليه صديقه جروسمان بوجودها كما لدى هندسة ريمان خلال القرن التاسع عشر. وكتب الى الفيزيائي ارنولد سومرفيلد: ‹‹انا لا اعمل الان الا في مسألة الجاذبية، واعتقد انني سوف اتغلب على كل الصعوبات بمساعدة صديق رياضي هنا. لقد اوليت احتراماً كبيراً للرياضيات التي لا ازال ادرس اكثر اجزائها غموضاً حتى الان، وكنت اعتبرها جهلاً مني شيئاً ترفياً محضاً››. فلقد اقر اينشتاين بان نجاحه في توظيف حساب التفاضل والتكامل للممتدات في صياغة معادلات النسبية العامة جعله يؤمن باولوية الطريقة الرياضية ذات البساطة والاناقة على التجربة. ومن ثم كان ذلك دافعاً له للبحث الرياضي الشكلي حول نظرية المجال الموحد. لهذا رجح التأويل الرياضي على البيانات التجريبية، وكما قال: ‹‹لم يكن يوجهني ضغط الحقائق التجريبية بل وجهتني تلك البساطة الرياضية، وانني لا املك الا ان اتمنى ان تتبع التجارب الراية الرياضية››. لكن البداية انطلقت من تصورات خيالية قبل ان تكسوها الشكليات الرياضية.

كما كان اينشتاين يفسر بعض الظواهر التجريبية وفقاً لما اتصف به خياله الواسع، كتأويله المتعلق بخصائص الفضاء عوض افتراض الاثير الذي عجز العلماء عن اثباته. فقد القي على عاتق الاثير تفسير عدد من القضايا كوسيط مؤثر، ابرزها انتشار الضوء والدوران والعطالة او القصور الذاتي وحتى وساطته في التأثير الجاذبي او الثقالي. فكانت فكرة الفضاء تعادل ما يقوم به الاثير من هذه الافعال الوسيطة، وبالتالي تم افتراضه كمجال هندسي مع التخلص من الاثير. وعلى هذه الشاكلة انه قام بتاويل ظاهرة تفاعل شعاع الجسم الاسود، فكل ما قدمه هو تفسيره لتجربة تم الكشف عنها لكنه اعطاها شيئاً من المعنى غير المتوقع، او شيئاً من المعنى الخيالي خلاف الظاهر المعروف، وهو الامر الذي منح لاجله جائزة نوبل.

كل هذه تمثل خيالات اساسية لاكتشاف اينشتاين النظرية التي دفعت به الى اقصى حدود العقل والتفكير خلال القرن العشرين، وهي نظرية النسبية، سواء الخاصة منها او العامة. الامر الذي جعل التيارات الفلسفية وليس العلمية فحسب ان تتأثر بطريقته واكتشافاته المذهلة، وعلى رأسها الوضعية المنطقية رغم ضيق افق تحديدها للبحث العلمي. ويفهم هذا الحال مما عبر عنه الفيزيائي الوضعي فيليب فرانك من انه لا يوجد اختلاف جوهري بين اينشتاين والوضعية المنطقية حول اساس المفاهيم النظرية للعلم، فكلاهما يتفق على ان هذه المفاهيم تُختلق من قبل الخيال البشري، مما يعني انه يستحيل علينا الوصول الى تحديد المبادئ الاساسية للعلم، وان ما يقال - مثلاً - بأنه: «اساس صحيح» هو غير موجود بالمرة. وهو يذكّر بما قاله كارل بوبر: ليس للاكتشاف العلمي منطق محدد، بل المنطق للاختبار.

مع ذلك فان اينشتاين ليس هو الرجل الذي ابدع المنهج الخيالي للبحث بوعي وادراك، بل سبقه في ذلك فاراداي خلال القرن التاسع عشر. وقد كتب تلميذه تايندال عدداً من المقالات حول اهمية الخيال تحت عنوان (توظيف الخيال في العلم وحدود استخدامه). وفي رسالة كتبها فاراداي الى صديق له قال فيها: ‹‹لا تفترض انني مفكر عميق، ولا انني شخص متميز، لقد كنت فقط شخصاً متسماً بخيال حيوي، بحيث كنت استطيع ان اصدق ما جاء في (الف ليلة وليلة) مثلما اصدق ما هو موجود في (الموسوعة)، لكن الحقائق كانت مهمة بالنسبة الي ايضاً، وهي التي حافظت على انني اثق بحقيقة ما، ثم اقوم بفحوص كثيرة لها، ثم عندما تثبتها التجارب اشعر بانني امسك في يدي بمرساة››. وقال ايضاً: ‹‹ليس المهم من اين تبدأ، فاذا كان لديك رأي حاول ان تختبره، وتقدم بهذه الطريقة.. اجمع بين الخيال والاختبار او التجربة››.

المنهج الرياضي-الخيالي

قيل ان اول تحول للفيزياء الى محض الصورة الرياضية كانت مع جيمس كليرك ماكسويل خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففكرة المجال التي اتى بها هذا العالم الاسكتلندي هي المفهوم الاساس في تصوره الرياضي. وبحسب رولان أومنيس انه لأول مرة تتحول الفيزياء من الكلاسيكية الى الصورية الرياضية، فالمجال الكهروطيسي الذي يتحدث عنه ماكسويل مصاغ بطريقة رياضية وهو غير قابل للتصور والخيال. ثم ظهرت بعد ذلك العلاقة الرياضية الهامة التي طرحها ماكس بلانك (عام 1900) نتيجة عدد من التجارب والتي مثلت بداية نشأة نظرية الكوانتم، وهي ما اصبغ عليها اينشتاين المعنى الفيزيائي، حتى توج الحال بميكانيكا الكوانتم خلال العشرينات من القرن المنصرم والتي صيغت مبادئها بأقصى حالات التجريد الرياضي، مما جعل الكثير من الفيزيائيين يهاجمون هذه الصورية التي غلفتها. ومن ثم اخذت الرياضيات دوراً هاماً يعتمد عليه في الاكتشاف وبلورة الخيال وتأويل الواقع.

ومع ان الوضعية المنطقية كانت بداية القرن العشرين ترى في الرياضيات مجرد تعبير سلبي عن القضايا الفيزيائية، فهي لا تمثل لديها اكثر من لغة للتعبير عن الاكتشافات التي تحققها الفيزياء دون ان تساهم في بنائها، لكن هذا الموقف قد وجد تجاوزاً ساحقاً، سواء من قبل الفيزيائيين انفسهم، او من غيرهم من الفلاسفة والعلماء ممن اعتبروا للرياضيات دوراً في الاكتشاف العلمي وليس مجرد غطاء لغوي يختصر العملية الفيزيائية.

فعلاوة على ان للرياضيات دوراً في التعبير الدقيق عن الظواهر الطبيعية، فانها اخذت تمثل عامل اكتشاف لهذه الظواهر وقوانينها. ومن وجهة نظر اينشتاين فان الرياضيات المحضة تمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تعطينا مفتاح فهم الظاهرة الطبيعية، وان الخبرة تساعدنا على كشف المفاهيم الرياضية المفيدة، لكن ليس بمقدورها ان تكون مصدراً تشتق منها تلك المفاهيم والقوانين، وإن ظلت معياراً للبناء الرياضي المفيد للفيزياء. أما البدء والابداع فيبقى خاصية الرياضيات، حتى ان بعض الفيزيائيين عبّر كأننا لا نعرف شيئاً على وجه الحقيقة غير الرياضيات.

وبنظر العديد من الفيزيائيين والرياضيين تشكل الرياضيات المادة الحقيقية للعالم الفيزيقي، فكما يعتقد الرياضي البريطاني المعروف روجر بنروز بانه كلما تعمقنا في العالم الفيزيائي بدأ بالتلاشي ولا يبقى الا التعامل مع الرياضيات. لذلك كان هناك الكثير ممن يعتقد بوجود عالم رياضي خارجي مستقل على الطريقة الافلاطونية، ومنهم روجر بنروز نفسه بالاضافة الى الرياضي المعروف جودل. وعليه اخذ الفيزيائيون يفتشون في المجلات الرياضية عن ضالتهم للكشف عن التنبؤات المتعلقة بالتناظرات والاشكال الكونية المناسبة، وفقاً للعلاقة الحميمة المفترضة بين الفيزياء والرياضيات كالذي تسعى اليه نظرية الاوتار الفائقة حتى يومنا هذا.

ومنذ الستينات من القرن الماضي ادرك الفيزيائيون قيمة ما صنعه الرياضيون من قبل لأسباب تجريدية لا علاقة لها بالواقع، ومن ذلك ما يتعلق بالتحويلات التناظرية المسماة بنظرية المجموعات، والتي تم اكتشافها خلال القرن التاسع عشر، فقد بدأ الاعتماد عليها كالذي وجده غليمان ونيمان، كل على حدة، من ان احدى المجموعات كانت ملائمة بالضبط لفرض بنية اسروية على حشد الجسيمات العنصرية تشبه كثيراً ما تم اكتشافه تجريبياً. وكانت الجسيمات المعروفة تقع في أُسر ذات ثمانية اعضاء، مثل اسرة النترون والبروتون واقربائهما الستة من الهايبرونات، والمعروفة باسرة الباريونات والتي تنقسم الى النيكلونات والهايبرونات، ولم تكن كل الاسر كاملة آنذاك، فظهرت هناك حاجة لجسيم جديد يتمم اسرة مؤلفة من عشرة جسيمات تشبه النترونات والبروتونات والهايبرونات، ولكنها ذات سبين اكبر بثلاث مرات. وكان اكتشاف هذا الجسيم المتوقع (عام 1964)، وبالكتلة التي قدرها غليمان، هو نجاح كبير لهذا التناظر المستند الى الرياضيات.

وفي القبال اعتبر اينشتاين عدداً من المحاولات الرياضية الرامية لدمج وتوحيد الثقالة بالمجال الكهروطيسي.. اعتبرها لا تتفق مع حقيقة الواقع الفعلي، بمعنى انها رياضيات مصطنعة. ومن ذلك نقده للنسقين الخاصين بهرمان فيل وكالوزا. فقد كان هرمان فيل يريد تطوير هندسة النسبية العامة ليضم اليها المجال الكهروطيسي ضمن نسق رياضي (عام 1918)، وقد اعجب اينشتاين بالفكرة بادئ الامر، لكنه كتب اليه بعد يومين من التأمل موضحاً ان نسقه الرياضي مفارق للواقع، وكما قال: ‹‹ان استنتاجاتك مكتملة في ذاتها فيما عدا عدم اتفاقها مع الواقع، وهي من غير شك انجاز فكري عظيم››. كذلك الحال مع كالوزا، فهو الاخر اراد ان يجمع بين المجالين الكهروطيسي والثقالة ضمن نسق رياضي افترض فيه بعداً خامساً (عام 1919)، لكنه حظي بنقد من اينشتاين باعتبار ان النسق يفتقر الى الواقعية. ففي البداية اعجب اينشتاين بفكرة كالوزا التي تصور عالماً اسطوانياً خماسي الابعاد، فهي فكرة جديدة على اينشتاين كما اعترف بذلك، لكنه مع هذا رفضها لكونها لم تقم برأيه على اساس واقعي. فبحسب نظرية كالوزا والمدعومة من قبل كلاين (عام 1928) تعتبر الثقالة بانها ‹‹القوة الوحيدة في الطبيعة وما عداها وهم تولده قوة الثقالة عندما تتخذ مسالك مختصرة عبر الابعاد الاضافية››، ومن ذلك يكون تفسير الضوء بانه ‹‹أثر ثقالي على امتداد البعد الخامس››.

الخيال والرياضيات والتأويل المتبادل

لفظ التأويل مستخدم اساساً في مجال تفسير النصوص، وهو يعني التعويل على غير ظاهر النص لاسباب تدعو لذلك، كالاسباب العقلية التي تمنع من الاخذ بما يتبادر من ظاهر النص، لكن هذا المعنى للتأويل يمكن تطبيقه في القضايا العلمية، حيث ان التعامل مع الطبيعة يجري في كثير من الاحيان وفقاً للاخذ بخلاف الظاهر المعلوم او المتبادر من الكشف الحسي او الوجداني. فاذا كان التأويل في حالة النص تاويلاً للفظ وسياقه، فانه في حالة الطبيعة يصبح التأويل خاصية تلوح الظاهرة الكونية وعلاقاتها المتشابكة. واذا ما اعتبرنا ان ادراك المعنى والكشف، سواء في حالة النصوص او في علم الطبيعة مفتوحاً؛ ففي هذه الحالة يكون التأويل داخلاً ضمن ما يعرف بالهرمنوطيقا. وبحسب هذا المعنى اننا نتعامل مع قضايا كل من النص والطبيعة بصور متعددة لقراءات مختلفة ممكنة. وهو ينطبق ليس فقط في حالة المنهج الخيالي الذي يراد منه تأويل الواقع، بل كذلك المنهج الرياضي باعتباره يتضمن العلاقات ضمن صيغ ممكنة مفتوحة. فالرياضيات بهذا المعنى تتنزل من كونها اداة كشف ابستيمي الى اداة تاويل هرمنوطيقي. وبذلك لا تقل الرياضيات هرمنة عن الخيال العلمي. فالتأويل الرياضي هو تأويل يراد منه الكشف عن الواقع، مثلما ان التأويل الخيالي هو تأويل للواقع، وانه لكي نسقط التأويل الرياضي على الواقع فسنحتاج الى الاستنجاد بالتأويل الخيالي.

وفي جميع الاحوال ان ادراكاتنا، سواء العادية او العلمية، لا تخلو من التأويل بالمعنى السالف الذكر. لكن على المستوى العلمي ان هذا التأويل تارة يكون مبعثه الخيال، واخرى مبعثه التجريد الرياضي، وثالثة مبعثه التجربة الواقعية. وفي الفيزياء ان البدء باحد هذه المسالك قد ينتهي بالاخر، لحاجة كل منها الى غيرها. فالرياضيات من غير خيال ولا اشارة الى شيء ما خارجي لا تعد فيزياء، لانها صرف رياضيات بحتة لا تشير الى شيء سوى التجريد الذهني المحض. كما ان الخيال من غير رياضيات لا يعد محكماً. وبالتالي فالعمل الفيزيائي إما ان يبدأ بالخيال العلمي لينتهي الى الضمان الرياضي، فيكون الخيال في هذه الحالة مصدر الايحاء والتأويل ضمن ما سميناه المنهج (الخيالي-الرياضي). او على العكس انه يبدأ بالتجريد الرياضي لينتهي الى الخيال المتعلق بالواقع، حيث يكون التجريد الرياضي هو مصدر التاويل ضمن ما اطلقنا عليه المنهج (الرياضي-الخيالي). وفي الحالتين يتحقق التاويل على الصعيدين الخيالي والرياضي. لكن يلاحظ انه في الحالة الاولى يكون التاويل الخيالي هو المصدر والمقدمة، فيما يتخذ التاويل الرياضي نتيجة له، وعلى عكس ذلك ما تتصف به الحالة الثانية، وهي ان التاويل الرياضي هو من يتخذ زمام المقدمة ومن ثم يصبغ عليها التاويل الخيالي كنهاية للمطاف. ويبقى التاويل الهرمنوطيقي هو العامل الثابت في النهجين الخيالي والرياضي. بمعنى انه حتى لدى التجريد الرياضي نجد الهرمنة قائمة، اذ تصبح الرياضيات مفتوحة الافاق وقابلة لاتخاذ الصيغ العديدة المختلفة، ولذلك يشك احياناً ان كانت الرياضيات المستخدمة تعبر عن حيلة فيزيائية مصطنعة او يراد منها تأويل الواقع الفيزيائي.

اما عندما تكون هناك تجربة جاهزة فكثيراً ما تكون خاضعة للتاويلين الخيالي والرياضي. وابرز مثال عليها التجربة المتعلقة بالتفاعل الكهروضوئي. فقد بينت التجارب انه عندما يُسلط الشعاع فوق البنفسجي على كرة معدنية مشحونة فانه سرعان ما تفقد شحنتها خلافاً للشعاع الاحمر مهما زيد في شدته، وهو ما يبين ان انتزاع الالكترونات يتوقف على تردد الشعاع وليس شدته، كما لوحظ بان الالكترونات تنتزع من نقاط منفصلة في سطح المعدن مما يدل على جسيمية الشعاع، حيث يصطدم جسيم الشعاع بالالكترون فيعطيه طاقة مما يجعله يتحرك وينتزع من المعدن بقدر ما كسب من طاقة، اي بقدر طاقة الشعاع او تردده، اذ لو كان العامل متعلقاً بالموجة وهي منتشرة على الكرة باكملها لكان ذلك يدعو الى انتزاع الالكترونات من جميع مناطق الكرة، وهو امر لم يحدث. فهذا هو خلاصة تأويل تجارب التفاعل الكهروضوئي قبال التأويل الموجي للضوء، وقد طبق عليها اينشتاين قانون بلانك في علاقة الطاقة بالتردد وليس بسعة الموجة كما كان يعتقد سابقاً، ونشر بحثه (عام 1905)، ومنح لاجله جائزة نوبل بداية العشرينات من القرن المنصرم.

ومعلوم انه منذ بداية تأسيس نظرية الكم بزعامة ماكس بلانك (عام 1900) كانت صيغة بلانك الرياضية هي من حلت عوض التجربة المشاهدة، وان كان معنى هذه الصيغة قد خفي حتى على بلانك نفسه، فقد كانت عبارة عن بناء رياضي صرف دون تبرير، فلم يكن لبلانك اي برهان مستقل حولها. فما فعله هو انه قدّر وحدة الطاقة الزمنية التي سماها فعلاً، وقصد بها: معامل التناسب بين تردد الموجة وقطعة الحد الادنى من الطاقة التي تملكها الموجة، او هي نسبة طاقة الشعاع الى تواتره. وهي صغيرة جداً وتساوي: (6,6262 × 10-34 جول على الثانية، او كيلو غرام متر مربع على الثانية)، والتي سميت فيما بعد بثابت بلانك. واهم ما جاء في هذه الصيغة هو ان هذه الوحدات من الطاقة تتصف بانها لا تتجزأ، كما انه ليس لها كسور عندما تتضاعف، لذلك كان قانون بلانك للطاقة يتخذ اعداداً صحيحة عند التضاعف على الدوام. وينص هذا القانون بان الطاقة تساوي التردد مضروباً في عامل ثابت بلانك. ولكي يكون القانون صحيحاً ولو بطريقة متحايلة كما يرى بلانك وغيره في ذلك الوقت فان هذه الطاقة لا بد من ان تكون وحدات كاملة صحيحة دون تجزئة، وهي المسمات بالكم او الكموم والتي قامت عليها نظرية الكوانتم. ومن الناحية الرياضية فان المعادلة تكون بالشكل التالي:

 

ومضاعفاتها تضرب بعدد صحيح (1، 2، 3... n)، اي:

 

 

وهي ذاتها تكون مساوية لقانون اينشتاين في الطاقة، والقائل بانها تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء. واستناداً الى هذا الثابت للطاقة فهناك طول بلانك وزمن بلانك، وهما كمات او وحدات ثابتة غير قابلة للانقسام، مثل ثابت بلانك للطاقة، واليها جميعاً يعود اصل كل طاقة وطول وزمن، فهي المقاييس المعتمدة، ولا يوجد مقياس اخر دونها، رغم الحديث عما هو اصغر من طول وزمن بلانك.

لقد كان بلانك يرى ان الصيغة التي اتى بها لا تتعدى القالب الرياضي دون ان يكون لها معنى فيزيائي، وظن انها مجرد حيلة رياضية للتوفيق بين الجانبين النظري والتجريبي ككثير من الابحاث، وكذلك كان نظر الفيزيائيين للمسألة، لانها تعني بالنتيجة ان الضوء لا يتصرف التصرف الموجي في اتصاله، بل يتصرف بشكل متقطع كوحدات منفصلة لا تعني شيئاً على الصعيد الواقعي. لكن اينشتاين هو اول فيزيائي اخذ يتعامل مع هذه الصيغة بجدية اكثر من ان يوليها تلك الحيلة، ورأى انها تعبر عن معنى فيزيائي. فهي في هذه الحالة تعد مصدر اكتشاف وخيال وتأويل، فلأول مرة انحاز التاويل على يد اينشتاين الى اعتبار الضوء جسيمات منفصلة مع الاعتراف بالطابع الموجي، وقد سماها بالكمات او الكموم. وعلى اثر ذلك بدأت نظرية الكوانتم تضع قدمها على الطريق الذي ادى بها الى التقدم والرقي. وتبعاً لهذا الكموم المنفصل الثابت ظهر هناك من قام بتأويل الواقع الفيزيائي، ومن ذلك تأويل سبب عدم ظهور غرائب في حياتنا العادية اعتماداً على مقدار هذا الثابت، اذ المتخيل ان من اثاره انه لو كان الثابت كبيراً لظهرت غرائب تحولات الاجسام الكبيرة العادية في حياتنا، كإن تقفز سيارة فجأة الى مكان بعيد جداً. فمعلوم انه لو كان ثابت بلانك كبيراً فذلك سيجعل من الزخم والعزم الحركي كبيراً. فمن الناحية الرياضية ان الزخم يساوي (ثابت بلانك مضروباً في التردد على سرعة الضوء)، بمعنى ان الزخم يزداد عند زيادة ثابت بلانك. ومثل ذلك تزداد الطاقة، اذ تساوي (ثابت بلانك مضروباً في سرعة الضوء على الطول الموجي). وبحسب الصيغ والمعادلات الرياضية فان:

P = hv/c

E = hc/l

وقد يتصف التاويل الرياضي بالبعد عن الواقع كلياً، مما ينزع على النظرية الفيزيائية طابعها المجرد فيبعدها عن ان يكون لها علاقة بالحقيقة الخارجية سوى الاشارة والرمز اليها، وان كانت عملية التأويل لا تتوقف ولا تنقطع حتى لو ادى ذلك الى ما يعرف بالمحالات والصدام مع الحس المشترك المألوف. وكمثال على ذلك ما يعرف بموجة شرودنجر في تفسير الجسيمات الذرية، فهي موجة رياضية مجردة وليست حقيقية لتضمنها لعدد تخيلي (Á). ومع ذلك تم اجراء التأويل الخيالي على التجريد الرياضي ليتفق مع ما عليه طبيعة الموضوع الخارجي، كالذي فعله نيلز بور في تأويله لهذه الموجة بانها موجة احتمال حقيقية او موضوعية.

وبحلول (عام 1928) كان الكثير من المعادلات الرياضية وقواعد الكوانتم قد استقرت مكانها. ومنذ ذلك الحين استخدمت ومازالت لاجراء اكثر التنبؤات العددية نجاحاً ودقة في تاريخ العلم. لكن من يستخدم الكوانتم يجد نفسه متبعاً للقواعد والمعادلات التي ارساها الاباء المؤسسون للنظرية، اي الطرق الحسابية الجاهزة، من دون فهم حقيقي لاسباب صلاحية هذه الطرق وما الذي تعنيه. وسبق لاينشتاين والكثير من العلماء ان رأوا بان معادلات الكوانتم هي نوع من الحيل الرياضية اكثر مما تخبرنا عن الواقع الحقيقي. فالكوانتم تنادي بان لا شيء حقيقي، ولا يمكننا قول شيء عما تفعله الاشياء عندما لا نشاهدها، وهذا هو موقف مدرسة كوبنهاكن الذي اصبح المتبنى الرئيسي للفيزيائيين. وهي بالتالي تمدنا بالتاويلات المفتوحة، فسواء علاقاتها الرياضية او ما يبنى عليها من خيال وتصور للواقع نجدها زاخرة بالتاويل المفتوح.

وفي القبال كان من بين النظريات التي افضى بها التأويل الخيالي الى تنبؤات هامة تلك المتعلقة بتوحيد القوتين الكهروطيسية والضعيفة. فقد لوحظ ان الفوتونات تحيط بالالكترونات كالسحابة وتعمل على نقل القوة الكهروطيسية، او ان هذه القوة تنتقل عبر تبادل الفوتونات ذهاباً واياباً، فتولد القوة المشحونة على الالكترونات. وعلى هذا الاساس اعتقد بعض الفيزيائيين وفقاً للقياس التمثيلي او التأويل الخيالي، هو ان هذا الحال الجاري خارج انوية الذرات يمكن ان يماثله ما يحصل داخل نواة الذرة ضمن ما يعرف بالقوة النووية الضعيفة، لذا فبحسب هذا التاويل الخيالي افترض ان تكون هناك جسيمات مراسلة تقوم بمثل ما تقوم به الفوتونات من نقل القوة، ومن ثم تمّ افتراض جسيمة مراسلة اطلق عليها جسيمة (w) لتقوم بمثل هذا الدور، وهي على صنفين موجب وسالب. لكن اذا كانت الفوتونات معلومة لدى الفيزيائيين تماماً فان الجسيمة المفترضة لم يعلم عن خصائصها مثل الكتلة وما الى ذلك، وهنا جاء دور الرياضيات للكشف عن مثل هذا التأويل الخيالي، وبالتالي اعيدت صياغة القوة الضعيفة رياضياً بطريقة روعي فيها ان يكون هناك تشابه اعظم مع القوة الكهروطيسية التي يتصف بها الفوتون. وبالتالي وجد الفيزيائيون صيغتين رياضيتين، احداهما تتعلق بالقوة الضعيفة، وهي المطروحة سلفاً، والاخرى نوع من التعديل الخاص لوجود الجسيمة المفترضة وفقاً للتشابه مع القوة الكهروطيسية، وكلاهما يعبران عن الشيء ذاته، لذا فان من الممكن دمجهما وفق التاويل الرياضي لتكون هناك صيغة واحدة مستندة الى الصيغتين، وكان الحل يتطلب في مثل هذه الحالة من الدمج الرياضي افتراض جسيمة ثانية اضافية عرفت باسم (z)، وهي بحسب الدمج الرياضي اظهرت انها تشبه الفوتون اكثر مما تشبه الجسيمة المفترضة الاولى (w). ومع ان الجسيمة (z) تشبه الفوتون لكن لها كتلة كبيرة تتناسب والوضع الذي هي فيه داخل النواة، فالقوة التي تتميز بالمجال القصير مثل البروتونات تحتاج الى مراسلات ذات كتلة كبيرة تفوق سائر كتل الجسيمات، والعكس بالعكس. ومن المفترض ان هذه الكتل مكتسبة بفعل ما يولده مجال هيجز المفترض.

وباختصار يلاحظ ان الاصل في توحيد القوتين، كذلك التنبؤ بوجود جسيمين مراسلين جديدين داخل النواة، انما كان مديناً الى التأويل الخيالي وفق القياس التمثيلي، فعليه انبنت رياضيات ذلك ومن ثم وصل الحال الى توحيد القوتين الكهروطيسية والضعيفة على يد كل من غلاشو وواينبرغ ومحمد عبد السلام الذين تقاسموا جائزة نوبل لهذا الاكتشاف.

كما افضى التاويل الخيالي الى افتراض وجود جسيم يعرف ببوزون هيجز ضمن مجال ما يعرف بمجال هيجز اعتماداً على التمثيل القياسي للفوتون الذي له مجاله الكهروطيسي. لكن بوزون هيجز ليس بلا كتلة مثلما هو الحال مع الفوتون، بل له كتلة ضخمة تقدر بحسب الشكليات الرياضية باكبر من البروتون بـ (180 مرة)، الامر الذي يصعب اكتشافه.

ان هذه الحالة من الهرمنة، سواء بدأنا بالرياضيات لننتهي الى خيال الواقع، او بدأنا بالاخير لننتهي الى الرياضيات، قد تفضي الى حالة من الابتعاد عن الحس المشترك العام والاصطدام معه. وينطبق ما ذكرناه على النظريات الاساسية التي سادت خلال القرن العشرين وحتى يومنا هذا. فميكانيكا الكوانتم هي اكثر النظريات مصادمة للحس المشترك العام، وهي لهذا السبب غير مألوفة ولا تقليدية خلاف غيرها من النظريات بما فيها النسبية لاينشتاين. اذ تشكل النظرية الاخيرة رغم غرابتها الصورة المألوفة او التقليدية اذا ما قورنت بالكوانتم. وبالتالي فجميع النظريات تصبح مألوفة وتقليدية بالقياس اليها. لهذا لقيت اعتراضات كثيرة، مثلما سبقتها في ذلك النسبية لذات السبب، لكن نتائجهما النفعية، او الثمار التي جنيت عنهما، جعلتهما صامدتين وحاضرتين على الدوام الى اللحظة الحالية من دون تقدم ثوري يتجاوزهما معاً.

وفي حالة الاحساس بالصدام مع الحس المشترك او الوجداني؛ عادة ما يستنجد بالرياضيات لتبيان انها الاصل طالما كانت هي اساس النظرية العلمية دون الخيال، لتلافي المشكل المذكور. فالرياضيات الصورية حالة خاصة قد لا تعني شيئاً بالنسبة لمعرفة حقيقة الواقع او انتزاع الخيال منه.

كما قد يحصل الاستنجاد بالرياضيات عندما يكون هناك عجز عن التخيل وتصوير الواقع بكيفية ما. فمثلاً ان الاتصال الزماني المكاني مما لا يمكن ادراكه خيالاً او بحسب الحس المشترك، فكيف الحال عند تصويره بانه منحن، وبالتالي فليس الا الرياضيات التي يمكنها توصيف ذلك بدقة. كذلك الحال في التصورات المتعلقة بكثرة الابعاد المكانية التي تفوق الثلاثة، فالرياضيات هي التي تعبر عنها بتعبيرها الخاص، اما تاويلاتها الخيالية للواقع الفيزيائي فهي بلا شك تجد صعوبة لعدم الفتها. وقد كان كالوزا يتحدى الفيزيائيين في ان يجدوا تصوراً محدداً لطرحه الخماسي الابعاد (عام 1919).

وقد يحصل العكس وهو النزوع الى النتائج العلمية الخيالية وان ادت الى تجاوز الحس الوجداني او الصدام معه. فمثلاً اخذت نظرية الكوانتم تحذّر من مسلماتنا بما فيها الحس الوجداني العام، اذ رأت ان بعض المبادئ الفلسفية الاساسية المسلم بها قد تكون خاطئة، كالحال مع السببية والتموضع. فخلف هذا الظاهر الذي نتعامل معه اشياء تبعث على التناقض. وفي هذه الحالة اننا إما ان نتقبل هذه النتائج المنافية للمألوف والحس الوجداني المشترك كالذي يتفق عليه اغلب الفيزيائيين، او نعمل على حل المشكل باللجوء الى الرياضيات، باعتبارها الوحيدة التي تمتلك ناصية الدقة في التعبير الفيزيائي عن المفاهيم.

وابلغ من ذلك انه قد يستعان بالرياضيات لتحديد ما عليه التاويل الخيالي للواقع، كالذي واجهته نظرية الاوتار الفائقة او نظرية (M). فبحسب نظرية الاوتار ان تحديد الابعاد الاضافية فيزيائياً كان يعتمد على الرياضيات، فلو كان في الذرة بوزونات فقط، وهي جسيمات كالفوتون ذات سبين صحيح، لكانت الابعاد (26 بعداً)، أما لو اخذنا الفرميونات ايضاً وهي جسمات ذات سبين نصفي كالالكترون فان العدد يصبح عشرة ابعاد فقط. وتوصف الابعاد الستة الاضافية بانها مجعدة وملفوفة بطرق ممكنة تقدر بالاف الطرق الرياضية او الهندسية. وقد اختبر الفيزيائيون كل هذه الطرق الالاف على شاكلة لف جريدة معينة ليروا أياً منها يقارب الواقع. فقد تكون هناك طريقة وحيدة للف الجريدة على نفسها وهي الطريقة المتبعة في الكون، كما قد يكون الكون متبعاً عدة طرق منطقية للف الجريدة على نفسها. وليس بالامكان حسم الموضوع. لذلك تلقت النظرية من معارضيها نقداً لاستغراقها في المعادلات الرياضية، كالذي اقدم على نقدها فاينمان باعتبارها تجعل من المعادلات الرياضية هي ما تحدد الواقع دون العكس.

عموماً تُظهر النظريتان المتنافستان (النسبية والكوانتم) حالة من التعاكس في الاتجاه المنهجي او العلمي للعلاقة الرابطة بين الرياضيات والخيال. فبحسب نظرية اينشتاين ان التأويل الخيالي متقدم على الرياضيات ضمن المنهج (الخيالي-الرياضي)، في حين انه في الكوانتم يحصل العكس، وهو ان التأويل الرياضي متقدم على الخيال ضمن المنهج (الرياضي-الخيالي)، وفي كلا الحالين لا غنى عن افق انتظار التحقيق التجريبي. لكن يضاف الى ذلك حالة تأويل الظواهر والتجارب الواقعية. ويمكن التعبير عن الحالات الثلاث السابقة كالتالي:

التأويل الخيالي ← رياضيات ← افق انتظار تجريبي

التأويل الرياضي ← خيال ← افق انتظار تجريبي

التجربة الواقعية ← خيال + رياضيات

ويمكن اختصار المعادلات الثلاث السابقة وفق العناصر الضرورية التالية:

تاويل (خيالي-رياضي) ← افق انتظار تجريبي

تأويل (رياضي-خيالي) ← افق انتظار تجريبي

اما المعادلة الثالثة فهي محققة تجريبياً، ولكي تدخل ضمن اطار النظام الثاني (الافتراضي) فلا بد من ان تتضمن التأويل الذي عادة ما يتصف بالخيال والرياضة، بمعنى انها تكون كالتالي:

تجربة واقعية ← تأويل (خيالي ورياضي)

وهذه المعادلات الثلاث قد لا تكون معبرة بكاملها عن جوهر وحقيقة النظام الثاني (الافتراضي)، فقد يكون هذا النظام مكتفياً ببعض عناصر هذه المعادلات، كما قد يكون النظام الاول (الاجرائي) متصفاً ببعض هذه العناصر، ومثل ذلك النظام الثالث. وبالتالي نتساءل: ما الذي يشكل جوهر هذه المعادلات الثلاث للنظام الثاني؟

من وجهة نظرنا ان ما يشكل هذا الجوهر عنصران متلازمان هما التحقيق التجريبي والتأويل سواء كان رياضياً او خيالياً. فعندما يغيب التحقيق التجريبي يكون النظام داخلاَ ضمن النظام الثالث (الميتافيزيائي) كما سيمر علينا. اما عندما يغيب التأويل بنوعيه فانه يصبح ضمن النظام الاول الذي طرقناه، فيصبح ما موجود يعبر عن الظاهر الفيزيائي وفقاً للتحقيق والاستقراء التجريبي.

ان خصوصية النظام الثاني هو التأويل بالاضافة الى التحقيق التجريبي، فالتأويل يتقدم تارة بالنهج الرياضي، وثانية بالخيال، كما انه قد يكون نتاج التجربة الواقعية ومن ثم لا يحتاج الى تحقيق، اذ التحقيق متمثل بالتجربة ذاتها، بل يكفي ان يصبغ على التجربة نوعاً من الترييض او الخيال المتسق والبسيط بحيث يمكنه تفسيرها دون ان يتناقض معها وفق المتبنيات الخيالية من القبليات المعتمدة. وهنا يكون الترييض او الخيال مستمداً من الذهن دون ان يستنبط من التجربة كما يحدث في حالة النظام الاول، فهو مفترض وقابل للانفتاح الهرمنوطيقي، الامر الذي يميزه عما يحصل داخل ذلك النظام.

وبذلك نعرف ان خصوصية النظام الثاني تتمثل بالتأويل، سواء على نحو الرياضيات او الخيال او الواقع التجريبي. فهو منفتح اذا ما قارناه بالنظام الاول المغلق نسبياً. كما انه لا يرى نفسه مقاطعاً كلياً للنظام الاول، اذ يقر بما لديه ويضيف اليه ما لم تتسع قريحته. وهو عكس ما ينظر اليه الاول الذي يرى الثاني مبتدعاً يميل الى القضاء على جوهر الفيزياء، او رميها في بحر الظلمات. فهذا الخلاف يذكرنا بالتنافر السائد بين النزعتين البيانية والعقلية في الفهم الديني، ومنها ما صوره المفكر محمد باقر الصدر وغيره حول الصراع القائم بين الاخبارية والاصولية لدى الشيعة.

هكذا يقوم النظام الافتراضي على منهجين: التأويل (الخيالي-الرياضي) والتأويل (الرياضي-الخيالي). وليس الغرض من تفكيكنا له عبر هذين المنهجين اننا نريد الفصل بينهما حقيقة، بل واقع الامر انهما متلبسان معاً، وان اختلفت بداية ونهاية كل منهما عن الاخر، فهما يتعاكسان في الدور للبداية والنهاية، لكن النتيجة واحدة. فما يبدأ به المنهج الاول هو التأمل الخيالي، ومن ثم ينزع عليه اللباس الرياضي المجرد، على عكس المنهج الاخر الذي يبدأ بالتجريد الرياضي ثم ينزع عليه التأويل الخيالي. وشاهد نسبية اينشتاين حاضر في المعنى الاول تماماً، في حين ان شاهد نظرية الكوانتم، كما ظهرت بداية، وكما تمثلت بالميكانيكا الموجية، وحتى الجسيمية فيما بعد، شاهد مناظر على المعنى الثاني. والنتيجة واحدة رغم التعاكس بينهما، اذ يظل البحث العلمي وفق هذا النظام هو الجمع بين الخيال والرياضة. فما يجمعهما هو التأويل الهرمنوطيقي المفترض والذي لا يبرره النظام المنطقي بشكل كاف، خلافاً لما امتاز به النظام الاول من التحفظ والضيق والتمنطق.

للبحث صلة..

 

comments powered by Disqus