-
ع
+

الفهم وأصناف القبليات المنضبطة

يحيى محمد

إن للقبليات المعرفية اقساماً تراكبية؛ بعضها قائم على البعض الاخر، وهي تنقسم من حيث البدء - منطقياً - الى صورية وتصديقية، وتتفرع الاخيرة الى قبليات منضبطة واخرى غير منضبطة، وتنقسم المنضبطة الى اصناف ثانوية لاعتبارات مختلفة، مثل ان تنشأ عنها قبليات محايدة واخرى غير محايدة، وعن الاخيرة قبليات مشتركة وخاصة.. وما يهمنا في هذا البحث هو القبليات المنضبطة التي يتوقف عليها النشاط الذهني في الحكم والتصديق، سواء على مستوى الادراك او العلم او الفهم الديني. فهي تنقسم باعتبارات مختلفة كما يلي:

فباعتبار الحياد وعدمه تنقسم هذه القبليات الى منطقية محايدة كمنطق الاحتمالات العقلية التي يقوم عليها مبدأ الاستقراء مثلاً، ومضمونية غير محايدة كالسببية العامة وما اليها.

وباعتبار التكوين والاكتساب تنقسم القبليات المشار اليها الى قبليات تكوينية مثل السببية العامة والاستقراء، والى قبليات مكتسبة بالتعلم والتفكير كالذي يخص الفهم الديني، مثل قاعدة السنخية ووحدة الوجود كما لدى الفلاسفة والعرفاء، او قاعدة اللطف والحسن والقبح العقليين كما لدى بعض المنظومات الكلامية.

كما باعتبار التأسيس والتوليد، تنقسم تلك القبليات الى قبليات شرطية، حيث تكون شرطاً لصحة الادراك والعلم والفهم دون ان تنتج شيئاً معيناً، كمبدأ عدم التناقض، والى قبليات تأسيسية مولدة، هي الأصول المولدة او الفعالة، لما لها من دور فعال في التوليد والتوجيه. ففي الفهم الديني - مثلاً - تعد قاعدة السنخية اصلاً مولداً لدى المنظومتين الفلسفية والعرفانية، حيث تتوقف عليها مختلف القواعد والقضايا الفلسفية والعرفانية المناطة بمعرفة الوجود الخارجي العام. وقد تكون القبليات في الفهم الديني من النتاج المعرفي، وكذا قد تكون مولدة نسبياً، اي مولدة لعدد من القضايا، وان كانت بدورها متولدة بفعل غيرها، فقاعدة الصدور (الواحد لا يصدر عنه الا واحد) مثلاً تعد من القبليات - في الفهم الديني - ذات التوليد النسبي، فهي مولدة لقضايا فلسفية كثيرة، كمراتب العقول وتبرير الكثرة وما الى ذلك، لكنها قائمة من حيث التأسيس على قاعدة السنخية.

كذلك تنقسم القبليات بحسب الخصوصية والاشتراك، فبعض القبليات في الفهم الديني يعتنقها جماعة دون آخرين، وهي بالتالي خاصة غير مشتركة، مثل القواعد الفلسفية والكلامية، في حين توجد قبليات اخرى عامة يشترك في اعتناقها الكل، كمبدأ الاستقراء. وعلى العموم ان التقسيم بهذا الاعتبار يجعل من القبليات على أصناف خمسة كالتالي:

 

1 ـ قبليات مطلقة:

وهي معارف لا يخلو منها انسان قط، وبعضها يتوقف عليه النظام المعرفي الانساني برمته. فالذهن البشري مزود بقضايا جاهزة هي أساس غيرها من المعارف، وهي لا تحتاج إلى ما يستدل عليها خلافاً لغيرها. وقد امتازت بالوضوح الذي يجعلها تفرض نفسها على الشخص المدرِك دون حاجة إلى طلب الإستدلال عليها، فهي تجمع صفتين عجيبتين لا غنى عنهما، إحداهما كونها أساسية دون ان ترتد إلى ما لا نهاية له، والثانية انها واضحة بذاتها بلا حاجة إلى من يضفي عليها الوضوح من الخارج. فلو ان هذه القضايا كانت أساسية من دون وضوح؛ لأفضى الأمر إلى أن تكون المعرفة ناقصة ومعلّقة، أي لشعر البشر بأنهم يحملون إدراكاً مشكوك الحقيقة. كما أنها لو لم تكن أساسية وتحتاج إلى غيرها للدليل عليها لأفضى الحال إلى التسلسل لما لا بداية له، وهو أمر يجعل من المعرفة غير مبررة ومدعاة للتشكيك. وبذلك كانت هاتان الصفتان هامتين للغاية. ولولاهما لظل البشر عاجزين عن تحصيل معرفة موثقة.. وبالتالي لإنهارت المعرفة جملة وتفصيلاً. وهي نقطة هامة تُبعِد القلق الذي أثارته مبرهنة جودل حول النظم الرياضية، حتى قيل إن مفارقة جودل هي إحدى ثلاث قضايا أصابت المعرفة العلمية بقيود خلال القرن العشرين، والقضيتان الأخريان هما مبدأ هايزنبرغ في عدم اليقين ونظرية الشواش (الكايوس)1.

فمن القبليات المطلقة ما تعتبر أساساً لجميع القضايا المعرفية، فلولاها لسقطت المعرفة برمتها، كما هو حال مبدأ عدم التناقض. كما منها ما هو أساس معرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي، ولولا وضوحه لاختلّت معرفتنا بهذا الواقع، كما هو حال مبدأ السببية العامة. فلهذه القضايا أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.

كما من القبليات المطلقة ما نشهد بها واقعية العالم الموضوعي، فهي من القضايا المشتركة بين البشر، رغم ان إحساسنا بهذه الواقعية لم يأتِ عبر الضرورة المنطقية ولا سائر الضرورات العقلية كما هو حال ما سبقها من مبادئ،إذ لا مانع عقلياً من أن تكون حقيقة الأمر خلاف ما نتحسس به وجداناً، رغم أن شعورنا الذاتي لا يحتمل هذا المعنى. ونحمد الله على هذه الإلفة والغريزة التي لم تدع مجالاً لعقول الناس ان يبثوا فيها روح التردد والتشكيك، أو ان يعاملوها على مستوى ما يعاملون به القضايا الأخرى. وهي مما ينطبق عليها قول الإمام الغزالي: ‹‹من ظنّ ان الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة››2.

هكذا نحن مهيئون لإدراك الوضوح والضرورة لبعضالقضايادونالبعضالآخر. فمنالسهلأننتصورالنارلاتحرقوالشمسلاتطلعوالإنسانلايموت،لكنمنالصعبجداًأننتصوروجودحوادثمندونأسباب، أو أشياءموجودةومعدومةفيالوقتنفسه، أو ان نتعامل مع الواقع الموضوعي بصفته حالة ذاتية صرفة كالذي يحصل في المنام.

وقد نتساءل حول الوضوح المطلق في القضايا الأساسية: من أين استمدها الذهن البشري، لماذا كانت واضحة دون غيرها من المعرفة؟ ولماذا كانت بهذا الشكل الميسّر لحياتنا العملية والفكرية؟

فلقد اعتبر عمانوئيل كانت بعضاً من تلك المعارف تمثل الشروط الأساسية لمعرفتنا بالواقع الموضوعي. لكنه لم يبذل جهداً في التفكير حول لماذا كانت بهذا الشكل دون غيره؟ ما الغرض من ذلك؟ وهل لذلك علاقة بالمبدأ الإنثروبي أو الإنساني (Anthropic Principle‏) كالذي طرحه الفيزيائيون خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟

وهناك قبليات أخرى تختص بالفهم الديني كالضرورات الحسية وما على شاكلتها، فهي تضاف إلى ما سبق من مبادئ مطلقة؛ كالسببية العامة وعدم التناقض ومنطق الترجيحات الإحتمالية وما إليها. فرغم ان الضرورات الحسية تعتبر من البعديات بالنسبة لإدراك الواقع الموضوعي، إلا أنها تمثل قبليات للفهم الديني، ولها دور مميز في هذا المجال، سواء على مستوى الإشارة أو الإيضاح والتفسير. فمثلاً كثيراً ما يتحول المجاز إلى نوع من الظهور لا التأويل بسبب بعض القبليات المعرفية القائمة على الضرورة الحسية. 

2 ـ قبليات عامة:

وهي قبليات تغلب على معرفة الناس، لكن دون ان يصل فيها الأمر الى حد الاطلاق التام. فاغلب الناس يتمسكون - مثلاً - بظاهر النص استناداً الى ما لديهم من المعرفة القبلية الخاصة بالدلالة الاستعمالية للفظ على المعنى، او ما يطلق عليه الفهم العرفي للنص، فحيث يكثر استخدام اللفظ على معنى محدد، فإن ذلك يشكل ركيزة ذهنية قبلية يلجأ اليها القارئ لحمل معنى النص على الظاهر المتبادر. 

3 ـ قبليات منظومية:

وتعد هذه القبليات عين ما يسلّم به القارئ والباحث بنظام ما او منهج ما من النظم والمناهج الفكرية، الأمر الذي يؤثر فيه على فهم النص وقراءته، سواء كان ذلك من حيث الإشارة، او من حيث الايضاح والتفسير. وهذه القبليات هي التي يكثر فيها النقاش والجدل بين الباحثين، او انها ليست موضع تسليم لدى جميع النظم الفكرية، لذلك فإن ما ينبني عليها من الإشارة والايضاح يخضع هو الآخر الى المماحكة الجدلية. وعلى هذا النوع من القبليات تتأسس آليات التأويل والإستبطان عادة. وقد يصادف - احياناً - ان الإشارة لدى القبلية المنظومية قائمة على الآلية الإستظهارية لكنها من حيث الايضاح تنحو الى التأويل والمباطنة، فيتشكل لدينا ما نطلق عليه الإستظهار الجدلي. حيث تكون القراءة من حيث الايضاح والتفسير بعيدة عن أجواء النص وسياقه، رغم أنها من حيث الإشارة تبدي المحافظة على الظهور اللفظي للنص. لذلك فإن هذه القبليات رغم أنها منضبطة الا أنه قد تتم ممارستها بنوع من الإسقاط التعسفي على الفهم لأدنى مناسبة، فيكون توظيفها غير منضبط؛ لتأثره بالنواحي الذاتية وعدم الالتفات الى المعطيات الموضوعية للنص.

يضاف الى ما سبق هناك صنفان آخران من القبليات؛ قد ينضمان ضمن القبليات السابقة، كما قد ينفصلان أحياناً. كذلك فانهما قد يتحدان وقد ينفصلان، وهما كما يلي: 

4 ـ قبليات محايثة:

وهي قبليات تحايث صدور النص وتزامنه، باعتبارها ترتبط بواقع التنزيل، فيُفهم النص على ضوء ما يفيده هذا الواقع، لا سيما عند الإحساس بعدم وجود اتساق في النسق الدلالي للنص ما لم يؤخذ هذا الواقع بعين الاعتبار. ومن ذلك ما ورد فيما أشكل على مروان بن الحكم في قوله تعالى: ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم))1، اذ قال لئن كان كل امرئ فرح بما أُوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذَّبن أجمعون، حتى بيّن له ابن عباس بأن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي (ص) عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك اليه. كذلك جاء في قوله تعالى: ((الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون))2، فقال البعض أينا لم يظلم؟ فأوضح النبي بأن الأمر خاص بالشرك، حيث ((ان الشرك لظلم عظيم))3. كما حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معدي كرب أنهما كانا يقولان بأن الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين))4، فعلق على ذلك البعض بأنهما لو علما سبب نزول هذه الآية لم يقولا ذلك، وهو ان ناساً قالوا لما حُرمت الخمر: كيف بمن قُتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت تلك الآية5. 

5 ـ قبليات مفترضة:

وهي قبليات يفترضها الذهن ضمن سياقات معينة. فمثلما أن هناك قبليات جاهزة وحاضرة في الذهن سلفاً، وهي قابلة للاسقاط، كالذي عليه القبليات المنظومية، فإن هناك قبليات أُخرى غير جاهزة، بل يقوم الذهن باحضارها واستعمالها عند الاحساس بأن النسق الدلالي للنص ليس متسقاً او تام الدلالة. فلكل نص نسق من الدلالات المترابطة، لكن قد تشكو هذه الدلالات من النقص او الاختلال في المعنى المتسق، وكل ذلك يهيء المجال للافتراضات الذهنية المناسبة، ولولا هذه الاخيرة فإن تلك الدلالات لا تكتمل، او انها تظل تشكو من اختلال المعنى عند قراءته قراءة بيانية او عقلائية، وبالتالي كان لا بد من إكمال النقص واصلاح اختلال النسق الدلالي طبقاً للافتراضات الذهنية. فهي قبليات ليست اسقاطية كالقبليات المنظومية، بل هي مفترضة للتعويض عما ينتاب نسق الدلالات من ذلك النقص والاختلال.

ومن الاختلالات ما هو ذاتي في النسق، ومنها ما قد يكون اختلالاً قياساًبـ(الآخر)، كالعقل والواقع مثلاً.

وللاختلالات الذاتية أشكال متعددة: فقد تعبّر عن التعارض في الدلالات الظاهرة، كالذي يبدو من موقف القرآن الكريم من أهل الكتاب والمشركين، او موقفه من مسألة القضاء والقدر، وكذا مسألة الصفات الالهية، ومثل ذلك مسألة الزمن المقدر لخلق السماوات والأرض، ففي بعض الآيات القرآنية يُقدر هذا الزمن بستة أيام، كما في قوله تعالى: ((إنّ ربّكم اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش))6، لكن جاء في سورة (فصلت) ما ظاهره أن الزمن المقدر لخلقهما ثمانية أيام، كما في قوله تعالى: ((قل أئنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربّ العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيّام سواء للسّائلين، ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، فقضاهنّ سبع سماوات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم))7، وعليه أخذ المفسرون وضع الافتراضات التفسيرية لإزالة مثل هذا التعارض الظاهر، ومن ذلك ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) بأن المقصود من الآية (في أربعة أيام) أي في تتمة أربعة أيام من حين ابتداء الخلق، فاليومان الأولان داخلان فيها، كما تقول خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً، أي في تتمة خمسة عشر يوماً8.

كما قد تعبر هذه الاختلالات عن الغموض وعدم الوضوح فيما يريد النص ابلاغه وايضاحه. وابرز الأمثلة على ذلك ما جاء في قصة هاروت وماروت؛ كالذي تبديه سورة البقرة في قوله تعالى: ((ولمّا جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لّما معهم نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به من أحد إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون))9. فدلالات النص القرآني - هنا - غير واضحة فيما تبديه من المعنى المتسق، لذلك كانت محل الكثير من الافتراضات القبلية لدى المفسرين، وهي مع ذلك تعاني الكثير من الاضطراب والنقص.

فقد قدّر محمد حسين الطباطبائي مجمل الاحتمالات الواردة في النص كما أوردها المفسرون بأكثر من مليون احتمال. وكما قال: >اختلف المفسرون في تفسير الآية إختلافاً عجيياً لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: إتبعوا، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله (ص) أو الجميع؟ واختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟ واختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الانس وقيل هما معاً، واختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، وقيل معناه في عهد ملك سليمان، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، وقيل معناه على عهد ملك سليمان، واختلفوا في قوله: ولكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، وقيل إنهم سحروا فعبّر عن السحر بالكفر، واختلفوا في قوله: يعلّمون الناس السحر، فقيل إنهم القوا السحر إليهم فتعلموه، وقيل إنهم دلّوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفوناً تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه، واختلفوا في قوله: وما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة والعطف على قوله: ما تتلوا، وقيل ما موصولة والعطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، وقيل ما نافية والواو إستئنافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، واختلفوا في معنى الانزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الارض وأعاليها، واختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح إن قرأناه على ما قرأ به المشهور، وإختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند، وقيل، من نصيبين إلى رأس العين، وإختلفوا في قوله: وما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، وقيل علم بمعنى اعلم، واختلفوا في قوله: فلا تكفر، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، وقيل لا تكفر بتعلمه، وقيل بهما معاً، واختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما، فقيل أي من هاروت وماروت، وقيل أي من السحر والكفر، وقيل بدلاً مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، واختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء وزوجه، فقيل أي يوجدون به حباً وبغضاً بينهما، وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما إختلاف الملة والنحلة، وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤول إلى الفرقة. فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجملة، وهناك إختلافات أُخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ وإذا ضربت بعض الارقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من الف الف ومائتين وستين الف احتمال<10.

وذكر الشيخ محمد جواد مغنية بهذا الصدد: “تكلم المفسرون هنا واطالوا، ولا مستند لاكثرهم سوى الاسرائيليات التي لا يقرها عقل ولا نقل، وسوّد الرازي حوالي عشرين صفحة في تفسير هذه الآية، فزادها غموضاً وتعقيداً، ونفس الشيء فعل صاحب مجمع البيان (الطبرسي)، أما السيد قطب فأخذ يشرح التنويم المغناطيسي والأحلام والتأثير والانفعالات بالايحاء وما اليه، وهذا هو الهروب بعينه. وبقيتُ أمداً غير قصير أبحث وأنقب في الكتب والتفاسير، فما شفى غليلي شيء منها، حتى تفسير الشيخ محمد عبده وتلميذيه المراغي وصاحب المنار (رشيد رضا)، وخير ما قرأته في هذا الباب ما جاء في كتاب (النواة في حقل الحياة) للسيد العبيدي مفتي الموصل، لأنه قد اعتمد على قول جماعة من علماء الآثار”. ومما ذكره هذا المفتي قوله: >ما زلت اجهل معنى الآية الكريمة، لا يشفي غليلي فيها مفسر، حتى وقفت على تاريخ جمعية البنائين، فتبينت معناها. وحيث اضطربت كلمة المفسرين، حتى عرضوا الآية للجمع بين النقيضين، وحتى دخلها شيء من الأساطير التي تنبو عنها مغازي الشريعة الغراء رأيت من واجب الخدمة لكتاب الله أن أثبت هنا كلمة في ذلك...<11. لكن حتى ما ذكره السيد العبيدي من رأي لا يخلو من افتراضات بعيدة لسنا بصدد بحثها.

اما اختلال النسق قياساً بالاخر، فمثل الدلالات النصية التي تشير الى وجود شياطين في السماء الدنيا تكون عرضة للقذف بالشهب لدحرهم، كالذي تبديه الآيات الخمس من أوائل سورة الصافات كالتالي: ((إنّا زيّنّا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب، وحفظًا من كلّ شيطان مارد، لا يسّمّعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كلّ جانب، دحوراً ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب))12، وهي دلالات لا تتسق مع الظاهر الحسي، كما تفيده النتائج العلمية الفلكية، الأمر الذي يتطلب بعض الافتراضات القبلية لإزالة مثل هذا التعارض وجعل النسق الدلالي متسقاً. ومن ذلك ما قام به العلامة الطباطبائي من ابداء بعض الافتراضات الذهنية وتأويل النص القرآني؛ بغية اضفاء الاتساق على النسق الدلالي وازالة التعارض الظاهر. فهو لم يقتنع بما ادلى به المفسرون القدماء من تصوير لمعنى تلك الآيات بحسب ما يبدو منها ظاهراً، وكذا ما ورد حولها من أخبار وأحاديث تؤكد بأن هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة، ولا يمكن دخول هذه الأفلاك الا عبر أبواب مهيئة للولوج، وأن في السماء الاولى جمعاً من الملائكة يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب. فهذه الفكرة المستمدة من الأحاديث لم يوافق عليها الطباطبائي طبقاً لما اتضح اليوم بطلانها وما تفرع عنها مما هو مذكور في كتب التفسير. لهذا احتملَ ان البيانات الواردة في الآيات السالفة الذكر تفيد (التمثيل)؛ لتصوير الحقائق المجردة بصورة محسوسة وبالتالي تقريبها للأذهان، فالله تعالى هو القائل: ((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون))، وذلك على شاكلة ما ورد في كلامه تعالى عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وما اليها. وبالتالي ذهب الى ان المراد من السماء التي تسكنها الملائكة ليست هذه المحسوسة، بل هي عالم ملكوتي ذي أُفق أعلى؛ نسبته الى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها الى الأرض، وان المراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب هو اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلق والحوادث المستقبلية ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت13.

وبذلك استعار الطباطبائي القبليات التي عوّل عليها الفلاسفة التقليديون من أمثال ابن سينا وأتباعه في نظرية التمثيل ليعالج بها الاختلال الآنف الذكر14، رغم تأكيده في مقدمة تفسيره على كونه يتبع منهج تفسير القرآن بالقرآن، لكنه اضطر الى مثل تلك الاستعارة والتأويل اذعاناً للاعتبارات المستمدة من الواقع وحقائقه الخاصة والتي تعارض النسق الدلالي للنص، كما اشرنا.

كذلك الأمر حول الآيات التي مرت علينا من سورة (فصلت)، اذ ورد أن الزمن الذي خلق الله فيه الأرض يفوق الزمن الذي خلق فيه السماوات السبع، كما ورد بأن خلق الأرض بما فيها من رواسي وأقوات سابق لخلق السماوات، وهو غير متسق مع ما يبدو من الواقع العلمي، مما يحتاج الى بعض الافتراضات التي تزيل مثل هذا التعارض وعدم الاتساق، او الذهاب الى التشكيك بالتقديرات العلمية التي تجعل من صيرورة الأرض وما فيها لا تقاس بشيء مقارنة بأُفق السماء.

وقد يميل البعض الى العمل في مثل هذه الحالات بأفق الانتظار، شبيهاً بما يحدث في الدراسات العلمية الطبيعية.

أما نسق الدلالات الذي يشكو من النقص والانقطاع، فهو الغالب في النص القرآني، من قبيل ما يبدو على الأنساق النصية من الإجمال تارة، ومن التفرقة والانفصال او الانقطاع في الدلالات تارة ثانية، وفي كلا الحالتين ليس من الممكن إكمال النسق وإتمام ترابطه بشكل متسق الا عبر الافتراضات الذهنية التي تعمل على تفصيل ما هو مجمل، او الجمع والتوفيق فيما هو مشتت ومنفصل. فمثلاً وردت قصة موسى في العديد من السور القرآنية، كما كثر ذكرها في سورة البقرة، ولكن بأشكال متقطعة، ومجملة، وبعضها يبدو عليه التقديم والتأخير، وكل ذلك يحتاج الى افتراضات وظيفتها الجمع والتوفيق للتعرف على تفاصيل القصة باتساق كما وردت في النص القرآني. كما ان إجمالية القصة خلّفت مساحات فارغة تحتاج الى أن يملأها المفسر عبر افتراضاته القبلية، من قبيل معرفته التاريخية والروائية.

وننبه الى ان مفهومنا عن المساحات الفارغة لا يطابق المفهوم المتداول في النقد الأدبي والدراسات السيميائية التي تفترض في النص نقصاً حقيقياً، وقد يكون غائباً عن ذهن المؤلف، وبالتالي كان للقارئ أن يملأ هذا الفراغ او الفجوة. فالمساحات الفارغة التي نتحدث عنها هي مساحات تتعلق بالنسق الدلالي بغض النظر عن النص ذاته. فنحن نسلّم بأن الله تعالى أراد هذا النص بالشكل الذي هو عليه لحكمة غائبة عنا، وهو أمر يختلف عن المقالات الأدبية في فراغات النص وفجواته. فالحال الوارد هنا اشبه بحال ما نجده في الواقع الموضوعي والكون المشهود من فجوات او مساحات فارغة، ويبقى اننا بين امرين اما اعتبار ان هذا الواقع ناقص فعلاً دون ان يكون له علاقة بحكمة الله وقصده، او ان هناك رؤية بشرية ما زالت قاصرة عن ان ترى هذه الحكمة في وجود مثل هذه الثغرات الكونية. وبلا شك ان لذوي الايمان الرهان على الامر الثاني دون الاول، خلافاً لذوي النزعات المادية الصرفة.

كما نشير - بهذا الصدد - الى نقطتين كالتالي:

الاولى: ينبغي أن نعرف بأن اتساق النسق الدلالي على نوعين: افتراضي وموضوعي، فأما الأول فيتصف بكونه محكوماً بالقبليات المفترضة كما بيناه سلفاً، في حين يتصف الاخر بكونه ظاهراً في النسق النصي بفعل العملية الاستقرائية، ولا علاقة له بالقبليات الآنفة الذكر، لذلك يمكن أن ينسب الى النص خلافاً للأول (الافتراضي).

الثانية: نعتقد بان البحث في الاتساق المضفى على النص المقدس ومجمل الموضوع الخارجي – المسلّم به – يمثل حاجة عقلية. وهذه الحاجة تبين بأن العقل لا يتقبل وجود مفارقة وتناقض في الموضوع المبحوث، وكل مفارقة يجدها ستعبّر لديه عن خطأ محتم، فإما ان يكون الخطأ راجعاً الى الموضوع، او الى اكتشاف العقل ذاته، وبالتالي كان لا بد من البحث عن الاتساق الذاتي وإبعاد المفارقة.

 

1آل عمران/188.

2الانعام/82.

3لقمان/13.

4المائدة/93.

5 الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص93ـ97.

6الأعراف/54.

7فصلت/9ـ12.

8الطبرسي: مجمعالبيان،مؤسسةالأعلمي،بيروت،عنمكتبةيعسوبالدينالالكترونيةwww.yasoob.com،ج9،ص9.

9البقرة/101ـ102.

10 محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، ج1، ص233ـ234.

11محمدجوادمغنية: التفسيرالكاشف،دارالعلمللملايين،بيروت،الطبعةالرابعة،1990م،ج1،ص161.

12الصافات/6ـ10.

13 الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص124ـ125.

14انظرحولنظريةالتمثيلللفلاسفةالتقليديين ما جاء خلال (النظام الوجودي وفهم الاسلام) ضمن سلسلة هذا الكتاب. كذلكالفصلالثامنمن: الفلسفةوالعرفانوالاشكالياتالدينية.

comments powered by Disqus