-
ع
+

وحدة الوجود بين الفلسفة والعرفان

يحيى محمد

رغم تعدد أشكال وحدة الوجود الشخصية للعرفاء إلا أنها أشكال غير متنافية، ومن الممكن ان يجتمع بعضها مع البعض الاخر باعتبارات مختلفة. كما ان الجامع الذي يجمعها مع وحدة الوجود النوعية للفلاسفة هو جامع الوجود المنبسط او السريان. وحقيقة الامر انه سواء لدى الطريقة الفلسفية او الطريقة العرفانية هناك علاقة ثنائية في عين الوحدة، وان هذه العلاقة تتكشف بفعل مقالة السريان. وتعبر هذه المقالة عن وجود الرابط بين المبدأ الحق والاخر، ويمثل الاخر بحسب الطريقة الفلسفية عين المعلول مقارنة بعلته، وبحسب الطريقة العرفانية عين الاعيان الثابتة. فمثلما ان مراتب السريان المتنزلة عن المبدأ الحق يمكن تبريرها بحسب ما هي عليه من الصور المحددة الثابتة وفقاً للعلاقة العلية وتنزلات الوجود وتباين مراتبه بحسب التشكيك، فكذا يمكن تبرير الامر بحسب سريان الوجود الواحد على الماهيات وطبائعها المختلفة.

التصوير الرباعي لوحدة الوجود

فالمراتب المتعينة عن السريان تارة تفسر فلسفياً بحسب ما عليه تنزلات الوجود وكثرته، واخرى تفسر عرفانياً بحسب الماهيات وطبائعها المختلفة. فالتكثر بحسب الطريقة الفلسفية هو تكثر في الوجود المنبسط الواحد، اما بحسب الطريقة العرفانية فانه في الماهيات والاعيان الثابتة. لكن هناك ثلاثة تصورات لهذه العلاقة الاخيرة، الامر الذي يجعل فهم السريان قائماً على تصورات اربعة، احدها هو التصور الفلسفي، وما تبقى يرتبط بالتصور العرفاني. وهكذا يتخذ تحديد وحدة الوجود تصويراً رباعي الابعاد، وتوضيح ذلك كما يلي:

لو فرضنا ان الوجود هو النور فان سريانه تارة يُمثَّل به وفقاً للطريقة الفلسفية واخرى وفقاً للطريقة العرفانية. ومن اقرب الامثلة على الاولى مثال الشمس وكيفية تنزلات نورها وضعفه درجة فأخرى، ابتداءً منها ومروره كشعاع الى القمر، ثم الى مرآة على الارض، وبعد ذلك انعكاسه على عارض مقابل كالجدار، فهذه التنزلات هي كمراتب تنزلات الوجود بحسب القوة والضعف وفقاً لمنطق السنخية. فرغم ان النور واحد الا ان مراتبه من الضعف والشدة مختلفة، وبالتالي فان حقيقة النور هي مما يعرض لها بحسب ذاتها التفاوت بالشدة والضعف، والتعدد والكثرة بحسب الهيئات والتشخصات، وكذا الاختلاف بالواجبية والممكنية، والجوهرية والعرضية، والغنى والفقر.

أما بحسب الطريقة العرفانية، فان حقيقة النور في مثالنا السابق لا يعرض لها في حد ذاتها تلك الاحكام المذكورة، وانما يعرض لها ذلك بحسب تجلياتها وتعيناتها واعتباراتها وشؤونها. فالحقيقة واحدة، والتعدد يعرض بحسب اختلاف المظاهر والمرائي والقوابل او الماهيات، وكما يقول ابن عربي: ‹‹فكل ما ندركه فهو وجود الحق في اعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور هو اعيان الممكنات››. 1

لكن العرفاء يمثلون على هذه الحالة بانحاء مختلفة، وكل منها له اهمية خاصة في التوظيف العرفاني. فهم من جانب يمثلون على ذلك بنور الشمس الملقى على زجاجات مختلفة الالوان2، حيث انها من غير نور لا يظهر لها لون ابداً، لكن تتكشف الوانها وتبرق حين سريانه فيها. فمع ان النور واحد، لكن الالوان التي تظهر فيها مختلفة. مما يعني ان طبائع الزجاجات تختلف بحسب ما هي عليه من قابليات، وليس بحسب ما عليه نفس النور المتحد في لونه وقوة سريانه في الجميع. وكذا يقال فيما يبدو من مراتب الوجود، حيث ان تعدده واختلافه واشكاله لا يعود الى ما هو عليه في ذاته، بل الى ما عليه الاعيان والماهيات من تعدد واختلاف. فالمبدأ الحق بحسب المثال السابق ظاهر وفياض بذاته كالنور، ومظهر لغيره بالعرض، ولولا ظهوره ما ظهر شيء من الاشياء قط، اذ الاشياء من حيث ذاتها {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً} النور/39.

ويمثل العرفاء - من جانب اخر - على علاقة السريان بين المبدأ الحق والاعيان الثابتة بمثال النار والفحم، كالذي صوره لنا حيدر الآملي ومن قبله العارف القيصري. فالفحم بما هو فحم لا نور ولا نار فيه، لكنه ينقلب بالتدريج الى جمرة من النار عند وضعه فيها، وبهذا يكون حاملاً لصفاتها3. وكذا فان الحق عندما يفيض بنوره على الخلائق او الممكنات ستصبح مشرقة ظاهرة بنوره، لحملها صفاته، بحيث يعبر عنها بهذا الاعتبار انها (هي هو).

والملاحظ ان المثالين السابقين يعطيان دلالتين مختلفتين للتصور العرفاني. فالمثال الاخير يبدي ان ما يظهر على الماهية هو عين الحق، او ان الحق هو الذي ظهر على الماهية فاورثها صفاته وكحّلها بنوره، فكان الحق هو الظاهر كالذي جاء في قول العرفاء (كان الله ولم يكن معه شيء، والان كما كان). أما المثال الاول فيبدي ان ما يظهر انما يعبر عن صفات الماهية من حيث ذاتها، وان ظهرت بنور الوجود. وبحسب هذا المثال ان ظهور الخلائق ليس فيه ما يحمل صفات الحق، فالحق مخفي بوجودها، وهي ظاهرة بفعل الحق. وبذلك فانها من حيث الباطن تعد حقاً، ومن حيث الظاهر فهي خلق.

ولا شك ان العرفاء يعولون في علاقة الحق بالخلق تارة بحسب المعنى الاول، واخرى بحسب المعنى الثاني. وهناك وجه شبه بين المعنى الاول والمعنى الذي يريده الفلاسفة، كما في تنزلات النور من الشدة الى الضعف مع بقاء احتفاظ المراتب بعين ذات النور وحقيقته من غير اختلاف. لذلك كان السهروردي يرى النور اشرف الموجودات، وان اشرف الاجسام انورها، وان النور الاقوى هو اكثر قهراً وتأثيراً من غيره الاضعف، فتظهر صفات الاشياء بتأثير قهر ذلك النور الاعظم4. فهو تعبير يؤكد ظاهرة تجلي الحق على غيره، فلا يظهر سواه، كالذي يفيده مثال الفحم والنار. لذلك يمكن تفسير ما يقوله بعض العرفاء عن نفسه بانه الحق، وما وقع به النصارى من وهم عندما تخيلوا ان المسيح هو ذات الحق، مع ان ما يظهر في قلب العارف، كما يرى الغزالي، هو اشراق نور الله الذي تلألأ في ذاته، كالذي يرى كوكباً في مرآة او في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة او في الماء، فيمدّ يده اليه ليأخذه وما هو ببالغه5.

لكن هناك نحواً ثالثاً من التمثيل يعد اقرب الانحاء واشملها، وهو التقريب بظهور الصورة الواحدة في المرايا المتعددة المختلفة، فرغم انها واحدة في العين الا انها تظهر باشكال مختلفة، كما يبدو عليها التقدم والتأخر، وكأن هناك اشياءً متشابهة يتقدم بعضها على البعض الاخر. وتبعاً لهذا المفهوم اعترض ابن عربي على الفلاسفة حين تصوروا الفلسفة هي التشبه بالاله جهد الطاقة، فاعتبر ان هذا خطأ، حيث ‹‹ما تشبه أحد بأحد بل الصفة في كل واحد كما هي في الاخر، وانما حجب الناس التقدم والتأخر وكون الصورة واحدة، فلما رأوها في المتقدم ثم رأوها في المتأخر قالوا: ان المتأخر تشبه بالمتقدم في هذه الصورة وما علموا ان حقيقتها›› واحدة.. ‹‹فالكل صفة كمال لله تعالى فهو موصوف بها كما تقتضيه ذاته، وانت موصوف بها كما تقتضيها ذاتك. والعين واحدة والحكم مختلف، والعبد يعبد والرحمن معبود، فليس التحلي في الحقيقة تشبه فانه محال››6. وعلى هذا الحكم يشير ابن عربي الى ان العين واحدة مع كثرة العيون، وهو هو، فمثلاً ان الوالد عين ابنه، وان ابراهيم ما همّ الا بذبح نفسه المسمى باسحاق7، وانه هو نفسه ظهر بصورة كبش، وظهر بصورة ولد، وهو نفسه من يظهر بصورة صاحبته، وما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد والامر واحد في العدد. اذ ظهر الوجود الحق الواحد في مراتب عدة بصور مختلفة وصيغ مفترقة ومؤتلفة، فكان لكل مرتبة وصورة وتعين باسم غير الاخر، فمنه الصاحبة والوالد والولد والزوج والفرد والواحد، فمع كثرة الصور غير المتناهية فالعين واحدة هي الوجود الحق الذي لا كثرة فيه. 8

وبحسب هذا المعنى فان الصورة من حيث الاختلاف والتعدد يُعبّر عنها بالخلق، لكنها باعتبار التشابه وعودتها الى حقيقة واحدة فانه يُعبّر عنها بالحق، فهي حق في خلق. ففي مذهب ابن عربي ان الحق هو الوجود، اما الخلق فهو الوهم والخيال، فما من خلق نراه الا عينه حق، فالوجود المشهود عياناً ‹‹هو الحق المسمى بالخيال والوهم في العرف خلقاً، اي افكاً، فان الخلق لغة افك مفترى {إن هذا الا اختلاق} ص/ 7، وايضاً خلق بمعنى قدّر، فان الموجود المشهود حق تقدره انت في وهمك وخيالك انه غير الحق، وذلك زور وبهتان واختلاق ليس للقائل به عند الله خلاق بالوهم يخلق الانسان في ذهنه ما يشاء ويسميه بموجب تعينه في ذهنه بما يشاء››.9

كما يمكن القول بحسب هذا المعنى، انه من حيث النظر الى الصورة بنحو الاختلاف فانها تعبر عن المعنى السابق الاول، ومن حيث النظر اليها بنحو التشابه فانها تعبر عن المعنى الثاني، فهي بالتالي جامعة بين المعنيين السابقين باعتبارين مختلفين. والوجود في مراتبه العلوية يظهر بحسب المعنى الثاني، لكنه في مراتبه الضعيفة يظهر بحسب المعنى الاول. لذلك كان الشكل الثالث جامعاً بين المعنيين السابقين، وانه حامل للاعتبارات المتضادة، وبه يمكن حل العديد من الاشكالات، كما انه قابل للتوظيف حسب الحاجة والطلب؛ إما على نحو المعنى الاول او الثاني.

اذن لاجل التمييز بين المعاني الاربعة، التي تختزل الرؤية الوجودية في التعبير عن العلاقة بين الحق والخلق، سوف نطلق على المعنى الفلسفي منها (المعنى الفلسفي لوحدة الوجود)، وعلى المعنى العرفاني الاول (المعنى العرفاني الخلقي)، كما سنطلق على المعنى العرفاني الثاني (المعنى العرفاني الحقي)، واخيراً نطلق على المعنى العرفاني الاخير (المعنى العرفاني الجامع).

وقديماً كان يُظن ان الخلاف الحاصل في تفسير تعدد مراتب الوجودات واختلافها، انما ينحصر بين التصورين الفلسفي الاشراقي والعرفاني، فاحدهما يعول على شدة الوجود الواحد وضعفه، بينما يعول الثاني على طبيعة الماهيات التي يعرض عليها الوجود. ومع هذا لم يستبعد صدر المتألهين ان يكون الخلاف بين الفريقين عائداً الى التفاوت في الاصطلاحات وانحاء الاشارات، والتفنن في التصريح والتعريض، وكذا الاجمال والتفصيل، مع اتفاقهم جميعاً في الدعائم والاصول10. وربما يكون المعنى العرفاني الحقي ما يعطي لصدر المتألهين الحق في التوفيق بين الرؤيتين الفلسفية والعرفانية، لما يوجد بينهما من التقارب البيّن. لكن رغم ذلك لا يصح اختزال المعنى العرفاني الخلقي، وبالتالي كانت هناك حاجة الى الجمع بين جميع الاعتبارات والتقريب بينها، وهو ما يتم عبر المعنى العرفاني الجامع، وبه تتحدد الكثير من الفوائد التوظيفية، تارة باعتبار المعنى العرفاني الحقي المقارب للمعنى الفلسفي، واخرى باعتبار المعنى العرفاني الخلقي، ولكل من هذه المعاني حدودها الخاصة المميزة.

وبهذه الاعتبارات قد يرى البعض العالم حقاً، وقد يراه خلقاً، كما قد يراه حقاً وخلقاً، وكل المشاهدات تجري بانحاء مختلفة كالتي يصورها العرفاء.

ومن ذلك ما يشير اليه البعض من انك اذا كنت تشهد الكثرة والاختلاف ورأيت ان هذه الكثرة من عين الوحدة وفيها نسبها واضافاتها فانت من اهل الله. وان كان مشهدك حجابات الكثرة وصنميات الاشياء ولا ترى غير العالم فانت من اهل الحجاب. وإن رأيت حقاً بلا خلق فانت صاحب شهود حالي، وإن رأيت حقاً في خلق وهو غيره فانت قائل بالحلول او الاتحاد، وإن رأيت خلقاً في حق مع احدية العين فانت على الشهود الحقيقي، وان شهدت حقاً في خلق وخلقاً في حق من وجهين وباعتبارين مع احدية العين فانت كامل الشهود11. او كما يقول القيصري: إن كنت ترى الوحدة فقط فانت مع الحق وحده لارتفاع الاثنينية، وان كنت ترى الكثرة فقط فانت مع الخلق وحده، وان كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة، والكثرة في الوحدة مستهلكة، فقد جمعت بين الكمالين، وفزت بمقام الحسنيين.12

 

1 شرح الفصوص، ص412 .

2 الاسفار، ج1، ص70-71.

3 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص51. واسرار الشريعة، ص213-214. وجامع الاسرار، ص393.

4 هياكل النور، مصدر سابق، ص92.

5 الكشف والتبيين في غرور الخلق اجمعين، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (5)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1414هـ - 1994م، ص185. والمقصد الأسنى، ص166.

6 الفتوحات، مصدر سابق، ج2، ص473.

7 ذلك ان ابن عربي يرى ان المأمور بالذبح هو اسحاق خلاف ظاهر القرآن ورأي اكثر المفسرين، حيث ذهب البعض الى كونه اسحاق كما اشار الى ذلك القيصري (مطلع خصوص الكلم، ج1، ص386). وقد احتمل احد مشايخ روح الله الخميني من العارفين ان ما اخطأ به ابن عربي لم يكن خطأً في كشفه، وانما في تمثل الكشف عندما يتنزل في دائرة خيال النفس. فالكشف يخص المعنى المجرد عن اللباس والصورة، حيث المكاشفات مجردة دائماً، لكن عند تمثل هذا الكشف في صورة خيالية فانه يمكن ان يكون التمثل خاطئاً، فيظهر في الخيال صورة اسحاق لا اسماعيل، لوجود بعض الاسباب. وعلى رأيه ان خطأ هذه الصورة ينبع في الغالب باعتبار ما عليه المعتقد والمألوف الذي الفته نفس ابن عربي (الخميني: تعليقات على شرح فصوص الحكم، ص124).

8 شرح الفصوص، ص337-338 . ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص343-344.

9 شرح الفصوص، ص423 . ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص14.

10 تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص332.

11 شرح الفصوص، ص413-414.

12 مطلع خصوص الكلم، ج1، ص342.

comments powered by Disqus