-
ع
+

لماذا وكيف بين العلم والفهم

يحيى محمد

إن الفهم على نوعين: تعبدي وقصدي. والبحث في الفهم هو كالبحث في العلم يتصف بكلا الصيغتين الوصفية (كيف) والتعليلية (لماذا). وتقع التعبديات كلها ضمن بحث الصيغة الاولى الوصفية لا التعليلية، فهي على شاكلة ما كان يسأله النبي ابراهيم في القرآن الكريم حول كيف يحيى الله الموتى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)) البقرة\260. ففي هذا البحث يرد التحفظ من الصيغة التعليلية (لماذا). ووفقاً لجميع المذاهب الاسلامية فان التعبديات لا يجوز اخضاعها لهذه الصيغة. كما ان هذه الصيغة ملغاة مطلقاً لدى بعض المذاهب كالاشاعرة، مثلما هو حال نظريتهم في القيم والاحكام وعلاقات الطبيعة. وعلى العكس من ذلك البحث المتعلق بالقصديات، فهي تتولى مسألة الصيغة التعليلية (لماذا).

وفي مجال العلم الكوني اعتقد بعض الغربيين ان ما يميز الدين عن العلم هو ان الاول يبحث ويفسر الواقع طبقاً للصيغة التعليلية (لماذا)، في حين يقتصر العلم على البحث وفقاً للصيغة الوصفية (كيف)، وهو خطأ بلا شك. فعلى الاقل نجد البحث على الصعيد العلمي في كلا الوصفين قائماً. فمثلاً ان قوانين كبلر عن حركة الكواكب حول الشمس هي ذات طابع وصفي باعتبارها لا تتضمن افتراضات سببية، خلافاً لقوانين نيوتن التي تفترض الجاذبية مما يجعلها ذات طابع تعليلي. لهذا رأى بعض الفلاسفة بان اكتشاف قوانين السببية يمثل جوهر العلم، وان العلماء محقون في البحث عنها، ولو افترضنا مجالاً يخلو منها فسيكون غير ذي صلة بالعلم اطلاقاً.

واليوم ليس هناك من يشكك في تعليلية العلم ولا في وصفيته. فتاريخ العلم يبدأ بالمرحلة الوصفية حتى ينتهي بالمرحلة التعليلية التي تكملها. ومع انه لا خلاف حول مصداقية النزعة الاولى الوصفية، الا انه ساد جدل خلال القرن التاسع عشر حول جدوى مصداقية النزعة الثانية التعليلية. ومعلوم ان الفيلسوف الوضعي اوجست كونت لم يتقبل - إبان هذه الفترة - النزعة الاخيرة واتهمها بالميتافيزيقية، وكان يشدد على مفهوم القانون العلمي بما يتضمن من علاقات ثابتة للظواهر دون ادراج مفهوم العلية الشائع استخدامه لدى الفلاسفة.

ويجمل لنا كارناب سياق الجدل المحتدم الذي ساد خلال ذلك القرن حول وظيفة العلم إن كانت وصفية تتعلق بجملة من القوانين ام انها تفسيرية تسعى للكشف عن مبادئ تنظم هذه القوانين وتفسر الطبيعة من خلالها. فقد رأى جماعة ان المسألة تحيطها المخاطر، لأن المبادئ المنظمة تجرنا الى براثن الميتافيزيقا، لذلك حصروا مهمة العلم في وصف الظواهر بصيغة (الكيف) دون اقحام التفسير بصيغة (لماذا). ففي تلك الفترة اعلن عدد من علماء الفيزياء الالمان، امثال جوستاف كيرشهوف وارنست ماخ، انه لا يحق للعلم ان يبحث في الصيغة الاخيرة، وانما عليه البحث في الصيغة الاولى فحسب.

وعلى رأي كارناب ان ما قصدوه هو انه لا ينبغي للعلم ان يبحث عن عوامل ميتافيزيقية مجهولة يُعلق عليها مسؤولية حوادث معينة، وانما ينبغي وصف مثل هذه الحوادث ضمن قوانين محددة فحسب. وبالتالي نبّه على ضرورة تفهم هذا الخطر المتمثل بالصيغة التعليلية ضمن سياقه التاريخي، لا سيما وقد كان لالمانيا مناخ فلسفي في العصر الذي ازدهرت فيه المثالية التقليدية لفخته وشلنج وهيجل، فهم شعروا بان وصف العالم بالكيف لم يكن كافياً؛ فارادوا فهماً اكمل قائماً على الاسباب والاعتبارات الميتافيزيقية التي تكمن خلف الظواهر دون ان تكون ضمن متناول البحث العلمي. لهذا قاوم العلماء هذه النزعة الفلسفية بالاكتفاء بالصيغة الوصفية (كيف) دون صيغة (لماذا) الميتافيزيقية. لكن الامر تغير فيما بعد، فمع انه بقي فلاسفة المان قلائل منخرطين في التقليد المثالي، الا ان الوضع في سائر البلدان مختلف، ففي انجلترا والولايات المتحدة اختفى المناخ الفلسفي عملياً، ولم يعد هناك ما يقلق العلماء حول الصيغة التفسيرية (لماذا)، فاي سؤال يطرح على هذه الشاكلة انما يقصد به المعنى العلمي لا الميتافيزيقي.

ويكتب كارناب عن تجربته حول تلك الاسئلة، فيقول: ‹‹عندما كنت شاباً صغيراً، وعضواً في دائرة فيينا، كانت بعض مؤلفاتي المبكرة مكتوبة كرد فعل للمناخ الفلسفي للمثالية الالمانية. ونتيجة لذلك كانت هذه النشرات وتلك التي كتبها اخرون من دائرة فيينا مليئة بتلك العبارات التي تحظر الاشياء التي ناقشناها من قبل. وعلينا ان نتفهم هذه المحظورات من السياق التاريخي الذي نجد انفسنا متواجدين فيه. اما اليوم وبصفة خاصة في الولايات المتحدة، لم نعد نضع مثل هذه المحظورات››. بل ورأى بان الطريقة التي طرح بها علماء القرن التاسع عشر للنقاش كانت عقيمة. وانتهى الى انه ليس ثمة تعارض حقيقي بين الوصف والتفسير، او بين الصيغتين الانفتي الذكر.

وهذا الخلاف حول النزعتين الوصفية والتعليلية في العلم يقابله في التراث الخلاف الكلامي الفلسفي حول ما اذا كان في الوجود علل اقترانية مصاحبة ذات صفة دلالية او وصفية كالذي عليه الاشاعرة، او علل فاعلية كما يراه غيرهم من الفلاسفة والمتكلمين، الامر الذي انعكس على فهمهم للنص، ومن ذلك ان الاشاعرة اعتبروا كل الباءات الواردة في النص الديني والخاصة بالأسباب والمسبَّبات هي باءات مصاحبة وليست باءات سببية، لذلك عدوا الاسباب مجرد علامات دلالية دون ان تمتلك ادنى تأثير، اذ لا مؤثر في الوجود غير الله، الامر الذي خالفهم عليه الفلاسفة وسائر المتكلمين. كما ظهر على ذات الشاكلة خلاف حول ما اذا كانت هناك علل غائية او لا؟ وهنا صفّ الاشاعرة مع الفلاسفة في نفي هذه العلل مع بعض الاختلاف، وقد عارضهم في ذلك سائر المتكلمين، مما انعكس على فهمهم للنص. فقد عدّ الاشاعرة علل الشرع مجرد أمارات وعلامات دلالية او وصفية محضة لا تختلف عن حال امور الخلق، حيث ارتباط الاقتران بالاشياء إنما هو ارتباط عادي لا ينجم عن سبب ولا علة ولا حكمة ولا تأثير. لذا رأى الغزالي ومن تبعه أنه بالإستقراء عُرف ان المأمور به تقترن به مصلحة العباد بحصول ما ينفعهم، وكذا ان المنهي عنه تقترن به المفسدة، وبالتالي فبحسب عادة الشرع اذا حصل الأمر والنهي فإنه سيُعلم قرين ذلك من المصلحة والمفسدة، لا ان الله تعالى استهدف هذه المفسدة وتلك المصلحة، إذ من المحال لدى الأشاعرة ان يفعل الله لغرض وحكمة.

 

comments powered by Disqus