-
ع
+

هل العلم وضعي أم براجماتي؟

يحيى محمد

يخضع العلم الطبيعي تحت نزعتين مختلفتين للتفسير، احداهما براجماتية والاخرى وضعية. اذ تؤكد الاولى بأن النظريات العلمية تتحدث عن امور لا علاقة لها بالواقع الفعلي، أو أنها ليست بصدد تقرير حقائق الواقع فيما يخص الظواهر غير المباشرة. واعتماداً على هذه النزعة فإنه لا يوجد دليل يمكن تبريره للكشف عن الاشياء غير المشاهدة، كالدليل على وجود قطة خلف هذا الجدار مثلاً. واقوى تطبيق لهذه النظرية ما يتعلق بالجسيمات غير المرئية كالإلكترونات وما اليها. فالرصد يكون في مثل هذه الحالات رصداً غير مباشر، مثل رؤية نقطة سوداء على لوح فوتوغرافي، أو سماع قعقعة صوتية لعداد جيجر، أو مشاهدة اثار الجسيم في غرف الفقاقيع لدى المسرعات أو المصادمات؛ فمن خلال معرفة ثخن المسار وانحنائه يتم التعرف على طبيعة الجسيم الذي يكوّن هذا المسار، وهي اشبه بالطريقة التي تخلّف فيها طائرة نفاثة ذيلاً في السماء. ويطلق على المذهب الذي يتبنى هذه النظرية بالـ (Reductionism) ويسمي تلك الاشياء غير المرئية بالتركيبات المنطقية أو الكيانات النظرية (theoretical entities)، فليس ثمة دليل على وجودها، وانما هي اختراعات ذهنية فحسب. ومن امثلة من يتبنى هذه الرؤية برتراند رسل في كتابه (مقدمة إلى فلسفة الرياضيات) ووليم نيل في كتابه (الاحتمال والإستقراء).

ويخالف هذه النزعة من يرى ان العلم يتحدث عن اشياء واقعية حقيقية وان لم تثبتها التجربة والمشاهدة. فلو سئل الطرفان عما إذا كانت الجسيمات المجهرية بحسب الوصف العلمي موجودة أم لا؛ لكانت اجابتهما مختلفة، فبحسب النظرة البراجماتية ان هناك حوادث تخضع للملاحظة في غرف الاختبار، وهي يمكن وصفها بدوال رياضية معينة ضمن نظام نظري محدد، وكل ذلك لا علاقة له بحقيقة هذه الجسيمات ان كانت موجودة بالفعل كما هو الوصف العلمي أم لا؟ ويمكن التعبير عن هذا الاتجاه بما سبق اليه الفيلسوف الهولندي اسبينوزا خلال القرن السابع عشر، وهو قوله: ‹‹العلم صادق لأنه ناجح، وليس ناجحاً لأنه صادق››.

في حين ان النظرة الوضعية تخالف تلك الاجابة وترى ان العلم يتحدث عن كيانات موجودة بوسعه اثباتها عندما تحين الادوات المناسبة، مثلما اثبت اشياء عديدة كانت تعز على الرؤية والمشاهدة، كالخلية والفيروس والجزيء والذرة وما إلى ذلك، لدرجة ان ارنست ماخ كان يعارض التفكير في الجزيء أو الذرة بوصفه شيئاً موجوداً، واعلن ذات مرة أنه ‹‹محض خيال لا قيمة له››، في حين أنه اليوم امكن تصويره فوتوغرافياً، ويمكن ان ينطبق الأمر على كل اكتشاف جديد لجسيم مجهري أو كيان فلكي.

واول ما يلفت النظر ان العلم الحديث قد بدأ وهو يشهد هذا الاختلاف بين الاتجاهين. ففي الوقت الذي كان ناشر كتاب كوبرنيك واتباعه يرون بأن النظرية المطروحة هي مجرد تسهيل للحسابات الفلكية دون ان يعنى بها الكشف عن الحقيقة الخارجية، فإن علماء من امثال كبلر وغاليلو ونيوتن رأوا ان هذه النظرية تعبّر عن حقيقة صادقة وليس مجرد إفتراض لتسهيل الحسابات الفلكية. ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان التصور بأن ما يقدمه العلم من نتائج دقيقة بفضل المنظومة النيوتنية لهو خير دليل على خاصية الكشف الحقيقية. لكنه ما ان حل القرن الماضي حتى أخذت النظرة العلمية للامور تتغير شيئاً فشيئاً، ومن ثم أصبح الاعتقاد يترسخ بأن العلم لا يعبر في تنبؤاته وكشوفاته عن حقائق الأمور بقدر ما يعبّر عن الكيانات النظرية والنزعة الاداتية والاعتبارات النفعية البراجماتية. وقد كان الفيزيائي ادنجتون يؤكد بأن العقل البشري هو من يصنع أفكار المكتشفات من غير رؤيتها ودون ان يدل ذلك على حقيقتها، فهو بحسب وصفه كالفنان يصنع في ذهنه ما يريد تشكيله. وقد طبق ذلك على اكتشاف رذرفورد للنواة مع أنه لم يرها احد، كذلك البوزيترون وايضاً النيترينو الذي كان يشك في وجوده، وهو يرى ان التجريبيين ليس لديهم البراعة الكافية لصنع النيوترينوات.

ان ما يعزز الروح البراجماتية للعلم هو استناده إلى التعميمات ذاتها، فهي تشكل صلب نسيج العلم الحديث، رغم الاعتقاد السائد بأن التعميم لا يجد له تبريراً على الصعيد المنطقي، لا سيما بعد ان كشف ديفيد هيوم عن تهافته خلال القرن الثامن عشر، وبعد ان تبنت الوضعية المنطقية الموقف السلبي اتجاه هذه التعميمات من الناحية المنطقية خلال القرن العشرين، فهذه التعميمات غير مقبولة لديها، إلى درجة ان البعض يراها قضايا لا معنى لها. لكن مع ذلك اصرّ العلم على ضرورة الاخذ بهذه التعميمات لاهميتها، حتى وان وجدت بعض الشواهد التي تكذبها أو تتنافى معها. فقد اظهر العلم أنه يغض الطرف عن الشواهد السلبية للتعميمات، ويعتبرها وكأنها غير موجودة، أو أنها لا تعنيه ما لم تكن هناك نظرية تعميمية افضل. وكل ذلك يفرض الجانب البراجماتي على العلم حتى في مسلكه الوضعي أو الواقعي الذي ساد منذ النهضة العلمية وحتى بداية القرن العشرين، كالذي يتبين من شواهد الشذوذ التي ألِفها العلم دون ان يضطره الأمر إلى تكذيب النظرية، أي خلاف ما كان يتبناه كارل بوبر في نزعته التكذيبية المعروفة.

لكن مثلما أنه لا يمكن نفي النزعة البراجماتية من العلم، وهو يسلك المسلك الواقعي، فكذلك لا يمكن نفي جانبه الواقعي حتى في نزعته البراجماتية السائدة. وقد يقال بأن النزعتين السابقتين صحيحتان كتصفية للحساب، وربما لذلك اعتبر كارناب ان التعارض بينهما هو في حقيقته تعارض لغوي[1]. وأحياناً يعبر عما سبق بالنزعتين الواقعية كما هي الحال مع النزعة الإستقرائية والوضعية من جانب، والتمثلية كما هي الحال مع الاداتية والاصطلاحية من جانب ثان. ولكل منهما انصار، لكن المسار الذي شهده العلم خلال القرن العشرين اثبت ان النزعة البراجماتية والتمثلية للعلم كان لها السيادة التامة إذا ما قورنت بالنزعة الوضعية والواقعية.

اخيراً علينا ان نميز بين الاعتبارات البراجماتية والكيانات النظرية أو الاداتية، فهما وان اشتركا بكونهما ليسا معنيين بالبحث عن الحقيقة الموضوعية، لكن التعويل على إحداهما لا يعني الاخذ بالاخرى. وبالتحديد فإن الكيانات النظرية أو الاداتية هي أعم من الاعتبارات البراجماتية. فقد نجد في حالات معينة ان الكيانات النظرية أو الاداتية تعبّر عن نزعة براجماتية محددة، لكن في حالات أخرى نجد أنها لا تعبّر عن ذلك، أو أنه ليس وراء الخيارات المتاحة دوافع نفعية مرجوة أو واضحة. فمثلاً قد نجد تكافؤاً بين نظريتين أو مفهومين دون ما يستدعي ترجيح أحدهما على الآخر في التفسير، وبالتالي فمن الناحية المبدئية ان خيار العلم لأحدهما ليس لاعتبارات نفعية كالبساطة أو الجمال أو الملائمة أو غير ذلك، بل كان لا بد من الاعتماد على واحد منهما على الاقل، لذلك نطلق عليه النزعة التماثلية. بمعنى ان الكيانات النظرية أو الاداتية أو التمثلية للعلم تارة تكون براجماتية وهي الصفة الغالبة، واخرى تماثلية.

 

comments powered by Disqus