-
ع
+

نظرية الكوانتم وظاهرة الغموض والتشويش

يحيى محمد

اتصفت ميكانيكا الكوانتم بأن مصطلحاتها تشهد حالة من الفوضى والغموض دون تعابير واضحة، وعلى ما قاله أدنجتون خلال العشرينات من القرن المنصرم: ان ‹‹مصطلحات نظرية الكم حالياً في حالة من الفوضى الشاملة بحيث يكون اقرب للمستحيل ان نصنع منها تعبيرات واضحة››. وعبّر جل – مان يقول: ‹‹عندما ننتهي إلى نظرية الكم يبدأ حتى الناس الاكثر ذكاء يتحدثون هراء››. وأحياناً يعبّر عن ذلك بأنه لا أحد يفهم الكوانتم؛ فهل حقيقة العالم مادية أو موجية أو كلاهما، كالذي قاله ريتشارد فينمان وهو أحد أعظم المشتغلين بميكانيكا الكم، فكتب (سنة 1965) يقول: ‹‹مضى زمن كانت الصحف تكتب فيه ان هناك اثني عشر رجلاً فقط هم الذين يفهمون نظرية النسبية. ولا اعتقد ان هذا صحيح، فربما كان هناك زمن لم يكن فيه سوى رجل واحد هو الذي يفهمها لأنه هو الذي امسك بها قبل ان يكتب بحثه. لكن بعد ان اطلع الناس على البحث فإن الكثيرين منهم قد فهموها بشكل أو بآخر، وبالتأكيد كان عددهم أكثر من اثني عشر. ومن جهة أخرى فانني اعتقد أنه يمكن ان اقول بكل ثقة أنه لا أحد يفهم ميكانيكا الكم››.

ان الغموض والتشويش وضرب عدد من البديهات العقلية أو مسلمات الفطرة السليمة كل ذلك جعل عدداً من الفيزيائيين المرموقين يستاؤون من النتائج التي ابداها أصحاب نظرية الكوانتم. ومن بين المعترضين ما كتبه أينشتاين في رده على هذه النظرية المشوشة كما صاغها الثلاثي نيلز بور وكرامر وسلاتر (ب. ك. س) خلال العشرينات، فكتب إلى صديقه ماكس بورن وهو أحد زعماء الكوانتم قائلاً: ‹‹افضّل ان اكون اسكافياً، بل عاملاً في ناد للقمار على ان اكون فيزيائياً››. وحتى ماكس بورن نفسه اجاب في مقابلة معه بعد عدة سنوات حول شرح نظرية (ب. ك. س) فقال: ‹‹انه شيء لم افهمه اطلاقاً بشكل مناسب في حياتي كلها››. ومثلما هدد أينشتاين بترك عمله كفيزيائي نجد فولفجانج باولي، رغم أنه أحد زعماء الكوانتم البارزين، قد هدد هو الآخر بترك عمله للنتيجة التي افضت اليه نظرية الكوانتم من غموض وتشويش، فكتب (عام 1925) حول ما تراءى له من خطورة في الفيزياء ومشاعر الأسى تنتابه فقال: ‹‹ان الفيزياء أصبحت الآن جد مشوشة مرة أخرى، وعلى أي حال فإنها غدت عصيّة عليّ، وكان بودي ان اكون ممثلاً سينمائياً كوميدياً أو أي شيء من هذا القبيل دون ان اسمع شيئاً ابداً عن الفيزياء››. لكن باولي عاد وتفاءل بعد اقل من خمسة اشهر، حيث قال: ‹‹ان نوع الميكانيكا التي يقدمها هايزنبرغ قد منحتني ثانية الامل والبهجة في الحياة. أنها يقيناً لا تقدم لنا الحل الشافي للغز، ولكني اعتقد أنها قادرة على ان تواصل السير قدماً من جديد››.

وحتى هايزنبرغ كان يتساءل مع نفسه مرة بعد ان انهى إحدى مناقشاته المعتادة مع استاذه بور، فكان يكرر التفكير والسؤال مع نفسه: هل يعقل ان تكون الطبيعة سخيفة كما بدت لنا في تلك التجارب الذرية؟

مع ذلك فقد استقرت قواعد الكوانتم الاساسية نهاية العشرينات من القرن المنصرم، ومعها ظهرت المعادلات الرياضية المعتمدة، لكن من دون فهم نهائي. وبالتالي لا مناص من التأويل والهرمنة العلمية. فهي جسر التواصل من الرياضيات إلى الخيال.

ان الفارق بين نشأة وتطورات النظرية النسبية عن الكوانتم هي ان الأولى قامت على عاتق رجل واحد فحسب هو أينشتاين، وبالتالي كانت من حيث الاساس تخضع إلى تأويله دون مشاركة أحد في الغالب، في حين شارك في الأخرى رجال كثيرون، وكان من بينهم أينشتاين كما في بداية الأمر قبل انسحابه منها، لذلك كانت موضع تأويلات كثيرة بقدر مساهمات الرجال. وقد صوّر البعض هذه التأويلات بأنها الاف النظريات، مما يجعل الموقف غامضاً كالذي يشير اليه علماء الكوانتم. فما يتحدث عنه رجال الكوانتم عن العالم المجهري الصغير يتخذ تفاسير عديدة هي اشبه بالتأويلات المعروضة على النصوص. وكما ذكر ادوارد ويتن فإن الكوانتم المعتمدة تحوي عدداً لا نهائياً من النظريات الممكنة، وقد فحص الفيزيائيون النظريون آلافاً منها فحصاً جدياً.

وصرح ستيفن واينبرغ بأن العلاقة بين استعمال ميكانيك الكم وتأويله الفلسفي ضعيفة. فبقدر ما يكون الاستعمال ميسراً بقدر ما يكون التأويل صعباً غير مفهوم. وبالتالي فإن صعوبة التأويل في الكوانتم مردها إلى الاعتماد الرياضي، بل وحتى المؤشرات التجريبية. لذلك تمتاز بالصورية والغموض كصفة طاغية عليها.

وبعبارة اخرى ان كل قارئ لهذه النظرية يجد صيغاً من التعابير المشوشة في تحديد ما تريد قوله من تأويل، رغم ان تطبيقات هذه النظرية ناجحة للغاية، وهو السبب الذي يجعلها قوية. بمعنى أنها صحيحة لكونها ناجحة وليس العكس. وقد كان هايزنبرغ يقول: كلماتنا لا تسعفنا. وبالفعل ان كلمات أصحابها وعلى رأسهم مدرسة كوبنهاكن تبدي ان هناك قفزاً وتطوراً في الفهم والتأويل من حالة إلى أخرى. فكل من يخضع تحت تأثير هذه النظرية سيجد نفسه أمام تأويلات كثيرة تتعلق بالعالم الجسيمي. وقد وقع زعيم هذه المدرسة نيلز بور في مثل هذا المستنقع المشوش، وهو ما جعل أينشتاين يصور النظرية بأنها قصة ناقصة تحتاج إلى اكمال أو تأويل تام. ويتراءى للقارئ لأول وهلة بأن هناك تأويلات عديدة حول طبيعة الشيء أو الجسيم حتى لدى الشخصية الواحدة أحياناً. وقد تكون الاطروحات التأويلية أربعة، وان امكن رد بعضها للبعض الآخر، كما سيتضح كالتالي:

1ـ الشيء غير محدد في موضع ما أصلاً وفقاً لطبيعته الاحتمالية، مما يعني وجود عالم موضوعي غير عالم الواقع، وهو ما نطلق عليه عالم الامكان.

2ـ الشيء موجود هنا وهناك، وهو ما يفارق البديهة العقلية التي تقول بأن الشيء إما ان يكون هنا أو هناك، ومن المحال ان يتصف الشيء بمكانين مختلفين في الوقت ذاته. فرغم ان الشيء واحد لكنه متعدد الموضع.

3ـ للشيء وجود تعددي مضاد. بمعنى ان الأمر ليس مجرد تعدد في الموضع، بل هناك تضاد في ذات الشيء، فهنا يظهر الشيء بصورة، وهناك بصورة أخرى مضادة، وهو ما يعرف بوجود نسخ ونظائر للشيء.

4ـ للشيء نسخ متعددة بلا حدود، الأمر الذي تم تطبيقه على الكون، فأصبح الحديث الفيزيائي عن الجسيم يتحول إلى الحديث عن نسخ للكون غير متناهية العد والحساب.

وتبدي هذه الاطروحات الاربع كما ادلى ببعضها نيلز بور في مناسبات متعددة بأن هناك نوعاً من التطور والقفز، من تأويل إلى آخر، بحيث يتراءى للقارئ إفتراض هذه التأويلات عبارة عن مراحل أربع للشيء مختلفة، وإن كان البعض منها يكامل البعض الآخر. فإذا بدأنا بالمرحلة الأولى يظهر لنا بأن هناك عالماً للامكان أو الاحتمال يكون فيه الشيء قابلاً لاتخاذ موضع هنا أو هناك من دون تحديد. إذ لا يمكن تحديد الشيء ان كان هنا أو هناك إلا عند الكشف عنه، أما عند عدم الكشف فهو غير محدد الموضع تماماً.

لكن هذه المرحلة من التأويل قد تبدي تطوراً إلى المرحلة الثانية، وهي قلب الامكان إلى الوجود، فاصبح بدلاً من ان نتحدث عن الشيء بأنه يمكن ان يكون هنا أو هناك من غير تحديد، أخذنا نتحدث عنه بأنه موجود هنا وهناك. فهي مرحلة تطور في التأويل من الامكان إلى الوجود.

ثم ان هذه المرحلة من التأويل أخذت تتطور اكثر، فبدلاً من القول بأن الشيء موجود هنا وهناك، أصبح الحديث يتطور إلى القول بأن للشيء نسخة مضادة وفق عدد الامكانات، فنسخة هنا، ونسخة هناك مضادة، وهو ما دفع للقول بالاطروحة الاخيرة وهي امكان وجود نسخ بلا نهاية ولا حدود.

إذاً تتحدد هذه المراحل التأويلية الاربع للشيء الجسيمي وفق العلاقة التالية:

امكان، فوجود، فتعدد مضاد، ومن ثم تعدد بلا حدود. أو كما يلي:

امكان ← وجود ← مثنى مضاد ← تعدد بلا حدود.

فزعماء الكوانتم واتباعهم يصرحون بهذه الاطروحات رغم التشويش والغموض والقفز والمداخلة فيما بينها. وقد وجدوا لهم معارضين يؤكدون هذا الحال من ان النظرية غير مفهومة ومشوشة وزاخرة بالتأويلات. ومن بينهم كان أينشتاين يرى بأن هناك عدم وضوح لدى هذه النظرية، واعتقد بوجود شيء ناقص فيها يحتاج إلى ايضاح، أو أنها تحتاج إلى المزيد من الكلام لتكمل القصة، لذا طرح مع مساعديه بودلسكي وروزن (EPR) سؤالاً نشرته إحدى المجلات العلمية الشهيرة (عام 1935) كالتالي: ‹‹هل يمكن ان نعتبر توصيف الحقيقة الفيزيائية المستمدة من ميكانيكا الكم توصيفاً كاملاً››. وكان البحث يتضمن أربع صفحات تم نقاش المسألة باستفاضة، وكانت نسخة البحث المنشورة باللغة الانجليزية قد كتبها مساعده بودولسكي، لكن ‹‹أينشتاين ساوره الغضب لان بودولسكي قد دفن المسألة التصورية الواضحة تحت تأثير كثير من الشكليات الرياضية››. لذلك كتب إلى صديقه شرودنجر للتعبير عن شكواه فقال: ‹‹ان البحث لم يظهر بالصورة التي كنت اريدها في البداية، وما حدث هو ان النقطة الجوهرية قد دفنت بالشكليات››.

 

comments powered by Disqus