-
ع
+

اينشتاين بين التفسيرين المثنوي والوحدوي للجاذبية

يحيى محمد

تعتبر الجاذبية أهم لغز واجهه الفيزيائيون منذ اللحظة التي تم الكشف فيها عن قانونها العام وحتى يومنا هذا. فمنذ القرن السابع عشر والى هذا اليوم لم يعرف الفيزيائيون على وجه التحديد السبب الذي يقف وراء تجاذب الكتل المادية بعضها ببعض رغم المسافات البعيدة، إذ لا يوجد هناك وسيط ظاهر يفسر حالة الجذب هذه. فمع ان نيوتن هو أول من اكتشف قوانين الجاذبية أو الثقالة، لكنه لم يعرف سر هذه الظاهرة، لذا افترض ان وراءها سبباً ما نجهله. فكان كغيره لا يعقل ان تكون هناك قوة من غير وسيط أو سبب لها كما اشار إلى ذلك في كتابه (المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية) الذي جاء فيه: ‹‹الامر الذي لا يمكن تصوره هو ان تقوم مادة جامدة غير حية من دون وساطة أي شيء آخر بالتأثير في مادة أخرى من دون اتصال متبادل››، وقد اعتبر ذلك منافياً للعقل، وبالتالي رأى أنه ‹‹لا بد للجاذبية من عامل مسبب يؤثر باستمرار وفقاً لقوانين معينة، سواء كان هذا العامل مادياً أو غير مادي››. وكان جماعة من العلماء قد اعترضوا على نيوتن لتضمن نظريته حدوث الفعل عن بعد من غير وسائط.

هذه هي معضلة الثقالة، وكان أينشتاين يعي ذلك إلى درجة أنه اعتبر نظريته في النسبية الخاصة مقارنة بها هي لعب اطفال. فقد رفض التأثير عن بعد لأنها تعني بأن هناك ما هو اسرع من الضوء، وهو التأثير اللحظي الذي تمنعه النسبية. فمثلاً ان أي حدث يحدث للشمس، كما في تحطمها، فإن ذلك سيؤثر في الارض لحظياً حسب الطريقة النيوتنية، في حين ان التأثير في الارض يستغرق زمناً معيناً لا يتعدى ثمان دقائق وهو مقدار زمن سرعة الضوء. كما رفض أينشتاين الفكرة المقترحة حول الاثير لتحديد الوسيط، لا سيما ان العلماء عجزوا عن اثباته، لذلك وجد سبيلاً آخر يتعلق بالمكان ذاته، فكون المكان منحن هو في حد ذاته يعمل على جذب الاجسام وتعجيل حركتها دون إفتراض وسيط محدد. رغم ان هذا الإنحناء والتحدب قائم بفعل وجود الكتل المادية الضخمة، ومن هنا فقد اختفت جاذبية نيوتن ليحل محلها المكان المنحني.

لهذا استهدف أينشتاين صياغة قوانين الحقل أو المجال بحيث تظل صالحة حتى في المناطق ذات الكثافة الطاقية العظيمة، وذلك لتغييب المادة كلياً، وهو يرى أنه لا يمكن التمييز بين المجال والمادة، وان المجال طاقة، وبالتالي لا يتميز كيفياً عن المادة. فالمادة توجد حيث يكون تركيز الطاقة كبيراً، والمجال يوجد حيث يكون تركيز الطاقة صغيراً. فالفرق بين المادة والمجال هو فرق كمي لا كيفي، لكن مع ذلك اعتبر الفيزياء الحديثة لا تسمح بوجود مجال ومادة معاً، وبالتالي فالمجال هو الحقيقة الوحيدة. فالحجر المقذوف هو مجال أو حقل متنقل تخترق مناطقه العظيمة الشدة الفضاء بسرعة الحجر. وعلى هذا الاساس يعبّر ديفيد بوم عن المادة بأنها ضوء – طاقة - متجمد.

وتجدر الإشارة إلى ان أينشتاين لا ينكر جاذبية الكتل نهائياً، فهناك علاقة متبادلة بين الزمكان والمادة. وكما قال الفيزيائي جون ويلر: ‹‹تخبر المادة المكان كيف ينحني، ويخبر المكان المادة كيف تتحرك››. ومثل ذلك وصف فيزيائي آخر هذا الحال، إذ كما قال بريان جرين: ‹‹يصبح المكان والزمان لاعبين في الكون، تدب فيهما الحياة، فالمادة هنا تؤدي إلى إنحناء المكان هناك، والمكان هناك يجعل المادة تتحرك هنا، وهو ما يؤدي إلى مزيد من الإنحناء في المكان هناك، وهكذا تقدم النسبية العامة حركات رقصة كونية ملتوية للمكان والزمان والمادة والطاقة››. فمثلاً أنه يعزو انحراف الضوء اتجاه الشمس إلى عاملين بالتساوي، فنصفه ناتج عن جاذبية الشمس، والنصف الآخر عن إنحناء الفضاء. أو هو نتاج تيار من الجسيمات كما تفترضه نظرية نيوتن، بالاضافة إلى تأثير المجال كما هو رأي أينشتاين. فبحسب تقدير ما تنبأت به نظريات الانبعاث، ومنها نظرية نيوتن، فإن انعطاف الضوء وانحنائه يُفترض ان يساوي (0,85 ثانية قوسية) تقريباً، أما بحسب ما أضافت اليه نظرية النسبية العامة من تأثير المجال فإن الانعطاف يساوي ما يقارب الضعف من ذلك، لذا توقع أينشتاين ان يكون الانعطاف بمقدار يقارب (1,7 ثانية قوسية).

وبهذا فإن الثقالة ناجمة عن الطاقة وتؤثر فيها مثلما عن الكتلة سواء بسواء، وهي سبب انعطاف الضوء بفعل حقل الشمس الثقالي، رغم ان هذا الانعطاف قليل لسرعة الضوء الكبيرة. وعليه وصف ستيفن واينبرغ نظرية أينشتاين بأنها مثنوية مقارنة بنظرية الكوانتم الوحدوية. فمثلاً ان تأثير الشمس على الارض لدى أينشتاين يتبع خطوتين، هما تأثير الشمس بأن تخلق حقلاً أو مجالاً ثقالياً، ثم تأثير هذا المجال الذي يسلط قوة على الارض. فأي شيء يحدث في الشمس فإنه يؤثر في المجال الثقالي أولاً، ثم بعد ذلك في الارض بعد ثماني دقائق. لذا لو أنه تم اكتشاف الجرافيتون فسيكون تعامل النسبية معه كتعاملها مع فوتونات الضوء، بمعنى ان الثقالة تحمل ثنائية (الجسيم-الموجة). فإذا كان أينشتاين قد تنبأ بوجود موجات الجاذبية فذلك لا يتعارض فيما لو تبين ان هذه الموجات هي من جانب آخر نوع من الجسيمات المعبر عنها بالجرافيتون، كما هو الحال مع التصور الخاص بثنائية الضوء كموجة وجسيم.

مع ذلك فهذه الفكرة المثنوية التي تبناها أينشتاين تتعارض مع تصريحاته أحياناً بأنه يحمل فكرة وحدوية للطبيعة وذلك من خلال تغييبه للمادة واحلاله للمجال أو الزمكان المنحني. فكما يقول الفيزيائي جيمس هارتل: ‹‹الفكرة الرئيسية في الجاذبية هي ان الجاذبية تنشأ عن إنحناء الزمكان، فالجاذبية هي الهندسة››.

وعلى نحو ادق ان الزمكان ممتلئ بالمجال ويخلو من المادة، وانه لا وجود للزمكان بذاته، فهو لا يتعدى الصفة البنائية للمجال، إذ لا يوجد فضاء من دون الأخير. وكان أينشتاين يرى قبل ذلك - كما في النسبية الخاصة - بأن الزمكان مستقل عن المادة والمجال.

ومن ثم زاد على ما سبق ربطه الخاص بين الثقالة والتسارع، فكلما زاد التسارع زادت الثقالة. وبالتالي انتهى إلى ما سماه (مبدأ التكافؤ)، وينص على أنه لا فرق بين جسم ساكن تحت ظل جاذبية قوية، وبين شدة تسارعه في الفراغ. وهو ما سنسلط عليه الضوء ضمن الحلقة الثانية لهذا الكتاب.

ومن خصائص الثقالة أو الجاذبية لدى أينشتاين أنها تُبطِئ من حركة الجسم، لذا كان الضوء المنعطف قرب ثقالة الشمس متباطئاً. يضاف إلى ان تقلص حجم الاجرام الضخمة يضاعف من شدة ثقالتها. وهو ما يفضي إلى ما يعرف بالثقوب السوداء، وكان أول من تنبأ لوصف ما تفعله هذه الثقالة الضحمة وفق نظرية النسبية العامة هو الفيزيائي الالماني شوارتزتشيلد (Schwarzschild)، لكن أينشتاين لم يصدق ذلك. ففي (عام 1939) قدّم الأخير تفسيراً يثبت فيه عدم وجود الحالات التي وصفها شفارتزتشيلد، إلا أنه تبين خلال الستينات لدى عدد من العلماء، وكان منهم ستيفن هوكنج وبنروز ودايسون وويلر ان ما وصفه شوارتزتشيلد هو الواقع الصحيح. ولأول مرة سميت هذه الحالات بالثقوب السوداء من قبل ويلر.

 

 

comments powered by Disqus