-
ع
+

حاجة الفهم الديني لعلم الطريقة

يحيى محمد

يعتبر علم الطريقة منطقاً تحتاجه العلوم البشرية كافة، وبالتالي جاز تطبيقه على الفهم الديني وغيره من الدراسات. ومن الطبيعي أن يكون متأخراً زماناً عن العلوم المستندة إليه، رغم أنه يقتضي - من الناحية المنطقية - تقدّمه عليها. فتاريخ أي علم يبدأ بغير ما يراد له البدء به فيما بعد، أي يبدأ خارج حدود المقتضيات المنطقية. وإذا كان (البحث البراني) يمكنه أن يحدد لنا البداية التاريخية، فإن (البحث الجواني) كفيل بتحديد البداية المنطقية. ففي العلوم الطبيعية والرياضية، لم يعرف علم الطريقة إلا متأخراً، وقيل أن (عمانوئيل كانت) هو أول من أشار إلى وجود علم لا هو من العلوم الطبيعية ولا من العلوم الرياضية، وهو الذي عُرف فيما بعد بعلم المناهج.

فالعلوم البشرية لا تكتمل ما لم تُستحكم وينضبط التفكير فيها وفقاً للعلم المنهجي. لهذا أدرك القدماء ما لهذا العلم من ضرورة في العديد من نواحي المعرفة. وعادة ما يُلتفت إليه بعد الأثر الذي تحدثه فوضى النتاج المعرفي واضطرابه، كالذي تؤكده العلوم الآتية التي سنختصر الحديث عنها.

فمن الناحية التاريخية يبدو أن أول العلوم التي يشملها العلم المنهجي هو المنطق كما وضعه أرسطو مستهدفاً به إحكام التفكير الفلسفي بعد أن عَلتْه فوضى التراكمات التي خلّفتها المذاهب الفلسفية آنذاك. ويعد المنطق منهجاً للنظر والتفكير المناط بالمعرفة البشرية عامة.

ومن العلوم المنهجية الأخرى ما شهدته الحضارة الإسلامية، كعلم الأصول للفقه، والنحو للغة، والعروض للشعر، وغيرها. فقد وضع الشافعي أصول الفقه ليحكم به اسلوب إستنباط الأحكام الشرعية حسب القواعد المعتبرة. وقيل أن علة إقدام الشافعي للتكلم في أصول الفقه دون من سبقه من الفقهاء، هو لأن الفقهاء كانوا منشغلين بالأحاديث التي ترد كل واحد منهم في بلاده، فإذا تعارضت عليه أدلة هذه الأحاديث حكم عليها بحسب ما لديه من فراسة. أما في عصر الشافعي فقد تفاقم الأمر حين اجتمعت أحاديث البلدان جميعاً، فكان التعارض مضاعفاً، تارة بين أحاديث البلاد الواحدة، وأخرى بين أحاديث البلدان المختلفة، فأوقع ذلك حيرة لدى العلماء لكثرة التعارض والإختلاف، فانبرى الشافعي ليضع حداً للتعارض عبر رسالته في أصول الفقه، فوضع قواعد الجمع والترجيح بين الادلة المتعارضة[1]. كما ذكر إبن خلدون بأن السلف لم يكونوا بحاجة إلى النظر في الأسانيد لقرب عصرهم وممارسة النقلة وخبرتهم بهم، لكن «لما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها إلى صناعة؛ احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه»[2].

ويصدق الحال على النحو بالنسبة للغة، إذ ذكرت روايات عديدة تؤكد بأن وضع النحو كان بسبب الفساد الذي حلّ في اللغة بين الناس. وجميع الروايات تشير إلى أن واضع هذا العلم هو أبو الأسود الدؤلي، منها أنه جاء الدؤلي إلى زياد بن أبيه فقال: أرى العرب قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاماً يقيمون به كلامهم؟ قال زياد: لا، فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنون، فقال زياد: ادعُ لي أبا الأسود، فدعي فقال: ضع للناس الذي نهيتك عنه. وفي رواية أخرى عن المازني أنه قال بأن السبب الذي وضعت له أبواب النحو أن بنت أبي الأسود قالت له: ما أشدُّ الحر؟ فقال: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته، فقال: أو قد لحن الناس، فأخبر بذلك علياً (ع) فأعطاه أصولاً بنى منها وعمل بعده عليها[3].

وفي جميع الأحوال تتقدم العلوم تاريخياً على المناهج الموضوعة لإحكامها، وأن صناعة هذه المناهج تأتي بعد أن تمر العلوم بظاهرة الفوضى والفساد. فالأخيرة هي التي تلفت نظر العلماء للبحث عن المناهج الكفيلة بإحكام التفكير في العلوم؛ تجنباً لتراكمات هذه الظاهرة.

ويصدق هذا الحال من وجه على تاريخ الفلسفة التي يشكل بحث «المعرفة» فيها منطقاً لضبط وإحكام البحثين الآخرين المتمثلين بالوجود والقيم. فقد نشأت الفلسفة كبحث في «الوجود»، ومن ثم ظهر البحث في «المعرفة»، مع أن النظر المنطقي يفترض أن يكون هذا المجال متقدماً على الأول وعلى بحث القيم المفترض تأخره عن البحثين الآخرين معاً. فالنسق العلمي إن كان ذا طبيعة قيمية فلا بد من أن يسبقه نسق يناسبه على صعيد الوجود، وهذا الأخير ينبغي أن يسبقه نسق ثالث على صعيد المعرفة. مما يعني أن إشكالية المعرفة يجب أن تتقدم منطقياً على إشكالية الوجود، وأن هذه الأخيرة ينبغي بدورها التقدم على إشكالية القيم.

***

لكن على الرغم مما سبق فإن قنوات المعرفة المتعلقة بفهم الخطاب، والتي يتأسس عليها الفكر الإسلامي بعمومه، مازالت إلى الآن لم تتشكل وتترعرع بوصفها أجهزة «طرقية» لها فروعها وعلومها المختلفة، بل نشأت وترعرعت بعنوان علوم ومذاهب، إبتداءاً من مرحلة التدوين والتنظير خلال القرون الأولى للهجرة وحتى عصرنا الحاضر. بمعنى أن هذه الظاهرة أخذت تلازم تاريخ الفكر الإسلامي إلى يومنا الحالي، إذ ما زال هذا الفكر هيكلاً مفصلياً مجزّءاً لم يتسنَّ له القيام بتأسيس علم الطريقة كمنطق أساس لفهم القنوات الكلية للمعرفة التي تستهدف فهم النص أو الخطاب، رغم تراكم المشاكل الخاصة بفوضى النتاج المعرفي وفساده.

نعم، لا ننكر وجود تقسيمات وتصانيف أُجريت على العلوم منذ بداية مرحلة التدوين. ومع أن علم الطريقة لا يمكنه الاستغناء عن التصنيف، إلا أن ما حدث لا علاقة له فيما نحن بصدد بحثه. فهي مجرد تصانيف تخلو من توضيح الظاهرة النظامية أو النسق الأكسيومي (axiomatic system) لعلاقة الأداة أو الآلية بالإنتاج المعرفي. ويتضمن مفهوم هذا النسق بعض الإفتراضات النظرية التي تتأسسس عليها جملة من النتائج المشتقة أو المستنبطة، وهو منهج مطبق في كل من الرياضيات والفيزياء. كما أنه موظّف لدى النظريات المعرفية أو الفلسفية. وأبرز الأمثلة عليه ما يتعلق بالبديهات الاقليدية ومشتقاتها الهندسية المعروفة.

كذلك فإن أغلب التقسيمات والتصانيف المشار إليها تتصف بالعموم ولا تترصد أخذ إعتبار استراتيجية فهم النص أو الخطاب، بل همّها حمل العلوم على منحاها العام. فأقدم ما وصلنا منها ما يعود لعالم الكيمياء الباطني جابر بن حيان الكوفي (المتوفى حوالي سنة 199هـ)، والذي يقيم تصنيفه تبعاً لإعتبارات النزعة اللاهوتية، إذ يرى العلوم منقسمة إلى ضربين، فهي إما علم دين أو علم دنيا. ثم أنه يقسّم علم الدين إلى ما هو شرعي وما هو عقلي، والشرعي عبارة عن ظاهر وباطن، أما العقلي فهو قسمان، علم حروف وعلم معان، وعلم الحروف ينقسم إلى طبيعي وروحاني، والروحاني ينقسم إلى نوراني وظلماني، أما الطبيعي فينقسم عنده إلى أربعة أقسام هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وأما علم المعاني فهو عبارة عن فلسفي وإلهي. وكل ذلك يعود إلى علم الدين، أما علم الدنيا فينقسم عنده إلى شريف ووضيع[4].

وقد استمر مثل هذا التقسيم الثنائي، فتارة تقسم العلوم إلى علوم الأوائل وعلوم المسلمين، وأخرى إلى علوم نقلية وعقلية. والتقسيم الأخير هو الذي ساد على غيره، كتقسيم إبن خلدون الذي ضم في مقدمته علم التصوف إلى العلم النقلي. وكذا فعل الغزالي قبله، إذ قسّم العلم إلى شرعي وعقلي وعدّ أحدهما يداخل الآخر، كما في رسالته (اللدنية)[5]، وفي (المستصفى) اعتبر العلوم منقسمة إلى دينية وعقلية ـ غير دينية ـ[6]، كما قام بتقسيم آخر في نفس هذا الكتاب، فاعتبرها ثلاثة أصناف، عقلية محضة كالحساب والهندسة والنجوم، ونقلية محضة كالأحاديث والتفاسير وما إليها، ومزدوجة كالفقه وأصوله[7].

وهناك تصانيف أخرى كما في التقسيم الذي وضعه الفقيه إبن عبد البر النمري (المتوفى سنة 463هـ) والذي جاء على غرار تقسيم أهل الفلسفة، فهو يرى أن «العلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصاً، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة، والعلم الأسفل هو أحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والزي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها. وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك ...»[8].

كذلك قسّم اخوان الصفا العلوم إلى رياضية وشرعية وفلسفية، والشرعية منها ستة علوم: علم التنزيل، وعلم التأويل، وعلم الروايات والأخبار، وعلم الفقه والسنن والأحكام، وعلم التذكير والموعظة والزهد والتصوف، وأخيراً علم المنامات[9].

وأيضاً فهناك تصنيف سباعي يعود إلى إبن حزم الاندلسي (المتوفى سنة 456هـ)، فهو يرى أن «العلوم تنقسم أقساماً سبعة عند كل أمة وفي كل زمان وفي كل مكان، وهي: علم شريعة كل أمة، فلا بدّ لكل أمة من معتقد ما، إما إثبات وإما إبطال، وعلم أخبارها وعلم لغتها، فالأمم تتميز في هذه العلوم الثلاثة، والعلوم الأربعة الباقية تتفق فيها الأمم كلها، وهي علم النجوم، وعلم العدد والطب، وهو معاناة الأجسام، وعلم الفلسفة، وهي معرفة الأشياء على ما هي عليه من حدودها من أعلى الأجناس إلى الأشخاص، ومعرفة إلهية.. وعلم شريعة الإسلام ينقسم أقساماً أربعة: علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الفقه، وعلم الكلام. فعلم القرآن: ينقسم إلى معرفة قراءته ومعانيه. وعلم الحديث: ينقسم إلى معرفة متونه ومعرفة رواته. وعلم الفقه: ينقسم إلى أحكام القرآن، وأحكام الحديث، وما أجمع المسلمون عليه وما اختلفوا فيه، ومعرفة وجوه الدلالة وما صحّ منها وما لا يصح. وعلم الكلام: ينقسم إلى معرفة مقالاتهم ومعرفة حجاجهم وما يصح منها بالبرهان وما لا يصح. وعلم النحو: ينقسم إلى مسموعه القديم وعلله المحدثة. وعلم اللغة: مسموع كله فقط. وعلم الأخبار ينقسم على مراتب...» [10].

لكن مهما قيل عن تلك التقسيمات، إن كانت متعسفة أو دقيقة، فإنها لا توضح لنا العلاقة الرابطة بين الطريقة المعرفية ومنتجاتها الخاصة، كما لا توضح لنا العلاقة بينها وبين فهم النص الديني. فهي تتجاوز من حيث العموم هذا المضمار، وبعضها يقوم بتشتيت ما ينبغي لمّه طبقاً لاستراتيجية فهم النص أو الخطاب. ففي هذه الحالة يتحدد منطق التقسيم طبقاً لروح العملية المعرفية وطبيعة استدلالاتها، بغض النظر عن موضوع العلم الذي تعالجه، كإن يكون فقهاً أو كلاماً أو تفسيراً أو غير ذلك. يضاف إلى أن منها ما ينطوي على إدغام بعض الأقسام وأحياناً على التقييد والحذف، كالعلم العقلي، إذ تارة يؤخذ كدلالة على علم الكلام وما إليه، وأخرى على علم الفلسفة، وشتّان بين العلمين، فأحدهما من عالم مغاير للعالم الذي ينتمي إليه الآخر رغم ما حصل بينهما من تبادل أثر وتأثير على أرض الواقع.

لقد تناول المؤرخون متى وكيف بدأ تكوين العلوم والمعارف الاسلامية، كالفقه والكلام والتفسير والحديث والفلسفة والتصوف (العرفان) وغيرها، وذلك فيما أطلق عليه عصر التدوين الموسوم بالعصر الذهبي سيما خلال عصر الرشيد والمأمون. فلقد كان لنشأة علم الحديث علاقة بالحفاظ عليه من الدس والاندراس في عهد الحفظ والمشافهة. وكان لنشأة علم الفقه علاقة بتجدد الحوادث وعدم تغطية نص الخطاب لكافة أبعاد الواقع. كما كان لنشأة علم الكلام علاقة ببعض الأحداث السياسية في العصر الأموي، ثم ما لبث أن اشتد هذا العلم وتطور نتيجة مقاومته للنزعات الباطنية الدخيلة من أمثال المانوية والهرمسية والمزدكية والزرادشتية وغيرها. فبفضل الصراعين الخارجي والداخلي أصبح علم الكلام علماً يدافع عن الخطاب الديني وينازع عليه بالفهم، وذلك بتأسيسه له من الخارج والداخل. إذ بمعونة الصراع الخارجي استطاع أن يثبّت بنيان التأسيس الخارجي او القبلي للخطاب، كما أنه بمعونة الصراع الداخلي تمكن من تثبيته من الداخل، وهو الذي نعبّر عنه بفهم الخطاب.

لذلك فهناك ثلاثة انماط من التأسيس العقلي في علم الكلام، احدها عبارة عن التأسيس القبلي للنظر، حيث يعبر عن التشريع الخاص بالعقل الكلامي بغض النظر عن علاقته بغيره. وثانيها عبارة عن التأسيس الخارجي للخطاب، والذي تتحقق به إثبات المسألة الدينية والحجة الشرعية والاعتراف بصدق مدلولها. أما ثالثها فهو التأسيس الداخلي للخطاب والذي يتم فيه التحقق من طبيعة مضمون النص إن كان على توافق مع الرؤية القبلية للعقل فيقر عليه، او انه لا يتفق ظاهره معها فلا يقر عليه؛ بل يوجّه بما يتفق معها. وأفضى هذا الحال بالعقل الكلامي الى ان يرى في الخطاب صفات محددة، كالمجاز والاحتمال والتشابه، هي على الضد من صفات العقل المتمثلة بالحقيقة والقطع والإحكام. وهو ما يبرر ممارسة التأويل لصالح الرؤية القبلية،  بل وحتى المذهبية. لكن رغم ذلك فقد بقي علم الكلام لا يتعدى حدود التعبير عن المذاهب المتنازعة والنحل المتصارعة، دون أن يحفظ لذاته أصولاً ثابتة يتفق عليها الجميع إلا ما ندر.

وكان لحضور الفلسفة والعرفان والغنوص إرتباط بما اطلق عليه العلوم الدخيلة؛ القادمة من بلاد اليونان وفارس والهند. ويُعتقد أن حضور هذه العلوم كان لدوافع آيديولوجية نتيجة الصراع الدائر بين الدولة والمعارضة إبان الخلافة العباسية، حيث لجأت المعارضة إلى تبني النزعة الباطنية كما هو الحال مع الكيسانية والإسماعيلية، في حين عمدت الدولة إلى تبني النزعة العقلية المتمثلة بأرسطو عبر ترجمة كتبه المختلفة، كما في عهد المأمون. مع أن عملية الترجمة قد بدأت بفعل الدولة الأموية بما يخدم نزعة الباطن للمعارضة، إذ المعتقد بأن أول من باشر الإيعاز بهذه العملية هو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (المتوفى سنة 85هـ) كالذي ينقله إبن النديم في (الفهرست)، وأن من ضمن ما تمّ ترجمته هو ذلك التراث الخاص بالكيمياء والذي كان من العلوم التي استخدمته الباطنية كأداة لتبرير النزعة الغنوصية، كما عند جابر بن حيان الكوفي. وقد ذكر إبن النديم: >ويقال - والله أعلم - أنه صحّ له عمل الصناعة وله في ذلك عدة كتب ورسائل وله شعر كثير في هذا المعنى رأيت منه نحو خمسمائة ورقة ورأيت من كتبه كتاب الحرارات كتاب الصحيفة الكبير كتاب الصحيفة الصغير كتاب وصيته إلى إبنه في الصنعة<[11].

ورغم أن إبن خلدون قد شكك في علاقة خالد بن يزيد الأموي بالكيمياء لإعتبارات عرقية بيئية، وهي >أن خالداً من الجيل العربي والبداوة إليه أقرب، فهو بعيد عن العلوم والصنائع، فكيف له بصناعة غربية المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم<[12]. لكن الإشكال هو أنه إذا كان مبرر التشكيك متعلقاً بممارسة خالد بن يزيد لصنعة الكيمياء للإعتبارات العرقية البيئية التي ذكرها، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون لهذا الخليفة دور الإيعاز لترجمة الكتب المتعلقة بها، إذ تُظهِر هذه الصنعة أموراً عجيبة وغريبة، بل ومغرية، وكل ذلك مما تتشوق إليه النفوس عند سماع أخبارها، سواء كانت عربية بدوية أو غيرها، فكيف إذا ما كانت هذه النفوس ذات ملك وسلطان[13]؟ لهذا فمبرر التشكيك الذي ذكره إبن خلدون لا يعد كافياً.

هكذا يظهر أن هذه العلوم وغيرها من المعارف الأخرى لم تنشأ وتترعرع كفروع متحدة بآصرة المنهج او من خلال علم الطريقة للفهم والتفكير. فأغلبها كان مشغولاً بالصراع والتنافس، إما لغرض السيادة عبر التوليد المعرفي الناتج عن التأسيس القبلي للنظر، او لغرض احتواء الخطاب الديني واحتكاره عبر ممارسة الفهم القائم على ذلك التأسيس. فبالرغم من هذه العلاقة المزدوجة التي تربط العلوم والمذاهب ببعضها من جهة، وبالخطاب من جهة أخرى، فأنه لم يظهر وسط هذه المماحكات أثر للتفكير المنهجي المتعلق بفهم الخطاب الديني كعلم مستقل عام يتجاوز مرحلة التنافس والسجال، أو مدخل معرفي غرضه البحث والتفتيش عن أنسب القنوات الممكنة لفهم الخطاب وما يترتب عليه من انتاج معرفي.

فقد كانت العلوم والمذاهب ترى نفسها مكتفية من حيث ذاتها، صحيحة في أسسها ومبانيها، كاملة في معرفتها، لا تحتاج الى ما يغني فقرها ويسدد عوزها، سيما أنها لم تعانِ من صدمات ذاتية تلفت نظرها الى واقعها الخاص فتلجأ الى إعادة النظر وتقويم حالها عبر النقد الذاتي.. فلم يحدث هذا باستثناء بعض الومضات الخاطفة، أبرزها ومضة الفخر الرازي في نقده الذاتي واحساسه بمشكل الجهل المعرفي، وهو احساس لم يتعدّ الاعتراف بعجز الانسان عن أن يرجح دليلاً على آخر معارض، وقضية في قبال أخرى، كما في بعض القضايا الميتافيزيقية، وهو ما يذكرنا بما قدّمه (عمانوئيل كانت) من نقد للأدلة الميتافيزيقية استناداً الى تساوي القيمة المعرفية للأدلة المتعارضة، واستحالة ترجيح بعضها على البعض الآخر. لكن عوضاً عن أن تكون صدمة الفخر الرازي مرشداً لإبعاث الفكر الاسلامي باتجاه علم المنهج والطريقة، فإنها على العكس آلت الى افراغ علم الكلام من موضوعه بجعله قائماً على غير أساس من الدليل، وظلت المعضلة المعرفية معلقة تعرب عن إفلاس العلم الكلامي وتناقضه.

مهما يكن فإن فقدان الاحساس بوجود صدمة كبيرة كهذه، سواء فيما يتعلق بالواقع أو النص أو العقل، كل ذلك كان سبباً لغياب الالتفات الى البحث المعرفي حول علم الطريقة للفهم الديني، سيما وأن هناك بعض العوامل التي أثرت على هذا النحو من الغياب، ومنها مقالة «الفرقة الناجية» التي تبنتها أغلب الاتجاهات الفكرية لدى تراثنا المعرفي.

لقد بقيت المذاهب الأساسية منغلقة على نفسها، للتصور بأن كلاً منها يحمل الحقيقة والوضوح، فأفضى بها الأمر للانشغال بالنزاع والصراع دون إهتمام بممارسة النقد الذاتي، مما ساهم في عجزها عن الانفتاح ودراسة قضاياها طبقاً لأدوات المعرفة وأواصرها، فهي لم تتجشم عناء البحث عن الأسس والمبررات المعرفية التي تتداخل بين المذاهب والعلوم طبقاً لطرق التفكير العامة وما يترتب عنها من نتائج مفصلية منتزعة بطريقة التوليد الهندسي النظامي او الأكسيومي، والذي يتضمن وجود بعض الافتراضات التي تتأسس عليها جملة من النتائج المستنبطة.

فحتى أولئك الذين كانوا على قرب من طبيعة هذا البحث الابستمولوجي، لم يتهيأ لهم تأسيس دراساتهم بطريقة تُعنى أساساً بالبحث الهندسي (الاكسيومي) في رد الفروع والأجزاء الى أصولها وكلياتها، كما هو الحال مع الغزالي وابن رشد.

فقد صنف الغزالي الاتجاهات التي ادعت أنها على الحق تصنيفاً رباعياً، وهي بالتحديد كل من مذهب الفلاسفة والمتصوفة والباطنية وأهل الكلام. ولو درسنا هذا التصنيف دراسة «طريقية» لوجدنا أن فيه اغفالاً لبعض الاتجاهات والعلوم. فهو تقسيم لم يأخذ بعين الاعتبار إلا تلك المذاهب التي تتنازع حول العقائد، وهو حتى في هذا النحو من الاعتبار يخلو من بعض الاتجاهات العقائدية، كمذهب السلف والحشوية. يضاف الى أن أساس التصنيف مدفوع بالهاجس اللاهوتي، فهو يعبّر عن حاجة ذاتية طرأت على نفس الغزالي. وبالتحديد فإن ما مرّ به من شك نفسي عارم دفعه لتحديد الاتجاهات بالحصر الآنف الذكر حول طلب الحق وأنه لا مطمع فيه بغيرها[14]. وهو دافع لاهوتي عبّر عنه الغزالي بعبارة (المنقذ من الضلال) كوسام لكتابه الذي ضمّنه البحث عن نجاة تنقذه وسط الاتجاهات التي حصرها في تصنيفه الرباعي، دون أن يهمه البحث المنهجي الابستمولوجي.

لذلك فالغزالي لم يدرس تلك الاتجاهات التي صنفها دراسة هندسية (اكسيمية) قائمة على رد الفروع للأصل واعتبار الجزء متضمناً في «الكل المعرفي» والبحث عن الآصرة التي تربط هذا الكل بأجزائه، بل إن قراءته لا تخلو من الجدل والتحيّز والتهميش. فمثلاً كان يمكن اختزال الكثير من السجالات والمطارحات التي ملأ بها الغزالي كتابه (تهافت الفلاسفة)، فيما لو بحث الاشكالية الفلسفية طبقاً للبحث الهندسي (الاكسيمي)، اذ يمكن ردّ المقالات المعرفية بعضها للبعض الآخر بحسب ما تحمله من روابط معرفية خاصة.

أما ابن رشد فقد خطى خطوة رائدة باتجاه البحث المنهجي الابستمولوجي كما في كتابه (مناهج الأدلة في عقائد الملة). ففي العنوان من الدلالة على ذلك البحث ما يكفي، لكنه مع هذا لا يخلو من الاعتبارات اللاهوتية والايديولوجية. فقد قام ابن رشد في هذا الكتاب بفحص «الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها»، متحرياً «في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة». أما الباطن أو المؤول فقد نبّه على أنه من خاصة العلماء، وقصد بهم الفلاسفة بالذات، اذ أشار في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال) الى تبيان «مطابقة الحكمة للشرع، وأمر الشريعة بها»، وقال: «ان الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وأن الظاهر منها هو فرض الجمهور، وأن المؤول هو فرض العلماء، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور..» [15].

وقد كان غرض ابن رشد من تناول مشكلة الظاهر من الشرع هو رد «الضربة اللاهوتية» عن الفلاسفة، سيما ضربة الأشاعرة متمثلة بالغزالي كما في كتابه (تهافت الفلاسفة). لذا قسّم الطوائف المدعية بأنها على الشريعة «وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع»، مبيناً تأويلاتها التي فرضتها على الجمهور بما يخل ومقاصد الشارع من حمل هذا الجمهور على الظاهر.

يضاف الى أن ابن رشد لم يتقصَّ كل الطوائف المعرفية، بل تناول المشهورة منها في زمانه، وهي: الأشاعرة والمعتزلة والباطنية والحشوية. فهذا التقسيم يكفي لتحقيق غرضه الايديولوجي من البحث، خصوصاً فيما يتعلق بنقد الأشاعرة، بل أن كتابه (مناهج الأدلة) كان قد وُضع أساساً لهذا الغرض بالذات. فالكتاب ممتلئ بمطارح الأشاعرة والرد عليها دون غيرها من الطوائف الأخرى. وقد اقتصر هذا الكتاب على طرح القضايا الالهية دون غيرها، فهو مشتمل على خمسة فصول أساسية، هي: (البرهنة على وجود الله، والقول في الوحدانية، وفي الصفات، وفي معرفة التنزيه، وفي معرفة أفعال الله).

ومع أن مطارح ابن رشد للأشاعرة وغيرها لم تأخذ بعين الاعتبار تلك العلاقات التي تربط جزئيات المذهب ببعضها بحسب الطريقة الهندسية للنسق الأكسيومي، إلا أن ما قدّمه من نقد للأدلة المنطقية التي مارسها الكلاميون لإثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كقضية وجود الله وتوحيده، كان ضرورياً للغاية وفقاً للبحث المنهجي الابستمولوجي. فهي خطوة هامة على صعيد علم الطريقة، وإن كانت غير كافية في حد ذاتها، ذلك لأن من الصعب على الدراسات الانسانية وعلى رأسها تلك التي تتمتع بشيء من الحساسية، كالدراسات الدينية، أن تتجرد عن الميول الذاتية والايديولوجية لدى تأسيسها للدليل المنطقي لإثبات قضاياها الخاصة. فغالباً ما يكون الدليل منحازاً وموجهاً بفعل مسلمات أولية تعمل على توجيهه بالطريقة التي يخدم فيها تجاهها العام، فيصبح «الدليل المنطقي» كالعملة النقدية يمكن اظهار أي وجه منها كما نشاء. وينطبق هذا الحال على الاتجاه الفلسفي الذي ينتمي اليه ابن رشد. وهو يختلف كثيراً عما يجري مع العلوم الطبيعة التي تستعين بآلية الجدل بين الفرض والاستقراء.

هكذا فقراءة الغزالي وابن رشد للمذاهب الاسلامية ظلتا سجينة التفكير اللاهوتي والايديولوجي، وان التقسيم الذي اتبعته هاتان القراءتان لم يكن «طريقياً» بالمعنى الابستمولوجي.

 

 



[1] الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف، ص83ـ84.[2] مقدمة إبن خلدون، ص455.[3]  كما رويت أخبار أخرى تفيد ذات السبب، مثل ما جاء عن أبي الأسود أنه قال: دخلت على علي فرأيته مطوقاً فقلت: فيم تتفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: سمعت ببلدكم لحناً فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية. فقلت: إنْ فعلت هذا أحييتنا. فأتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها الكلام كله: إسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم قال لي: زده وتتبعه. فجمعت أشياء ثم عرضتها عليه. وفي رواية أخرى أنه قدم أعرابي في زمان عمر فقال: من يقرئني مما أنزل الله على محمد؟ فأقرأه رجل سورة براءة فقال: (أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ) بالجر. فقال الأعرابي: أو قد برىء الله من رسوله؟! إنْ يكن الله قد برىء من رسوله فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله؟... ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: ((أن الله بريء من المشركين ورسولُه)). فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب إلا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو (انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4، مادة: أبو الأسود الدؤلي. والسيوطي: سبب وضع علم العربية، دار الهجرة، دمشق، الطبعة الأولى، 1988م، عن الموسوعة الشاملة الإلكترونية http://islamport.com ، ج1، ص30 وما بعدها).[4] مختار رسائل جابر بن حيان، عني بتصحيحها ونشرها: پ. كراوس، مكتبة الخانجي، 1354هـ، كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، ص100.[5] الرسالة اللدنية، ضمن رسائل القصور العوالي للغزالي، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، الطبعة الثانية، 1390هـ ـ 1970م، ج1، ص106 وما بعدها.[6] الغزالي: المستصفى من علم الأصول، المطبعة الأميرية بمصر، الطبعة الأولى، 1322هـ، ج1، ص5.[7] المصدر السابق، ص3.[8] إبن عبد البر النمري: جامع بيان العلم، شبكة المشكاة الإلكترونية: www.almeshkat.net ، باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المنتحلات (لم تذكر أرقام صفحاته). كذلك: مقدمة احسان عباس على رسائل إبن حزم الاندلسي، ج4، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، ص11.[9] رسائل اخوان الصفا، طبعة المانيا، 1984م ـ1986م، ص246.[10] رسالة مراتب العلوم من رسائل إبن حزم الأندلسي، تحقيق احسان عباس، ج4، ص70ـ78.[11] إبن النديم: الفهرست، المقالة العاشرة.[12] انظر الفصل الثالث والعشرون من: مقدمة إبن خلدون.[13] نقل إبن النديم حكاية مفادها بأن خالد بن يزيد بن معاوية كان يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلاً في نفسه وله همة ومحبة للعلوم، وخطر بباله الصنعة فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصّح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة (الفهرست، المقالة السابعة).[14]ذكر الغزالي بأنه أخذ ينظر في تلك الأصناف الأربعة من الاتجاهات، بعد أن شفاه الله من مرض الشك المطلق (المنقذ من الضلال، حققه وقدم له جميل صليبا وكامل عياد، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الخامسة، 1956م، ص64).

[15] ابن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تقديم وتحقيق محمود قاسم، الطبعة الثالثة، مكتبة الانجلو المصرية، ص133ـ134.

comments powered by Disqus