-
ع
+

المسلمات العلمية لنظرية الكوانتم

يحيى محمد

مثلما للنسبية ثلاثة عناصر اساسية، فكذلك الحال مع الكوانتم. فلديها مسلمات فلسفية وعلمية، يضاف إلى جوهر ما تتميز به من مضمون فكري ومفاهيم نظرية. وفيما يخص مسلماتها الفلسفية هناك مسلمتان مقابلتان للنسبية كما يلي:

1-  مسلمة وجود عالم غير متموضع احتمالي وحقيقي، أو ما نطلق عليه عالم الامكان الفعلي، وهو شبيه بنظرية الحال للمعتزلة.

2-  مسلمة القوانين الاحتمالية.

أما مسلماتها العلمية فهي كالتالي:

1ـ مثنوية السلوك الجسيمي الموجي.

2ـ مبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين والتحديد.

في حين يتحدد المضمون الفكري لهذه النظرية بمجموعة من التأويلات المختلفة، ويمكن تصنيفها إلى صنفين كالتالي:

1ـ تأويلات السلوك المثنوي (الجسيمي الموجي).

2ـ تأويلات مبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين والتحديد.

لنتابع هنا المسلمات العلمية ونترك البقية الى دراسات اخرى..

المسلمات العلمية

1ـ مثنوية سلوك الكائن المجهري

تعود جذور الفكرة المثنوية للسلوك المجهري إلى اللحظة التي اقبل فيها أينشتاين تفسيره للضوء بأنه نوع من الكموم، وهو في الوقت ذاته نوع من الموجات، وقد نشأت الكوانتم مع هذه اللحظة التي تم التعبير فيها عن الجسيمات بالكموم. لكن رغم ان فكرة المثنوية كانت منحصرة في البداية في السلوك الضوئي، إذ يسلك سلوكين مختلفين؛ تارة بعنوان الكموم المادي، واخرى بعنوان الموجة، إلا أنه تبين فيما بعد ان الجسيمات الذرية - كما تتمثل في الإلكترونات - هي ايضاً تسلك هذا السلوك المثنوي عبر ما اكتشفه الفيزيائي الفرنسي دي بروي في اطروحته للدكتوراه على الإلكترون، إذ تبين أنه يسلك سلوكاً مثنوياً؛ تارة بعنوان الجسيم، واخرى بعنوان الموجة. وبذلك تعقدت المسألة اكثر. فإذا كانت مسلمات العلماء حول الضوء تظهر بأنه موجة، ثم تبين لهم فيما بعد أنه جسيم ايضاً، فإن العكس قد حصل مع الإلكترون، إذ كانت مسلماتهم تظهر بأنه جسيم، ثم تبين فيما بعد بأنه موجة ايضاً، وكل منهما يسلك سلوكاً منفرداً فقط، اعتماداً على نوع الظروف، فهو يتصرف إما بحسب المظهر الجسيمي أو الموجي، ولا يتصرف تصرف الجامع لهما.

عموماً أنه منذ ذلك الوقت بدأت نظرية الكوانتم تشق طريقها وهي تعي بأن هناك نوعاً من المثنوية المزدوجة للكائن المجهري يحتاج إلى تفسير. فكانت بذلك أولى المسلمات العلمية للكوانتم التي نتج عنها الكثير من التطورات والتأويلات الهرمنوطيقية.

ففيما يتعلق بالضوء مثلاً، لوحظ بأنه يتصرف كجسيم في حالة ثقب واحد، لكنه يتصرف كموجة في حالة ثقبين؛ لحصول ظاهرة التداخل. ففي حالة الثقب الواحد تبدو جسيمات الضوء المارة كثيرة على الشاشة المقابلة، إذ يكثر السواد فيها، في حين في حالة الثقبين تبدو الجسيمات اقل لتواجد المناطق البيضاء، الأمر الذي يفسر وفقاً للتداخل الموجي، ويظهر هذا الحال من الحيود الموجي ايضاً في حالة مرور الضوء في ثقب أصغر كثيراً من طول موجته. لكن في جميع الاحوال ان هذا الكائن المجهري لا يسلك السلوك المزدوج في آن واحد، بل يسلك سلوكاً محدداً حسب الظروف، وما ان تتغير هذه الظروف حتى يعمل على تغيير سلوكه، فإما ان يسلك السلوك الموجي أو الجسيمي.

ولوحظ ان هذه النتائج ذاتها شوهدت مع الإلكترون كالذي اكتشفه دي بروي، وهو ان الإلكترون يخضع مثل فوتون الضوء إلى الحيود والتداخل، فعندما يدخل إلكترون واحد من خلال ثقب فإنه يظهر وكأنه جسيم، لكن عندما يكون هناك إلكترونان فأكثر فإن ظاهرة الحيود والتداخل تبدو واضحة، وهناك بعض الصور الفوتوغرافية التي تبدي تداخل الامواج المواكبة للإلكترونات وقد التقطت (عام 1927). لذلك قدّم دي بروي قاعدته الرياضية التي تبين الطابع الموجي والمثنوي للجسيم ومنه الإلكترون، وهي ان اندفاع الجسيم أو زخمه (p) يساوي ثابت بلانك (h) مقسوماً على طول الموجة (l)، اي:

p = h/l

وبحسب هذه القاعدة الرياضية فإن امواج الإلكترون صغيرة جداً بحيث ان الامواج الضوئية أكبر منها بخمسة آلاف مرة. وطبقاً للمثنوية فإن تردد الجسيم يتعين بطاقة الأخير، وطول الموجة بحسب اندفاعه (اي زخمه أو تسارعه)، فالموجة المادية تسير مع الجسيم كظله.

وقد استنتج دي بروي هذه المثنوية من قاعدة أينشتاين ومن صيغة بلانك في ان الطاقة (e) تساوي التردد (f) مضروباً في ثابت بلانك (h).

وبحسب دي بروي ووفقاً للمعادلة الانفة الذكر فإن طول موجة الجسيم يساوي حاصل قسمة ثابت بلانك على اندفاع الجسيم، أي كلما اسرع الجسيم قصر طول موجته. إذ تكون العلاقة كالتالي:

l = h/p

وبذلك فإن هذه المسلمة العلمية من المثنوية الازدواجية للكائن المجهري كانت محطة الكثير من التأويلات كما تعرضنا لها في دراسة مستقلة.

2ـ مبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين والتحديد

يعود مبدأ عدم اليقين والتحديد (uncertainty principle) إلى هايزنبرغ حول العلاقة العكسية التي تربط ما بين موضع الجسيم واندفاعه، أو بعض الثنائيات الأخرى المتعلقة بالجسيمات، مثل علاقة الزمن بالطاقة، حيث التعرف الدقيق على طاقة الجسيم يجعلنا غير دقيقين في التعرف على زمن هذه الطاقة، وكذا العكس ايضاً.

وأول ما شهده هذا المبدأ من خلاف هو ما يتعلق بالاصطلاح الذي ينبغي اختياره بين هايزنبرغ والمشرف عليه نيلز بور. فالذي اشتهر في لغة العلم هو ما يعرف باصطلاح مبدأ الارتياب أو عدم اليقين، وهو ما اختاره بور رغماً على هايزنبرغ بعد الجدل المتواصل بينهما، فقد كان الأخير يعبر عما اكتشفه باصطلاح آخر هو (العوز في الدقة). ومن ثم ظهرت اصطلاحات أخرى لعدد من الفيزيائيين بعد الاكتشاف الذي جاء به الأخير، فالبعض اصطلح عليه عدم التحديد، كما اصطلح بعض آخر على ذلك مبدأ الضبابية. لهذا كان هايزنبرغ يقول: ‹‹كلماتنا لا تسعفنا››. وكتب يعبّر عن هذه المشكلة المتعلقة باللغة والالفة بالاشياء المعتادة: اصعب مشكلة تواجهنا في التعامل مع نظرية الكم هي اللغة، إذ تتداخل الرموز الرياضية مع مفاهيم اللغة العادية، وبالتالي لا يمكن تطبيق مفاهيمنا العامة على بنية الذرات. ورغم ان لبور تأويله الخاص لما اكتشفه هايزنبرغ وهو ما يعرف بمبدأ التتام، والذي سعى لتعميمه على مختلف العلاقات، إلا ان ما انتشر في الاوساط الفيزيائية وغيرها من الدراسات هو مبدأ هايزنبرغ في الارتياب.

ويعتبر هذا المبدأ من أهم مبادئ الكوانتم، وقد جرى عليه الكثير من التأويل الخيالي. ومن الناحية الرياضية فإن حاصل الضرب بين الخطأ أو عدم الدقة في الموقع والاندفاع لا بد من ان لا يكون أصغر من قيمة ثابت بلانك (h)، ولهذا لا يساوي صفراً، وبالتالي لا يمكن ان يكون هناك تلافي لعدم الدقة، فهو قانون ثابت. وبحسب ستيفن واينبرغ فإن التعبير الأدق لمبدأ عدم اليقين هو ان طول موجة الجسيم يساوي حاصل قسمة ثابت بلانك على اندفاعه (l = h/p)، لذا لا يمكن للارتياب في موضع أي جسيم ان يكون اقل من هذا الحاصل.

وقد استخدم المبدأ في الحالتين من التأويل الخيالي وفقاً للابعاد الرياضية، أي فيما إذا كان الكائن المجهري جسيماً مادياً أو موجة.

وما يفيده هذا المبدأ هو ان عدم اليقين يزداد بازدياد المعرفة بدلاً من تناقصه، فكلما زادت المعرفة ازداد عدم اليقين معه ايضاً. لهذا يعتبر هذا المبدأ أحد ثلاث قضايا اصابت المعرفة العلمية بقيود خلال القرن العشرين، والقضيتان الاخريان هما مبرهنة جودل ونظرية الشواش (الكايوس). فعند مشاهدتنا لأحد الإلكترونات مثلاً فإن ذلك لا يحصل ما لم نجعله يقذف كمة كاملة من الشعاع أو الفوتون، ولكن هذا القذف يحدث زلزالاً خطيراً على الذرة لدرجة تتغير حركة الذرة كلياً، فالقذف هنا يشبه ما يقوم به المدفع عندما يقذف قذيفة فإنه يغير حركته ويرتد إلى الوراء، ونفس الشيء يحصل عندما نشاهد أي شيء كبير فلا بد من ان يبعث فوتوناً يسبب له نوعاً من الارتداد، لكنه ضئيل جداً إلى درجة أنه يهمل، اما مع الذرة فهو لا يهمل، لان الفوتون يتناسب مع حجم ما موجود من مكونات الذرة ومنها الإلكترون، وبالتالي ليس بالامكان معرفة حالة الذرة الداخلية إلا بجعلها تقذف كمة كاملة من الفوتون، وعندما تكون المراقبة أو المشاهدة مستمرة فمعنى ذلك ان هناك سلسلة من الكمات تهيء لنا معلومات عن المراحل المختلفة للذرة، لكنها لا تعطينا تسجيلاً عن الحركة المستمرة؛ لأن كل انطلاق لفوتون سوف يكسر الاستمرار. وهذا يعني ان أي مراقبة نقوم بها ستؤثر على مجرى النظام في مستقبل الذرة مما يمنع التنبؤ، أو ان معرفتنا أصبحت تتحكم في مجرى ما يدور في الذرة وتعوقنا عن تتبع احداثها. وكل ذلك مختلف كلياً عما يمكن مراقبته في العالم الجسمي الكبير.

ويعود اصل التأويلات الخيالية المسلم بها حول هذا المبدأ إلى الطابع الرياضي اعتماداً على طبيعة الفوتونات إن كانت عالية التردد قصيرة الطول الموجي أو العكس. فبحسب قانون بلانك الرياضي فإن طاقة الجسيم (e) تتناسب طردياً مع تردده (f)، وعكسياً مع طول موجته (l). ومن الناحية الرياضية فان:

e = hf

كذلك:

e = hc/l

وبالتالي فان:

hf = hc/l

وبتقسيم الطرفين على ثابت بلانك (h) ينتج:

f = c/l

وهي العلاقة العكسية بين التردد والطول الموجي، فكلما زاد أحدهما قلّ الآخر.

وهذه العلاقة هي ما تفضي إلى ثبات المعاكسة بين دقة تحديد موقع الجسيم وسرعته، فكلما زادت دقة تحديد أحدهما افضى الحال إلى عدم دقة تحديد الآخر.

مع ذلك لا بد من لحاظ ان لهذا المبدأ مفهومين مختلفين كثيراً ما يجري الخلط بينهما، ويمكن التمييز بينهما كالتالي:

عدم اليقين والدقة.

التذبذب والتأرجح.

ويمثل المفهوم الأول الجانب الذاتي للمبدأ. بمعنى أنه يعتمد على ما تفرضه اجهزتنا على الكائن المجهري وما يتأثر به هذا الكائن من هذه الاجهزة والقياسات. وهو الاصل الذي يتفق عليه جميع الفيزيائيين دون خلاف. ولنطلق عليه (المعنى الضعيف) لمبدأ عدم اليقين والتحديد.

أما المفهوم الثاني فهو يمثل الجانب الموضوعي للمبدأ. بمعنى ان الكائن المجهري لا يمكن ان يكون له شيء من الإستقرار في الموضع أو الاندفاع بغض النظر عن الاجهزة، فالامر يعود إلى طبيعته الذاتية، وهو ما كان يعول عليه نيلز بور واتبعه في ذلك مكتشف المبدأ هايزنبرغ. فكان الأخير يصرح وفقاً للمفهوم الثاني، أنه لا يمكن التعرف بدقة تامة على ما سيؤول اليه الأمر لأي شيء في المستقبل، ليس بسبب عدم معرفتنا الدقيقة للحاضر، بل لسبب ان من المحال علينا معرفة الحاضر بدقة. ولنطلق عليه (المعنى القوي) للمبدأ السالف الذكر.

وتحديد الفارق بين المعنيين هو اننا لو سلمنا بالمعنى الثاني القوي لكان الأول متضمناً فيه بالضرورة. في حين أنه لو سلمنا بالمعنى الأول فحسب فهذا يعني الإعتراف ضمنياً بأن للجسيم موضعاً واندفاعاً محددين وحقيقيين في الواقع، لكننا نجهل ذلك بفعل اجهزتنا، وقد نجد طريقة ما تجعلنا نتعرف على هذه الحقيقة المجهولة كالذي كان يأمله أينشتاين، وخالفه في ذلك جماعة مدرسة كوبنهاجن رغم الخلاف الداخلي بينهم.

فلقد جرى بين هايزنبرغ وبور جدل حول إن كان للذات البشرية أو الراصد دخل في تحديد موضع الجسيم وزخمه أم لا؟ فقد كان هايزنبرغ يكتفي بتأثير ادوات القياس دون ان يذهب إلى أبعد من ذلك، وهو في هذه النقطة لا يختلف عما يراه أينشتاين، حتى ان هايزنبرغ كان يستخدم مثالاً لتبيان تأثير ادوات القياس وفقاً لعلاقة تردد الاشعة الكاشفة بالموضوع المدروس وهو الجسيم. وهو المثال الذي ظل يذكر شاهداً على ما يعنيه مبدأ عدم اليقين في صورته الضعيفة، لكن بور اعتبر المثال قاصراً عن تبيان المراد، وأصرّ على ذلك إلى درجة ‹‹كادت ان تبكي الاول››. وفي النتيجة كان تأثير بور هو الذي تم الاعتماد عليه وفق مدرسة كوبنهاكن باعتباره زعيم هذه المدرسة. رغم ان هايزنبرغ في إحدى مؤلفاته كان يعبّر عن تأويله للموضوع بما لا يختلف فيه عن بور، واعتبر ذلك مخالفاً للطريقة التقليدية التي تعامل بها أينشتاين عندما فصل بين الذات والموضوع فصلاً تاماً.

ومن الجدير بالذكر ان الفيلسوف برتراند رسل كان يتصور بأن مبدأ عدم اليقين ليس له اهمية فلسفية؛ لإعتقاده بأن الموضوع متعلق بمشكلة تأثير الاجهزة القياسية على سلوك الجسيم الخاضع للدرس والاختبار، فهو يتأثر بشدة لصغر حجمه. لكن من وجهة نظرنا ان هذا الحال يصح فيما لو اعتمدنا على الإفتراض الأول الضعيف للمبدأ وليس على الإفتراض الثاني القوي، فإن هذا الأخير يحمل معنى فلسفياً هو موضع الخلاف الاساسي، وهو الرأي الذي اتخذه نيلز بور وأرغم عليه هايزنبرغ خلافاً لمدرسة أينشتاين.

comments powered by Disqus